الديباجة

ألا قل لمن عدَّ مذهب دارون وساوس، واجتهاد أصحابه دسائس، فحمل عليه يريد طعنه بأسنة أيمانه، وذبحه بقواطع برهانه: رويدك؛ إنك قد استسهلت الصعب وما الصعب بهين، ألا راعك بُعد الشُّقة، أم لم تدر ما أوجبت على نفسك من المشقة، أم كيف ساغ لك طعن تعليم دارون، وقد بحث فيه السنين الطوال، ونقض ما شيد عليه وهو أرسى من الجبال، أم بأي قوة نسفته نسفًا، وتركته قاعًا صفصفًا لا ترى فيه عوجًا ولا أمتًا، بل كيف ساغ لك هدم أبحاث علماء الأرض بالطول والعرض؟ ألعلك ظننتها شذرات أفكار فدفعتها بشذرات أفكار، لم تكلفك البحث إلا سواد الليل وبياض النهار، ثم قلت: إنك مشبعنا، ولم تطعمنا إلا ضاهسًا، ومروينا ولم تسقنا إلا قارسًا. دع عنك هذه الوساوس؛ فما كانت الحقائق لتطرَّس بتُرَّهات البسابس.

ذكر بعض أدباء اللغة مذهب دارون في النشوء والارتقاء، وقفى عليه بما معناه أنه مذهب باطل بالأدلة العقلية والطبيعية، قال بعد تعريفه له ما نصه:

إنَّ ركن النشوء والارتقاء عند دارون: الانتخاب الطبيعي، وهو فرض بلا إثبات، ورأي من صور الوهم. ا.ﻫ.

ثم حصر اعتراضاته عليه في ثلاثة؛ أولًا: أنكر الارتقاء بدليل أنَّ كثيرًا من الأحياء لم يظهر فيه شيء من علامات التدرج، ثانيًا: أنكر الصور المتوسطة اللازمة في مذهب التسلسل، ثالثًا: طول الزمان اللازم للانتقال من أدنى صور الحياة إلى أرفعها بالنشوء والارتقاء المنقوض بالأبحاث الجيولوجية — كما قال. وهي أهم اعتراضات خصوم هذا المذهب.

وفي كل ذلك من النظر ما يحتمل بحثًا طويلًا، ربما ضاق عنه الكلام إنْ لم يضق صدر المقام، فنجتزي بذكر شيء من كليات هذا المذهب دفعًا للاعتراضات المذكورة، ومن تبقى عنده أدنى ريب نرده إلى مطولات القوم، ونحن الآن لا نطمع بالفوز في طريق كهذا كثير العقبات، وإنما نقول كما قال الإمام الغزالي: «ولو لم يكن في ذلك إلا ما يشككك في اعتقادك الموروث لكفى به نفعًا؛ فإن من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يُبصر، ومن لم يُبصر بقي في العمى والحيرة.» ا.ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤