الفصل الثاني

في الوجود المعنوي والوجود المادي

وأما مثل المعاني والألفاظ الذي ضربته للوجود المعنوي السابق والوجود المادي المسبوق، فقول غير سديد، وفيه من السفسطة ما كان يغنيك تدبره عن إسهاب الشرح عليه؛ لأن أسبقية المعنى على اللفظ نسبية كما لا يخفى عليك، وأنت تريد بتقديم الوجود المعنوي على الوجود المادي أسبقية مطلقة، وإلا فأي مثل غير هذا المثل يقوم مقامه؟

وهو لا يفيد شيئًا في تأييد ما تذهب إليه كمثل الأسباب والمسببات عمومًا، فإن ما كان منها علة لشيء، فهو نفسه معلول لشيء آخر، فالسبق هنا نسبي لا مطلق، وأنت لم تنكر علينا ذلك، حيث استدركت على نفسك بما معناه: «وربما اعترض علينا أنَّ المعاني حاصلة من تأثير المادة في الدماغ.» وإنما نحن ننكر عليك اعتمادك عليه بعد عرفانك ذلك، فأنت هنا تسلِّم معنا بأن المعاني في العقل ليست غريزية، بل مكتسبة وصادرة عن المادة بواسطة الحواس، وإنْ كان عندك أدنى شك في ذلك فنحن نقول لك: إنَّ المعنى العقلي ليس إلا تأثيرًا ماديًّا، أو هو صورة المادة المرتسمة في الدماغ — كما ترسم الصورة في المرآة — فالنور لولا العين لم يكن له في عقل الإنسان معنًى، ولم يفتكر الإنسان أنْ يضع له علامة أو لفظة تدل عليه.

ولو صح هذا القياس على الوجود المطلق لكان الأولى أنْ تعتبر المادة قبل معناها في العقل؛ لأنها أسبق منه من حيث هذا الوجود النسبي، فأسبقية المعنى على اللفظ كأسبقية المادة على المعنى نسبيًّا. وأما إذا اعتبرت الحقيقة، فالمادة لا تنفصل عن معناها، ولا يقصد بالمعنى ما ندركه فقط، فالأعمى لا يبصر النور، فهو لا يتصوره ولا يعرف له معنى في عقله، ومع ذلك فمادة النور متصلة بمعناها، وعدم إدراك الأعمى لها لا يسلخ عنها وجود المعنى فيها، وعدم وجود المعنى في أركان لفظه؛ أي الحروف عوضًا عن أنْ يكون حجة علينا، فهو حجة لنا، فالألفاظ تدل على معانٍ لا تدل عليها حروفها دلالة صريحة.

كما أنَّ المواد المركبة تكون ذات خصائص لا تدل عليها عناصرها دلالة واضحة، فقياسك هذا إذن فاسد. واعلم أنَّ الدلالة على المعاني لا تقتصر على الألفاظ فقط، بل تتناول كل حركات الجسد، وربما اقتصرت عليها في الحيوانات الدنيا التي لا يسمع لها صوت، وبهذا الاعتبار تكون الحركات من قبيل اللغات، فاللغات أعمُّ من إبداء المعاني بالألفاظ، التي هي حركات خصوصية صوتية يشترك في تقطيعها أعضاء الحلق واللسان والشفتين، وترافقها حركات موافقة لها في سائر أعضاء الجسد، تظهر لك في البعض، وتخفى عنك في البعض الآخر.

أقول: وإذا توسعت في حقيقة هذه المعاني رأيت فيها من البساطة ما يدلك على تقارب الأشياء في الطبيعة ووحدة أصلها؛ فإن صفات المادة إذا حللت إلى بسيطها دلت على صفتين، أو خاصتين، أو قوتين، وهما: الجاذبة والدافعة، وهكذا المعاني الذاتية إذا حللت إلى بسيطها دلت على أحد معنيين: جاذب أو دافع، ومحبوب أو مبغض، ومرغوب أو مرهوب، ومقبول أو مكروه، وترتسم صورة ذلك على جميع حركات الجسد.

ألا ترى كيف أنَّ حركات الإنسان أو الحيوان المتكرِّه من شيء تدل كلها على محاولته إبعاد ذلك الشيء عنه، وإذا أحب شيئًا دلَّت حركاته على محاولته ضمه إليه، وكما يكون ذلك في الحركات يكون كذلك أيضًا في اللغات، فإن اللغات كالحركات في الدلالة على المعاني، واللغات كالحركات موجودة في الحيوان والإنسان كوجود المعاني فيهما، إلا أنَّ اللغات أوسع في الإنسان لاتساع المعاني واكتمال الآلات فيه أكثر منها في الحيوان.

ومن دقق النظر رأى المعاني مرسومة على الألفاظ ومبانيها كما ترتسم على سائر الحركات، فإن إباءتك للشيء جعلتك تعبر عنها في اللغة العربية مثلًا بلفظة «لا»، وقبولك له بلفظة «أي ونعم». ولا يخفى ما في لفظ هاتين اللفظتين من الحركات الدالة على معنى كلٍّ منهما، فإنك بلفظك «لا» تحاول بحركات الفم كل علامات التبعيد، وبلفظك «أي ونعم» كل علامات التقريب. وقس على ذلك سائر الألفاظ في سائر اللغات، إلا أنَّ هذه الدلالة لا تكون دائمًا بسيطة وواضحة كما في هاتين اللفظتين البسيطتين، بل تتنوع وتتركب كثيرًا بقدر تنوع المعاني وتركبها، وربما فعلت فيها أسباب مختلطة جدًّا، بحيث لا تظهر لك هذه النسبة إلا عند التدقيق الكلي، أقول: وربما كان في الموضوع مبحث دقيق جدًّا ولذيذ للغاية عند من يحب الخوض فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤