مرقس وإسطفانوس

كان مرقس كهلًا متصابيًا يؤلمه التفكير في كهولته وإذا بدا له أنه أشرف على الستين غالط نفسه وزَعَمَ أن أباه أخطأ في رصد عام ولادته. فكيف إذا سئل عن سنه إذن لاستشاط غضبًا من قحة السائل! ومثله مثل كثيرين من كهول هذا الزمان الذين يشق عليهم أن يعرف الناس حقيقةَ أعمارهم، فإذا ظهرت سن أحدهم ظهورًا لا سبيل إلى إنكاره ملكت قياده إذا قلت له: «يظهر أنك أصغر سنًّا من ذلك بكثير.» فيعد قولك تقريظًا له فيثني عليك كأنك أطريت مناقبه فذكرت مآثره في المجتمع الإنساني أو تفوقه في العلم على أقرانه أو بلاءه في الدفاع عن وطنه!

هكذا كان شأنُ صاحبنا مرقس، وقد زاده تمسكًا بظواهر الشباب انصرافُهُ على إرضاء سراريه الكثيرات واكتساب إعجابهن، فكان لا يدخر وسعًا في إخفاء علامات الكهولة، وأصبح منذ انصراف الشباب عنه، إذا ابيضتْ شعرةٌ في شاربيه أو لحيته أو رأسه نزعها، فلما تكاثر الشيبُ عمد إلى الخضاب يسوِّد به وجهه، فبدلًا من أن يكون الشعر نظيفًا كما خلقه الله يطليه بكلس اسود كما تُطلى الجدران بالكلس الأبيض، أو يصبغه بالعقاقير كما تصبغ الجلود أو الأنسجة.

فهو يخدع نفسه لأنه يود أن يظهر من حاله غير ما هو عليه، ولكن خداعه لا يجوز على أكثر الناس. ولو أن واحدًا من هؤلاء توسم فيك مداجاة أو خداعًا لاحتقرك وتجنب عشرتك مع أنه يداجِي الناس بخضابه فيريهم من أحواله غير الواقع ويوهمهم أنه شاب وهو كهل. وأنه أصغرُ سنًّا مما هو، فكأنه سُئل عن عمره فكذب ومع أنهم يكرهون أنواع الرياء والكذب فإنهم يعدون الخضاب من قبيل المبالغة في إصلاح الهندام، ناسين أن النظافة أول شُرُوط جمال الهندام.

وكان كل أمل مرقس أن يحتفظ بمظاهر الشباب بين يدَي أهله؛ ولذلك كان إذا أحس بانحطاط في قواه الجسدية عمد إلى المنبهات، فشرب الخمر وأكثر في طعامه من اللحوم الطازجة والأفاويه، وتنشق العطور ولازم الراحة والخمول — وهما مِن بواعث السِّمَن — فانتفخ وجهه وجحظت عيناه وغلظ عنقه وتعالى صدره وبطنه، فأصبح لقصر قامته إذا لبس السراويل والقباء يكاد يكون عرضه كطوله وتراه أكثر ما نراه ضاحكًا طروبًا كأن الطبيعة طوع إرادته لا يخاف مستقبلًا ولا يرهب قدرًا مخبئًا، همه أن يتمتع بالحياة جهد طاقته فلا يروق له إلا مجلس المتهتكين المستهترين وينفر من أحاديث الجد بل هو لا يقوى على إعمال الفكر برهة ولا يلبث حتى يمل ويضيق صدره، فقد اعتاد أن ينأى بجانبه عن التعب بعد أن أَتَتْه الثروة فأغنتْه عن العمل.

ولرغبته في الشباب كان لا يُصاحب الكهول؛ إذ يغلب فيهم الرزانة والبُعد عن المجون والتهتك، فكان يعاشر الشبان ويقلدهم في حركاتهم وسكناتهم، فيجالسهم ويشاربهم ويؤاكلهم، وكان حديثُهُ طليًّا فكهًا يتخلله كثيرٌ من النكات والمغامز اللطيفة، فإذا سمع نكتةً ضحك لها وقهقه طويلًا.

وكان إسطفانوس من بين عشرائه الشبان، وهو في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وكان مرقس عشيرَ أبيه من قبله. وكان هذا رجلًا عاقلًا وجيهًا اسمه المعلم حنا تَرَقَّى في مناصب الدولة حتى صار كاتبًا للمارداني صاحب الخراج، ونال نُفُوذًا كبيرًا، وجمع ثروة حسنة، وقد أحسن كل عمل إلا تربية ابنه إسطفانوس، فلقد غلب ضعفه على عقله في أمره. أو لعل الذنب ليس ذنبه بل للفطرة؛ لأنك إذا تدبرت أحوال الناس في تربية أبنائهم قَلَّمَا رأيت للتربية تأثيرًا في ذلك، وما هي إلا كالصقل للمعدن تجلو ظاهرَه ولا تغير جوهره.

ومهما يكن السبب فقد شب إسطفانوس على الانهماك في اللذات والإخلاد إلى الرخاء ولم يكن مضطرًّا إلى العمل ولا فيه ميلٌ إليه، فنشأ في عيش سهل لا هم له إلا أكله أو شرابه. وكان وحيدًا لأبيه وله دالة عليه لا يطلب أمرًا إلا ناله وعرف مرقس ذلك فازداد رغبة في تقريب إسطفانوس منه فضلًا عن اتحاد الطباع وقد استفاد من عشرته إغضاء جُباة الخراج عن تحصيل خراج أطيانه عدة أعوام.

وكان إسطفانوس يتقرَّب من مرقس لثروته، وقد عرف دميانة من صغرها فأحبها، وكان جميل الطلعة معجبًا بشبابه، وعنده أن الإنسان إنما تُقاس منزلته برواء طلعته. وقد يصح هذا الزعم في النظرة الأُولى وربما تعداها إلى ما بعدها؛ فإنك ترى أكثر الناس يأخذون الأُمُور بظواهرها فيبنون أحكام سيرتهم ومعايشهم على وسامة الشكل فيخلف ظنهم الرجل الطرير. واعتبر ذلك في اختيار الأزواج فكم من فتًى غره الطرف الكحيل والخد الأسيل والقد الرشيق، وكم من فتاة خدعها جمال الطلعة وفخامة المظهر وقد يكون وراء ذلك ما يُبكي العيون ويدمي القلوب.

ولم يخل عصرٌ من شبان يعوِّلون في الزواج على جمالهم فقط. وكان إسطفانوس من هؤلاء، وقد طمع في دميانة لجمالها ومالها، وخيل إليه أن أمرها بيد أبيها فجعل يتزلف إليه بإسدائه الخدمات أو بإطراء ذكائه وطلاوة حديثه، ويأتيه من مواضع الضعف فيه فينوه بما في وجهه من نضارة الشباب حتى لَتكاد تظنه ابنَ ثلاثين، وكان من الجهة الأُخرى يحسب رضا الفتاة أمرًا مقضيًّا؛ إن لم يكن لِجاه أبيه أو تبعًا لرأي أبيها فلجماله، فكان إذا زارهم أصلح من شأنه وتطيب ولبس أحسن ثيابه وأثمنها، وكانت دميانة تنفر من تأنُّقه ومن تطيبه وتعدهما تخنثًا أو خلاعة؛ ولاسيما بعد أن عرفته من المدمنين للخمر ولكنها لم تكن تظهر شعورها وتكتفي بتجنُّب مجلسه، فتدخل غرفتها تصلي أو تقرأ أو تجالس بعض جواري القصر ممن رَبَّيْنَها منذ صغرها.

•••

لَمَّا أَطَلَّ زكريا على مرقس وإسطفانوس وهما على المائدة قال له مرقس: «أين كانت دميانة، وما الذي عاقها؟»

فقال: «كانت في الكنيسة تصلي وتعترف وقد عادت.»

قال: ادعها لتتناول شيئًا من الفاكهة.»

فأشار مطيعًا وذهب إليها فرآها واقفةً أمام المرآة الفضية تُبدل ثيابها وتتأهب للرقاد، فقال: «إن سيدي يدعوك إليه.»

قالت: «قل له إني ذهبت إلى الفراش.»

قال: «لا يصدقني لأنه رآك داخلة، ولا أرى بأسًا من جلوسك هنيهة معه ثم تعتذرين بالنعاس وتذهبين.»

فأطاعت والتفت بمطرفها وخرجت إلى الحديقة فاستقبلها أبوها ضاحكًا مازحًا وقال: «لقد طال غيابك في الكنيسة يا دميانة ألا تشبعين من الصلاة؟»

قالت وهي تجلس على وسادة في طرف البساط المفروش هناك: «إن الصلاة لذيذة يا أبي.» قالت ذلك وابتسمت.

فقال: «إذن ستفرحين كثيرًا إذا عرفت أننا ذاهبون غدًا إلى شبرا لحضور الاحتفال بعيد الشهيد.» وضحك.

فأطرقت وقد علمت من غنة صوته أنه يعبث بها ويعرض بإكثارها من الصلاة، ولما رأت ضحكه قالت: «إن عيد الشهيد عيدٌ مباركٌ، وفيه فضلٌ وبركةٌ؛ لأنه يبشر ببدء الفيضان إذ يلقون فيه التابوت وأصبع الشهيد، فإذا استقر في النيل يأخذ ماؤه في الفيضان، ولكنني أعلم أنهم شوَّهوا الاحتفال، فلا يرضي الله إذ يتخذه بعض الناس فرصة لإراقة الخمور والتمتع بالشهوات.»

فقال وقد تناول تفاحة جميلة قدمها إليها: «ما لك وللناس نحن نذهب لحضور الصلاة والاحتفال بإخراج التابوت و…»

فتناولت التفاحة من يده وقالت: «أصبح احتفالًا تتزاحم فيه الأقدام وتتحاك المناكب ويختلط الحابل بالنابل فلا يجد المرء موطئًا لقدميه.»

فنظر إليها مستخفًا بما تقوله وقال: «كأنك تحسبيننا ذاهبين لنقف مع الرعاع والعامة، إننا ذاهبون مع صديقنا إسطفانوس في سفينة صاحب الخراج الراسية إلى الشاطئ، فنركبها وفيها الغرف للنوم والمطابخ للطعام، ونخترق بها النيل فنقف حيث نشاء ونتفرج على ازدحام الناس ونحن في سعة من المكان، ونشاهد الاحتفال على مهل فلنشكرْ صديقنا إسطفانوس على دعوته.»

فلما سمعتْه دميانة وعلمت أنها ذاهبةٌ مع إسطفانوس استعاذتْ بالله وتراجعت حتى بدا التردُّد في عينيها أما إسطفانوس فتذرع بشكر مرقس، فقال: «العفو يا مولاي فإنما عليَّ أنا أن أقدم فرائض الشكر إذا تنازلت الآنسة دميانة ورضيت بالذهاب معنا.»

فلم يزدها هذا التلطف إلا نفورًا، ووقعت في حيرة بين أن تقبل الدعوة فتقضي بضعة أيام مع إسطفانوس وهو ثقيل على قلبها وبين أن ترفضها فلا تأمن أن يُلح عليها والدها فتضطر للذهاب مرغمة، فظلت ساكتةً، فقال أبوها: «ما لك لا تتكلمين يا دميانة، ألست مسرورة بهذه السياحة والزيارة؟»

فسبقها إسطفانوس إلى الكلام وقد تناول الإبريق بيده وأخذ يصب منه الخمر في قدح من الزجاج المنقوش، وقال: «لا حاجة إلى سؤالِها؛ فقد قالتْ إنها لا تُريد الذهاب.» وفرغ من الصب فأدنى القدح مِن فيه وقد أرسل رأسه إلى الوراء فاسترق نظرة إليها بين القدح وكمه فرآها مطرقة تتشاغل بالتفاحة بين أناملها وقد غلب الحياء عليها حتى توردت وجنتاها.

فتَصَدَّى مرقس للجواب عنها وبيده اليمنى القدح يُبعده عن فيه بعد أن شربه ويمسح باليسرى شاربيه وفمه وقال: «كيف فهمت أنها لا تُريد الذهاب وهي أرغبُ الناس في الصلاة والاحتفالات الدينية، وقد كانت تخاف الازدحامَ، فبعد أن علمت بذهابنا بالذهبية لا أظنها تُمانع فهي تذهب مع أبيها حيثما سار.»

فأدركت دميانة أنه يذكرها بسلطته الأبوية، وأنه سيأخذها رضيت أم لم ترض، فرأت أن القبول أَلْيَق، فالتفتت إلى إسطفانوس، وقالت: «ظننتني رفضت الذهاب ولا رأي لي في وجود والدي فإذا أمر أطعت.»

فبَشَّ لها أبوها، وقال: «بُورك فيك يا ولدي، إني لا أحب أن أحملك إلا على ما لا تريدين، ونحن ذاهبون فاستعدي.»

فانبسطت أساريرُ إسطفانوس، وأبرقت عيناه، وأخذ ينتفخُ ويعالج مجلسه ليلفتها إلى جمال عينيه وعظيم هيبته، وهي لا تزداد بذلك إلا نفورًا منه حتى ضاقتْ ذرعًا بتلك الجلسة، وهمت بالنهوض. وإذا بالعم زكريا أقبل مسرعًا يقول: «إن جارنا أبا الحسن بعث يستأذن في السهرة عندنا.»

فلما سمع مرقس ذلك بُغت، وقال: «دَعْهُ يدخل من الباب الآخر، ونحن قادمون لملاقاته وأنر القاعة الكبرى بالشموع جيدًا.» فنهض وأخذ يمسح شاربيه ولحيته ويصلح هندامه، ودعا إسطفانوس للدخول معه وتركا دميانة لتذهب على غرفتها من طريق آخر؛ لئلا يراها الضيف أو الجار. ولم يكن الحجاب يومئذٍ شائعًا عند القبط، أو لعله كان في أول شيوعه وسببه في الغالب أن المسلمين كانوا يحجبون نساءهم عن النصارى كما يحجبونهن عن سواهم، فلما كانت إقامتُهُم بالمدن لم يكن لذلك تأثيرٌ على القبط، فلما نزلوا القرى وجاوروا القبط أصبح القبطيُّ إذا زار جاره المسلم يحجب عنه امرأته وسائر نسائه، فأصبح هو يفعل ذلك إذا زاره المسلم فيحجب أهله عنه، وتنوقل ذلك في الأعقاب بتوالي الأجيال حتى صارت عادةً محكمة فرضها تقليد المحكوم للحاكم.

•••

أما دميانة فأخذ قلبها يدق عند سماعها اسم أبي الحسن وعزمه على الزيارة في تلك الساعة. وكانت زياراته نادرة قلما يأتي إلا لغرض. وتذكرت مقابلتها سعيدًا في ذلك المساء فحدثتها نفسها بأنه قد يكون قادمًا لشأن يتعلق بها وأصبحت شديدة الشوق لمعرفة ما إذا كان سعيد آتيًا مع أبي الحسن. ووقفت هنيهة تفكر في ذلك بعد ذهاب أبيها وإسطفانوس، ثم اتجهت إلى غرفتها وهي تتوقع أن يأتي زكريا ليطمئن بالها، فتشاغلتْ بتبديل ثيابها حتى أتى فسألتْه، فقال: «أتى أبو الحسن وحده يا سيدتي، وهذه الزيارة لإسطفانوس وليست لوالدك؛ فقد سمعت أبا الحسن يذكر أنه لَمَّا علم بوُجُود إسطفانوس ابن المعلم حنا في القرية اغتنم الفرصة للسلام عليه.»

فأجابتْ دميانة بقلب شفتها السفلى — وهي تعجب تهكمًا واستخفافًا — ولسان حالها يقول: «ما شاء الله، ابن المعلم حنا شيء عظيم وزيارته فخر كبير!»

فلحظ زكريا ذلك منها فقال: «لا تستخفي به يا مولاتي؛ فإن أباه يكاد يكون صاحبَ النفوذ الأول وليس أكثر نُفُوذًا منه إلا المارداني صاحب الخراج …»

فقطعت حديثه قائلة: «هل جاء أبو الحسن وحده؟»

فابتسم وقال: «نعم وحده.»

فقالت: «أراني أهم بأن أنام.»

قال: «ألا تتناولين العشاء؟» قالت: «لا أشعر بالجوع.» فتركها وخرج.

أما أبو الحسن فقد كان كهلًا جليلَ القدر مع أُنس ولُطف جاء في ذلك المساء بلباس البيت وهو جلبابٌ من الحرير المخطط فوقه عباءة رقيقة، وعلى رأسه طاقية حولها عمامة صغيرة. وكان مرقس وإسطفانوس قد سبقاه إلى القاعة وهي غرفة واسعة مفروشة بالبسط والسجاد الجميل وعلى نوافذها ستائرُ من الديباج المطرز صنع (تنيس) مما يندر اقتناؤه في القرى، وعلى جدران القاعة صور دينية وفي الوسط مشمعة كبيرة قد أُنيرت شموعُها وحول الأبسطة وسائدُ مطرزة بقرب الجدران.

فلما أقبل أبو الحسن خَفَّ مرقس لاستقباله والترحيب به، فسَلَّمَ أبو الحسن عليه، ثم سلم على إسطفانوس، وقال له: «لقد آنست قريتنا يا معلم إسطفانوس.»

فقال: «إن الأنس بجوارك يا سيدي.»

ودعاه مرقس إلى الجلوس على وسادة قدمها له فقعد عليها، وبعد أن تبادلوا التحية والسلام مرارًا قال أبو الحسن: «لماذا لا يأتي المعلم حنا والدكم لقضاء بضعة أيام عندنا؛ يستريح فيها من عناء الأعمال ويبعد عن ضوضاء الفسطاط؟»

قال وهو يشمخ بأنفه افتخارًا بوالده: «إن الشواغل عنده كثيرةٌ يا سيدي؛ إذ لا يخفى عليكم أهمية مركزه. وقد أَلِفَ العمل حتى غدا لا يرى راحة إلا به، وكثيرًا ما أتوسل إليه أن يخرج للتنزُّه فلا يرضى.»

قال أبو الحسن: «أظنه الآن منهمكًا في حسابات الخراج والعشور، فهذا الفصل.»

قال: «نعم ولا أدري متى يفرَغ من العمل؛ فإن كُلَّ أيام السنة عملٌ عنده حتى إننا لا نراه في منزله إلا نادرًا وإذا جاء المنزلُ تهافت عليه الوجهاءُ بين زائر يستشيره أو صاحب حاجة يتوسل إليه أو متخاصمين يحكمونه.» قال ذلك تفاخرًا وبدا الإعجاب في وجهه؛ فهو يفاخر الناس بحكمة أبيه ووجاهته، ونسي أنه غر خامل قد يكون سببًا في ذهاب تلك الوجاهة — وذلك دأب كثيرين من أبناء الوجهاء لا يُضيع أحدهم فرصة يُدخل فيها اسم والده في الحديث، وإذا سنحت له تلك الفرصة استأثر بالجلسة وأخذ يعدِّد مناقب الوالد ووجاهته فيقص على سامعيه من نوادره ومعجزاته ما يُثقل سمعه ويعسر تصديقه وقد يتلطف في الاستطراق إلى التحدث عن والده بأُسلوب يوهمُ السامعين أن ذِكْر الوالد جاء عرضًا ثم عمد إلى القص والإطراء، ذلك هو شأن صغار الأحلام ضعاف الرأي وإسطفانوس واحد منهم.

•••

وكان أبو الحسن من ذوي العقول الراجحة، واسع الصدر، يغضي عن الصغائر وينظر إلى الجوهر فقال: «أظنكم تقيمون بالفسطاط الآن؟»

قال: «كنا نقيم هناك ثم انتقلنا إلى بابلون بجانب الفسطاط لأن الفسطاط كثيرة الزحام وأبي يحب السكينة في ساعة الرقاد.»

قال: «لا أظنه ترك الفسطاط لازدحامها فقط، ولكنكم تُفضلون الإقامة ببابلون؛ لأن سكانها من القبط، فتكون أماكن العبادة قريبةً منكم.» وتبسم.

فأدرك إسطفانوس إشارتَه فقال: «يستطيعُ الإنسانُ أن يعبد ربه حيثما يكون، والقبط الآن — كما لا يخفى عليك — في راحة وطمأنينة بفضل أميرنا الحالي.»

فتنهَّد أبو الحسن وأطرق، فابتدره مرقس قائلًا: «أحمد الله أَنَّ الأحوال تبدلت وأدرك حكامُنا المسلمون أن محاسنة القبط أولى.»

قال: «أتحسب ما ارتكبه بعض الأمراء المسلمين من ظلم القبط كان بأمر الخلفاء أو أنه من قواعد الدين الإسلامي؟ كلا، إن الإسلام يأمر بالحُسنى، يدلك على ذلك ما كان من رفق المسلمين في صدر الإسلام على أيام الخلفاء الراشدين، وإن النبي — عليه الصلاة والسلام — قد أوصى بالقبط خيرًا، وإنما هي مطامع بعض الولاة لا يريدون لها التعصب على دين بل يرمون من ورائها إلى ابتزاز الأموال. ولو أرادوا بها غير ذلك لَمَا أصابنا نحن الشيعة ما تعلمونه من الاضطهاد حتى منعونا ركوب الأفراس والخروج من الفسطاط، وحظروا علينا اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد، وإذا كان بيننا وبين أحد الناس خصومة قُبل قول خصمنا فينا بلا بينة.» وسكت أبو الحسن هنيهة ثم استأنف الكلام قائلًا: «حتى هذا الوالي أحمد بن طولون فإنه إنما يحاسن ويجامل لغرض في نفسه …»

فاعترضه إسطفانوس قائلًا: «وكيف ذلك يا سيدي؟ وقد أحسن جوار القبط ورفع عنهم كثيرًا من المظالم وهل في الرفق بهم وسيلة إلى تحقيق مطمع لحاكم؟»

قال: «إن ابن طولون داهيةٌ كبيرُ النفس، ذو تَعَقُّل ودهاء، ألا ترى أنه لم ينزل في الفسطاط؟ فلماذا؟ لماذا ترك قصر الإمارة والمسجد فيها وابتنى لنفسه وجنده قطائعَ خارج الفسطاط بجوار المقطم أنفق فيها الأموال الطائلة؟»

فأطرق إسطفانوس ولم يحر جوابًا. فاستأنف أبو الحسن كلامه، وقال: «اعلمْ يا بني أن ابن طولون هذا تركيُّ الأصل وهذا العصرُ عصر الأتراك. فبعد أن كانت الدولة للعرب وكان أمراؤها وقوادُها من العرب أخذت السيادةُ تتحول عنهم إلى الأتراك حتى أصبحوا أهلَ النفوذ والسطوة في بغداد، وسامرا ومنهم أكابرُ الولاة والأمراء والأشراف، وأظنكم لحظتم انحطاطَ شَأْنِ العرب في مرافق الدولة في الفسطاط نفسها، حتى صار الولاة الأتراك يعدون العرب منافسيهم، ويخافون من انتقامهم فلا يأمنون القيام بهم، فأخذوا يبنون المنازل الحصينة لأنفسهم خارج المدن التي يُقيم بها العرب، وقد بدأ بذلك الخليفة المعتصم، فخرج بأتراكه من بغداد وابتنى لهم مدينة سامرا.

والفسطاط — كما تعلمون — بلدةٌ عربيةٌ، فلما استتب الحكم لابن طولون ابتنى القطائعَ بين الفسطاط والمقطم — على بُعد الماء عنها — واضطر إلى إنفاق الأموال الطائلة في جر المياه، وأظنكم تعلمون أَنَّ حبيبنا سعيدًا قد أخذ على نفسه جَرَّ الماء إلى القطائع، وأخبرني أن الأمير أنفق في ذلك مالًا كثيرًا.»

فقال مرقس: «صدقت يا جارنا العزيز وقد لحظت أنا أيضًا أن أميرنا المشار إليه يطمع فيما لم يطمع فيه سواه من الأمراء السابقين. يطمع في أن يستقل بحكم مصر.»

فقطع أبو الحسن كلامه قائلًا: «لقد استقل بها وقُضي الأمر وفاز على ابن المدير صاحب الخراج الذي كان يسومُ الناس الخسف والذل، ويبتز الأموال بغير حساب — سبحان من أنقذكم منه …»

قال مرقس: «شكرًا لله على ذلك، ونشكرُهُ على شيء آخرَ أيضًا كان له أثرُهُ في تحسين أحوالنا وتخفيف الضرائب عَنَّا.»

قال: «أظنك تعني الكنز الذي عثر عليه ابن طولون في الجبل، إن عثوره على الكنز سَدَّ كثيرًا من حاجاته، فخفف المظالم عن الناس.»

قال أبو الحسن: «إن المال المذكور خَفَّفَ الضرائب. أما مُحاسنته القبط وتقريبهم إليه فسببها رغبتُهُ في اكتساب الأحزاب لما قدمته من سوء ظنه بالعرب، فاتخذ القبط حزبًا له وكذلك قُلْ عن الشيعة؛ فإنه يرى في محاسنتهم سياسة ودهاء.»

قال مرقص: «فهو يبني القطائع إذن خوفًا من مُساكنة العرب بالفسطاط — ما شاء الله شيء جميل!»

فضحك أبو الحسن وقال: «والقبطُ يسكنون بابلون خوفًا من العرب أيضًا حتى أصبحت لهذه الديار الآن ثلاث عواصم: الفسطاط للعرب المسلمين والقطائع للأتراك المسلمين وبابلون للقبط.»

•••

سكتوا جميعًا هنيهة، ثم أراد مرقس أن يجامل ضيفه، ويسايره فلا يقطع الحديث، فقال لأبي الحسن: «أظن سعيدًا ما زال في القطائع يعمل في جَرِّ المياه، ولو كان هنا لزارنا معك.»

فاستبشرَ أبو الحسن لفتح الحديث، فقال: «بل هو هنا، وقد جاء اليوم وأخبرني أنه فرغ من بناء العين وسيعود قريبًا للاحتفال بِجَرِّ الماء إليها وهو يتوقع من نجاحه تقدمًا كثيرًا.»

فقال: «ولما لم يزرنا معك؟»

فسعل أبو الحسن ومسح لحيته بكمه استعدادًا للحديث، وقال: «لم يأت؛ لأنه وصل الساعة وهو تعب على أن هناك أمرًا آخر اغتنم وجود حبيبنا إسطفانوس هنا لأعرضه عليك.»

فتطاول الرجُلان نحوه لسماع ما يقوله فوجه خطابه لمرقص وقال: «ولا تخفى عليك منزلةُ سعيد عندي فهو على كونه نصرانيًّا قد اتخذته صفيًّا لي، وأحببته كما يحب الوالد ولده وهو ماهرٌ في الهندسة ولم يوجد في مصر كلها من استطاع الإقدام على بناء تلك العين سواه.»

فصادق مرقس وإسطفانوس على قوله بالرأس والعينين، فقال أبو الحسن يخاطب مرقص: «أظنك تعرف سعيدًا كيف تراه؟»

قال: «أراه شابًّا جميلًا ماهرًا في الهندسة ويحبه كل من عرفه.»

قال: «هل تحبه أنت؟» فقال: «كيف لا أُحبه؟»

قال: «بناء على ذلك وقد قلت لك إني بمنزل أبيه، جئت بالنيابة عنه؛ لألتمسَ منك أمرًا أرجو من الحبيب إسطفانوس أن يُساعدني في الحصول عليه.»

فخفق قلب إسطفانوس لأنه أدرك الغرض المطلوب ولكنه تظاهر بالقبول وقال: «إني طوع أمرك يا سيدي.»

فقال أبو الحسن: «جئت أخطب إليك ابنتك دميانة إلى حبيبي سعيد، فهل تخذلني وترفض طلبي؟»

فوقع الطلب وقع الماء الحار على بدنيهما، وأجفلا، وسكت إسطفانوس، وأما مرقص فأجاب جوابًا مضطربًا مجاملة، فأدرك أبو الحسن اضطرابه وتردُّده ولم يأبه بالمجاملة؛ لأنه قرأ الإنكار في عينيه، واكتفى بما لحظه وأهل الإحساس يقرءون الفكر خلال الإنكار، وبعضهم يدرك مرادك قبل أن تتكلم. وكان أبو الحسن من هؤلاء، فأيقن بفشل مهمته لكنه تجاهل وقال: «أنا أعلم أن إجابة طلبي تقتضي ترويًا ونظرًا، فأمهلك ريثما تتبصر فيه.»

فأحس مرقص عند هذا الاعتذار كأنه كان في سجن وأُفرج عنه، ولو كانت له شجاعة أدبية لقال له: «إنها مخطوبة.» إذ قد سبق ووعد إسطفانوس بها، ولكنه خشي الصراحة وحسبها خشونةً، فلما سمع كلام أبي الحسن ابتسم وقال: «طبعًا سأنظر في الأمر والذي يقدره الله يكون.»

وأسرع أبو الحسن حالًا إلى تغيير الحديث، فطرق موضوعات مختلفة، ثم وَجَّهَ خطابه إلى مرقص قائلًا: «أرجو من فضلك يا جارنا العزيز أن تساعدني على الحبيب إسطفانوس؛ فإني أحب أن يؤانسني بزيارة، وأن تتفضل أنت معه.»

فتصدى إسطفانوس للجواب قائلًا: «أشكرُك يا سيدي. كنت أودُّ ذلك من صميم قلبي، لولا أني عزمت على العودة غدًا.»

قال: «وإلى أين؟ لقد تعجلت الرجوع وأنت لم تأتنا إلا الساعة.»

قال: «نعم جئت لآخذ المعلم مرقص معي.» قال: «تأخذه؟ إلى أين؟»

فضحك مرقص وقال: «لا تخف. ليس إلى السجن ولا إلى الصلاة.»

فقطع إسطفانوس كلامه قائلًا: «بل إلى الصلاة ألست ذاهبًا لحضور عيد الشهيد؟»

قال: «إننا ذاهبون لحضور الاحتفال، ولا بأس من حضور الصلاة.»

فقال أبو الحسن: «أظنكم ستذهبون على هذه الدهبية لمشاهدة الاحتفال في النيل.»

فرأى إسطفانوس من اللياقة أن يدعوه لمرافقتهم، فقال: «إن منظر الاحتفال في النيل بهيجٌ جدًّا، فهل تتفضل وترافقنا في هذا السفر؟ وهذا الاحتفالُ مع كونه نصرانيًّا فإن المصريين على اختلاف أديانهم يشتركون فيه؛ لأنه في الحقيقة احتفالٌ وطني.»

فاستغرب أبو الحسن قوله وقال: «هل هو عيد شم النسيم أو النيروز أو فتح الخليج حتى يعد قوميًا؟»

قال: «اعتبروه وطنيًّا؛ لأنه حَلَّ محل احتفالٍ كان شائعًا في مصر قبل دخول العرب، فلا شك أنك تسمع بضحية النيل الفتاة الجميلة التي كان أسلافنا يزفونها إلى النيل ويلقونها فيه كل سنة استدرارًا لمائه.»

فقاطعه أبو الحسن قائلًا: «نعم سمعت حديثها ولكن المسلمين أبطلوا هذه العادة — على ما أعلم.»

قال: «نعم أبطلوها، ولكن القبط ما زالوا يخافون غضب النيل إذا لم يزفُّوا إليه شيئًا، فأبدلوا بالضحية المشار إليها إصبعًا من أصابع شهدائنا الأولين، تلقى في النيل كل سنة قبيل فيضانه، فيحتفلون بذلك في الثامن من بشنس، ويضعون الإصبع في تابوت يُلقونه في النيل فيأخذ في الزيادة من ذلك اليوم.»

•••

وكان أبو الحسن مصغيًا يسمع، فلما فرغ إسطفانوس من كلامه أظهر سروره بما استفاده، وقال أنه كان يود أن يُجيب دعوته ويرافقه، ولكنه يؤثر البقاء في المنزل إكرامًا لسعيد؛ لأنه قادمٌ من سفر، وربما لحق بهم بعد حين إلى أنْ قال: «وإذا لَحِقْنَا بكم نعرف دهبيتكم من رايتها، أليست هي راية المارداني؟»

فخشي إسطفانوس إذا ألح في الدعوة أن يرافقه في الدهبية، وربما جاء سعيد معه وقد أصبح لا يطيق رؤيته غيرة منه على دميانة، فاكتفى بقوله: «نعم هي للمارداني وأرجوا أن تلحقوا بنا فيكون حظنا كبيرًا.»

وسكت وانتبه أبو الحسن على أنه أطال الجلوس قبل العشاء فاعتذر وانصرف. ولَمَّا خلا إسطفانوس بمرقس نظر إليه نظرة استعطاف واستفهام. فضحك مرقس واتخذها ذريعةً لإظهار فضله على إسطفانوس وقال: «لا تخف يا عزيزي لو طلب دميانة ابن طولون وكان نصرانيًّا لَما سمحت بها لسواك.»

فأثنى إسطفانوس على تفضله وحسن رأيه فيه ووضع يده على كتفه تحببًا كأنه يحاول ضمه وقال: «بارك الله فيك يا أخا الرجال. لقد طالما أثنى أبي على لطفك وفضلك وذكر العلاقات الودية القديمة بين أسرتينا.»

فاغتنم مرقس ذِكْر أبيه فقال: «إن أباك المعلم حنا ينسى القديم ولا يذكر غير الجديد، فقد فرحنا بتقدمه في ديوان الخراج حتى أصبح كاتب المارداني ولكن هذا قَلَّمَا أفاده أو أفادنا.»

فأدرك إسطفانوس أنه يلمح إلى أمر يُريده من أبيه، فقال: «لا تظن أبي ينسى أصحابَه، ولا أظنك نسيت تَخَلِّيهِ عن الضريبة المتأخرة على ضيعتك من أيام الظلم.»

فقال: «إنه فعل ذلك بأمر ابن طولون — كما تعلم — على أني لا أشك في أن أباك لا يدخر وسيلة في التخفيف عنا ولي عنده ملتمس لا يكلفه عناء. سأذكره لك بعد حين.»

وكانا يتكلمان وهما خارجان من القاعة بعد أن وَدَّعَا أبا الحسن، وكان الخدمُ قد أَعَدُّوا الطعامَ، فوضعوه على المائدة حَالَمَا علموا بخُرُوج أبي الحسن، فقعد الصديقان ساعة أخرى للطعام والشراب، ثم آوى كلٌّ إلى فراشه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤