الحياة١

لا أعلم كيف جاز لجناب صاحب مقالة «كشف الأستار عن الأسرار»٢ أن يتوهم بي العدول عن أن الحياة هي الجاذبية أو نوع منها، مع أني لم أعدل حتى الآن، وليس في كلامه: الحياة والجاذبية، ولا في: كشف الأستار عن الأسرار ما يوجب بي سرعة هذا الانتقال، وليس في كلامي شيء يوهمه، ولو كان فيه ذلك لالتمست له عذرًا. وأما قولي من مقالتي السابقة: «وإذا تبين ذلك سهل علينا إلحاق هذه الخاصة «أي الحياة» بالجاذبية أو سواها من القوى الطبيعية.» فلا يجوز لأيٍّ كان أن يتوهم منه ذلك؛ فهو يحصر الحياة في القوى الطبيعية، وهذا لا يوجب الخروج عن الجاذبية إلى غيرها للمشاركة الكائنة بين القوى الطبيعية واستحالتها بعضها إلى بعض، ولاعتبار الجاذبية أم الباب.

فضلًا عن أن قولي في المقالة المذكورة في إثبات الحس للمادة: «فتكون الجاذبية العامة إلخ، عبارة عن حس المادة إلخ.» فيه من التخصيص ما هو كافٍ لإزالة كل شبهة بإلحاقي الحياة بالجاذبية، فإذا كان الحس نوعًا من الجاذبية؛ كانت الحياة بالضرورة — أيضًا — منها، وهو — على ظني — كلام صريح لا يحتمل التأويل، ولا يصح أن يؤخذ منه معنى العدول.

وأما قوله: إن الحس لا يصح أن يكون الانفعال؛ لأن من الانفعال ما ليس حسًّا، وأنه لا يسلم بحس المادة حتى نبين له أن انكسار الحجر بالمطرقة هو حس؛ لأنه انفعال، فنجيبه عليه بما أجبناه به فيما سبق؛ وهو أنه إما أن يسلم بالحس في النبات وفي أدنى الحيوان أو لا، فإن كان الثاني كان اعتراضه في محله، وإنما يبقى عليه أن يفصل الحس عن الحياة ويناقض الفيزيولوجيين ونفسه أيضًا، وإن كان الأول — ولا آراه إلا ميَّالًا إليه — ترتب عليه ضرورة أن يفهم بالحس معنى الانفصال فقط؛ لأن الحس فيه هو من النوع غير المعلوم، وهو أشبه بانفعال المادة البسيط.

فما دامت المادة تنفعل فهي تحس، وعليه تبخر الماء بالحرارة، واحتراق العود بالنار، واسوداد نيترات الفضة بالنور، ونفور الجسم المكهرب من كهربائيته، وانجذابه بضدها حسٌّ — أي تأثرٌ أي تَكَيُّفٌ أي انفعالٌ — فلو لم تكن المادة تحس لما كان الماء يتبخر، ولا العود يحترق، ولا الفضة تسود، ولا المكهربات تتدافع متشابهاتها، وتتجاذب متضاداتها، فانكسار الحجر إذن حسٌّ؛ لأن انكساره هو عبارة عن تفرُّق اتصال في مادته لانفعالها بقوة مقاومة غالبة لقوة أخرى هي موجب اتصالها، فاجتماع مادة الحجر هو لقوة كائنة في دقائقها تفعل فيها جاذبية الالتصاق، وانكساره هو لقوة تفعل في مادته ضد ذلك، كائنة في عمل المطرقة، تحس بها الدقائق المتفرقة، ولو لم تكن تحس بها وبسابقها لما اجتمعت، ولما تفرقت، ولا تكَوَّن حجر ولا انكسر.

وأما قوله في قولي: إن ما يسمى مادة لا ينفك عن ملازمة ما يسمى قوة: إنه «دعوى لا أستطيع إثباتها، وإن جميع الأعمال الحيوية مرجعها إلى القوى الطبيعية والكيماوية»، أنه «ترد عليه شبهاته»، فمردود عليه بما يأتي؛ وهو:
  • أولًا: القول بأن ما يسمى مادة لا ينفك عن ملازمة ما يسمى قوة ليس بدعوى، بل حقيقة من أثبت الحقائق العلمية، وإذا جاز أن يكون هناك دعوى، فتكون بجانب من يدعي الخلاف، وكيف يصح أن تكون دعوى ومبادئ العلوم الطبيعية تعلمنا أن المادة لا تُعْلَمُ إلا بالقوة، والقوة لا تُعْلَمُ إلا بالمادة، وتعلمنا أكثر من ذلك؛ إذ تهمس لنا في آذاننا: أن لا تصدقوا بقوة خارج المادة، فهل له بعد ذلك أن يذهب بنا غير هذا المذهب، ويفيدنا عن قوة بلا مادة، أو مادة بلا قوة، فنسلم لما يقول، ويصفق العلم لاكتشافه طربًا، فيرينا الحرارة والنور والكهربائية وجميع القوى الطبيعية والكيماوية، أصلها وفرعها، مجردة عن المادة، والمادة مجردة عن الصفات أو الخصائص أو القوى، سمِّها كما شئت؟

    وحينئذٍ يسقط الخلاف بين العلماء بغلبة الحيويين، وإن لم يستطع فليسمح لنا بتكرار قولنا: إن المادة الحية إنما تكيفت بالقوة الملازمة للمادة المركبة، هي «أي المادة الحية» منها باستحالة في نفس القوة، كما حصلت الاستحالة في نفس المادة.

  • ثانيًا: قلنا إن جميع الأعمال الحيوية مرجعها إلى القوى الطبيعية والكيماوية، وذكرنا لتأييد ذلك أهم الأعمال الحيوية كالتنفس والإفراز والتمثيل والهضم والامتصاص والدورة إلخ، فاعترض بأن ذلك لا يدفع الشبهات التي أوردها، والتي قال: إن جوابي له لم يكن فيه رد على واحدة منها، مع أن الرد عليها متحصل من مجمل الكلام لو تدبر، ويظهر من كلامه أنه لا ينكر بأن الأعمال الحيوية تتم بقوى كيماوية، وعلى مقتضى نواميس طبيعية، وإنما يشترط لها الاشتراك بمدبر آخر غريب مجرد عنها يسميه بالقوة الحيوية هي مصدر شبهاته، وسبب هذا الاختلاف العظيم بين الأجسام الحية والجماد.

    وقد فاته أن المقابلة لكي لا تكون موهومة ينبغي ألا تقتصر على أكمل الأجسام الحية، بل أن تشتمل على أبسطها من مثل الكرية الحية التي تتألف من مجاميعها الأجسام الحية كافة، والتي فيها أصل كل الحياة؛ فهذه الأجسام البسيطة إذا قوبل بينها وبين الجماد لم يكن فرق، لا في المادة، ولا في القوة، ولا في المنشأ، ولا في البناء، ولا في النمو، ولا في الشكل.

    أمَّا في المادة فلأن العناصر المؤلفة منها الأجسام الحية هي نفس العناصر الموجودة في الأجسام غير الحية، وأمَّا في القوة فلأن جميع الأعمال الحيوية بدون استثناء تتم بالقوى التي تتم بها جميع أعمال المادة، أي بالقوى الطبيعية الكيماوية، وأمَّا في المنشأ فلأن الأجسام الحية تتولد كما تتولد الأجسام غير الحية، أي إن الحي يأتي من غير الحي، وشاهِدُه المنير والأميب والموناس وغيرها من المتولدات البسيطة غير الآتية من جراثيم سابقة، بل من عناصر المادة بقوة في نفس المادة، ولا يُعبأ بإنكار بعضهم لهذه الأجسام طالما يوجد من يؤيدها من ذوي المكانة من أهل العلم.

    وعلى فرض صحة عدم العلم بتولد ذاتي — كما يزعم — فذلك لا يجعله ممتنعًا، وأمَّا في البناء فلأن بناء الأجسام الحية الأولية بسيط جدًّا، فهو بالبساطة كبناء البلورات، وأمَّا في النمو فلأن البلورات تنمو على مقتضى نواميس محدودة، والأجسام الحية تنمو على مقتضى نواميس محدودة كذلك، والفرق بينها أن النمو في البلورات يتم بإضافة دقائق جديدة متشابهة إلى سطحها الظاهر، وفي الأجسام الحية بإضافة دقائق جديدة متشابهة إلى باطنها تتداخل فيها، وهو فرق ظاهري فقط ناتج عن اختلاف في كثافة مواد الأجسام الحية والأجسام غير الحية.

    وأمَّا في الشكل فلأن الحيوانات المشععة من جنس البروتيست ذات تكوين هندسي كالبلورات محدودة بسطوح وزوايا هندسية، والمونير والأميب والموناس وغيرها من العادمة الشكل التي لا تثبت على شكل واحد، بل تتغير في كل لحظة، هي شبيهة بالأجسام غير الحية التي ليس لها شكل معين كالحجارة غير المتبلورة والرواسب إلخ.

    ففيما تقدم نقض لشبهاته، وإذا بقي هناك بعض احتمال فهو منقوض بما يأتي؛ وهو أن وحدة القوة الفاعلة في المادة لا تستلزم مشابهة المادة في سائر أحوالها؛ أي إذا كانت الجاذبية أصل الحياة — وهي موجودة في الجماد — فلا يلزم أن تكون أعمالها فيه كأعمالها في الجسم الحي، فكما أن المادة الموجودة في الجسم الحي هي نفس المادة الموجودة في الجماد، مع أن الفرق بينهما جسيم، فهكذا أيضًا القوة الموجودة في الجسم الحي هي نفس القوة الموجودة في الجماد، ولو بَعُد الفرق بينهما، وإذا صحَّت استحالة المادة إلى ما يجعل الفرق بينها في الجسم الحي وبينها في الجماد كليًّا — وهي واحدة في كليهما — فلماذا لا تصح هذه الاستحالة نفسها في نفس القوة مع وحدة أصلها؟

    والاستحالة في القوى أمر معلوم، فالجاذبية تستحيل إلى حركة، والحركة إلى حرارة، والحرارة إلى كهربائية، وهي إلى نور وبالعكس، مع أن الحركة هي غير الجاذبية، والجاذبية هي غير الكهربائية في الظاهر. ولو صح ما افترضه من لزوم مشابهة الجماد والحي — لو كانت الحياة جاذبية؛ لصح لنا أيضًا بالقياس عليه أن نسأله: لماذا لا يتشابه الكحول والسكر والنشا والصمغ والألماس والفحم؟

    ولماذا يتبلور الذهب على مثمنات هرمية، والبزموث والأنتيمون على مسدسات، واليود والكبريت على مربعات؟ ولماذا تتحد الأجسام بعضها ببعض على نسب مختلفة؟ ولماذا يكون بينها تفاوت في الألفة؟ فإن القوى الطبيعية والكيماوية واحدة في جميعها، وفي بعضها العناصر واحدة، والمقادير أيضًا واحدة، فبم يجيبنا عن هذه الفروقات الكلية الواقعية مع وحدة القوى الطبيعية؟ نجيبه نحن أيضًا عن الاختلافات التي بين الأجسام الحية والجماد، فيفهم حينئذٍ كيف أن الحياة هي الجاذبية أو نوع منها، اللهم إلا إذا قال لنا بقوى أخرى خاصة بكل مادة منها، وبكل حالة على حكم القوة الحيوية تتصل بها وتنفصل عنها، وتجعل هذا الفرق بينها. وذلك أقرب الوجوه للتخلص، إلا أنه يكون فيه منفردًا حتى بين طائفته، ويترتب عليه أن يتجشم إثباته، ودون ذلك عقبات لا تقطع.

    وأما ما ذكره عن هكسلي وهكل بأنهما رأيا بُطْلان زعمهما — أي القول بالتولد الذاتي — وأنهما أنكرا الباتيبيوس والمونير وغيرهما من جنس البروتيست كالأميب والموناس، وصارا يعدانها بين الأوهام، فيحتاج إلى إثبات، فإنهما — على ما أعلم — لم يريا بعدُ بطلان مذهبهما، ولم يرجعا عنه، وسواء علينا رجعا أو لم يرجعا. والذي أعلمه علم اليقين أنهما ما برحا يؤيدان هذا المذهب، ولم ينفردا فيه وحدهما، بل أنصارهما كثيرون، وعددهم يزداد يومًا عن يوم لازدياد الاكتشافات، واتضاح الحقائق العلمية.

    فكيف أمكنه — والحالة هذه — أن يرد إلى مذهبه عصبة قوية صعبة جدًّا بمجرد كلام ليس فيه صعوبة؟ أو كيف جاز له أن يضرب فيهم مثل ذلك الفلكي الذي سقط الحباحب على زجاجة نظارته وهو — لَعَمْر الحقِّ — أولى بطائفة الحيويين الذين أقاموا من الأوهام حقائق. ولا أقول ذلك استخفافًا، بل إنما أقول الواقع؛ فإن القوة الحيوية التي يزعمون بوجودها ليست — والحق أولى أن يقال — إلا بقية أوهام تجلببت بجلباب الغيوم، وركبت على أجنحة الرياح، وطارت وطارت في طبقات السماوات، واحتجبت فيها، وإلا فليقل لي جنابه: ما هي القوة الحيوية؟ ومن أين أتت؟ وما نسبتها إلى المادة والأجسام الحية؟ فأرجو أن يجاوبني على هذا السؤال — الذي تقدم مني، والذي سدل عليه الستر في مقالته «كشف الأستار عن الأسرار» — بكلام لا يدع معه مجالًا للتأويل. ا.ﻫ.

١  نشرت في مقتطف السنة السادسة سنة ١٨٨١.
٢  الدكتور إسكندر بارودي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤