الفصل السادس

في الأدلة على الارتقاء والتسلسل

أدلة الارتقاء كثيرة جدًّا، نذكر منها تقسيم الأعمال في الأحياء، فكلما ارتقى الحي تقسمت الأعمال، وتميزت الأعضاء القائمة بها، وهو واضح، فتقليل عدد الأعضاء المتماثلة يُعَدُّ ارتقاءً. قابل الحيوانات المفصلة الدنيئة ذات الأرجل الكثيرة بأنواع الرتيلاء التي لها ثماني أرجل، وبأنواع الذباب التي لها ست، وقلة عدد الأرجل في الحلقية ارتقاء، وكثرة عدد الفقرات المتماثلة في الأسماك والنصف مائية تأخر؛ ولذلك فهي دون الطيور وذوات الثدي، وعلى هذا الناموس الأزهار الكثيرة العُسُب أنقص من الأزهار الشبيهة بها والتي عُسُبها قليلة، وبالجملة كلما نقصت الأعضاء المتماثلة في الحي عدَّ ذلك فيه ارتقاء.

ومن الأدلة أيضًا الحالة الخنثوية، فإن هذه الحالة تَكثُر كلما هبطت في دركات سلم الأحياء، وتقل كلما ارتفعت في درجاته حتى يستقل الذكر والأنثى كل منهما في فرد وحده، قال مكس وبر في جريدة العلم الفرنسوية بتاريخ ۲۰ أيلول سنة ۱۸۸٤ ما نصُّهُ:

ومما ينبغي اعتباره أن الحالة الخنثوية الكثيرة في الأسماك تقل كلما ارتفعت في سلم ذوات الفِقَر؛ إذ يتضح تمييز الجنس أكثر فأكثر، على أنَّ بعض النصف مائية كالعلجوم الذي هو بالحقيقة خنثى، فإن فيه غدة غير صغيرة أمام الخصية هي — بالحقيقة — مبيض، وبيوضه صحيحة التكوين، لكنها لا تلقح ولا تبلغ درجة النضج.

قلنا: وهذا دليل من ألوف على سبب الأعضاء الأثرية، وعلى الانتقال والارتقاء.

ولعل من يتوهم أن الارتقاء سلسلة متصلة الحلقات منتقلة من الجماد إلى النبات، ومنه إلى الحيوان على خط مستقيم — كما يريد خصوم مذهب دارون أن يفهموه — يعترض علينا فيقول: إن الحالة الخنثوية لو كانت دليلًا على الارتقاء لما اقتضي أن تكون في الحيوان، أو لوجب ألا يكون سواها في النبات، فنقول له: إنَّ ذلك دليل على عدم فهمه لمذهب دارون؛ فمذهب دارون لا يعلم هذا التعليم، وإنما يعلم أنَّ الأحياء كلها من أصل واحد، ومن أصول واحدة كالأغصان للشجرة — كما شبهها دارون نفسه — فكل منها يسير في جهة، ولا تتصل الأغصان بعضها ببعض إلا بالأصل فقط، فلا ينشأ بعضها من بعض رأسًا، فنمو البعض غير متوقف على نمو البعض الآخر التزامًا باعتبار كونه ناشئًا منه رأسًا.

ولذلك قد يكون في البعض المرتقي كله حالات تكوينية ناقصة عن البعض الأدنى منه كليًّا وبالعكس، كما أنَّ بعض الحالات الكمالية في البعض لا توافق الآخر، فتقل ويكثر ما سواها، وأما من حيث النوعية والجنسية والكلية، فالأكمل — دائمًا — أرفع. وفي النظر إلى مذهب دارون، يجب اعتبار أحوال كثيرة مهمة مختلطة جدًّا تفوق حد الحصر تُكيِّف كل شيء بحسب الزمان والمكان وما شاكل، فالقضية الواحدة التي توجب شيئًا تحت أحوال معلومة ينشأ عنها شيء آخر تحت أحوال أخرى، وهكذا تتنوع الأشياء إلى ما لا حد له، خلافًا لما يتوهمه البعض من أنَّ الطبيعة تفعل ببساطة كلية، ولا يخفى نتيجة كل ذلك في البعض. وأما في الكل فالنتيجة واحدة، وفي بقاء الأنسب، وارتقاء الكل.

والارتقاء تؤيده الأبحاث البالنتولوجية خلافًا لما قال من أنها تنقضه،١ ومن العجيب أن تدرج رتب الحيوان في طبقات الأرض قد أثبته «أغاسيز» نفسه، مع أنه من ألدِّ أعداء مذهب التسلسل، وهو من أكابر علماء الطبيعة الذين يقولون بخلق الأنواع، فمن المقرر أنَّ أقْدَمَ أحافير ذوات الفقر المعروفة هي من أدنى رتبة الأسماك، وبعدها النصف مائية، وهي أكمل، ثم الطيور وذوات الثدي، وهي أكمل الجميع. وأول أحافير ذوات الثدي من رتبة ذوات الثدي العديمة المشيمة، وما كان من هذه الرتبة أنقص جاء أولًا، ثم تبعه ما كان أكمل، وهلم جرًّا، ولم ينشأِ الأصل الذي خرج منه الإنسان إلا في أواخر الطور الثلاثي للأرض.

وهكذا في النبات فقد تكون منه أولًا أنواع الفطر، ثم السراخس، ثم ذوات الزهور أو البادية أعضاء التناسل، وأولًا المتعرية البذور منها، ثم البادية أعضاء التناسل المغطاة البذور، وأولًا العديمة التويجات منها ذات الغلاف الواحد، ثم التويجية ذات الغلافين، وأولًا الكثيرة البتلات منها، ثم الملتصقة البتلات. وهذا الترتيب دليل قاطع على الارتقاء.

وهكذا يقال أيضًا عن تاريخ الإنسان المتقدم دائمًا في سبيل تقسيم الأعمال، والتدرج في سلم الارتقاء. ومن ينكر ارتقاء الإنسان في التاريخ يلزمه أنْ يُقيم البينة على أنَّ العصور الماضية كان فيها ما يعادل عصرنا، فإنه لا يستطيع أحد أن يقول: إنَّ التاريخ في طاقته أنْ يذكر عصرًا من العصور الحالية بلغ فيه الإنسان درجة تعادل درجته اليوم من الارتقاء في العلوم والمعارف، ولا يَتوهَّم أنه بلغ الغاية في الكمال والنهاية في الحسن، ولكن كل شيء نسبي، فالقرن التاسع عشر لا يفاخره قرن ما بعد المسيح، ولا قبله من التاريخ المعروف، على أنه لا يقتضي أن يكون الفرق كبيرًا؛ إذ لا يخفى عليك أن المدة التي تفصل بين أطوار تاريخه تكاد لا تحسب لحظة بالنسبة لتاريخ العالم العضوي، وتقهقر بعض الأمم، ووقوف البعض لا يُتخَذ حجة لإنكار الارتقاء، فهما مردود عليهما بما قيل من تقهقر بعض الأحياء ووقوفها؛ إذ لا يكون ذلك إلا مع ارتقاء المرتقي عنه. وهذا باعتبار الكل يحسب ارتقاءً.

١  قال «ألبرت جودري»، أستاذ البالنتولوجيا في موزيوم التاريخ الطبيعي بباريس: «إننا نجهل ماذا كان قبل الطور الكمبري، ولكن تاريخ الأحياء من هذا الطور إلى اليوم يدل «على الارتقاء».»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤