بعض ملاحظات في الحياة

(١) قابلية التهيج

من أهم مباحث الفيزيولوجيا العامة معرفة أعمال الكرية الحية؛ لأن جميع الأنسجة المؤلفة منها الأجسام الحية مرجعها إليها، وأهم أعمال الكرية الحية قابليتها للتهيج، فمعرفة نواميس قابلية التهيج هي إذن معرفة نواميس الحياة.

كل جسم حي، وكل نسيج كذلك متغير بالقوى التي من الخارج، فكل قوة خارجية تغير حال الكرية الحية تحسب مهيجة لها.

الكرية الحية موجودة على حال كيماوي وطبيعي معًا، فهي على حالة معلومة من الكهربائية والحرارة والضغط والتركيب الكيماوي، فكل ما يعرض لها من الخارج ويغيرها عن إحدى هذه الحالات يحسب مهيجًا لها، فجميع القوى التي من الخارج مهيجات، والمهيجات كهربائية وكيماوية وحرارية وميكانيكية، وهي إنما تنبه قابلية الكرية الحية للتهيج؛ لأنها تغير تركيبها، فكل المهيجات مغيرات للكرية، وكل المغيرات مهيجات.

وعليه فالجسم الحي غير فاعل من نفسه إلا ما يفعله في الأشياء التي من الخارج من قبيل ما تفعله هي فيه، فهو لا يقدر أن يتحرك ذاتيًّا، فلو فرض — وهذا الفرض ممتنع مقوله — أن جسمًا من طبع واحد وضع في وسط ساكن لبقي ساكنًا ولم يتحرك، فحركة الأجسام الحية مفعولية لا فاعلية.

واعلم أنه لا بد من شروط معلومة لحصول التهييج؛ فالمهيجات إذا كانت بطيئة جدًّا وتدريجية فالجسم الحي يكاد لا يتهيج منها، مثال ذلك: إذا أجريت مجرًى كهربائيًّا على جسم حي وقويته شيئًا فشيئًا فلا يحصل عنه حركة في ذلك الجسم، وهكذا إذا وضعت سائلًا حامضًا حامضه قليل جدًّا على جلد ضفدع، فيمكنك أن تزيد الحامض قليلًا فقليلًا حتى يبلغ درجة شديدة من الحموضة بدون فعل منعكس عنه، وقِسْ على ذلك جميع المهيجات مهما كانت.

ولا تنفعل الأنسجة إلا لفرق بين مهيجين: لنفرض مهيجًا «ب» مثلًا، فإذا تبعه مهيج آخر «ب» مثله غير مفصول عنه بفترة، فالمهيج الثاني لا تحصل عنه نتيجة. وهذا ما يحصل — خاصة — في الحس المعلوم، فإننا لا ندرك إلا فرق التهيجات، وليس التهيجات نفسها، فإنا إذا وضعنا اليد على مادة ولم نحركها، فلا تمضي بضع ثوانٍ حتى نفقد فيها الشعور باللمس، ولا نعود قادرين على الحكم بطبيعة المادة الملموسة.

فمما تقدم، لنا النتيجةُ الآتية: وهي كلُّ مغير للحالة مهيج، لكنه لا يكون مهيجًا إلا إذا صدم الأنسجة صدمات مختلفة بين الشِّدَّةِ والخفة.

(٢) حفظ القوة وكمونها في الأجسام الحية

كل اهتزاز في العصب، وكل عمل في الدماغ، وكل انقباض في العضل ترافقه ظواهر طبيعية وكيماوية في النسيج الذي يكون فيه العمل؛ تجوز لنا إلحاق النواميس الفيزيولوجية للأجسام الحية بالنواميس الطبيعية للجماد.

لا يخفى ما قرره العلم من مذهب الحرارة الميكانيكي، ومذهب حفظ القوة، فعلى هذين المذهبين لا تضيع قوة في الطبيعة، فالحركة ليست سوى نوع من الحرارة، فلا يوجد في الطبيعة إلا تغيرات واستحالات في القوة، فكمية القوة المنتشرة في العالم لا تتغير، ولا تتغير إلا صورها، فتظهر تارة على صفة حرارة، وتارة حركة، ومرة كهربائية، وأخرى تركيب أو تحليل كيماويين.

فقوة الأجسام الحية أصلها كيماوي، أي إنه يحصل في جوهر أنسجتها تأكسد وتركيب، وجملة ظواهر نتيجتها ليست توليد قوة، بل إظهار قوة كامنة. وهذه القوة تظهر بالحرارة والحركة، وبين مقدار الحرارة المنتشرة والحركة الحاصلة نسبة شديدة، بحيث إنه كلما كثرت الحركة قل ظهور الحرارة، وبالعكس كلما ظهرت الحرارة قلت الحركة.

ونتيجة كل هذه التراكيب والتحاليل الكيماوية هي امتصاص الأكسجين وتوليد حامض الكربونيك. وهذا التبادل الغازي ضروري جدًّا لحياة الأجسام الحية؛ لأنه يلزم لها حرارة كافية لتقدر على مقاومة الأشياء التي من الخارج، فبامتصاص الأكسجين تحصل لها هذه القوة الضرورية، ويلزم لها أيضًا أن تتحرك، ومن ثم أن تكون قادرة على تجميع قوى كيماوية فى أنسجتها كافية لكى يحصل منها ظهور قوة عند اللزوم، وهو كذلك؛ فإن فيها قوة متجمعة كامنة عظيمة جدًّا، بحيث إن تنبيهًا خفيفًا جدًّا يجعل فيها حركة عظيمة لا نسبة بينها وبين السبب الخفيف كوقوع الغبار على العين مثلًا، فإن هذا السبب الخفيف قد يحدث جملة حركات مختلطة وطويلة: كالدمع والغضب والخوف والهرب والاحتقار والألم وغير ذلك، فلا نسبة بين هذا الانفعال العظيم وذاك التنبيه الخفيف، لولا أنه يوجد في الجسم الحي من القوى كمية وافرة متجمعة كامنة تظهر دفعة واحدة لسبب صغير.

وذلك أشبه بما يحصل في صندوق بارود؛ فإنه إن أصابته شرارة يشتعل وتنبعث منه قوة تدك الحصون، وتزلزل الجبال، فلا نسبة بين هذه القوة الكبيرة وتلك الشرارة الصغيرة، لولا أن البارود يحتوي قوة عظيمة متجمعة في مواده، فالأجسام الحية كغيرها لا تولد قوة، وإنما تظهر قوة كامنة فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤