الفصل الثامن

فصل الخطاب بين أصحاب الخلق وأصحاب القدم

قال الروحانيون: وعليه فمذهب الماديين شر لا يماثله شر؛ لأنه يلزم عنه أن لا خير ولا شر ولا حلال ولا حرام ولا ولا، وبالجملة يمتنع معه العمران، فرد عليهم الماديون: لقد أخطأتم فيما زعمتم كأنكم تجهلون طبيعة العمران، فالعمران ضروري للبشر، وإلا لم تتم لهم الحياة، وهو من حيث إنه اجتماع طبيعي في الحيوان، وإنما بلغ الغاية القصوى في الإنسان؛ لأنه أُعِدَّ له طبعًا، وأقومه تكوينًا، وأبعده فكرًا، وأقواه رؤية، والعمران لا يُكمل إلا بالتعاون على المعاش، والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه.

وهذا التعاون لا يكمل البتة بما وصفتم، ولا يكمل إلا بالاصطلاح على عادات معلومة تحسن معها المعاملات. وهذا الاصطلاح لا يكمل إلا إذا عَرَفَ الإنسان ما له من الحقوق وما عليه من الواجبات. وهذه المعرفة لا تكتمل إلا بالعلم، والعلم هو العلم الصحيح، وذلك كله لا يكمل إلا بالحكم الوازع، والحكم الوازع إنما هو الشرع المفروض من البشر، والمتغير بحسب روح كل عصر، واحتياجات كل جيل، وإلا لما اقتضى أن يتغير الإنسان عما يفرضه له شرع معلوم، وعوائد معلومة؛ لأنها لا تخلو منه في أي الأحوال كان، ولا أن تحصل العمارة للبشر قبل الأنبياء، ولا لأمم غير تابعة لهم، ولما كان به — كذلك — حاجة لإقامة الوازع منه بعدهم.

قال ابن خلدون: «وتزيد الفلاسفة على هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل العقلي، وأنها خاصة طبيعية للإنسان، فيقررون هذا البرهان إلى غايته، وأنه لا بد للبشر من الحكم الوازع، ثم يقولون: وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر، وأنه لا بد أن يكون متميزًا عنهم بما يودع الله فيه من خواص هدايته؛ ليقع التسليم له والقبول منه، حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تَزيُّف.

وهذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه؛ إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه، أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته، فأهل الكتاب المتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب؛ فإنهم أكثر أهل العالم، ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار، فضلًا عن الحياة، وكذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب، بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتة فإنه يمتنع. وبهذا يتبين لك غلطهم في وجوب النُّبُوَّات، وأنه ليس بعقلي، وإنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة.» ا.ﻫ.

ولا يخفى أن الإنسان في العمران اثنان: عاقل وجاهل، فالعاقل له بما يطلبه من المجد الصحيح، وبما اكتسبه كذلك من العلم الصحيح بأحوال العمران وازع من نفسه، وذلك لما في طبعه، بل وطبع كل حيوان من حب الذات، فهو يترفع عن ارتكاب شر بحق غيره؛ لئلا يعود هذا الشر بالوبال عليه، والجاهل كالعاقل يحب ذاته، وإنما لجهله قد يخطئ الوسائط، فلم يكن له رادع إلا من سيف حاكمه، وكلاهما إن لم يردعهما ذلك كله لا يردعهما سواه، وليجرب نزع الحكم الوازع من بين البشر مهما عظم إيمانهم، فإنهم يقعون في الفوضى، والإفاضة في هذا المبحث لا يحتملها المقام؛ لأنها تتناول البحث في الأخلاق والطبائع، وما للإقليم والتعليم والشرائع وسواها من الأثر فيها، وما تؤثره هي نفسها في ذلك كله كذلك، وما لاختلاف الناس من حيث اعتبارهم السعادة من الأثر في العمران بين أن تكون سعادة الفرد قائمة بسعادة الكل، أم بالضد، إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها.

قالوا: وأما غير ذلك من السعادة فمن مطامع المحال، ولا نرى في تعليم المحال جدوى، ولا نرى فيه إلا خلاف ذلك، قلنا: هذا هو فقط وجه الخلاف بينهم.

وأما ما جاء في رد المعترض من الأدلة على نفي التولد الذاتي، ونفي كون الحياة قوة طبيعية إلى آخر ما ذكر؛ فقد آوى منه إلى ركن ضعيف القواعد، متداعي الدعائم، ويدل على أنه لم يقرأ علم الحياة إلا في غير كتبه، ولم يَسر فيه إلا في غير منهاجه، كما سنبين ذلك في فصل الحياة فيما يأتي، وهو أعم من أن يختص به وحده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤