خاتمة

في أن مذهب دارون لا ينقض إيمان المؤمنين

لقد ضيق خصوم هذا المذهب المذاهب على أنفسهم بتحاملهم عليه من أجل الإيمان، وهذا ليس من الحكمة في شيء، ولا سيما أنَّ هذا المذهب آخذ بالامتداد يومًا فيومًا، وربما لا يمر ربع جيل حتى يخلو له الجو من كل معارض، على أن مجال الإيمان أوسع من أن يضيق بمذهب النشوء — كما أشرت إلى ذلك في رسالة وضعتها في الأخلاق — بحسب مذهب دارون — وأرسلتها إلى المقتطف في ١٢ مارس سنة ١٨٨٣ لتنشر فيه ولمَّا تُنشر — وكان ذلك على أثر الخلاف الذي حصل في المدرسة الكلية، وانتهى بفصل بعض أساتذتها بسبب مذهب دارون في الظاهر.

وأما في الباطن فقل: إن السبب كان غير ذلك، أو كان كما قال لي بعضهم: «ليست رمانة، ولكن قلوب ملآنة.» وقد قصدت فيها وقتئذٍ التوفيق بين هذا المذهب والدين حسمًا لهذا الخلاف الذي لم تكن نتيجته لتحمد، وقلت من كلام في ختامها ما نصه:

وهذا المذهب قد هاج الخواطر ضدَّه في نفس إنكلترا وطن دارون، وقد أورد دارون كلام امرأة ساءها مَذهبُهُ في مقابلة أخلاق الإنسان بأخلاق النحل، قالت: «إنَّ الساعة التي يتأيد فيها هذا المذهب ينتقض بنيان الفضيلة في البشر.» فأجابها دارون بقوله: «من الواجب أن نرجو ألا يكون دوام الفضيلة على هذه الأرض قائمًا على قواعد واهنة بهذا المقدار.» على أنَّ الخوف في غير محله، ولا يشف كلام دارون عنه، لأنه إن صَحَّ أنَّ أصلنا يَعود إلى ذوات الأيدي الأربع التي كانت تَقْطُنُ غابات العالم القديم، فلا خوف علينا أن نرجع نتعرش على الأشجار، ولا ينقص قدْرنا عما نحن الآن أناس بين الملائكة والحيوان، أقرب إلى الملائكة تارة، وأقرب إلى الحيوان أخرى، كذلك أيضًا إذا صَحَّ أنَّ الضمير تَولَّد في الإنسان — كما يقول دارون — فلا خوف علينا أن نرجع إلى الضحايا البشرية، وإلى أكْلِ بعضنا بعضًا، وقتل أولادنا.

على أنَّ مذهب دارون قد جعل في ضمائر كثيرين خوفًا آخر حقيقيًّا، وهو نفسه قلق منه قبل غيره، ألا هو الخوف على خلود النفس، وعلى كل الأفكار الروحانية التي هي رجاء الإنسان وعزاؤه، لكنهم في خطأ من شدة خوفهم؛ فإنهم كانوا سابقًا يقولون بخلْقٍ خصوصي لكل نوع، وللإنسان خاصة، وهو قول لا يمكن تأييده فيما يمس جانب الله، إذا بيَّن العلم الذي لا ينطبق هذا القول عليه أنَّ الأنواع، ومنها الإنسان، قد تكوَّنت بفعل النواميس الطبيعية الواحدة، أليس في التعليل عن العالَم بنواميسه الخاصة زيادة عظمة للقوة التي سنَّت هذه النواميس؟ ماذا يذيع مجد الله أكثر: أفلك الأقدمين الدوار الذي هو سقف مرصَّع بمسامير من ذهب، أم العوالم التي لا تُحصى الخاضعة لناموس الجاذبية العام؟

إلا أننا قد تعودنا أن نتصور الله يصنع الإنسان كما يصنع الناحت التمثال، بحيث أنَّ كل شيء يفقد إذا ناقض العلم هذا الفكر الحقير. وإنها لدعوى غريبة أن نعارض العلم بفكر تصورناه في حال جهلنا، فكان يلزم ألا نذهل عن أن الله إذا كان قريبًا من قلبنا، فهو بعيد جدًّا عن عقلنا.

وإذا كان في الإمكان أن ينتقل من الحيوان إلى الإنسان بسلسلة انتقالات غير محسوسة، فهل يلزم من ذلك أن تكون حالتنا حالة الذباب والنمل، وإذا لم يلزم ذلك، ففي أي زمن من هذه السلسلة تظهر النفس، فدارون يقول: لا أعلم، لكن هل سألت نفسك في أي زمن تدخل النفس الإنسان: أفي زمن الحمل، أم بعد ثمانية أيام، أم بعد شهرين؟ وإذا كان هذا السر لا يزعزع إيمانك فيما خص الفرد، فلماذا تخاف منه في النوع؟ ا.ﻫ.

فمثل هذا القول خير وأبقى.

وقد شعر بعض المذاهب بذلك فاستدركه واستعد له، فقد جاء في كتاب «اللاهوت» للدكتور «جمس أنس» الأميركاني، في فصل النشوء بواسطة عناية الله، ما نصه:

ولا يخفى أن جمهورًا من أفاضل العلماء المسيحيين مستعدون لقبول مذهب النشوء على هذه الصورة متى أثبت بأدلة أقطع وأوضح مما لنا، إلى أن يقول: وعلماء الطبيعة الذين يأبون الكفر يرومون النظر إلى الطبيعة بموجب مذهب النشوء على هذه الصورة، لما فيه من تسهيل فهم أمور كثيرة لإيضاح أسرار الخليقة.

وهذا يدلك على مبلغ هذا المذهب من عقول أهل العصر حتى أعدائه، والفضل ما شهدت به الأعداء، ولعله يقول: إنه استدرك ذلك في آخر ما كتب اقتداءً بمثل هؤلاء الأفاضل، فنقول له: إن استدراكه ذلك لا يوازي ضحكه وبكاءه وهُزْءهُ به في أولها — كما في صفحة ٦ — حيث قال: «وما ذلك إلا هلج تبكي أوائله العقلاء، وتضحك أواخره الأذكياء والبلداء، بل تكاد القرود تهزأ به، والنقاعيات والكييسات الهلامية تسخر منه.» وهو نقض لبدء، ولعله من معجزات الاستنتاج، أو هو ارتقاء في المذهب، وتقهقر في اليقين، ولا نعلم أن الضدين اجتمعا في غير ذلك، فعلى الدين ألا يقف معترضًا في سبيل العلم، وألا يشتبك معه في خصام مُضرٍّ للاثنين، ولا يستطيع الدين أن يَثبتَ فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤