الفصل الخامس

في الارتقاء

نقول والارتقاء في مذهب دارون أمر مقرر أخذًا بشهادة البالينتولوجيين والطبيعيين المعول عليهم، وهو نتيجة لازمة للانتخاب الطبيعي، والخصم لم ينكره إلا بناءً «على أنَّ مِن الأحياء ما لم يظهر فيه شيء من علامات التدرج في سلم الارتقاء، فبقاياها منذ ألوف وربوات من السنين لا تختلف عنها اليوم.» وهو إنكار أصم لا يَصِحُّ لاعتبار الجزء في مقام الكل، ونحن نزيده على قوله ذلك أنَّ مِن الأحياء ما يتقهقر أيضًا، لكن نقول له: إنَّ إنكاره الارتقاء عمومًا لعدم ارتقاء البعض كإنكارنا الأسماء الممتنعة من الصرف لانصراف البعض في بعض الأحيان، فهل يمنع صرف البعض امتناع صرف الكل؟ كذلك وقوف بعض الأحياء أو تقهقرها لا يمنع الارتقاء عمومًا.

وإن قال لنا: إنَّ صرْفَ ما لا ينصرف جائز للضرورة، قلنا له: إنَّ تَقهقُر ما يرتقي إنما يكون للضرورة أيضًا، وإلا لما كان للفظة الانتخاب الطبيعي معنى في تنازع البقاء، فإن المناسبة في التنازع ليست واحدة في كل الأحوال؛ لأن التكوين الموافق في بعض الأحيان قد لا يوافق في البعض الآخر فيفقد، مثال ذلك: لو تعودت أحياء حياتها مستقلة أن تعيش على غيرها كالحلميات، لما عاد بها لزوم لحواسها الحادة، وأعصابها الشديدة، وحركاتها القوية فتفقدها، بل قد يكون الكمال نُقصانًا، فإن مِثْل هذه الأحياء تكون فيها أعضاؤها المذكورة في حياتها الحلمية سببًا لضعفها؛ لاقتضائها غذاء لا حاجة بها إليه بدونها.

وفقد هذه الأعضاء يحسب فيها والحالة هذه امتيازًا في تنازع البقاء مع الحلميات المختلفة؛ إذ يتوفر لها هذا الغذاء فتستخدمه لأعضائها الأخرى؛ لأن الاحتياجات في مثل هذه الحال كلما قلَّتْ زاد امتياز أصحابها فتقوى وترتقي، وغيرهما مما هو دونها يضعف ويتأخر، وما يقال على الجسم يقال أيضًا على كل عضو من أعضائه، ولئلا يبادرنا بما ربما يحصل له عن ذلك من الارتباك، ويزيد في الطنبور نغمة، نقول له: إنَّ الارتقاء نوعان: خاص وعام، ولا يجب الخلط بينهما، فالخاص قد يكون نقصًا للزوم مناسبته لأحوال خصوصية، كما في مثال الحلميات المار ذكره.

وأما العام فارتقاء مطرد للزوم مناسبته لسائر الأحوال، ونتيجة ذلك كله الارتقاء عمومًا، ولا ينكره إلا من يجهل مبادئ التاريخ الطبيعي، ولا يدري حقيقة مذهب دارون، أو يعلم ولا يريد أن يعلم، أو يدري ولا يريد أن يدري، فقول أصحاب مذهب دارون: إنَّ الارتقاء غالب لا مطرد إنما يعني به ارتقاء الأفراد، وإلا فالارتقاء مطرد. وما استُشهِد به من كلام بخنر تَوهُّمٌ منه أو تَصرُّفٌ في المعاني، وإلا فهذا كلام بخنر في ذلك، قال: «فالنمو إلى الكمال يصاحب الفرد غالبًا لا دائمًا.» فآراء القوم ليست كما ادعى مجموع فروض وتصورات وأوهام — ويا ليت شعري بماذا يجيب لو وقف موقف المُطالَب بالبينة عن حقيقة دعواه.

والطبيعة بذلك لا تفعل لغاية كما توهم، حيث قال في بعض كلامه ما معناه: إنَّ الماديين يثبتون القصد للطبيعة وينفونه عن سواها، فما هذا الخبط؟ وهل يَبلُغ التواء الفهم هذا المَبلغ فيمن نَصَّبَ نفسه في مقام المعترض؛ فالماديون بل الطبيعيون أجمع لا يُثبِتون للطبيعة قصدًا ولا غاية، وإنما يُثبِتون لها أعمالًا لازمة ضرورية لنواميس معلومة، والارتقاء لا يخرج عن هذا الحكم، فإنه لما كان التنازع يحصل لوجود الاختلاف في قابليات الأحياء المتنوعة، والأحوال الخارجية، كان لا بدَّ من الانتخاب الطبيعي، أي بقاء البعض وزوال البعض، ونتيجة ذلك في كل الأفهام بقاء الأنسب، ونتيجة النتيجة الارتقاء عمومًا.

ولو كانت الطبيعة تفعل لقصدٍ، أو لو كان القصد موجودًا في أعمالها لما اقتضى أن يحصل فيها شيء من الوقوف أو التقهقر، ولوجب أن يشمل الارتقاء كل متولداتها، فسيرُها المعرَّج من أقوى الأدلة على نفي القصد فيها من كل نوع، وإثبات الضرورة، أيحتاج بعد ذلك إلى دليل على كون الارتقاء أمرًا طبيعيًّا واجبًا ضروريًّا لا قصد فيه ولا غاية؟

وهنا ملاحظة لا يَحسُن الإغضاء عنها، وهي متحصلة من إقراره في إنكاره الارتقاء بأن الأحياء قديمة جدًّا، أي منذ آلاف وربوات من السنين عملًا بشهادة الجيولوجيين والبالينتولوجيين الذين استند إليهم، فإنكاره الارتقاء لم يثبت، وإنما ثبت عليه التسليم بأن الأحياء أقدم جدًّا مما يعتقد هو والمذهب المنتصر هو له، اللهم إلا أنْ يعود يكرُّ ثانية على هؤلاء العلماء كرَّته على أصحاب مذهب دارون، ويطعن تعاليمهم وتعاليم سائر علماء الأرض بأشعة إيمانه، ويذبحها بقواطع برهانه، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤