الفصل الرابع

في الإنسان وسائر الحيوان

إنَّ الإنسان كالحيوان متكوِّن على نفس النواميس التي تَكوَّن بموجبها عالَم الأحياء، والأونثروبولوجيون بعد تشريح أعضائه ومراقبة قواه العاقلة ومقابلتها بالحيوانات الأُخَر الأقرب إليه لم يروا بدًّا من إثبات حيوانيته، أي إثبات الأصل الحيواني لهُ، وقد اجتهد خصوم التسلسل كثيرًا لكي يقيموا بينه وبين الحيوان فاصلًا تشريحيًّا يجعله نوعًا قائمًا بنفسه لا صلة بينه وبين القرد فلم ينجحوا، وأقوى حججهم أنَّ الإنسان له عضلة طويلة خصوصية قابضة للإبهام، متميزة عن سائر القوابض، والقرد ليس له ذلك، فقالوا: إنَّ بناء الإبهام العضلي كافٍ وحده لجعل الإنسان منفصلًا عن الحيوان.

إلا أنَّ هذه الدعوى باطلة، فقد جاء في جريدة العلم الفرنسوية بتاريخ ۲۰ أيلول سنة ۱۸۸٤ ما نَصُّه:

لقد بالغوا كثيرًا بالقيمة التي يعدونها لهذه الصفة، ويَصحُّ لنا أن نردَّ على ذلك كما ردَّ عليه كارل فوخت ودلي بقولنا: إنَّ هذه الصفة وإنْ صحَّت لا تفيد سوى وصف يَصحُّ على التباين فقط، لولا أنَّ لنا أدلة تشريحية تكفينا مئونة هذا القول.

ثم بسطت ذلك بكلام نؤثره عنها، قالت: «إنَّ أصابع الإنسان تنقبض بواسطة عضلتين منفصلتين الواحدة عن الأخرى: إحداهما قابضة مشتركة تنشأ من الوجه المقدم للزند ومن النصف الأنسي للرباط بين العضمتين، وتنتهي في سُلامياتِ الأصابع الأربع الأخيرة، والثانية قابضة خصوصية للإبهام تنشأ من النصف الوحشي للرباط بين العظمين، ومن السطح المقدم للكعبرة، وتندغم بسلامي الإبهام الظفرية، فهذا الوضع يجعل حركات الإبهام مستقلة، فلا يشترك بحركة الأصابع كما في بعض القرود، ولا ينقبض اضطرارًا لانقباض السبابة، كما في بعض القرود الشبيهة بالإنسان كالكوريلا والشمبانزي.

فخصوم مذهب النشوء يسألونك دائمًا أنْ تريهم في القرود أوضاعًا تشريحية خاصة بالإنسان، على أنَّ احتجاجهم هذا فاسد كاحتجاج من ينكر أنَّ الفرس آتٍ من الهيبوريون، فيطلب إليك أن تريه هيباريونًا ذا ظلف واحد كحافر الفرس، على أنَّ الهيباريون الوحيد الظلف لا يكون حقيقة الهيباريون نفسه، وإنما يكون الفرس أو الأصل المشتق منه، وهكذا القرد ذو القابضة الإبهامية المستقلة لا يكون القرد، بل الأصل المرتقي عنه الإنسان، ولكن لو رأوا فرسًا ذا ثلاثة أظلف «وهذه الحالة التقهقرية كثيرة»، لما أمْكَنَ فهم ذلك فيه إلا بناموس الأتافيسم — أي الرجعة كما اصطلحنا عليه في كتاب بخنر، ويراد بها ظهور صفات في النسل غير موجودة في آبائه القريبة، ولا توجد إلا في أجداده البعيدة، ولا حاجة إلى القول بأنَّ هذا الناموس يثبت القربى — فلنرَ إذا كان مثل ذلك يوجد في الإنسان.»

قالت: «وفي القرود الشبيهة بالإنسان ترى الحزمة العضلية للإبهام تنفصل عن جسم العضلة القابضة الغائرة للأصابع أكثر فأكثر كلما ارتفعت في سلم هذه القرود، كما أنك ترى في الإنسان في حالات شاذة العضلة القابضة الخاصة بالإبهام تَختلِطُ بسائر القوابض. وهذا الاختلاط يكون على درجات مختلفة، وقد ذكره كثير من المؤلفين فلا سبيل للريب فيه، وقد ذَكَرَ تتو أنه رأه في عشرين حالة، وفي ثلاث منها كان تامًّا، وقد ذَكَرَ ولشم حالة من هذا القبيل، وكذلك رأى كل من جروبر وجستاف وججنبور وشدزنسكي مرة واحدة امتزاج العضلتين القابضتين الغائرتين امتزاجًا تامًّا، مع فَقْد وتر الإبهام كما في الأوران أوتان.»

أفلا تكفي هذه الشواهد لأنْ تقنعنا بأنَّ استقلال العضلة القابضة للإبهام في الإنسان نتيجة الارتقاء والاستعمال؟ ولنا دليل آخر على صحة هذا الرأي في الفروع البشرية السفلى كالسود؛ حيث هذه العضلة ليست مستقلة كما في الفروع المرتقية، وعليه فالهاوية التي أرادوا أن يقيموها بين الإنسان وسائر البريمات لا حقيقة لها.

figure

ولا يخفى ما بين أيدي الحيوانات اللبونة من اختلاف الشكل في الظاهر، وأمَّا في الباطن فهي متكوِّنة على قياس واحد، ومتفقة في عدد العظام التي تكوِّنها، وفي وضعها كذلك، كما يظهر لك من النظر إلى الأشكال التسعة والسابقة هي صور الهيكل العظمي لأيدي الحيوانات اللبونة التسعة. وليس العجب أنك ترى هذه المشابهة بين يد الإنسان «شكل ۱» والكوريلا «شكل ۲» والأوران «شكل ۳»، لكن العجب أنك تراها كذلك بين يد الإنسان والكلب «شكل ٤»، وزعنفة الفقم «شكل٥» والدلفين الصدريَّة «شكل ٦»، حتى جناح الخفاش «شكل ٧»، ويد الخلد الشبيهة بالمعول «شكل ۸»، والطرف المقدم لأول هذه الحيوانات وهو الأرنيثورنكوس «شكل ۹» أيضًا، فبم يُعلل هذا الاتفاق في عدد العظام ووضعها وارتباطها العضلي مع هذا الاختلاف في شكلها الظاهر، إلا باشتراك أصلها وأثر الوراثة والمطابقة فيها؟

وأعجب من ذلك كله أنَّ هذا الاتفاق محفوظ أيضًا في سائر ذوات الفقر، التي هي أدنى من الحيوانات اللبونة، كما في أجنحة الطيور والأطراف المقدمة للحشرات وللنصف مائية، مما يدل على أنَّ أصْلَ الجميع واحد أيضًا.

فهل مثل هذا القول «هلج يضحك الأذكياء، ويبكي العقلاء، بل البلداء»؟ لا لعمري، ولكن هي غايات معدودة في النفس، وأميالٌ موروثة في العقل، إنْ لَان الواحد لم يلنِ الآخر؛ فليضحك خصوم مذهب دارون أو فليبكوا ما استطاعوا، وليسخروا به ما شاءوا. إنه ليبلغ به البحث مبلغًا ينقلب له وقته سكينة، فيصير المخطوف مألوفًا، والوميض شهابًا ساطعًا، ويعلم أنه هو الحق الذي لا جمجمة فيه، وهل يُسْخَر بالعلم وأفراد رجاله احترامًا لأمور لم تؤيدها إلا الأكثرية المؤلفة — غالبًا — من عامة الناس؟

وإن كانوا يضحكون الآن من دارون ومَن حذا حذوه، فقد ضحكوا من قبله على كبلر وغليلي ونيوتون وغيرهم من أكابر العلماء، وإن كان لا يزال بعض العلماء الأعلام الذين يصعب عليهم في شيخوختهم تغيير ما نشئوا عليه وشابوا فيه غير موافقين لدارون في مذهبه، فقد خطَّأَ نيوتون وغليلي وكبلر علماء كثيرون من معاصريهم ومناظريهم، وثبوتهم في مبادئهم من أقوى الأدلة على صحة مذهب دارون، بل تغييرهم لمبادئهم ربما انتقض به ركن عظيم من أركانه؛ إذ يضعف مفعول العادة والوراثة وتنازع البقاء، وكلها ذات شأن عظيم فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤