حياة الجماد١

قال ثولت من رسالة في هذا الموضوع: إن القول بأن الجماد حي كالحي ليس بجديد، فقد قال كرذان في القرن السادس عشر: «إن الحجر يحيا ويمرض ويهرم ويموت.» وهو قول صحيح؛ لأن المادة متحولة ومتغيرة على الدوام فهي في تولد دائم، وموت دائم، وبعث دائم، وذلك هو الحياة، وحياة الجماد لا تفرق عن حياة الإنسان أو الحيوان أو النبات؛ إذ الكل خاضع لسنن واحدة، مُنْدَفِعٌ قسرًا في تيار زوبعة لا تسكن حركتها، أولها وآخرها مكتنفان بظلمات بعضها فوق بعض.

والتولد أول أطوار تحولات المادة، وهو — بقطع النظر عن افتراضات الخيال التي قد تضل والبراهين الفلسفية التي كثيرًا ما تخدع — واقع تحت نظر كل إنسان، وعام على الجماد والنبات والحيوان؛ ففي كل دقيقة، بل في كل لحظة ترى الأحياء تتكون، والجواهر الفردة تنضم، والدقائق تتركب، ولا فرق بين البسيط والمركب من حيث السنن الفاعلة بهما؛ إذ لكل فرد — مهما كان — تركيب كيماوي معلوم، وصورة معلومة، ونوع تبلور معلوم، حتى نفس تغيره ثابت إلى حد محدود، ويتم تبعًا لشرائط معلومة، وإذا تغيرت إحدى هذه الشرائط تغيرت موازنته حالًا، فهو متغير على الدوام، إلا أنه لا يزول من الوجود، وكما أن الحي يتأثر بالأحوال التي من خارج كذلك الجماد، وإذا كان بينهما فرق، فإنما هو في الشدة والضعف، بحيث إن أحدهما أشد انفعالًا، وأسرع تأثرًا، وأقل ثباتًا من الآخر، ولكنهما يفعلان وينفعلان على السواء طبقًا لناموس المادة الأولى، وهو التكافؤ بين الفعل والانفعال.

ولنأخذ أي جماد كان، ولنحمه بالتدريج، فللحال عند انتشار الحرارة فيه يتغير شكل تبلوره ومرونته وصلابته، وصفاته الكهربائية، حتى لونه، فإن زيدت حرارته انحلَّ رباط دقائقه فتباعدت في جهة، وتقاربت في أخرى، إلى أن يبلغ حرارة تختلف درجتها باختلاف نوعه، فيذوب ويصير سائلًا، فإن زيدت أكثر من ذلك تفرقت دقائقه، وانتقل إلى حالة هوائية ما بعدها من الحالات سوى انفصال الجوهر الفرد، وخروجه من مدار الكيمياء، ودخوله في مدار آخر تحت سنن أخرى لا نعلمها، وعلى الفلسفة الطبيعية والميكانيكيات اكتشافها وتعيينها.

وانحلال الجماد هو موته؛ لأن كل حد ينحل عنده المركب هو موت ذلك المركب، وكل موت يتبعه بعث، فالموت كالتولد نقطة على محيط دائرة لا أول لها يعرف، ولا آخر لها يوصف، والطفل أول ما يهل يبتدئ يموت، وكذلك الجماد أول ما يتكون يبتدئ يموت، فإن الفلدسباث المكون معظم الأرض ينحل إلى عناصره٢ بفعل الهواء والماء، ويبس النهار، وندى الليل، وحر الصيف، وبرد الشتاء، وسائر العوامل الميكانيكية والطبيعية والكيماوية مارًّا باستحالات قد لا يحس بها، ثم كل عنصر من عناصره يدخل في تركيب جديد، فإما يعود حجرًا، أو يصير نباتًا أو حيوانًا، وفي هذا الدور لا يرى أين هو التولد الحقيقي، ولا أين هو الموت، ولا يرى سوى أطوار فقط.

ولقد أقام الأقدمون حدًّا فاصلًا بين النبات والحيوان، وهذا الحد لا وجود له حقيقة، وأقاموا كذلك حدًّا بين الجماد والحي، ونحن كلما تعمقنا في درس الجمادات نرى أوجه الفرق بينها وبين الأحياء تقل، وأوجه الشبه تزيد، فالإنسان يولد من أبوين، والحيوان السافل من نظيره بالانقسام أو التبرعم؛ إذ تنفصل كرية مولودة في كرية والدة، والنبات من نبات نظيره، قالوا: وهذا يفصل عالم الحي عن عالم الجماد، إلى أن قام «جرنز» وبيَّن أن الجماد كالحي يتولد بعضه من بعض؛ فإنه صنع محلولًا وأشبعه بالبورق المثمن، وبالبورق المعين، ولا فرق بينهما إلا في اختلاف نسبة الماء الذي فيهما، وهذا المحلول إذا اعتُني به يبقى صافيًا، ويمكن أن تضاف إليه أجسام من مواد مختلفة بدون أن يحدث فيه حادث خصوصي، لكنه إذا وضع فيه بلورة صغيرة جدًّا من البورق المثمن، فللحال ترتفع حرارته، وفي لحظات قليلة يتبلور كل البورق المثمن الذائب فيه، دون البورق المعين الذي يبقى ذائبًا ولا يتبلور حتى يلامس بلورة معينة من جنسه، ولا يختص ذلك بما ذكر فقط، بل يتناول كل أنواع الجماد، ويتبين منه أن كل جماد يتولد من جماد آخر نظيره.

وإذا بلغت البلورة كمالها، بحيث لا يستطيع الكيماوي ولا الطبيعي — بما لهما من الآلات والوسائط — أن يريا في تكوينها نقصانًا، قيل: إن الفرد من الجماد قد بلغ أشده، ثم يتكاثر كالحي، وهو كالحي معرض للأمراض، فإذا عرض له من الأسباب الخارجية ما أضعف نموه فقد نظامه، وظهرت على زواياه خدوش القروح، وإذا زالت عنه عادية المرض عاد إلى نموه، وبرئ من قروحه، وإن لم تزل أو اشتدت فربما ترهلت قروحه، فأعضلت علته، وحصل فيه تأكسد وتركب وتحلل حتى تتغير طبيعة آخر جزء منه، ويظن أنه تلاشى وهو لم يتلاشَ، بل مات، وإنما مات كما يموت كل إنسان، أي كما أن جسد الإنسان البالي لا يتلاشى، وإنما ينحل إلى عناصره، كذلك الجماد لا يتلاشى؛ لأن الجوهر الفرد الذي يؤلف كلًّا منهما لا يتلاشى، بل ينتقل من تركيب إلى تركيب راجعًا عوده على بدئه، كما يرجع الليل على النهار. ا.ﻫ. مُلخَّصًا.

١  نشرت في المقتطف سنة ١٨٨٢.
٢  السليكا والألومينا والحديد والكلس والمغنيسيا والبوتاسا والصودا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤