التعايش مع القيوط
في أحد أيام أبريل عام ٢٠١٥، داخل عرينٍ في جانب تلٍّ تخفيه الشجيرات في مُتنزَّه بسان فرانسيسكو، وُلِدت أنثى قيوط تُسمَّى سكاوت. وَجدَت في جانب التل الذي تحميه النباتات والتضاريس العزلةَ المنشودة وسط صخب ثاني أكثر مُدن أمريكا اكتظاظًا بالسكان. هناك كان والدا سكاوت يترُكانها ويخرجان للصيد، وبعد نحو شهر، عندما فتحت سكاوت عينَيها واستطاعت الخروج من العرين بمُفردها، بات المكان حضانة مثالية.
أمضت ساعاتٍ بمفردها تلعب بالعصي وتُطارد الفراشات؛ ورغم أن أنثى ذئب القيوط عادةً ما تلِد عدة جراء، فإن سكاوت وُلدت وحيدة. استكشفت أكمات الصفصاف والكرز البري، وسارت فوق جذوع الأشجار، واستحمَّت في جدولٍ قريب. وفي بعض الأحيان كانت سكاوت تكتفي بالجلوس ومراقبة مُحيطها.
كان الوضع سيكون مثاليًّا لولا والدها. كان مُتسلطًا، بل قاسيًا، يحمي زوجته وابنته ولكنه كان يضنُّ عليهما بحنانه. كان يحرص على تأكيد هيمنته، ويُطالبهما أحيانًا بإظهار الخضوع له. في حين أن عائلات القيوط الأخرى تقضي أغلب اليوم معًا، يعتني بعضها ببعض وتلعب، كانت الأوقات التي تجتمع فيها عائلتها قصيرة. حين بلغت سكاوت من العمر ستة أشهر وصارت شابةً يافعة في عرف القيوط، كانت قد تعلمت تجنُّب والدها، الذي بدأ يعضها في بطنها وأردافها، ليس بقوة كافية لإصابتها ولكن بما يكفي لإيلامِها، على ما يبدو دون سببٍ وجيه سوى أن يُذكرها أنه المُسيطر. بعد كل مرة، كانت والدتها تواسيها، لكنها هي أيضًا كانت مُجبرة على الخضوع. كانت الأم تبلغ من العمر عامَين فقط، وسكاوت هي أول أبنائها، وربما كانت تشعر بالقهر أحيانًا. في يناير ٢٠١٦ قرَّرت سكاوت الرحيل عنهما.
كانت احتمالات موتها كبيرة. عادةً ما تترك حيوانات القيوط اليافعة عائلاتها بعد أن تقضي شتاءها الأول والربيع والصيف التاليين مع والدَيها. وحتى مع هذه الميزة الإضافية التي لم تنَلْها سكاوت، يموت معظمها، لا سيما في المدن حيث تقلُّ المناطق الطبيعية وتكثر السيارات السريعة. لكن القدَر ابتسم لها؛ إذ كانت توجَد منطقة مجاورة شاغرة تضمُّ مُتنزهًا صغيرًا. انتقلت إليها سكاوت على الفور.
عاشت هناك لمدة عامَين بمُفردها. كانت وحيدة لكنها عاشت حياة رائعة. كانت تُحب أن تبدأ يومَها — أو تُنهي ليلتها — فوق تلٍّ كبير، تركض في دوائر لتحية الشمس. كانت ذكيةً وسريعة؛ فبعد أن تصيد طعام اليوم كان يتبقَّى لديها الكثير من الوقت لتُرفِّهَ عن نفسها. ابتكرت ألعابًا، مثل التكوُّر والتدحرُج على جانب تلة، أو مطاردة العصي كما لو كانت فريسة. كانت تنثُر قطعًا من التربة في الهواء، وتمضغ الزجاجات البلاستيكية التي تُصدر أصواتًا بديعة. وكانت تطارد النحل. وذات مرة وجدت إطار دراجة هوائية؛ كان هذا بمثابة مكافأة!
في كثير من الأحيان، كانت سكاوت تهبُّ واقفةً فجأة وتندفع راكضة في دوائر ركضًا محمومًا، وهو ما نُسميه في كلابنا الأليفة بفترات النشاط العشوائي المحمومة. وكانت تلاحق الغربان عندما تحطُّ على الأرض؛ لا لتصيدها إنما لتُلاعبها، غير أن الغربان لم تستمتِع بذلك اللعب بقدْرها. ما كانت تحتاج إليه بحق هو ذئب قيوط آخر. رغم أنها اعتادت العزلة، فإن حيوانات القيوط تظلُّ حيواناتٍ اجتماعية للغاية. كانت إذا لمحت شخصًا يبتسِم ويُراقب استعراضاتها فوق التل، تضاعف جهودها ثم تلتفت إليه كما لو أنها مسرورة أنَّ أحدًا يُشاهدها. كانت تأتي أيضًا كلاب يُنزهها أصحابها، وكانت تحب مُراقبتها. تعرفت على بعضها، مثل كلبَين من نوع يوركشاير تيرير كانا يَنبحان بشراسة كلما رأياها، تسلَّلت إلى فناء منزلهما ليلًا لتشرب من بركة زينة، وتأكُل ثمار الكاكي المتساقطة.
كانت الكلاب التي يفكُّ أصحابها رسنَها تطارد سكاوت أحيانًا، لكنها كانت سريعةً وخفيفة الحركة فلم تستطع الكلاب اللحاق بها. أحبَّت بعض تلك الكلاب — لم تُصادقها، إنما كانت تسير بالقرب منها أثناء تنزُّهها — لكنها كرهت بالأخص كلبًا ضخمًا في ضعف حجمِها ذا فرو أبيض. ذات مرة، أفلت من رسنِه وطاردها، ولم تكن مطاردةً مرحة إنما شرسة بحق. وعندما لم يستطع الإمساك بها، بال على جميع العلامات التي تُحدد بها منطقتها وهو يُحدِّق بها مباشرة. بعد ذلك، كانت كلما زار الكلب وصاحبه تلَّها، وكثيرًا ما كانا يزورانه، تقترب منهما وتُصرِّح عن استيائها بنفش شعر عنقِها. كانت صغيرة الحجم لكنها شجاعة، وكان هذا بيتها. لحُسن الحظ، فهم صاحب الكلب ما يحدث. وبدلًا من أن يتصل بالبلدية ويُبلغ عن وجود قيوط خطير أو يلجأ إلى وسائل التواصُل الاجتماعي ليروي قصص نجاتهما منه، كان يُبقي كلبه بالقُرب منه وينزهه بعيدًا عنها.
بالطبع، لم يكن لدى سكاوت أي فكرة عن المساعدة التي قدَّمها لها. في الواقع، كان عدد غير قليل من الناس يحرسونها. ذات مرة سمعت إحدى زائرات المُتنزَّه بعض الفتيان يتحدثون عن قنصِها ببندقية صيد هوائية؛ الْتقطت صورهم وهدَّدتهم بإرسالها إلى الشرطة إذا ما أصاب القيوط أي مكروه. حاول حماة سكاوت كذلك منع الناس من إطعامها. وهو ما كان يحدث كثيرًا، حتى إن بعض الناس كانوا يرمُون إليها الطعام من سياراتهم، مما علَّمَها مطاردتهم. كان الناس يطعمونها بحُسن نية، لكن ذلك لم يكن ضروريًّا على الإطلاق. إذ كان لديها ما يكفي من السناجب الأرضية والسحالي والفئران لتتغذَّى عليها، بل إنها وجدت أبوسوم ذات مرة. وعلى حسب الموسم، كانت تتوفَّر لديها الحبوب والجوز والتوت، وكذلك الفواكه من أشجار الأفنية الخلفية: الكمثرى والتفاح والبشملة والكاكي والسبوتة والتين، وكلها مرويَّة بعناية حتى في خضم مواسم الجفاف. كان الحي بمثابة جنة.
هكذا قضت نحو ثلاث سنوات وحيدة. ثم في أحد الأيام في مطلع سبتمبر عام ٢٠١٨، جاء قيوط آخر، ذكر أصغر سنًّا وُلد العام الماضي في منطقةٍ تبعُد خمسة أميال وطردَه منها إخوته. هكذا صار لدى سكاوت رفيق لأول مرة. وقعت في غرامِه؛ وهو وصف دقيق باعتبار عدد المرَّات التي كانا يتصارَعان فيها. بعض الناس يجدون غضاضةً في إسناد تلك الحالة إلى قيوط، لكن لو أنهم رأوا هذَين الزوجَين، لكانوا حتمًا سيُغيرون رأيهم.
طوال أوقات يقظتهما، لم تفترق سكاوت والوافد الجديد، دعنا نُسمِّيه هنتر. كانا يتجولان في المنطقة جنبًا إلى جنبٍ يتطلع كلٌّ منهما في عين الآخر، وقد علَت وجهَه ابتسامةٌ يفهمها أي نوع. في بعض الأحيان كانا ينفصلان بضع دقائق أثناء الصيد، ثم يعودان فيتقابلان بمودة مُفرِطة، ويعوِّضان الوقت الذي قضاه كلٌّ منهما بعيدًا عن الآخر بفرك فكَّيهما وجولات المصارعة.
في نوفمبر، انكسر كاحل هنتر. أخذته سكاوت إلى موضعٍ آمِن، بعيدًا عن حركة البشر، ووقفت تحرسه من أي كلبٍ يقترب. استغرق شفاؤه التام شهرًا، وخلال ذلك الوقت تدخَّل أصدقاء القيوط من البشر عندما اتصل أحد الجيران بحُسن نية بأخصائي إعادة تأهيل حيوانات برية لكي يقبض على هنتر ويُحاول علاجه. كان ذلك سيكون كارثة؛ إذ سيُسبب له توترًا شديدًا، ولها كذلك؛ إذ سيؤخَذ رفيقها الجديد دون أي تفسير. إنها لم تعُد وحيدة الآن.
•••
تتخصَّص جانيت كيسلر في هذه المنطقة الواقعة بين العِلمَين. في حين أن الدراسات العلمية لحيوانات القيوط الحضرية تعتمد عادةً على استخدام أطواق التتبُّع بموجات الراديو لتتبُّعها من مسافةٍ بعيدة، فإن جانيت تعتمد على الملاحظة البصرية. لقد تعلمت التعرُّف على كل قيوط بالعين المجردة، وصارت تعرف كلًّا منها باعتباره فردًا له شخصية مميزة وتاريخ شخصي غني. كما أنها تُطلق عليها أسماءً. قالت لي: «أنا لا أراها حيوانات قيوط. أنا أرى سكاوت وبيتر وسكوتر.» تخلق منهجيتها نوعًا من الألفة؛ لا من حيث إنها تتفاعل مع القيوط، فهي لا تفعل ذلك قطعًا، ولكن من حيث المعرفة التي تُنتجها.
تتداخل ملاحظات جانيت مع الأبحاث العلمية في مسائل بيولوجية وبيئية — ما تتغذَّى عليه ذئاب القيوط وكيف تتحرك في البيئة — لكن جانيت تهتمُّ اهتمامًا أكبر بمسألة كيف تختبر ذئاب القيوط الحياة. إنها لا تهتم فقط بما تفعله هذه الحيوانات، وإنما تحاول فهم طبيعتها أيضًا. تُشبهها بالهوبيت (عِرق خيالي من الأقزام أشباه البشر كانوا من ضِمن شخصياتِ ملحمة «ملك الخواتم» لجيه آر تولكين)، وهو تشبيه بعيد عن الدقة إلى حدٍّ ما، ليس الغرض منه بيان شخصيتها؛ إذ إنها قطعًا أكثر نشاطًا من أشباه البشر البسطاء الذين وصفهم تولكين، إنما الغرَض منه بيان أن لها مجتمعًا قائمًا وسط مجتمعنا، وأن لها عالمًا منفصلًا عن عالمنا لكنه مُوازٍ له.
تقول جانيت: «حيوانات القيوط لا تختلف عنا كثيرًا.» هذا هو الأساس الذي تقوم عليه جهودها التوعوية. إذ إن الوقت الذي أمضته في التحدث إلى الناس عن القيوط يعادل الوقت الذي أمضته في مُراقبتها، وكل ذلك بهدف خلق ما يمكن تسميته ثقافة التعايش المُستنير بين البشر والقيوط؛ ثقافة لا تعتمد على جهل البشر وقدرة القيوط على الصمود، إنما على قبول الناس لوجودها وفهم ما يكفي عنها للعيش معها بسلام. عندما تتحدَّث جانيت إلى الناس، فإنها تُحدثهم عن أمرَين: تُعطيهم تعليمات حول كيفية التصرُّف عند الدخول في مواجهة مع قيوط، وتُخبرهم عن الحياة العائلية للقيوط. قالت لي: «بهذه الطريقة تبني جسرًا بين البشر والقيوط. إذ يتمكن الناس من التعاطف معها.»
لكن شيلي وجدت أيضًا أن بعض الناس يتلذَّذون بقتلِها. وتفاخر بعضُهم بتسميم جِراء القيوط وأُمها بعيدة عنها، وبإقامة مسابقات لقتلِها، واستخدامها كأهدافٍ حية للتدريب على التصويب، واصطيادها، وقطع مخالبها. قال بعضهم إن القتل هو شيء يفعله المرء «ليشعر بالراحة»، وإن «حيوانات القيوط هي شيء يمكنك قتله وقتما تشاء.» وجود مثل هذه الممارسات وتسامُح وكالات إدارة الحياة البرية معها بصفةٍ عامة — فهي وإن اعتُبرت ممارساتٍ غير مقبولة، لا تُهدد أعدادها — خير دليل على أن أرواح القيوط لا تساوي شيئًا.
وهذا النظام أتاح فرصةً للمدافعين عن القيوط. تُقدِّم مجموعات مثل «مشروع القيوط» و«جمعية الرفق بالحيوان» والعلماء مثل ستان جيرت الذي سبق أن تحدَّثنا عنه، المشورة للمدن والمواطنين عن كيفية التعايش معها. تحدُث نزاعات، وقد تُقتل ذئاب قيوط لأنها تُمثل تهديدًا حقيقيًّا أو مُتصورًا، ولكن قبول وجودها هو الأساس في العديد من الأماكن. وتظهر ذئاب القيوط في منشورات مستشفيات الحيوانات البرية على «إنستجرام» وفي مقاطع فيديو رائجة تبعث الدفء في القلوب. أما الاضطهاد المُعتاد الذي يُشاهَد في أماكن أخرى فيكاد يكون غير موجودٍ في المدن.
لكن تصوُّر أن هذا التناغُم بين البشر والقيوط هو أمرٌ محتوم، أو أن استمراره مستقبلًا مضمون هو تصورٌ مغلوط. فهو مشروع مستمر يستلزم جهودًا توعوية وتواصلًا وكفاءة. أثناء لقائي مع جانيت كيسلر، أربكتني كثرة حديثها عن إدارة القيوط؛ إذ إن ذلك المصطلح مُرتبط لديَّ بتحديد أعدادها واستخدام وسائل فتَّاكة للوصول إلى تلك الأعداد. لكنها قالت لي: «بالطبع لا. برنامج إدارة القيوط هو برنامج يُساعدنا على التعايش معها.»
•••
أمضى سكاوت وهنتر خمسة أشهر سعيدة معًا. لكن في شتاء سان فرانسيسكو البارد الرطب، دخلت أُنثى قيوط أخرى إلى المشهد. كانت من ضمن القلة التي لا تعرف جانيت أصولها؛ ظهرت الوافدة الجديدة لأول مرة في منطقة زوجَي قيوط يُدعَيان كاي ويوت، وقبل ذلك بشهرٍ كانت تتجوَّل في بريسيديو، وهو مُتنزَّه وطني كان في السابق قاعدة عسكرية يقع في الطرف الشمالي للمدينة. هناك أسَرَها باحثون ووضعوا لها طوقَ تتبُّع مجهزًا بنظام تحديد المواقع العالمي «جي بي إس» سمح لهم بتتبُّع تحركاتها.
أطلقت عليها جانيت اسم وايرد. علمت جانيت بوصولها إلى منطقة سكاوت بعد أن رأت سكاوت تركض محمومةً وسط الشارع كأنما تلاحِق شيئًا ما، ثم رأتها في وقتٍ لاحق من ذلك اليوم تصعد تلَّها بمشقة. من خلال عدسة الكاميرا، رأت جانيت خدوشًا على وجهها. أخبر أحد الجيران جانيت عن رؤيتِه ذئبَي قيوط يتشاجران. كان الدم يُلطخ الرصيف وأسفل سيارة حيث وقع الشجار. وعلى مدار الأسابيع العديدة التالية، تشاجر ذئبا القيوط مرارًا وتكرارًا، وكانت سكاوت أكثرهما تضررًا. العض في الرقبة هو أحد التكتيكات الأساسية في قتال القيوط، وبسبب طوق وايرد الذي كان بمثابة درعٍ يحمي رقبتها، لم تحظَ سكاوت بأي فرصةٍ للفوز. في غضون شهر، صارت نحيلةً ومشوَّهة وأصابها الإحباط، ولوَّثت جروحها المُتقيحة فروها.
أخيرًا، لم تعد سكاوت تتحمَّل القتال. ولفترةٍ من الوقت، تراجعت إلى حيٍّ مجاور لتستريح حيث كانت إحدى صديقات جانيت، وهي مُعلمة تدرس المذهب البوذي تُدعى سينثيا كير، تُراقبها. (قالت لي سينثيا: «في البوذية، لدَينا نموذج يُسمى البوذيساتفا؛ وهو شخص يعيش حياة الخدمة، ويريد مساعدة جميع الكائنات الحية. بدا لي أن جانيت بوذيساتفا للقيوط».) تحدثت سينثيا إلى الجيران لتتأكد من ألَّا يؤذي أحدهم القيوط. تقول سينثيا إن ذلك قرَّب بين أفراد المجتمع، ومن نافذة مكتبها كانت ترى أحيانًا سكاوت مُستلقيةً على شريط من العشب على الجانب المُقابل من الشارع. عندما تحدثت إلى سينثيا بعد ذلك بسنوات، كانت تلك الذكرى مؤثرة إلى حدِّ أن عينَيها اغرورقت بالدموع.
في النهاية، استعادت سكاوت عافيتها. لكنها خسرت منطقة نفوذها، وباتت تبحث عن قُوتِها على حدود مناطق نفوذ ذئاب القيوط الأخرى. تتبعت جانيت رحلاتها بكاميرات مراقبة مَخفية وضعتها حيث أخبرَها الناس أنهم رأوها. في بعض الأحيان، كانت سكاوت تستجمِع ما يكفي من القوة للإغارة على بيتها القديم، لكن كانت وايرد تغلبها، وأحيانًا كانت وايرد تُغادر المنطقة وتتبعها لمسافة أميال، وكأنما تُطاردها لتصطادها. يبدو أن وايرد فهمت أن خَصمتها رغم تفوقها عليها، لن تستسلم حتى تموت.
بدت النهاية وشيكة. فبدون منطقة نفوذ، عادة ما تكون حياة حيوانات القيوط، حتى السليم منها، قصيرة. وكانت سكاوت مُنهَكة ومُثخَنة بالجراح. عندما لم تكن وايرد تُطاردها، كانت تطاردها ذئاب القيوط التي تتعدَّى هي على مناطق نفوذها. أخيرًا، ذات يومٍ في أكتوبر، عادت سكاوت إلى بيتها القديم لتجده خاويًا. تخلَّت عنه وايرد لسببٍ غير معلوم إلَّا لها. غير أن فرحة رجوعها لم تكتمل؛ فقد رحل هنتر أيضًا، ووجد رفيقةً جديدة في منطقةٍ تبعُد بضعة أميال.
تُرى هل انفطر قلب سكاوت؟ هل استسلمت للأمر الواقع، أم إنها لم تُبالِ؟ ربما أدركت أنها وحدَها منذ فترة طويلة، عندما فشل هنتر في الدفاع عنها، ثم نُفي هو الآخر. ربما ليس من الإنصاف أن نصيغ الأمر بتلك الطريقة الانتقادية ضمنًا. فذئاب القيوط أُحادية الشريك إلا في حالات نادرة، وتُلازم شريكها مدى الحياة، لكن مجيء وايرد منعهما من خوض موسم التزاوج الأول لهما.
على أي حال، في أواخر الشتاء، وجدت سكاوت رفيقًا آخر: ذكرًا شابًّا من أصلٍ مجهول أطلقت عليه جانيت اسم سكوتر. لم تكن علاقتهما مثل علاقتها مع هنتر. لم يَهِم أحدُهما في عينَي الآخر لفتراتٍ طويلة أو يمشيا متلاصقَين. وبينما بدت سكاوت مغرمةً بهنتر ومتلهفة دائمًا لإرضائه، كانت أكثر حزمًا مع سكوتر، وكان دورها مُهيمنًا. لم تشتعِل جذوة الحُب الأول وسحره مرة أخرى. لكن كان بينهما مودة حقيقية وعملية، رغم ضيق خلق سكاوت. وفي أبريل، في عرينٍ على جانب منحدر أعلى الطريق السريع محمي بسياجٍ في نهاية شارع مسدود، أصبحت سكاوت أمًّا.
وضعت أربعة جِراء: بيتر وفلوبسي وموبسي والرابع مات صغيرًا. أرضعتهم، ثم صادت لأجلهم، وعندما كبروا بما يكفي لمغادرة العرين، علَّمتهم هي وسكوتر كيف يجدون الطعام والماء بأنفسهم، وكيف يَعبرون الشوارع، وكيف يتعاملون مع الكلاب وأصحابها، وكيف يُحسنون التصرُّف. كانت سكاوت أمًّا مُحبة وحنونة. تشاركوا البهجة الأسرية التي حُرمت منها سكاوت في صغرها. كانوا يجتمعون كل مساء، تتأرجح ذيولهم، كي يُلاعبوا بعضهم ويُهذبوا فرو بعضهم ويستمتعوا برفقة بعضهم. وفي الربيع التالي، ربَّت هي وسكوتر ستة جراء أخرى. أثناء مروري وجانيت بالسيارة من جانب تل سكاوت، نبَّهتني إلى أننا على الأرجح لن نرى أيًّا منهم، لكني رأيتُ هناك هيئةً داكنة لقيوط يجلس في مقابل سماء أكتوبر الصافية.
•••
بدأنا يومَنا برحلةٍ قبل الفجر إلى «لاندز إند»، وهو مُتنزَّه مُشجَّر ساحلي في الركن الشمالي الغربي من سان فرانسيسكو. وهو واحد من نحو عشرين منطقة نفوذ لذئاب القيوط وثَّقتها جانيت كيسلر. يقع خلف المتنزَّه مستشفًى تابع لوزارة شئون المحاربين القدامى، وعلى الممرات خلف المستشفى وجدَتْ فضلات قيوط حديثة. وضعَتْها في كيسٍ كي تُسلمها لاحقًا إلى تالي كاسبي، طالبة دكتوراه في مُختبر بنجامين ساك، عالم إيكولوجيا الثدييات بجامعة كاليفورنيا، في ديفيس. ستُحلل تالي البراز لتُضمِّن نتائج التحليل في دراساتها عن النظام الغذائي للقيوط. بينما ستستخدِم مونيكا سيرانو، وهي طالبة أخرى لدى ساك، الحمض النووي المُستخرَج من البراز الذي جمعته جانيت لتعيين العلاقات الجينية بين ذئاب القيوط التي تعيش في المدينة. هذه دراسة لا تزال جارية، ولكنها حتى تلك اللحظة تدعم صحة أشجار العائلات التي رسمَتْها جانيت من ملاحظاتها كما أخبرَتني مونيكا سيراتو.
من هناك توجَّهنا إلى ملعب الجولف بمُتنزَّه لاندز إند. سارت جانيت بخطًى سريعة؛ كانت تبلغ من العمر ٧٠ عامًا، لكنها ما تزال مفعمة بالحيوية، وكانت أول كلمةٍ خطرت على ذهني لوصفها هي أنها «شبيهة بالجنيَّات» بسبب ملامحها الجميلة وشعرها الأشقر الذي يتخلله الشيب. أنا أتمتع بمستوًى معقول من اللياقة البدنية، لكني اضطُررت لبذل مجهودٍ لمواكبتها. في ملعب الجولف، أرتني حفرةً متوارية بين ممرَّين في الملعب في كتلةٍ متشابكة من البلوط السام والتوت الأسود المتدلِّي، يمكن لقيوط أن يختبئ أو يقضي اليوم فيها. لم نرَ أي ذئاب قيوط، لكن رجلًا ضخمًا يرتدي نظارة شمسية كبيرة وينتظر حافلةً قال إن واحدًا مرَّ منذ بضع دقائق.
قال لجانيت: «إحدى الأُمهات لديها صغار الآن. في وقت متأخِّر من المساء، ستُخرجها. عمرها تقريبًا ستة أسابيع.» كان يتحدث بنبرة هادئة ممطوطة، وبدا سعيدًا بالحديث عن القيوط؛ مما جعل ردَّ جانيت مباغتًا نوعًا ما عندما قالت بسرعة: «لا، لا، لا. عمرها الآن خمسة أشهر.» ظهر الضيق على وجه الرجل. وقال: «حسنًا، تلك الموجودة هنا صغيرة. أنا هنا منذ فترةٍ طويلة وأعرف الفرق.»
قالت جانيت مُصرَّة: «لا أعتقد ذلك. إنها أكبر مما تظنُّ.» كان العبوس باديًا على الرجل عندما تركناه، لكن جانيت أيضًا تضايقت. قالت: «أنا آسفة، رأيت الأم مُدرَّة في مارس. والأُمهات لا تنجِب إلَّا مرة واحدة في السنة، وقد وُلد الصغار جميعًا في أبريل. لكنك رأيتَ إصراره على أنه مُحق.»
خلال فصل الشتاء السابق، شاهدتُ محاضرة قدَّمَتها جانيت عبر تطبيق زووم لمجموعةٍ من سكان أحد الأحياء، ساوَر القلق أحدَهم عندما رأى ذئاب قيوط تتسكع في ممرِّ السيارات بمنزله. تحدثت عن التاريخ الطبيعي لذئاب القيوط وسلوكها وحياتها الاجتماعية اليومية، داعمةً تلك الدروس بصورٍ وسير أفراد عائلة القيوط التي تسكن الحي. ربما لن يتمكَّن جمهورها من تمييز ما إذا كان قيوطٌ ما أُمًّا أو أبًا أو جروًا، لكنهم سيعرفون أنه يمكن أن يكون واحدًا من الثلاثة. سيعلمون أن له قصة. وهذا بدوره سيجعلهم أكثر استعدادًا لبذل الجهد للتعايُش معه، بدءًا من نصيحة جانيت بالسير في الاتجاه الآخر عندما يرَون قيوطًا. إذا كنت تُنزه كلبًا، فأبْقِه قريبًا منك، أو احمِله إن أمكن. أزِلِ احتمال التفاعل بين الحيوانَين من الأساس. وإذا لم تتمكن من ذلك، فلا بأس من دفع القيوط للابتعاد عن طريق التلويح بذراعك، أو ضرب الأرض بقدمِك، أو رمي حصاةٍ في اتجاهه مع الحرص على عدم إصابته بها؛ وإذا لم يتراجع، فهذا يعني شيئًا ما. ولا علاقة له بأن القيوط «عدواني» أو «وقح» أو «لا يخاف».
إحقاقًا للحق، فإن هذه الإرشادات تدعو إلى التعايش أيضًا؛ لكن الفرق بينها وبين توصيات جانيت هو الوزن الذي تمنحه لذلك. والتشابُهات بينهما أكثر من الاختلافات، لا سيما في تشديدها على أهمية عدم إطعام ذئاب القيوط. لكن تركيز جانيت على تفسير السلوكيات التي يُساء فهمها على أنها عدوانية مُهم؛ إذ يعكس مفهومًا للتعايُش قائم على التفاهم.
تدعم شيلي ألكسندر، التي إلى جانب أبحاثها الأكاديمية تُدير برنامجًا للتعايُش مع القيوط في حرم جامعة كالجاري، وجهة نظر جانيت كيسلر التي تُركز على التفاصيل. صحيح أن جانيت ليست عالِمة، إلَّا أن شيلي تعتقد أن ملاحظاتها الدقيقة تمنحها فهمًا قد لا يمتلكه حتى بعض العلماء الذين يدرسون القيوط. تأسف شيلي على تسرُّع الناس في الحكم على انعدام الخوف بأنه عدوانية، كما لو أنه يجب أن يدفع مجرد وجودنا القيوط لأن يفر. وقالت إن هذا التوقُّع يُمثل تغيرًا في فهم الناس لما يُعَد سلوكًا عاديًّا. فذئاب القيوط لا تفر بمجرد رؤيتها للبشر إلَّا في الأماكن التي يضطهدونها فيها؛ لكن فرارها منا أصبح شائعًا جدًّا الآن إلى حدِّ أننا بِتنا نعدُّه سلوكًا طبيعيًّا وعاديًّا.
تقول شيلي: «هناك خطأ جوهري في افتراض عدوانيتها.» صحيح أن ذئاب القيوط حذِرة، وإذا حدقتَ في أحدِها وتحركت صوبه، فينبغي أن يبتعِد عنك؛ ولكن عدم فعله ذلك لا يُعَد عدوانية. إنما قد يكون ذلك نتيجة تغيُّر مؤقت في حدوده. ومع ذلك، فإن شيلي تُقدِّر أن أغلب الناس لا يملكون حضور الذهن الذي يحتاج صقله إلى سنواتٍ من الخبرة. وإنهم بحاجة إلى قواعد بسيطة، واللجوء إلى السلوكيات التي تُعَد مجرد مضايقاتٍ بسيطة للقيوط قد يجعل الناس يشعرون بالأمان ويُقلل عدد المواجهات المحتملة.
لهذا السبب، يُعَد نهج جانيت كيسلر، الذي يُركز على إعطاء ذئاب القيوط مساحتها بدلًا من تخويفها، جذَّابًا للغاية. فهو يفترض وجود مستوًى مُعين من الفهم. ويطلب من الناس امتلاك معرفة أساسية بالحيوانات التي تعيش حولهم. وهذه مهارة ضرورية في أي مكانٍ يعيش فيه الناس مع الحيوانات الكبيرة، لا سيما آكلات اللحوم. فقد أدى اضطهاد الناس للحيوانات الآكلة للحوم الكبيرة الحجم إلى قصر وجودها على المناطق النائية؛ ونسوا كيف يتعايشون معها، وباتوا يعتقدون أنها تنتمي فقط إلى الأماكن التي لا نعيش فيها. على كوكبنا الذي لا تنفكُّ تتقلَّص فيه المساحات البرية ويتوسع فيه التأثير البشري، فإن هذه العقلية لن تترك لتلك الحيوانات إلا مساحة صغيرة جدًّا.
على الطريق المُحيط بملعب الجولف، التقيتُ أنا وجانيت بامرأتين تُنزهان كلبيهما. كان يبدو عليهما الثراء والثقة؛ ولم يتطابقا مع الصورة التي كوَّنتُها في ذهني عن الأشخاص الذين يهتمون بالقيوط. عرَفَت إحداهما جانيت. وقالت: «أنا من أرسلت إليك عن فضلات قيوط!» تعني أنها أرسلت لجانيت بريدًا إلكترونيًّا عن رؤيتها لبراز قيوط يمكن أن يُفيدها في مشروعها البحثي. رحَّبت كلابهم — كلبان بوكسر مبتهجان وشيواوا خجول — بنا بسعادة. بدت الكلاب مُهتمة بجانيت بشكل خاص، وهو مشهد تكرَّر عدة مرات خلال زيارتي للمُتنزَّه. يبدو أن الكلاب تُحبها كثيرًا. حذرتنا صاحبة الشيواوا من أن كلبتها كانت تتمرغ في شيءٍ ما. قالت بمرح: «إذا كنتِ تبحثين عن فضلات قيوط، فقد تجدينها على ظهرها.»
ذكرت المرأة صاحبة الكلبَين البوكسر حادثًا شهداه قبل عدة أشهر في مكانٍ ليس ببعيد من الممر. على الرغم من أنهما كثيرًا ما يرَيان ذئاب القيوط، ولم يواجِها أي مشكلةٍ معها من قبل، فقد كانت هذه المرة مختلفة. قالت: «كانت عدوانية للغاية»، وصفت كيف واجهتهما أنثى قيوط وأصدرت أصواتًا كأنها تتجشَّأ. قالت جانيت: «هذا سلوكٌ غرَضه الحماية. هي ترسل لك رسالة. كل ما عليك فعله هو الابتعاد.» لكن المرأة لم تكن بحاجةٍ إلى التعليمات. قالت إن أحد كلبَيها كان مربوطًا، واستدعت الآخر بسرعة، وربطت رسنَه، ورحلت بهما.
•••
كان النهار قد انتصف، وصارت الحديقة أكثر ازدحامًا. غادر سكوتر لكنَّ بيتر بقِيَ بالقُرب من الممر، وشاهدتُ أنا وجانيت المارة يسيرون على بُعد أقدام قليلة منه. أعربتُ عن سعادتي برؤية البشر وذئاب القيوط يتشاركون مساحة واحدة بتلك الحميمية. غير أن جانيت لم تكن سعيدةً بذلك. قالت: «إنه أمر مريع.» لا ينبغي أن يتبادل ذئاب القيوط والبشر الخوف، لكن الحذَر أمر صحي للغاية. يجب أن يحافظوا على مسافةٍ أكبر من تلك بينهم. أما ذلك الاختلاط المُتهوِّر — لا سيما في وجود الكثير من الكلاب في الأرجاء — سيؤدي حتمًا إلى نزاعٍ حقيقي أو متصوَّر، وإلى هلع يؤدي إلى منشوراتٍ غاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي ومُكالمات إلى البلدية. في لحظةٍ ما، تبع بيتر رجلًا وكلبيه؛ كان أحدُهما من نوع الراعي الألماني، والآخر أصغر ولونه أبيض من أحد أنواع التيرير، حتى طاردَه الراعي الألماني. قالت جانيت: «يعتاد الناس ذلك السلوك منها، ثم تسوء الأمور.»

في صباح اليوم التالي، الْتقَينا مرة أخرى على التلة. كان لدى جانيت خبر مُحزن: وجد ضباط من قسم رعاية ومراقبة الحيوانات بالمدينة قيوطًا ميتًا بالقُرب من الطريق السريع، كان جسده مشوَّهًا إلى حدِّ أنهم لم يتمكنوا حتى من تحديد جنسِه. خشيت جانيت أن يكون الاحتمال الأسوأ قد وقع. لم ترَ سكاوت منذ أكثر من أسبوع. وهذا يُفسر السبب. قالت: «لقد شهدتُ العديد من الوفيات، وكلها فطرت قلبي.» لكن وفاة سكاوت ستكون لها صعوبة خاصة. لم تكن سكاوت حيوانًا أليفًا، لكنها باتت بالنسبة إليها شخصًا مميزًا. لكن ما لم يُتعرَّف على الجثة، يظل احتمال بقائها على قيد الحياة قائمًا.
أثناء صعودنا التلَّة، تلقَّت جانيت رسالة نصية من جانيت راي، وهي مُتخصصة في إدارة الآفات ساعدت في إدارة أراضي بُحيرة تخزين مياه قريبة. أبلغتها بوجود قيوط هناك. قفزنا إلى سيارتها البريوس وسرنا مسافةً قصيرة. ما إن دخلنا من البوابة حتى رأينا بيتر. ظل بعيدًا عنا، يركض في الممر الذي يُحيط ببحيرة تخزين المياه. كانت البحيرة بحجم ملعب كرة قدم تقريبًا، محاطة بسياج يجعلها أشبه بجزيرة معزولة نسبيًّا عن صخب الحي، وأرتني جانيت عرينًا صنعته سكاوت وسكوتر هذا العام. كان يقع على ضفةٍ يوجَد على الناحية الأخرى منها روضة أطفال. لو أن مديري روضة الأطفال شعروا بالقلق لكان قلقهم مُتفهمًا، وإن كان غير ضروري، لكن ما كان منهم إلا أن سدُّوا حفرة تحت السياج كانت ذئاب القيوط تستطيع أن تتسلل عبرها. لم يكن ثَمة داعٍ للقلق.
كان الفضل في ردة فعلهم العقلانية تلك يرجع إلى جانيت راي، التي تُحب ذئاب القيوط وتُراقبها بعناية. هي امرأة طويلة ذات وجه تظهر عليه خطوطٌ حفرَها الابتسام، وترتدي قُبعة صياد، رحبت بجانيت بحرارة عندما اقتربنا من مكاتب إدارة بحيرة تخزين المياه حيث كانت تنتظر. أشارت إلى حفرةٍ تحت أحد المكاتب. ستبدأ أعمال إنشاء قريبًا، وأرادت التأكد من أن الجِراء كبرت بما يكفي لنقلِها تجنُّبًا لإزعاجها. طمأنتها جانيت كيسلر أنها كبرت بما يكفي. ثم أشارت جانيت راي إلى موضعٍ رأت فيه أحدها يدفن شيئًا ذلك الصباح. فارتدت جانيت كيسلر قفازًا مطاطيًّا، وجثت على رُكبتيها، وبدأت تحفر. بعد وهلة، رفعت يدَها بالكنز الذي خبَّأه القيوط: إنه مخلب قط لونه أسود مُخطط بالرمادي.
•••
لا تحب جانيت كيسلر لفت الانتباه إلى حقيقة أن ذئاب القيوط تفترس القطط. فهذا سوف يؤثر سلبًا على شعبيتها. أنا نفسي مُحب للقطط؛ لذا أفهم حُزن الناس على فقد قططهم الأليفة وخوفهم من ذلك. غير أنه لا يمكن إنكار أن تلك القطط عندما يسمح لها أصحابها بالتجول بحُرية في الخارج، فإنها تكون مفترسةً بدورها. في الولايات المتحدة، تقتل القطط ما يُقدَّر بنحو ٢ مليار طائر و١٤ مليارًا من الثدييات الصغيرة كل عام. ومن غير المُنصف أن نغضب من فعل ذئاب القيوط لأمرٍ تفعل القطط مثله. كما أنه في المناطق التي تنتشر فيها القطط المتوحشة، يؤدِّي وجود ذئاب القيوط إلى التنظيم البيئي للمناطق الطبيعية التي لولا وجود القيوط لجعلتها القطط فقيرةً بيئيًّا.
إيكولوجيا القيوط موضوع مُفضَّل لدى جوناثان يونج، اختصاصي الإيكولوجيا الشاب الذي يعمل لدى «الصندوق الائتماني لمُتنزَّه بريسيديو»، وهو وكالة فيدرالية تُدير ١٥٠٠ فدان من المساحات الخضراء شمال سان فرانسيسكو. ويونج مسئول عن مهام مختلفة: استعادة الغطاء النباتي الأصلي، وإعادة توطين الأنواع، والاهتمام بحياة الكائنات غير البشرية بصفةٍ عامة. وتحتل ذئاب القيوط التي تُعَد إدارتها من ضِمن واجباته مكانةً خاصة لدَيه. ويرجع ذلك إلى أنها مخلوقات رائعة. كما أنها تبث الحيوية في ذلك الملاذ الحضري.
دعاني لمرافقته في نزهةٍ بدأت بدايةً مفعمة بالتفاؤل؛ إذ نبَّهنا شخص يمارس رياضة الركض بحماسة إلى وجود قيوط أمامنا. لمحنا القيوط يركض عبر أكمة من أشجار الأوكالبتوس، على غير مرأًى من امرأةٍ تسير حاملةً رضيعها على ظهرها في ممرٍّ يبعُد عنه بضع مئات من الأقدام. ثم قادني يونج عبر منحدَر مُعشوشِب — وصفه بأنه مرعًى سربنتيني، في إشارةٍ إلى المجتمع النباتي الفريد الذي ينمو من التربة الفقيرة بالمعادن التي تتشكَّل فوق صخور السربنتين — إلى بقعة متوارية رأيت عندما دققتُ النظر أنها مليئة بفضلات ذئاب القيوط والعظام الصغيرة المُتناثرة على الأرض. ناوَلني سلسلة من العظام المِفصلية لم أتعرَّف عليها. وقال: «إنها عظام ورك قط.»
تُعَد ذئاب القيوط حلًّا أفضل. يعتبِرها يونج من المفترسات العُليا، وهي الحيوانات المفترسة الكبيرة بما يكفي لئلا تفترِسها حيواناتٌ أخرى، ويُشكل وجودها النظم البيئية المُحيطة بها. وفقًا للمعايير التاريخية، تُعَد ذئاب القيوط أصغر حجمًا من أن تُعتبر مفترسات عُليا، وهو مصطلح يرتبط عادة بالأسود أو الدببة الرمادية أو الذئاب. غير أن تلك الحيوانات كانت متوسطة الحجم حتى منذ مليون سنة. لكن المعايير تغيَّرت.
كما أراني جوناثان يونج فضلاتٍ مليئة بالبذور الطويلة المُجعدة. حيَّره مصدر البذور هو وتالي كاسبي، الطالبة التي تدرس حِميات ذئاب القيوط بسان فرانسيسكو، حتى تعرَّف عليها أحد البُستانيين وأخبرهما أنها أنوية بلح، وهي نوع شرق أوسطي الأصل بات مُتوطنًا في كاليفورنيا. على الرغم من الاهتمام المُنصبِّ على افتراس ذئاب القيوط للحيوانات، فإنها تأكُل أيضًا أنواعًا كثيرة من الفاكهة؛ في مُتنزَّه بريسيديو تشمل تلك الأنواع الكُمثرى والتوت البري والبرقوق الكرزي، وثمار القهوة، وتُخرِج بذور تلك الثمار مع فضلاتها التي تُعَد سمادًا مفيدًا. هكذا تجعل ذئاب القيوط المساحات الطبيعية أكثر خصوبة.
تبِعتُ يونج على جانب تلَّة من صخور السربنتين إلى أحد ينابيع المياه العذبة البديعة في المُتنزَّه، وأخبرَني أنها أحد الأماكن القليلة في العالم التي تتفتح فيها أزهار «بريسيديو كلاركيا»، وهو أحد الأنواع المُهددة بالانقراض من جنس زهرة الربيع. هناك في ظلِّ أكمة من أشجار الصفصاف، كانت ذئاب القيوط بالمُتنزَّه تُحب أن تستريح. في كثيرٍ من الأحيان كان يونج يجِد ألعاب كلاب وأحذية وجدتها ذئاب القيوط وأحضرتها للعب بها؛ يبدو أنها مثل الكلاب تُحب مضغ الأحذية. استرحنا هناك قليلًا، وتحوَّل الحديث إلى الجانب البشري من إدارة ذئاب القيوط.
خلال جولتنا، أراني لافتاتٍ تُحذِّر أصحاب الكلاب بتجنُّب مسارات مُعينة أثناء موسم ولادة القيوط؛ إذا تجاهل أحدهم اللافتات وواجه مشكلة، فلا يُمكنه إنكار أنه تلقَّى تحذيرًا. وإذا أبلغ أحدهم عن حادث، فسيتَّصِل به يونج ويُجري معه مقابلةً لمعرفة ما حدث بالضبط. قال: «يكون الناس مُنفعلين جدًّا. وما نحاول فعله هو استشفاف ما وراء هذا الانفعال وتقييم ما حدث تقييمًا موضوعيًّا.»
المصطلحات مُهمة جدًّا ليونج. لا يستخدم مفردات مثل «هجوم» أو «عدواني» باستخفاف. «يتَّصل عددٌ هائل من الأشخاص ويقولون: «لقد تعرضت للهجوم.» فأقول: «هذه مشكلة كبيرة. ماذا حدث؟ هل أنت بخير؟ هل اضطُررت للذهاب إلى المُستشفى؟» فيقول: «كلَّا، لم يعضني.» فأسأله: «ماذا تقصد إذن بتعرُّضك للهجوم؟» فيقول: «لقد نظر إليَّ بطريقةٍ أشعرتني بعدم الارتياح».» قال يونج مُقلدًا مثل تلك المحادثات.
بينما كنا نتحدَّث، لمحتُ شيئًا أحمر قانيًا يتلوَّى في مياه الينبوع: إنه نيوط (نوع من السلمندر المائي) خشِن الجلد، واحد من مئاتٍ فقست من البيض الذي نقله يونج وزملاؤه إلى هنا، على أمل إعادة ذلك النوع إلى مُتنزَّه بريسيديو الذي اختفى منه منذ نصف قرن. كما جلبوا أيضًا ضفادع جوقة المُحيط الهادئ، التي يؤمَل أن تُحيي أصواتها ليالي الربيع هنا، وسحالي السياج الغربية، التي أخفتُ عن غير قصدٍ واحدةً منها كانت تتشمَّس على صخرة داكنة. كانت حشرات الرعاشة الصغيرة الزرقاء تجثُم على سيقان البوط، ولو كنا رفعنا أحد ألواح الخشب الرقائقي العديدة المُتناثرة على الأرض، لوجدنا ثعابين رباط. لقد كان المكان واحةً للحياة؛ تحول فيه التنوع البيولوجي من كلمةٍ جافة ذات طابع أكاديمي إلى وفرة من الجمال والحُسن.
باستثناء النيوط الذي يُعَد جلدُه سامًّا، تفترس ذئاب القيوط كل هذه المخلوقات، لكنها تفترس أيضًا — أو على الأقل تُهدد بافتراس — الراكون والظربان، وكذلك الجرذان التي تزور الينبوع؛ ومن ثَم تنظم أعداد تلك الحيوانات. إذا ذهبت ذئاب القيوط فستقلُّ أعداد السحالي والثعابين والطيور التي تُعشش في الغابات. قال يونج: «كل شيء مُتصل. إن وجودها يُعزز التنوُّع البيولوجي بالفعل.»
على طول الطريق، شاهدنا الأراضي العُشبية والغابات والمباني العسكرية القديمة التي تم تحويلها منذ ذلك الحين إلى شُقق سكنية. بريسيديو هو المُتنزَّه الوطني الوحيد الذي يعيش فيه ناس، وبطريقةٍ ما فهو رمز لتداخُل البيئتَين الطبيعية والحضرية، البرية والبشرية، الذي يسود جميع أنحاء الأرض في أوائل القرن الحادي والعشرين. استخدم يونج تعبير «النظام البيئي الجديد» لوصفه؛ وهو تجمُّع للأنواع لا نظيرَ له في تاريخ كوكبنا. وعلى رأس تلك الأنواع القيوط.
•••
في صباح اليوم التالي، أخذتني جانيت إلى مُتنزَّه في المنطقة حيث يعيش هنتر بعد أن قامت وايرد بطرد سكاوت من منطقتها. هناك التقى هنتر بماوس، التي انتهت علاقتها السابقة بعد أن سدَّ صاحب منزل غير مُراعٍ الفتحة أسفل شرفته بغرَض ردع ذئاب القيوط من الاختباء هناك، غير أن صغار ماوس كانت لا تزال بالداخل، فعجزت عن الخروج بعد سدِّ الفتحة وتضوَّرت جوعًا. وكان الأوان قد فات على إنقاذها عندما وصلوا إليها. ترى جانيت أن تلك التجربة كانت مؤلِمة للغاية إلى حدِّ أنها تسبَّبت في رحيل الذَّكَر. عاش هنتر مع ماوس وأنجبا الجِراء، وقالت جانيت إنه زوج وأب مُخلص.
في وقتٍ سابق من ذلك الصيف، صدمت سيارةٌ ماوس. وشُوهدت أنثى أخرى في المنطقة؛ مِن ثَم فقد يكون هنتر اتخذ شريكةً جديدة بالفعل. لم نرَهما، ومن هناك توجَّهنا لزيارة دار مُسنين قريبة، حيث أرادت جانيت أن تفحص كاميرات المراقبة التي تركتها في وادٍ صغير مُشجر يتخذ هنتر عرينًا فيه. على الطريق صادفنا إيفون رينو، وهي امرأة في منتصف العمر ودودة الملامح تُوظِّف وتُدرِّب المُمرضات بالدار. أخبرت هي أيضًا جانيت بعثورها على فضلات. ذكرت إيفون أنها تصادف أحيانًا ذئاب قيوط على الطريق. سألتُها إذا كانت تخاف منها. قالت إنها كانت تخاف من قبل، حتى سمعت جانيت تتحدَّث عنها في محاضرة.
بعد ذلك، سجلت إيفون ملاحظاتها من المحاضرة. ولخَّصتها بلغةٍ بسيطة ونشرتها ردًّا على الذُّعر المُثار على «نيكست دور»، وهي منصة تواصُل اجتماعي مخصَّصة لسكان الحي، وقالت إن منشورها حاز على أكثر من ٦٥٠ إعجابًا، كما كتبت إرشادات للنزلاء والمُمرضات الجدد في دار المُسنين. تُقيم المُمرضات في غرَف داخل الدار، وكان بعضهنَّ يتسلحنَ بالعصي حال قابلنَ قيوطًا في طريق عودتهن إلى بيوتهن. قالت إيفون إنهنَّ لم يعُدنَ يفعلنَ ذلك لأنهن لم يعدنَ يخَفْنَها. عندما كانت إيفون نفسها تقيم في الدار، كانت تسمع ذئاب القيوط تعوي ليلًا. قالت: «كان بدني يقشعرُّ منها. أما الآن فتبدو لي كأنها يُغنِّي بعضها لبعض.»
أتيتُ إلى سان فرانسيسكو لرؤية ذئاب القيوط ومقابلة جانيت كيسلر، غير أن هذه اللقاءات — مع إيفون رينو وجانيت راي وسينثيا كير والسيدتَين اللتَين كانتا تُنزهان كلابهما في لاندز إند، والعديد غيرهنَّ — هي التي أثَّرت بي أكثر. كانوا أُناسًا عادِيِّين لكنهم يدافعون عن ذئاب القيوط، كانوا نموذجًا بدأ ينتشر ببطء، وحتى بعد فترة طويلة من رحيل جانيت كيسلر سيظلون يُشكلون المُحادثات عن ذئاب القيوط في سان فرانسيسكو، وحياتها. سيُساعدون في جعل التعايش مُمكنًا: تعايشًا سليمًا، قائمًا على المراعاة والتفاهم، وليس فقط على قُدرة ذئاب القيوط على البقاء رغمًا عنَّا. هذا هو إرث جانيت كيسلر.
قالت جانيت كيسلر عن جهودها: «لقد اكتسبت زخمًا الآن. وصار العديد من الناس يفهمون الآن ذئاب القيوط. أقول لهم إنهم يجِب أن يرفعوا أصواتهم. وإذا أُثير أي نقاش حول ذئاب القيوط، فعليهم أن يتدخَّلوا ويدافعوا عنها. والناس تفعل هذا بالفعل.» تحدثت جانيت عدة مرات عن الاعتزال. لقد بدأت تعزف آلة «الهارب» مرةً أخرى، وهو شغف تخلَّت عنه بعد أن كادت تفقد إصبعًا في حادثٍ بالمطبخ، والتدريب على الأداء بالمُستوى الذي تُلزِم نفسها به لا يترك لها وقتًا كافيًا لذئاب القيوط. شعرتُ بأنها منهكة، وبعد خمسة عشر عامًا من الملاحظات اليومية والشرح ومحاولات الإقناع والترجِّي، كانت مُستعدَّةً لإحداث تغيير في حياتها. خطر لي أيضًا أنها تظنُّ فقط أنها ستعتزل، لكن ستجذبها حتمًا الحيوانات التي تُحبها. وحتى لو حدث ذلك، فسيُدركها الأجل في نهاية المطاف، لكن ذكراها ستظلُّ حية.
قُمنا بزيارة أخيرة لتلَّة سكاوت. لم نرَها، لكننا رأينا بيتر مرة أخرى. لم يفتعِل أي مشكلات، حتى عندما مرَّ الكلب الأبيض الكبير غريم والدته تحتَ مجثمِه. امتدَّت المدينة أمامنا، تترقرق في شمس الصباح؛ على مسافةٍ أمامنا رأينا الطريق السريع، حيث وضعت سكاوت جِراءها أول مرة. كان مشهدًا جميلًا ولكنه مُخيف. كيف يمكن لذئاب القيوط أن تزدهر في تلك الكتلة المُصمتة من المُنشآت البشرية؟ وماذا سيحدث عندما يحين الوقت لانشقاق بيتر عن أُسرته ليجد منطقة نفوذه الخاصة؟ بدا الوضع كله محفوفًا بالمخاطر. مع ذلك، كانت ذئاب القيوط تزدهر.
بعد أيامٍ قليلة من مغادرتي، وردت أنباء بأن القيوط الذي وُجد ميتًا بالقُرب من الطريق السريع قد تم التعرف عليه. كان فلوبسي أخا بيتر. بعد أيامٍ قليلة، عُثر على أحد جِراء هذا العام، كانت جانيت كيسلر قد أسْمَته كابتن، ميتًا في حقل. اشتبهَت في أنه قُتل بسبب مبيدات القوارض. عندما رأت جانيت سكاوت بعد ذلك، كانت خاملة ومُتثاقلة؛ مما يُشير إلى أنها ابتلعت من السُّمِّ أيضًا. مع ذلك كانت على قيد الحياة.