الفصل الثالث

في وحدة العناصر والقوى

ذهبوا إلى أن الجواهر الفردة متماثلة في الذات، مختلفة في الصفات، وأنها متحركة وشكلها متغير، ولا يخفى أن العناصر التي وصفها الكيماويون تبلغ نحوًا من ستين عنصرًا، وإذا تأيدت اكتشافات السبكترسكوب فربما بلغت ٧٣ عنصرًا، وقد اعتبروها بسيطة، ومن اتحاداتها المختلفة تتألف الأجسام المختلفة. واجتهدوا أولًا في تعيين صفاتها التي تمتاز بها، ثم ما لبثوا أن تساءلوا عما إذا كانت هذه العناصر بسيطة حقيقةً، أو كان لها صفات مشتركة تجمعها وتردها إلى أصل واحد، فربما كان الكيماويون الأقدمون مُصِيبينَ في بحثهم عن تحول المعادن.

فقام دوماس — وهو من أكابر علماء الكيمياء في هذا العصر — وقرر أولًا أنه يمكن ترتيب هذه العناصر صفوفًا تتفاعل كيماويًّا تفاعلًا واحدًا، وقد بيَّن تبعًا لرأي بروست أن أوزانها الجوهرية أعداد كاملة، كأن جواهر العناصر المزعومة بسيطة هي بالحقيقة مركبة من أعداد مختلفة من هذه الأجزاء المتماثلة، ولا تختلف فيما بينها إلا بعدد هذه الأجزاء فقط، ثم أشار مندلف ولوثار ماير إلى نسب شديدة بين الأوزان الجوهرية للعناصر وصفاتها الخاصة، وقالا بوجود خلل في جدول هذه العناصر، وقد تنبآ بأن هذا الخلل لا بدَّ من أن يسد، ووصفا العناصر التي تنقص والتي يلزم اكتشافها.

وقد اتصل لكوك الكيماوي إلى نتائج شبيهة بتلك بعد درس الحل الطيفي لهذه الأجسام البسيطة؛ أي درس طبيعة النور المنبعث عنها وهي مشتعلة. وقد جاء اكتشاف الغاليوم له والسكنديوم لغلاف مصداقًا على صحة هذا الإنباء العلمي، ثم إن لوكير لاحظ في طيف بعض البسائط كالكلسيوم والفُسْفُور انقسامًا يدل على بداية انحلال، فترجح لهم أن الأجسام المزعومة بسيطة ليست أنيات مستقلة، بل إنها ربما كانت صورًا مختلفة لمادة واحدة هي الهيولي الواحدة وغير المتلاشية كالأثير.

وقد تقوى هذا الترجيح بما كان قد عُلم من وحدة القوى؛ فلا يخفى أن القوى كانت عندهم في السابق متعددة؛ فالنور والحرارة والكهربائية والمغناطيس كانت تُعتبَر سوائل مادية مستقلة بعضها عن بعض تنفذ مادة الأجسام وتجتمع فيها على نسب مختلفة، والجاذبية والألفة الكيماوية والالتصاق كانت قوى تحرك دقائق هذه الأجسام، وبقي هذا القول معولًا عليه في العلوم الطبيعية حتى قام رمفور وقال: ربما كانت الحرارة متحولة عن الحركة، ثم بيَّن فرسنل أن النور حركة اهتزازية.

وكذلك بيَّن ماير وجول وهرن وتندل أن الحرارة ليست سوى اهتزاز أجزاء المادة، وقد برهنوا أن الحرارة تتحول إلى حركة، والحركة إلى حرارة تبعًا لقواعد معينة، ثم بيَّن أمبر وحدة الكهربائية والمغناطيس، وبين سبك كذلك أنه يكفي إحماء نقطة ملتحم معدنين لتوليد مجرى كهربائي، ولا يخفى فعل الحرارة في توليد المغناطيس، والفرك في توليد الكهربائية، وتحولهما إلى نور وحرارة، ومن ثم إلى حركة. صار أمرًا معروفًا عاديًّا مستعملًا في الصنائع وإنارة الطرق في المدن الشهيرة، فانتفى مذهب السوائل المادية من مدار العلم الطبيعي، وإذا ارتاب صاحبنا بصحة هذا القول فليراجع صفحة ١١ و٢١ و٦٥ و٤٢٨، وخاصة ٢٩٨ و٢٩٩ من كتاب الدروس الأولية في الفلسفة الطبيعية، للفاضلة السيدة «ألن جكسن».

فلم يبق عند الطبيعيين بعد هذا سوى مادة لطيفة هي الأثير المالئ الخلاء، والنافذ في كل الأجسام، والمحرك لها، وانتفت القوة كذلك، وعوض عنها بالحركة، فليس للحركة سبب سوى الحركة نفسها، ولا واسطة لإيصالها إلى الأجسام سوى الاصطدام، ولا محوِّلَ للحركة سوى الحركة المكتسبة، والحركة نفسها غير متلاشية كالمادة، ومقدارها في الكون واحد كمقدارها، إلا أنها قابلة التحول إلى ما لا نهاية له، بحيث يصعب معرفتها في استحالتها البعيدة، فأوجب ذلك نظرًا جديدًا في بناء الأجسام الجوهري، فالجوامد والسوائل والغازات التي كان يظن أنها مؤلفة من أجزاء صغيرة ساكنة، هي بالحقيقة متحركة حركة باطنة شديدة، وحرارتها كما نَحسُّ بها بحواسنا ليست سوى التأثير الواقع علينا من اهتزاز أجزائها.

وظهر لهم حسب الاكتشافات الحديثة أن شكل الجواهر الفردة متوقف على الاهتزازات التي تحركها، وأن الحركة هي التي كونت جواهر الأجسام الفردة ودقائقها في وسط الأثير، وأن الأثير ليس سوى الهيولي في أبسط ما يمكن تصوره، وأن الصور التي تلبسها الهيولي إنما هي ناشئة عن الحركة التي تحركها، وأن المادة والحركة غير منفصلتين؛ لأن وجود المادة يقتضي الحركة، كما أن الحركة تطلب المادة، وهكذا ردوا هاتين الأنيتين اللتين ترجع إليهما المواد والقوى إلى شيء واحد.

هذه هي خلاصة ما دلت عليه مباحث مشاهير الفلاسفة وعلماء الطبيعة والكيمياء في هذا العصر.

فيُرى مما تقدم أن القول بالجواهر الفردة وتماثلها وحركتها، وتغير شكلها، وتحول القوى، هو من مقتضيات العلم لا من مختلقات الوهم؛ لانطباقه على قضايا طبيعية وكيماوية لا تُعقَل بدونه، على أن الكيماويين لم يتمكنوا من حل العناصر، وردها إلى الهيولي، كما تمكن الطبيعيون من رد القوى كلها إلى الحركة، وإنما حكموا بذلك من باب الترجيح لما رأوه أولًا من الدلائل على أن العناصر ليست بسيطة كما تقدم، وثانيًا لأن وحدة القوة تطلب وحدة المادة كذلك، وإذا صح تحول القوى بعضها إلى بعض، وصحَّ أن أصلها الحركة — وهي واحدة — وصحَّ أن الحركة اهتزاز أجزاء المادة، فكيف لا يصح أن تكون المادة واحدة، وأن تتحول وتظهر بمظاهر مختلفة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤