الفصل السادس

في كشف الخلط وإظهار الغلط

وأما قول صاحبنا: «إنه يلزم من فرض الجوهر الفرد على كل مذاهبه عدة غرائب، منها أنه لو وضع جوهر من النيتروجين مثلًا على جوهر من الحديد وضغط بأثقال العالمين ما نفذ أحدهما الآخر وما تجزَّأ.» فليس فيه من الغرائب سوى هذا القول نفسه، ولعله يذهب إلى أنهما يتنافذان. وإنا لنعجب منه كيف أن معدته لم تقوَ على هضم ما عدَّه من هذا القبيل سفسطة، مع أن عقله قوي على هضم ما لا يهضم، وشرب ما لا يشرب، مما لو اجتمعت أثقال العالمين وضغطته ليدخل إلى الذهن لم يدخل.

وهل يَرتاعُ من خَوْض السواقي
فتًى قد خاض في البحر الكبير

وقوله: «ومنها أن كل دقيقة من دقائق المركبات لا تقسم إلا بالحل للكيمي، وإلا أوجب الضغط على دقيقة الماء قسمة جوهر الأكسجين الفرد إلخ.» فنسأله: وهل تقسم بدون ذلك؟ وإذا قسمت فهل تبقى ماءً؟ ثم هو يعلم — فيما نظن — أن الفعل الطبيعي قد يصاحبه فعل كيمي لما في طبع القوى من إمكان التحول بعضها إلى بعض، حتى إن القوى الميكانيكية البحتة تجعل تحليلًا في المواد المركبة تركيبًا ضعيفًا، وكذلك قوله: «ومنها أن الأتروبين وإن كان يذوب في الكحول فالدقيقة منه لا تذوب فيه.» فلا ندري ما مراده به؛ لأن التذويب إنما هو عبارة عن اجتماع دقائق سائل بدقائق جسم آخر، فإمَّا أن يقع بين الدقائق فيكون مثل هذا القول لَغْوًا، وإمَّا أن يقع عليها فيكون التذويب فعلًا كيميًّا، وحينئذٍ يحصل عنه تحليل وتركيب لا يوجب قسمة في الجواهر، بل تحليلًا، فايم الحق إنا لم نكن نتوقع منه مثل هذا الخبط لما يعهد من علمه وذكائه.

ثم ما الغرض يا ترى من نفي الجوهر الفرد، فإن كان الغرض من ذلك نفي المادة أصلًا، فكيف نصنع حينئذٍ بوجود العوالم؟ وهل ما نراه وهم من الحواس؟ وإن كان القصد نفي وحدتها وإثبات تعددها، فذلك لا ينفي وحدةً ولا يُثبِتُ تعددًا، وإذا كان لا بد من وجود المادة متعددة كانت أم واحدة، فما المراد من نفي الحركة عنها؛ أيثبت لها السكون؟ وما الدليل عليه — والسكون المطلق لا علم لنا بوجوده؟ وإذا كنا لا نعلم بوجود السكون، فكيف استطعنا أن نحكم به أو نتصوره؟ وإن كان الغرض من ذلك نفي النشوء وإثبات الخلق، فهذا لا ينفي نشوءًا ولا يثبت خلقًا، فنيوتن أثبت مذهب ديموقريطس ولم ينفِ خلق الجوهر الفرد، فنفي الجوهر الفرد لا يُنفى به شيء يراد نفيه، ولا يثبت به شيء يراد إثباته من هذا القبيل، وما هو إلا وهم، أو هو ضرب من التمويه للإيهام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤