الفصل الثاني والثلاثون

طلق ناري أخير

وبعد انقضاء أيام على هذه الحوادث، وبينما كان الأميرال كوليني يتمشى في فسطاطهِ وقف بلترو أمامه، وقال له: أبشِّرك أيها الأميرال بالاستيلاء على مدينة بايو. فأجابه: قد عرفت ذلك، وعرفت أيضًا أنك كنت من أبطال الوغى، ولكن ماذا دهاك؟ فإن صوتك خشن، وكأنك محموم، فأجابه: ليس بي إلا عناء السير.

قال: إذن وجبت لك الراحة بعد العناء، وقد قضيت الواجب المفروض حق قضائه وأكثر. حرسَك الله!

قال: شكرًا لك يا سيدي الأميرال على هذه الكلمات الطيبة، ولكنني لست بحاجة إلى الراحة.

قال: أطلعني على ما تروم. فما حاجتك؟

أجاب: حاجتي حملة جديدة، وحاجتي روح رجل أختطفها.

قال: أما الحملة الجديدة فليس هذا وقتها؛ لأن نورماندي قد سلمت إلينا قيادها، وأنا أنتظر حلول فصل الربيع لمباشرة القتال.

فلبث بلترو هنيهة وهو صامت، ثم نظر إلى الأميرال نظرة مرعبة، وقال له: أين مقر الدوق دي جيز الآن؟

فأجابه: لماذا تروم معرفة مقره؟

قال: لأرقبه، أولستُ جاسوسًا؟

فأطرق الأميرال قبل أن يتكلم، وأدرك أن بلترو يحاول أمرًا يقدم عليه بجرأته العادية، فقال: إن الدوق يحاصِر الآن مدينة أورليان.

قال: وهل تقوى تلك المدينة زمنًا طويلًا على احتمال الحصار؟

أجاب: كلا وا أسفاه، ويسوءني قرب سقوطها بين أيدي الكاثوليك.

– ألست في حاجة إلى بعض إيضاحات عن الدوق؟

– كيف لا؟

– لا جواد عندي لأسافر إلى أورليان، فهل لك في أن تهب لي جوادًا؟

فحدق الأميرال في وجه بلترو، ومضى ففتح خزانة فأخرج منها بعض دنانير وأعطاه إياها، فقال: شكرًا لك يا سيدي، والشيء بالشيء يذكر، فليس عندي غدارات أدفع بها عن نفسي؛ لأن غدارتي قد انفجرت عند الهجوم على بايو. فتناول الأميرال غدارته وسلمها إلى بلترو. فقال: أشكر لك هذه العطية أيضًا يا مولاي، وسوف تتلقى أخبارًا عن الدوق دي جيز بعد ثمانية أيام إذا بقيتُ حيًّا. تلفظ بهذه الجملة الأخيرة بلهجة جافية، فارتاع الأميرال، وأمسك يده وتفرس في وجهه، وقال: ما أراك ذاهبًا إلى أورليان لمجرد التجسس والمراقبة؟

قال: لم هذا الكلام؟

قال: لأن ما حاجتك بغداراتي إذن؟ ولماذا تروم شراء جواد، إلا إذا كنتَ تبتغي قتل عدوٍّ؟

أجاب: ولكن ذلك لا يمنعني من التجسس.

قال: اعلم يا بلترو أنني لا أحب القتل والاغتيال، فأقسم لي على أنك لا تنوي بذهابك إلى أورليان قتل الدوق دي جيز. فمدَّ بلترو يده، وقال: أقسم لك على أنني ذاهب إلى أورليان لمصلحة ديانتنا المقدسة وخيرها، ومضى، وقد غادر الأميرال كثير التفكير.

•••

أجل، فقد كان الدوق دي جيز يحاصر مدينة أورليان، وقد استولى على سوق من أسواقها، ولبث فيه يهدد البروتستانتيين.

وأرسلت إليه الملكة الوالدة كتبًا متوالية توسلت فيها إليه ألَّا يفتح المدينة بالهجوم. إلا أن الدوق كان يتوق إلى نهو أمر تلك المدينة التي كانت تُعد عاصمة للبروتستانت، فأجاب الملكة بقوله: إن مجلس الملك، عندما نشبت معركة درو بيني وبين أمير كوندة، قد فوض إلى قواد الجيش العمل بما يرونه ملائمًا لمصلحة البلاد، فأنا أعمل بتفويض مجلس الملك.

وقصدَ الدوق دي جيز «بمجلس الملك» جواب الملكة يوم استشارها في مقاتلة أمير كوندة، كما يذكر القراء.

ولم تستطع مدينة أورليان ثباتًا طويلًا؛ لعدم وجود مهمات الدفاع الكافية. فأنبأ الدوق ضباطه بأنه سيهجم عليها يوم ٨ا فبراير (شباط) ثم قال لهم: «إن الملكة الوالدة تروم منا اللحاق بالمسيو دي شاتيليون إلى نورماندي، ولسوف نذهب بعد أن نستولي على أورليان.»

وفيما كان الدوق يستعد للهجوم وافاه أحد رجاله بالسيد بلترو دي ميرة، وقال له: إنه عرفه في عهد هنري الثاني، وهو الآن يرجو أن يُسمح له باعتناق المذهب الكاثوليكي.

فرضي الدوق دي جيز أن يجعل بلترو بين حراسه اعتمادًا على توسط أحد رجاله وكثرة إطرائه إياه، وكان تغيير المذاهب في ذلك العهد أمرًا مألوفًا. فلزم بلترو الدوق، وكان يرقبه ويرصد حركاته وسكناته، فلم ينقضِ زمن قصير حتى عرف عاداته. ولقد أراد قتله قبل أن تسقط أورليان في أيدي الكاثوليك.

وكان كل شيء مهيئًا للهجوم. ففي مساء يوم ١٧ فبراير (شباط) تفقد الدوق طلائعه، وأوصى ضباطه بالتأهب للغد.

فعزم بلترو على قتل الدوق في تلك الليلة. فمرَّ إلى الناحية الأخرى من النهر حيثما كان يسكن الدوق وزوجته، وبينما كان يبحث عن مكان صالح للاختباء صادف شريفًا من حاشية الدوق، هو المسيو دي سرني، وقد أتى ليخبر الدوقة أن زوجها لاحق بها، ولكنه يتأخر عن موعده المعتاد. فقال له بلترو: إلا ما أنبأتني يا سيدي عما إذا كان الدوق يمرُّ الليلة بالنهر؟

فأجابه دي سرني بسذاجة قال: بعد ساعة أو ساعتين. فلما غاب دي سرني ساق بلترو جواده إلى صف من شجر الجوز كان يمرُّ الدوق بها عندما يقصد مسكنه. أما جواد بلترو فقد اشتراه بالدنانير التي أعطاه أيها الأميرال. ثم إنه صبر مستظلًّا بالأشجار، قابضًا على غدارتيه وهما اللتان أخذهما من الأميرال، حتى أمسى المساء، وامتد ستر الظلام، وساد السكون على البرية، وكان المحاصرون والمحصورون ساهرين لا يأتون بحركة لئلا تنم على مقاصدهم.

هذا وبلترو يضطرم لجاجة ويرصد أقل حركة، وإذا به يسمع وقع حوافر جواد، وأقبل الدوق منحنيًا على رقبة جواده مفكرًا في الخطة التي يتخذها غدًا للهجوم على أعدائه.

وإذا بطلقتين قد دوى صداهما، وأصيب الدوق في كتفه فارتمى على ظهر جواده وهو يغمغم قائلًا: كان ينبغي أن أتوقع ذلك من أعدائي، ولكنني ما ظننتهم يجسرون! وحاول تجريد سيفه إلا أنه فقد قواه، فسار به جواده حتى مسكنه، وفيه تلقته زوجته الدوقة باكية.

ولقد بذل الأطباء جهدهم فلم يجدِ الطب والدواء، فمات الدوق بعد ستة أيام مستغفرًا من زوجته بعدما أقر لها بأنه لم يكن على الدوام زوجًا صادقًا. ثم قال: إنه لم يكن يتمنى إلا أن يعيش بسلام مع جميع أعدائه، ولم يباشر قتالًا إلا لمجرد خدمة ربه. واحتفلوا بجنازته احتفالًا يندر مثله، ولبست عليه باريس ثياب الحداد أيامًا عديدة.

أما بلترو فإنه ركب جواده بعد أن فعل فعلته فسار به يومًا كاملًا في السهول والجبال. ثم رقد حتى الصباح عند طاحون، فهجم عليه هناك بعض الجنود وأوثقوه دون أن يبدي أقل معارضة، وساقوه إلى باريس حيث صدر الحكم عليه بالإعدام.

أما الكاثوليك، فقالوا: إنه من خدم الشيطان، وأما البروتستانت فشهدوا بأنه من أولياء الله، وذكروه في صلواتهم.

على أنه أعدم في ساحة «جريف»، وجرَّته الخيل على مرأى جمهور غفير من سكان باريس، كانوا يصفقون بأكفهم مبتهجين بعذابه وهلاكه الوحشي، ورفع الحصار عن أورليان ثاني يوم وفاة الدوق دي جيز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤