سعيد

خرجت دميانة من الكنيسة وقد غربت الشمس وأخذت الظلال تتكاثف، ولكن القمر كان في ربعه الأول. فظلت بضع دقائق تتردد ثم مضت تخطو بغير انتباه حتى تجاوزت النخلة وأطلت على البساتين. وأشرفت على النيل وقد أكمد لون مائه من غيوم الجو فوقه لكن سطحه ازداد لمعانًا لانكسار ضوء القمر على وجهه المتجعد كأن الزمان أثر فيه فتكمش مثل تكمُّش وجوه الشيوخ، فسارت وحدها وهي تستغيثُ بصاحب الكنيسة وحامية تلك الناحية؛ كي لا يراها أحد حتى تدخل غرفتها.

وفيما هي كذلك سمعتْ وَقْعَ حوافر جواد أَلِفَتْ سماع مثله مارًّا بجانب منزل أبيها، وسمعت صهيل الجواد فخفق قلبُها وأدركت أنه جوادُ سعيد، وأنها ستلتقي به وحده في الليل هناك وليس لها عهدٌ بمثل هذه الحرية، ولا سبق لها أن كلمت سعيدًا بغير التحية أمام والدها، وكانت منفعلة مما قالته وسمعته على كرسي الاعتراف، فوقعت في حيرة؛ لا تدري: أتتوارى من الطريق حتى لا يراها أم تقف له وتتحين الفرصة لمعرفة ما في قلبه، وكلا الأمرين شاق.

وكان هو قد بلغ موضعها، وما كاد يقعُ بصرُهُ عليها حتى عرفها، فتَرَجَّلَ مسرعًا، وتقدم وهو ممسكٌ لجام جواده بيساره، ووقف بين يدَي دميانة وقفةَ الإجلال وعليه لباس السفر، وعلى رأسه الكوفية والعقال بدل القلنسوة أو العمامة، وقد التف بعباءة من الحرير فوق القباء والسراويل، وكان أسمر بيضي الوجه عسلي العينين — مع وداعة وذكاء — قصير الحاجبين صغير الفم، خفيف الشاربين واللحية تلوحُ الصحة في مُحَيَّاه، ويتدفق الذكاء والحدة من عينيه. وكان وقوفُهُ مواجهًا للقمر، فظهرتْ تلك الملامح ظهورًا واضحًا وزادها ضوء القمر هيبة.

أما هي فكان الضوءُ واقعًا على جانب رأسها فاكتسب وجهُها رونقًا من تكسُّر الأشعة واختلاف كثافتها على تقاطيعه، وكانت عيناها قد ذبلتا من البكاء بين يدي القسيس، فازدادتا ذبولًا عند رؤية سعيد لما جاش في نفسها وما ينازعها من عوامل الدهشة والرجاء والخوف. فوقفت لا تتحرك، ولكنك لو جسست يديها أو سمعت حركة قلبها لظننتها بطارية كهربائية عليها مرجل يغلي ماؤه، ويتدفق بخارُهُ لما يبدو لك من ارتعاش أناملها وخُفُوق قلبها واصطكاك ركبتيها.

فتقدم إليها باحترام، وقال: «هل تأذن سيدتي دميانة في أن أكلمها؟»

فلم تُجِبْ بلسانها، وإنما أجابتْ بعينيها ولم تحركهما، فقال: «أراك وحدك هنا ولعل خادمك أَبْطَأَ عليك، فهل تأذنين لي أن أُماشيك إلى المنزل أو إلى أن يأتي الخادم؟»

فأطرقت وهي تصلح طرف نقابها، وقالت بصوت تُخامره بحة: «أشكرك يا سيدي، وأخشى أن يكون في ذلك تعبٌ عليك.»

قال: «كلا، وإذا خفت التعب لطول الطريق فاركبي هذا الفرس وأنا أقودُهُ، ولا بأس عليك منه.»

فقالت وقد استأنست بتلطُّفه واستدلت منه على أنه يضمر مثلما تضمر: «لقد بالغت في التلطف يا سيدي بل يكفيني حظًّا أن أمشي إلى جانبك فأكون في ظلك، لا أخشى بأسًا، ولا أخاف تعبًا.»

قالت ذلك وهي تكاد تشرق بريقها من شدة الاضطراب، وسارت تتعثر بثوبها وركبتاها ترتعدان.

فماشاها سعيد يقود جواده وقد رأى المقام ذا سعة ليشكو لها ما يكنه فؤادُهُ فقال: «إني أسير معك ولكنني في الواقع في حماك يا سيدتي؛ فإنك صاحبة هذه الأرض ومالكة رقاب أهلها وقلوبهم.»

فالتفتتْ إليه وقالت: «لا تقل يا سيدتي.»

فقال: «وماذا أقول إذن؟». قالت: «قل يا دميانة وكفى.»

فتهلل وجهه فرحًا وقال: «هل تأذنين في ذلك هل تأذنين أن أدعوك باسمك فقط؟»

قالت: «علي أن أدعوك أنا سعيدًا فقط.»

قال: «أنت صاحبة الإذن والفضل للمتقدم فقط سمحت بأن أكون في خدمتك هذا المساء أثناء الطريق ويا لها من خدمة قصيرة الأمد فهل لي أن أطمع في امتدادها؟»

فنظرت إليه وقالت: «لا تقل خدمة فإنما هي أنس المرافقة.»

فقال: «وهل تأذنين أن تطول يا دميانة؟» وأدركت من بحة صوته المعني الذي أراده، فأخذ الهيام منها مأخذًا عظيمًا، وسَرَّها أن يسأل هذا السؤال. فنظرت إلى وجهه على ضوء القمر وعيناها شاخصتان إليه، وقالت وصوتها يرتجف: «طول الحياة.» وغلب عليها الحياء وتوردت وجنتاها وأطرقت. فلما أبطأ بالجواب خافتْ أن تكون قد تَسَرَّعَتْ فتباطأت في المسير فطاوعها سعيدٌ وقال: «قد تستغربين سكوتي يا دُميانة بعد أن قلدت عنقي بعقد كلامك الحلو الشهي. وإنما سكت من الدهشة والإكبار فقد شعرت بالانتقال فجأة من مصاف الضائعين إلى مراتب أهل السعادة، إن دميانة كتاب كبير مجلد ضخم، بل هي وحيٌ سماويٌّ نزل على قلبي فأناره فأراني مستقبلًا مجيدًا لم أكن أحلم به؛ لأنه فوق ما كنت أطمع فيه. إن دميانة روح حلتْ في ميت آمالي فبعثته. ولقد طالما مررت بي أحلام الصبا يا دميانة وحدثتْني نفسي بضروب من السعادة مما يخطُرُ في أذهان الأحداث ويندر أن ينالوا عشر معشارها، فلم يخطر ببالي سعادة كالسعادة التي اكتنفتْني عند سماع هذه الكلمة الثمينة، إنها أبلغُ ما نطق به الشعراءُ وأسمى ما خطر على بال بشر. طول الحياة! أطال الله حياتك يا دميانة حتى تطول أسباب سعادتي.»

ثم وقف وقد انتبه لتسرُّعه في تفسير قولها، والتفت إليها، وهي تنظر إليه وقد حدقت بصرها في وجهه كأنها تهم بأن تحتضنه بأجفانها، فأحس بسهم أصاب قلبه وأنه غُلب على أمره فقال: «أخشى يا دميانة أن أكون قد تسرعت في فهم مرادك هل تعنين ما فهمته؟ أم غلب عليَّ الوهم ففهمت ما أتمناه؟»

فتنهَّدَت تنهدًا عميقًا وقالت: «أبعد ما تراني فيه من دلائل اﻟ … تغالطني وتطلب مني زيادة الإيضاح؟ اكتف بما تراه من اضطرابي؛ فإنك أخذت كلمتي البسيطة وغاليت في قيمتها كأنك تقرأ أفكاري وهي تعبيرٌ عما يجول بخاطري. ولكنك ألبستها ثوبًا قشيبًا من عواطفك. ولا عجب فإنك مقيمٌ في قلبي.»

فقال: «يا لَنعيمي ويا لَهنائي. مقيم في قلبك؟ حبذا المقام السماوي فماذا أقول يا دميانة وقد غلبتني على أمري وضيقت علي أبواب الكلام فأنا مقصر عنك في هذا البيان وأكتفي بعبارة بسيطة فأقول: إني أحبك حبًّا يكفي للتوفيق بين الملكية واليعاقبة ونزع ما بينهما من الضغائن أو التأليف بين الأقباط والمسلمين حتى يصيروا أمة واحدة.»

وأخذا يتشاكيان ويتكاشفان الهيام وهما يسيران والجواد يسيرُ في أثرهما لا يسمعان لحوافره وقعًا كأنه شعر باتقاد ذينك القلبين تهيبًا من سلطان الحب وإكرامًا لذينك الحبيبين في ذلك المساء المقمر، وأما الحبيبان فكانا ينقلان الخُطى وهما لا يعلمان إلى أين يسيران، ولو مشيا على تلك الحالة أيامًا لحسباها لحظات قليلة، فكانا في شاغل عن حفيف الورق وتَنادي الفلاحين ونباح الكلاب وصهيل الخيل كأنهما في عالم آخر.

وفيما هما في هذه الغيبوبة المحببة رأيا شبحًا مقبلًا من جهةِ بيت مرقس، فقال سعيد: «أرى شبحًا مقبلًا أظنه رجلًا هل ترينه؟ وهل تعرفينه؟»

فالتفتت وتفرست فيه ثم قالت: «إنه خادمي العم زكريا وأظن أبي استبطأني فبعث به يستعجلني.»

فقال: «إن هذا العم سيأخذك مني أو بالحري سيفصل بيننا.»

فقطعت كلامه قائلة: «مؤقتًا إن شاء الله.»

فردد قولها: «مؤقتًا إن شاء الله» مرارًا، ثم جذب اللجام حتى اقترب الجوادُ منه وقال وهو يحك جبهة الجواد: «أنت ذاهبةٌ الآن إلى بيت أبيك، وستلهين عني بالخدم والجواري وبالأصدقاء، وأما أنا فلا أنيس لي إلا خيالك.»

فقالت: «لا يشغلني عنك شاغل بعد ما دار بيننا.» وكأنها أرادت إتمام الحديث فمنعها الحياء فقاطعها قائلًا: «لن يطول الفراق — إن شاء الله.»

قالت: «ذلك إليك و…»

قال: «أنا ذاهب في الغد إلى الفسطاط؛ لأرى ما يأمر به أميرُنا ابن طولون بعد أن أنهيت بناء العين وجر المياه وسبعين يومًا يحتفل فيه بجرها فأنال المكافأة، وأرجو أن تسرك، وعند ذلك أتقدم إلى الأمر الذي جرأتني عليه بصادق فضلك. فأستودعك الله الآن.»

ومد يده إليها فمدت يدها فصافحها وضغط أناملها فأجابته بمثل ذلك وأومأت إلى القمر وهي تنظر في عينيه ولم تقل شيئًا ففهم مرادها وقال: «وأنا أستشهد هذا الكوكب السيار على عهدنا.»

والتفت فرأى العم زكريا يتباطأ في مشيته عمدًا كأنه علم بما بينهما فلم يشأْ أن يفصل بينهما، فلما رآهما يتصافحان تقدم إليهما وحَيَّاهُما هادئًا رزينًا.

وكان زكريا كهلًا أجرودًا أصلُهُ خصيٌّ أسود، نشأ في صباه عند ملك النوبة، ثم تنقل من يد إلى يد حتى وُهب لدميانة ليلة ولادتها على أن يكون في خدمتها إلى آخر حياته، وقد أخلص لها الخدمة. وهؤلاء الخصيان إذا صدقوا في حبهم كانوا أقرب مودة لأسيادهم من الإخوة أو الوالدين، وكانت دميانة تأنس بزكريا وتكرمه وتناديه: «يا عماه.» وكان يعرف سعيدًا معرفة جيدة ولم يفته ما يكنه لدميانة ولا ما في قلب دميانة له مع أنها لم تذكر له شيئًا من ذلك. وكان يرى بينهما تناسبًا، ويتمنى أن يتم زواجهما. فلما التقى بهما في تلك الخلوة بادرها قائلًا: «لقد شغلنا عليك يا مولاتي لغيابك ولو علمت أنك التقيت بمولانا المهندس لما تحملت مشقة السعي إليك ولكن سيدي والدك استبطأك فأمر بتعجيل مجيئك.»

قالت: «نعم أبطأت فقد شعرت بحاجة إلى الصلاة والاعتراف فجئت إلى الكنيسة وطال وقوفي أمام صورة سيدتنا فغابت الشمس قبل خروجي واتفق مرور جارنا الشهم فترجل عن فرسه ومشي معي.»

فابتدرها زكريا قائلًا: «فوجب علينا شكرُهُ على هذه الأريحية.»

والتفت إلى سعيد وقال: «أشكرك على تَحَمُّلك هذه المشقة، فإذا شئت فاركب فرسك إلى منزلك وأنا أمشي في خدمة مولاتي إلى البيت، فإننا على مقربة منه.»

فنظرت دميانة فإذا هي بجانب بيتِ أبيها، ولم تكن تحسب أنها على مثل هذا القرب منه، فبغتت، وجعلت تصلح من شأنها وتهدئ روعها؛ لئلا يبدو حالها لأبيها. أما سعيد فودعها وربك فرسه وتحول إلى منزل أبي الحسن، وما زال يلتفت نحوها ويشير مودعًا حتى توارتْ عن بصره.

•••

مشت دميانة خطواتٍ قليلة حتى رأت الأنوار في حديقة بيت أبيها، ووقع نظرها على ضفة النيل التي تليه، فرأت أنوارًا عديدة لم تعهد مثلها هناك، فقالت: «ما هذه الأضواء التي أراها في النيل؟»

قال: «هذه سفينة المارداني صاحب الخراج وأهلها أضياف عندكم.»

فتذكرت أنها رأتها تجري في الماء أصيل ذلك اليوم فقالت: «ما لنا وللمارداني لا أذكر أنه يزورنا ولا أعرف وجهه، فما الذي أتى به اليوم؟»

قال: «إن السفينة للمارداني ولكنه هو لم يأتِ فيها.»

قالت: «من أتى بها إذن.» قال: «إسطفانوس ابن المعلم يوحنا كاتب المارداني، وهو صديق سيدي والدك، وقد جاء في هذه السفينة الفخمة مبالغة في الأبهة.»

فلما سمعت اسم إسطفانوس امتقع لونها ووقفتْ وقد جمد الدمُ في عروقها. ولم يجهل زكريا سبب المفاجأة، ولكنه تجاهل وقال: «هيا بنا يا سيدتي؛ فقد طال بأبيك انتظار قدومك.»

قالت: «طال انتظاره بقدومي؟ وهل يهمه أمري؟ وعنده من السراري والجواري ما يشغله عن هذه اليتيمة المسكينة التي فقدت سعادتها بفقد والدتها — رحمك الله يا أماه.» قال ذلك وحرقت أسنانها ثم قالت: «ما غرض هذا الشاب الجاهل من الزيارة يا ترى؟ أظنه جاء لمعاقرة الخمر مع أبي وليمضيا الوقت في المجون والخلاعة على جاري العادة.»

فتأثر زكريا مما شاهده من المها فأراد تشجيعها فقال: «وما الذي يهمك من ذلك يا مولاتي؟»

قالت: «كيف لا يهمني أمر والدي يا عماه؟ ألا يهمني أن يكون من مُعاقري الخمر وأهل المجون؟ هل رأيته ذاهبًا إلى الكنيسة يومًا ما؟ أم هل سمعته يصلي؟ وما الذي أبقاه لآخرته وأنت تراه يقضي أوقاته في الخلاعة والمجون وهو الذي لا يصاحب إلا من كان على شاكلته، وما قولك في رجل يتخذ إسطفانوس هذا صديقًا له ينفق أمواله عليه؟»

فأجابها على الفور: «ألا تعلمين لماذا يصاحبه ويكرمه؟ وهل يخفى عليك أن سيدي والدك صاحب ضياع وأموال يلحقها من الخراج الكثير، وهذا الشاب ابن كاتب الخراج وله دالة على المارداني، فيخدم أباك في تخفيف وطأة الخراج وقد مضت عدةُ أعوام لم يؤد أبوك من الخراج شيئًا.»

قالت: «بئس الاقتصاد هذا، أراه ينفق عليه في المآدب والولائم والهدايا فوق ما يقتصده من الخراج، ثم إن الخراج حق للدولة لا ينبغي إمساكُهُ عنها كأننا نسرقها. إن أهل الذمة والضمير لا يقبلون ذلك.»

وكان زكريا يمشي بين يديها وهما يسيران الهويناء لإتمام الحديث قبل الوصول إلى المنزل، فأعجب بتعقلُّها وصدق نظرها؛ لأنه سمع منها قولًا لم يسمعه إلا من كبار الرجال المتفانين في نصرة الحق والعدل، ثم تذكر تقواها وتدينها فأدرك حفظها قول المسيح: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وفكر في أمرها وما يهمها من أمر أبيها فاستوقفها وقال:

إن الذي يهمك من هذه الشكوى أمران: الأول أنك تخافين أن يبذر أمواله فيضيع حقك في الإرث و…

فقطعت كلامه قائلة: «إن المال لا يهمني كثيرًا ولكن لدي أمرًا آخر أهم منه.»

فقال: «لو صبرت لأتمم حديثي لاستغنيت عن هذا البيان. الأمر الثاني أنك تكرهين إسطفانوس وتكرهين عشرته وتخافين أن تئول صداقته لأبيك إلى تمكين عرى القرابة معه، فتعود العائدة عليك، وأنا أعلم أنك تبغضين هذا الشاب كما تبغضين جهنم.»

فسَرَّهَا أَنَّ العم زكريا فهم مرادها، وعرف ما يكنه ضميرها وأحسن التعبير عن مقدار بغضها إسطفانوس. وفي الواقع أن أباها كان قد لمح لها مرة بأنه يحب أن يزوجها منه فلم تجبه على أنها لا ترى كل ذلك شيئًا يستحق الذكر بالقياس إلى حرمانها من سعيد، ولاسيما بعد الذي سمعته في تلك الليلة. وهَمَّتْ بأن تبوح بذلك لزكريا فمنعها الحياءُ. وكان زكريا يمشي بجانبها والمصباح بيده، فلما آنس منها الإطراق والسكوت والتفكير رفع المصباح إلى وجهها وتفرس فيه وهو يبتسم وقال: «وقد قرأت في وجهك شيئًا آخر.» وتنحنح وسعل وصبر هنيهة ثم قال: «إن سعيدًا رجلٌ شهمٌ، وهو وحده أهلٌ لك.»

فلما سمعت منه هذا التصريح أسرع خفقانُ قلبها وتولاها الخجل ولم تجب فابتدرها هو قائلًا: «وهذا الأمر — على خطورته — لا ينبغي أن يهمك كثيرًا إنك ستنالين كل ما تريدين بإذن الله ونعمة يسوع المسيح (وكان العم زكريا نصرانيًّا مثل سائر أهل النوبة في ذلك العهد). ستنالين سعيدًا، وسيذهب إسطفانوس هذا مخذولًا، وستكونين صاحبة هذه الثروة وحدك متى شئت. إنما يجبُ علينا أن نَتَوَخَّى التؤدة والحكمة والله المستعان.» قال ذلك وأمارات الجد باديةٌ في صوته ولو استطاعتْ دميانة التفرس في وجهه لَرَأَتْ في عينيه معانيَ لا يعبر عنها النطق، على أنها فهمتْ قوةَ عزمه مِنْ لحن صوته، كأنه يتكلم عن ثقة وسلطان، لكنها حملتْ قوله محمل الحماسة لها تخفيفًا عنها؛ لأنه يحبها ويُريد راحتَها.

فقالت: «إني لا أفتر عن الصلاة والدعاء مساء وصباحًا، وأتوسل إلى السيد المسيح أن يُبعد عني هذه التجارب، وأرجو أن يصغي لطلبتي.» وقد سَرَّهَا تَصَدِّي العم زكريا للأخذ بناصرها فزادت استئناسًا به وارتكانًا عليه، وهي تعتقدُ صدق ولائه وإخلاصه. ومَشَيَا حتى اقتربا من الدار، ففتح لهما البواب فدخلا، فأَطَلَّا على حديقة أُنيرت بمصابيحَ ملونة معلقة بأغصان الشجر. وقد مدت المائدة تحت شجرة كبيرة تدلت المصابيح من أغصانها كالعناقيد، وعلى المائدة الأقداح والأباريق فيها أصناف الخمر يتخللها أطباق الفاكهة والأطعمة وباقات الرياحين. فتحولتْ دميانة إلى غرفتها وظل زكريا في طريقِه حتى أقبل على سيده وكان جالسًا على وسادة عالية بجانب المائدة وبجانبه صديقه إسطفانوس وقد لعبت الخمر برأسيهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤