خطبة دميانة

في أصيل ذلك اليوم جاء مرقس إلى الكنيسة مرتديًا أزهى ملابسه ليقابل الأسقف، ودنا من دميانة وهش لها وبش، وأمسك بيدها وأخذها إلى غرفتها، ومد يده وأخرج من جيبه عقدًا من الجوهر يتلألأ كالشمس وقدمه إليها وهو يقول: «ما أجمل هذا العقد يا دميانة؟» وتوقع أن تمد يدها لتتناوُله. فلما امتنعت استغرب وقال: «لماذا لا تأخذينه؟ إنه لك!» وتقدم نحوها ووضعه في عنقها وهي ساكتة، وحدثتها نفسها بأن تقطعه وتطرحه أرضًا ولكنها أمسكت عملًا بإشارة زكريا. فظَنَّهَا أبوها رضيت فأكب على رأسها وقال: «اعلمي يا حبيبتي أن هذا العقد هدية من إسطفانوس، وهو آت مع الأسقف وأنت تعلمين كم يحبه ويجله؛ لأنه ابن المعلم حنا وهو لطيف العشرة. أتعلمين فيما هو آتٍ مع الأسقف؟»

فلما سمعت ذكر إسطفانوس لم تعد تسلك قياد نفسها فقالت: «لا أريد أن أعرف.»

قال وهو يمازحها: «وكيف ذلك وأنت صاحبة الشأن اليوم؟»

قالت وهي تغص الكلام: «لا شأن لي في الأمر ولو كان لي رأي لما ألبستني هذا العقد ولا أتيت إلى هذا الدير.» وشرقت بدموعها.

فقال: «ألا تزالين تؤثرين الإقامة بطاء النمل على الفسطاط قصبة الديار المصرية ومقر رجال الدولة ومحط رحال أعيان القوم؟»

فتنهدت وسكتت مخافة أن يبدو منها شيء تندم عليه.

أما هو فجعل يغالطها ويفسر نفورها على غير الواقع فينسبه إلى الحياء أو إلى الخوف — على عادة البنات في مثل هذه الحال.

ثم وصل الأسقف واهتم أهل الدير لمجيئه فاستقبلوه بالترتيل والصلاة والبخور فدخل الكنيسة أولًا وصلى صلاة حضرتها دميانة مع بقية الحضور خاشعة كعادتها أثناء الصلاة وجعلت تتوسل إلى الله أن يلهمها ما فيه الخير وإذا كان قد جعل إسطفانوس نصيبها فليحببه إليها وتضرعت كثيرًا وهي تحاذر أن يراها أحد، وفيما هي في ذلك انتبهت فرأت إسطفانوس داخلًا الكنيسة وقد لبس أحسن ثيابه وأصلح هندامه ووقف بجانب أبيها فأجفلت عند رؤيته وكاد الدم يجمد في عروقها، وجعلت تناجي نفسها وتسأل قلبها فلا تراه يزداد إلا نفورًا، وكلما قارنت إسطفانوس بسعيد جذبتْها عواطفُها إلى سعيد ونفرت من إسطفانوس فقام في ذهنها أن الله لا يريده لها. ثم عادت فتذكرت أن الله يوصيها بطاعة الوالدين وإكرامهما فوقعت في حيرة.

قضت في حيرتها أكثر وقت الصلاة والأسقف يروح ويجيء داخل الهيكل بثيابه المزركشة والبخور يتصاعد في فضاء الكنيسة مع أصوات الترتيل، وإذا بها تسمعه ينادي: «يا معلم مرقس.»

فالتفتت فرأت أباها يمشي متجهًا إلى الأسقف، فأسر إليه هذا شيئًا فعاد مرقس إلى دميانة وطلب إليها أن ترافقه إلى ما بين يدي الأسقف، فمشت منقادة كما ينقاد الحمل إلى الذبح. ونادى الأسقف إسطفانوس فجاء ووقف هناك فرفع الأسقف يده وبارك وصلى، ثم مدها إلى إسطفانوس وتناول منه خاتمًا صلى عليه وألبسه لدميانة وهو يتلو ما جرت به العادة، وأعلن أنه قد عقدت خطبة دميانة على إسطفانوس.

كل ذلك ودميانة ساكتة والدمع يتساقطُ على خديها وخافت أن تخونها قُواها فتسقط على الأرض فتجلدت. فلما وضع الخاتم بيدها لم تعدْ تملك قواها، فوقعت على الأرض، فتراكضت الراهبات إليها ونضحتها بالماء المقدس، ونسبن ذلك إلى تعبها أو حيائها، وأتينها بزيت من مصباح أمام صورة العذراء مسحوا به جبينها، فأفاقت وحملنها إلى غرفتها، ولما أتم الأسقف الصلاة ذهب مع أبيها إلى متوسدها، وأخذ يخفف عنها تارة ويمازحها أخرى وإسطفانوس يعلم أن ما هي فيه سبب فرط تأثرها، وأنها قد غلبت على أمرها رغم حبها لسعيد. واختتم الاحتفال بالخطبة للتوعك الذي أصابها وتفرقوا.

وكان زكريا أشد الحضور تألمًا مما حدث، وهَمَّ بأن يكلم مرقس في الأمر قبل عقد الخطبة، ولكن الأسقف لم يترك له مجالًا وبادر إلى إتمامها. فلما رأى ما أصاب دميانة صبر حتى ذهب القوم وطلب مقابلة مرقس، وكان هذا قد هم بالخروج مع إسطفانوس فودعه على أن يلتقيا بعدئذٍ، ورجع إلى زكريا وقال: «ماذا تريد؟»

قال: «إذا أذن مولاي بخلوة قلت له ما أُريد.»

فأظهر تململًا من هذا الطلب، ولكنه مشى أمامه إلى غرفة دخلها وجلس على وسادة وقال: «ماذا تريد؟»

فقال زكريا: «لا بد أن ما أصاب سيدتي دميانة قد أثر في نفسك كثيرًا.»

فضحك متهكمًا وقال: «لا لم يؤثر فيَّ، وأراه أثر فيك أنت فقط.»

فشق هذا التهكم على زكريا ولكنه تجلد، وقال: «لم أكن أنتظر هذا الجواب يا سيدي، وليس هذا ما أريد أن أقوله.»

قال: «قُلْ ما تُريد، إن دميانة لم تركب رأسها إلا بسببك ولولاك لَكانت مطيعةً راضية.»

فأطرق زكريا وهو يُعمل فكرته، ويستشير نفسه: هل يجيب مرقس بما يستحقه أم يصبر عليه. واستبطأ مرقس جوابَه فقال: «هل لديك شيءٌ آخر تقوله؟»

فقال: «عندي أشياء كثيرة، ولكنني لا أقولها ما دمت تخاطبني بهذه اللهجة، ولا أرى مسوغًا لها كأن سيدي نسي حقيقةَ مركزي في منزله، فأنكر اختصاصي بخدمة دميانة وإخلاصي لها.»

فأجابه: «لم أنس ذلك، ولكنك بالغت في إغرائها بأبيها حتى كادت تعصي كلمته.»

قال: «بماذا أغريتها يا سيدي؟ أظنك تعني نُفُورها من خطيب اليوم. أقسم لك بالسيد المسيح أني لم أؤثر في رأيها ولا غيرت شيئًا من عزمه، ولكني رأيتها نافرةً منه، ولو استعانتني في التخلُّص منه فإن ضميري وذمتي لا يساعدانني على ردها.»

فابتدره مرقس قائلًا: «وتجرؤ على ادعائك أنك لم تغير عزمها؟ ألم تكن راضية به يوم كنا في طاء النمل، فما الذي جرى الآن؟ ولكنها لن تتزوج إلا به رضيت أم لم ترض.» قال ذلك والغضب بادٍ في عينيه.

فأجابه زكريا بصوت منخفض يرتجف غضبًا: «إذا أصررت على ذلك ماتت كمدًا.»

قال: «لا. لا تموت كمدًا إلا إذا ظللت على إغرائها؛ فإنك تقتلها، دعها وشأنها، دعها لأبيها فإنه ولي أمرها.»

فأدرك زكريا تلميحه فقال: «أنت تعلم يا سيدي أني لا أقدر أن أتخلى عنها عملًا بالوصية التي أوصيت بها يوم ولادتها، وقد مضى هذا الزمن ولم تر مني ما ساءك، أما الآن فأنا على يقين أنها تكره هذا الشاب، ولو دققت لحمها ولحمه في وعاء لَمَا امتزجا وأنا إنما أُريد الخير لها ولك؛ لأنك إذا أصررت على إكراهها تقتلها أو تكرهها على أُمُور لا ترضيك.»

فقال: «لا تجسر على شيء؛ فهي ابنتي ولا تخرج عن طاعتي ولم تجر العادة بأن يترك البنات وشأنهن في الزواج يقبلن هذا ويرفضن ذلك. أم هي أعلم مني بما ينفعها ويضرها؟»

فقال زكريا بهدوء ورزانة: «ولكن تعلم أيضًا أن لدميانة مع أبيها شأنًا يختلف عن شئون سائر البنات مع آبائهن.»

فوقع هذا القول على مرقس كالصاعقة رغم أن زكريا خفض من صوته ورغم تلطُّفه في التعبير وقال: «لا أعرف لها شأنًا آخر.»

قال: «إذا كنت لا تعرفه أنت فأنا أعرفه.»

فوقف عند ذلك مرقس كأنه يهم بالخروج، وقال: «لا يهمني ما تعرفه ولكنني أنصح لك أن تخلي بيني وبين ابنتي ولا تغريها بمعصيتي.»

قال: «لو كان ذلك في طاقتي لخليتها ولكنني مؤتمن على أمر يقتضيني أن أحافظ عليها إلى آخر نسمة في حياتي.»

فقال مرقس: «طيب، افعل ما تشاء.» وخرج وقد ازداد عنادًا.

•••

سار مرقس توًّا إلى صديقه إسطفانوس، فرآه جالسًا إلى المائدة وبين يديه آنيةُ الشراب وقد تناول شيئًا منه. وآنس في وجهه عبوسًا كأنه يشرب ليذهب غضبه فلم يفته السبب فبعد أن حَيَّاه وجلس إليه سأله عن سبب غضبه فأنكر الغضب في بادئ الرأي فقال مرقس: «لا تنكر على ذلك؛ فإني أعرف السبب.»

قال: «لو كان ذلك في طاقتي لخليتها، ولكنني مؤتمن على أمر.»

فقال: «أسألك؛ لأني أحب أن أعرف هل أصاب ظني.»

فقال إسطفانوس: «أنت مُصيب إذا كنت تظنني غضبت لِما صدر من دميانة، فهل تعرف سبب هذا العمل؟»

فقال: «أظنني أعرفُهُ إن زكريا خادمها هذا النوبي يغريها بالعناد، ولولاه لَكانت أطوعَ لي من بناني، وقد وبخته اليوم وأسمعته ما لا يرضيه.»

فابتسم إسطفانوس على رغم ما كان فيه من الغضب، وقال: «إنك ظلمت زكريا بهذا الحكم ليس هو سببَ العناد، أنا أعرف السبب.»

قال: «وما هو؟»

قال: «أتذكر ليلة جاءنا أبو الحسن وطلب دميانة لذلك الشاب المهندس؟»

قال: «أذكر ذلك، ولكننا رددناه وليس له عندنا أرب.»

قال: «هذا ما تقوله أنت، ولكن سعيدًا ما زال يتطاول إلى تلك الأُمنية.» وهَزَّ رأسه حقدًا.

فقال مرقس: «بماذا يرجو أن ينالها؟ لا، لا تصدق ذلك.»

قال: «كيف لا أصدق؟ وقد رأيته يكلمها ويدافع عنها وهي تلجأ إليه وتتكل عليه؟ شاهدت ذلك بعيني.»

قال: «ليتك قضيت عليه في تلك الساعة.»

قال: «لم أشأْ أن أُلوث يدي بدمه ولكنني سأنصب له فخًّا يكفينا شره ولا يحملنا وزره، لست أنا ممن يفاجئون الأعداء بقوة البدن؛ فإن المقاومة وجهًا لوجه لا تخلو من خطر. والعاقلُ مَنْ نال من عدوه بالحيلة والمكر، فيرديه وينتقم منه بدون أن يسأله سائلٌ، فالنزال بالأيدي أو الأرجل من طباع البهائم، وإنما يحارب الرجال بالعقل. وسوف يرى هذا الرجل الذي لا يَعرف أباه أن إسطفانوس لا يستهان به.» قال ذلك وهو يشمخ بأنفه ويصعر خده ويعد أقواله حججًا دامغة. ولعل صديقه مرقس يوافقه عليها وقد يوافقه عليها آخرون فإن القول بأن «الناس تتحارب بالعقول» وجيهٌ لو أنه لا يخفي عزمه على الإيقاع بسعيد غدرًا فهو يعد الخيانة والجبن حرب عقول. فاستخف بأمر سعيد وقال إسطفانوس: «ما لنا وله؟ دعه وشأنه فإنه أعجز من أن يصل إلى دميانة ما دمت حيًّا، ولا أظنه إلا سيقلع عن غيه متى صليت صلاة الإكليل وصارت دميانة زوجة لك.»

ففكر إسطفانوس قليلًا، فرأى أن صلاة عقد زواجه قد تسكت دميانة، لكنه بقي خائفًا على نفسه من غضبِ سعيدٍ، وقد رأى أنموذجًا من شدته يوم الاحتفال، فعزم على التخلص منه وأسرها في نفسه ولم يبدها لمرقس، فقال: «لا ريب أن المبادرة إلى الإكليل خير وسيلة لقطع ألسنة الحاسدين وكبت أنفاس المبغضين، ولكنني أحب أن يكون ذلك برضا خطيبتي وبما أن سبب جفائها إنما هو اعتزازُها بهذا الشاب لمنزلته من صاحب مصر، فأحب أن تدرك خطأها قبل يوم زفافها. إن ما يرجوه هذا الشاب من وراء ما صنعه لابن طولون إنما هو أضغاثُ أحلام ستظهر عند الاحتفال بفتح العين وسترى ذلك عيانًا.»

قال: «متى يكون الاحتفال؟»

قال: «بعد بضعة أيام، وسأدعوكم لمشاهدة موكبه فأجلسكم في مكان مرتفع تشاهدون منه الاحتفال عن بعد كأنه بين أيديكم، وستكون دميانة معكم، وترى مصير ذلك المغرور فترجع إلى صوابها وتذعن ويرتاح بالها.»

فاطمأن قلب مرقس، وإن كان لم يفهم نية إسطفانوس، وتواعدا على الذهاب لمشاهدة موكب ابن طولون يوم الاحتفال فقال مرقس: «أين الاجتماع؟»

قال: «سأستأذن صديقًا لي بالديوان في أن يدخلنا قبة الهواء القائمة على سفح المقطم، ويختصنا بمكان يشرف على كل ما هنالك من السهول، فنرى الحفل بين أيدينا.»

فاتفقا على الموعد وافترقا.

•••

كانت قبة الهواء بناءً أقامه أمراء مصر على سفح المقطم مكان القلعة اليوم، وأول مَنْ بناها حاتم بن هرتمة في أواخر القرن الثاني للهجرة، وجعل الأمراء بعده يتخذونها مصيفًا أو متنزهًا. ولَمَّا جاء المأمونُ إلى مصر سنة ٢١٧ﻫ جلس فيها حتى إذا أفضت إمارةُ مصر إلى ابن طولون ابتنى قصرَه تحتها، وبنى القطائع وراء ذلك بينها وبين الفسطاط. وكان كثيرًا ما يُقيم بالقبة المذكورة؛ لأنها كانت تُشرف على قصره. وهذه القبةُ بضع غرف مفروشة بأحسن الرياش، عليها الستورُ الجليلةُ، ولها فرش لكل فصل. ولَمَّا ذهبت دولةُ بني طولون وخربت قصورُهُم كانت قبة الهواء في جملة ما خرب.

أما يومُ احتفال ابن طولون بجر الماء في العين فقد كانت القبة في إبان عزها. وفي صباح يوم الاحتفال ذهب إسطفانوس إلى دير المعلقة ودعا مرقس ودميانة لمشاهدة موكب ابن طولون منها، فقبلت دميانة؛ لأن ذلك بغيتها. فسارت راكبة على حمار من حمر الدير، ومشى زكريا في ركابها، وأخذ يحدثها عن الاحتفال، ويمنيها بقرب الفرج حتى نسيت متاعبها وهواجسها وامتلأ صدرها رجاء، وأوشكت أن تقبض على السعادة بيدها.

التقى الكُلُّ عند سفح المقطم نحو الضحى، فأسرع إسطفانوس ومشى بين أيديهم صاعدًا حتى أتى قبة الهواء، وكان قيمها واقفًا في انتظاره، ففتح له بابًا دخل فيه ورفاقه إلى شرفة بها أعمدة عليها الستور المزركشة أو المطرزة، تشرف على ما تحت المقطم من الميادين أو الأبنية أو غيرها. وأخذ إسطفانوس يساعد الفراش في تهيئة القاعة اللازمة لمرقس وابنته وله. على أن حديثه كان موجزًا ولم يقرب من دميانة كعادته فظنته قد تأدب. ولم تخفه أو تنفر من رؤيته ليس لأنها تعودته أو أخذت تميل إليه، وإنما نظرًا لقرب نجاتها منه بعد فوز سعيد. ناهيك بما كان يجول في خاطرها من الآمال الكبيرة بعد حصولها على حبيبها. على أن لهفتها لمشاهدة سعيد في ذلك الموكب بعد بجانب ابن طولون صاحب مصر؛ شغلها عن الاهتمام بشيء آخر.

فبعد أن استقر المقام بهم اعتذر إسطفانوس بأمرٍ يدعو إلى انصرافه على أن يعود بعد قليل فقال له مرقس: «وأنا أيضًا ذاهبٌ في مهمة بمكان قريب، فهل تبقى دميانة وحدها؟»

فقالت: «اذهب يا أبي، وهذا زكريا يمكث معي ولا خوف علي. ولا تجعلني عثرة في طريق راحتك.»

فأظهر مرقس أنه لا يُضمر حقدًا على زكريا، وقال: «حسنًا. ها أنا ذا ذاهب.» والتفت إلى زكريا وكان واقفًا بقُرب الباب وقال له: «لا حاجة بي لأنْ أوصيك بدميانة.»

فأشار زكريا مطيعًا، وظل واقفًا حتى خرج مرقس، ثم مشى نحو دميانة فرآها مشرقة الوجه على غير ما تعوده منها في المدة الأخيرة؛ فإنها كانت لا تبرح منقبضةَ الصدر لا يحلو لها طعامٌ ولا كلام. فوقف بين يديها وهي جالسة على مقعد ثمين يطل الجالس عليه على القطائع والفسطاط فأشارت إليه أن يجلس، وألحت على البساط بين يديها وهو يقول: «قد آن الوقتُ للتخلُّص من هذا الغلام.»

قالت: «أتظن هذا اليوم آخر أيام الانتظار ولكن كيف نجتمع بسعيد، ومتى، آه، آه.»

قال: «إني غير غافل عن شيء، فقد لقيت سيدي سعيدًا بالأمس، وتواعدنا على أمور سأقصها عليك.»

قالت: «متى يبدأُ الاحتفال؟ إني لا أرى أحدًا.»

قالت: «لا يلبث أن يبدأ. ستشاهدين عظمة ابن طولون وفخامة ملكه. سترينه في موكبه. انظري إلى هذا البناء الذي هو أقرب سائر الأبنية إلينا في سفح هذا الجبل. إنه قصر ابن طولون، وهو قصر فخم لم يُر مثله في هذه الديار إلا ما خلفه الفراعنة من الهياكل. انظري إلى هذا الميدان أمام القصر وتأملي الجماهير المتزاحمة فيه بين راكب وماش رجالًا ونساءً، إنه الميدان الذي يلعب فيه ورجاله على خيولهم بالصوالجة (الكرة والصولجان). وترين للميدان والقصر سورًا فخمًا له عدة أبواب منها باب الجيش الذي ترين الجند ببابه عليهم الأسلحة، وباب آخر يقال له باب الجبل عدا باب الخاصة وباب الحرم الخاص بدخول نساء القصر أو الخدم. وهذا الباب الذي تُشاهدين عليه تمثالَي سبعَين هو باب السباع، ومنه يخرج ابن طولون ويدخل وأظن الموكب سيخرج منه الآن وهو ذو ثلاث فتحات: يخرج الوالي من الفتحة الوسطى ويخرج رجاله من فتحتي الجانبين. وإن أمر هذا الوالي عجيب لعلو همته. انظري فوق هذا الباب تري مجلسًا يشرف على سائر القطائع، وهي الأبنية التي ترينها وراء القصر في جهة الفسطاط. فيجلس ابن طولون في هذا المجلس كل يومِ عرضٍ أو احتفال، يراقب حركات رجاله وما يحتاجون إليه.»

فقالت دميانة: «وأين يقيم المهندسون؟»

فضحك زكريا وقال: «لا أعرف مكانًا خاصًّا بهم. ولكني أعرف واحدًا منهم فقط، وأعرف أين يقيم … هل أقول؟»

فقالت: «لا» وبان الخجل في وجهها وغيرت الحديث فقالت: «سمعتك تذكر القطائع، فما المراد بها؟»

قال: «هي يا سيدتي أبنيةٌ بناها ابن طولون لسُكنى جنده ورجال خاصته، ومتى تم لمولاي سعيد ما يريد وأصبح من خاصته أعطاه قصرًا في القطيعة اللائقة بمقامه. وقد سُميت هذه الأبنية بالقطائع؛ لأنها مؤلفةٌ من أحياء يُعرف كل منها باسم قطيعة. ويسكن كلًا منها طائفةٌ من الجند أو الرجال فللنوبة أبناء بلدي قطيعة مفردة تُعرف بهم وللروم قطيعة وللفراشين قطيعة تعرف بهم، ولكل صنف من الغلمان قطيعة. أما رجال الدولة كالقواد والخاصة فقد بنى لهم أبنيةً أرجو أن يكون لسيدي قصر منها. وترين بين هذه القطائع الأسواق والأزقة والطرق بنيتْ فيها المساجد والطواحين والحمامات والأفران وسميت الأسواق بها فيُقال سوق الجزارين وسوق البقالين. ولا أُطيل الكلام عليك.»

فقطعت دميانة كلامه وقالت: «إن بناء هذه القطائع يستغرق أموالًا طائلة وفي الفسطاط قصور وأسواق كثيرة، فلماذا لم يُقم بها؟»

قال: «لأنه يخاف على نفسه من أهلها بعد أن غلبهم على مدينتهم وفيها أحزاب خضعت له كرهًا، فخطط هذا البلد وبناه أشبه بالحصون منه بالقصور. أما الأموال وإنفاقها فلا تسلي عنها. ألا ترين هذا البناء الشاهق القائم في أطراف هذه القطائع؟ تأمليه.»

قالت: «إني أرى قصرًا فخمًا هل هو من بناء ابن طولون أيضًا.»

قال: «نعم ولكنه ليس قصرًا، وإنما هو مارستان. أتعرفين ما معنى هذه اللفظة؟»

قالت: «كلا، إني لم أسمعها قبل الآن.»

قال: «صدقت؛ لأن هذا البناء لم يسبق له مثيل في هذه الديار. هو يا مولاتي بيت المرضى يستشفون فيه من أدوائهم.»

قالت: «وهل بناهُ لهذه الغاية؟»

قال: «نعم، وهو من حسناته في إعانة الفقراء.»

فاستغربتْ دميانة قوله، وقالت: «إن تشييدَ هذا البناء يستغرق أموالًا طائلة، وقد كنا نرى حكامنا يشكون الفقر ويشقون على الرعية بالضرائب لسد حاجتهم.»

فقال: «إن هذا المارستان لم يُبن من مال الرعية؛ فإن ابن طولون ظفر بكنز في هذه الصحراء فيه ألف ألف دينار بنى منها هذا المارستان شكرًا لله. وقد عني بتنظيمه وحرص على توفير العلاج به، وخصص له الأطباء وشرط أن إذا جيء بالعليل تنزع ثيابه وتحفظ عند أمين المارستان ثم يلبس ثيابًا ويفرش له وتقدم له الأدوية والأغذية حتى يبرأ. وكان ابن طولون يذهب بنفسه في كل يوم جمعة يتفقد خزائن المارستان ومن بها من الأطباء، وينظر إلى المرضى وذوي العلل والمحبوسين من المجانين، ويعرض نفسه لخطر جنونهم وكثيرًا ما تعرضوا بالأذى.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤