الفصل الأول

في الحياة

ليس في طاقة الطبيعي أن يعلم الحقائق والماهيات، وكل علمه قاصر على معرفة الكميات والكيفيات، فهو لا يستطيع الكلام على الذوات مجردة عن صفاتها المقومة لها، فلا يعرف الحياة إلا من أفعالها، كما أنه لا يعرف الجاذبية أو الألفة أو سواها من القوى الطبيعية إلا من أفعالها، فنظرهُ إلى الحياة مجردة ضرْبٌ من العبث كنظره إلى سائر القوى الطبيعية مجردة، فالحياة في ذاتها ليست أشد خفاءً من الجاذبية أو سواها من القوى في ذاتها، وغاية ما يستطيعه في درس الطبيعة معرفة الأشياء بعضها بالنسبة إلى بعض، أي معرفة ما بينها من الارتباط. والعلم الصحيح يجب أن يُوجِّه سعيه إلى هذه الغاية؛ فهي وحدها تتكفل له بالوقوف على ما في طاقته أن يقف عليه مما يكون به للإنسان فائدة عملية صحيحة.

وهذا ما يمتاز به العلم اليوم عما كان عليه في السابق، وهي الصفة التي تمتاز بها شعوب المغرب عن شعوب المشرق؛ فإن هؤلاء — كما يقول الشهرستاني — أكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيات والحقائق، وأولئك أكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيات والكميات. ولما كان النظر إلى الحقائق يقتضي النظر إلى الشيء مجردًا عما يقوم به نشأ ما يسمونه التجريد، فاشتغل الناس بالبحث عن هذه الحقائق المجردة، فتاهوا فيها بحكم الضرورة، وضلوا في معرفتها حتى انتهوا فيها أحيانًا إلى نوع من الإثبات في نوع من النفي؛ أي إنهم أثبتوا للشيء وجودًا بنفي كل وجود عنه. وأي شيء أغرب من ذلك؟ بخلاف النظر إلى الكيفيات والكميات، فإنه يتقرر به أشياء كائنة حقيقة لا يستطاع إنكارها، وربما أطلقوا لفظة الحقائق على مثل هذا العلم، بل قَصَروها عليه لتعذُّر علم سواه.

ولا يخفى ما حصل للعلم من النهضة من أوائل هذا القرن في أيدي شعوب المغرب، وما حصل عنه من الفوائد كذلك، وإذا تحرينا حقيقة هذه النهضة نجد أنها كائنة في معرفة ما بين الأشياء من الارتباط، وإذا استقرينا سير الشعوب والأمم في الأفكار والعلوم منذ التاريخ، نجد أن تقرير هذا الارتباط لم يكن بدون مشقة كما يتوهم من ينظر إلى العلم اليوم، بل إنما صُرف فيه الجهد الجهيد والزمن المديد، ففي عصور الميتولوجية كان عندهم لكل شيء قوة خاصة به تدبره؛ فإله الحرب — مثلًا — كان غير إله البحر، كأن الإله الواحد لا يقدر على تدبير آخر غير ما اختصَّ به، وإله الكرم غير إله القمح، كأن الواحد لا ينمو بما ينمو به الآخر.

وهكذا لم يكن يظن وجود ارتباط بين شيء وشيء من مواد الطبيعة وقُواها، فنشأ مذهب تعدد المواد والقوى العام، ثم فصلوا القوى إلى علوية آمرة، وسفلية مأمورة، وفصلوا السفلية عن موادها، فكان مذهب التثنية، ولم يضموا القوى العلوية فلسفيًّا إلى واحدة إلا بعد ذلك كثيرًا، فكان مذهب التوحيد العلوي، والتثنية في الخلق، والتثليث في الوجود، وبقي مذهب التعدد في الخليقة، ولا يمكن تتبع سير مرتب في ذلك، وما يمكن تحققه إنما هو نشوء لا ارتباط معه في الأفكار إلا فيما ندر وبجهد فلسفي.

أما العلم فلما كان مقيدًا أكثر من الفلسفة، فلم يتهيأ له ضم القوى والمواد وربطها بعضها ببعض بالسرعة التي أمكنت لبعض الفلاسفة، فكانوا في أوائل هذا القرن يعتبرون القوى الطبيعية كالكهربائية والنور والحرارة سوائل مادية مستقلة بعضها عن بعض، ومستقلة عن المواد نفسها، وكذلك القوى الكيماوية والحيوية، ويعتبرون المواد أنيَّات منفصلة بعضها عن بعض انفصالًا مطلقًا، وعالم النبات منفصلًا عن عالم الحيوان، وكل نوع منفصلًا عن سواه، والأحياء كلها منفصلة عن عالم الجماد انفصالًا تامًّا واضحًا مطلقًا، ولم يتيسر رد القوى الطبيعية كلها إلى واحدة، وترجيح كون المواد من أصل واحد ترجيحًا علميًّا إلا من عهد قريب، ولم يجرِ ربط المواليد الثلاثة بعضها ببعض كذلك إلا في هذا العصر.

قال الطبيب من مقالة في الكلام على عالم الجماد ما نصه: «فإن التمييز بين النبات والحيوان يظهر في بادئ الرأي بدهيًّا سهلًا، إلا أن ذلك إنما يكون في المراتب العليا منهما، على أنه بالنظر إلى الحقائق العلمية من أصعب ما وقف العلماء عليه جهدهم، ولا سيما من حيث اشتراك الحدود وتداخل الصفات المميزة في مراتبها السافلة، وكذلك التمييز بين عالم الجماد وعالمي النبات والحيوان، فإنه قد يكون من أكثر المسائل أشكالًا في نظر المدققين.» وقد اتضح هذا الارتباط أكثر بمذهب دارون، وعظمت قيمته الفلسفية، كذلك والحاصل أن من تتبع سير العلم من أوائل هذا القرن يرى أنه مقسور على تقرير هذا الارتباط، والسير في سبيل إثبات الوحدة للكائنات.

على أن بعضهم مع اعترافه بارتباط العوالم الثلاثة، وارتباط القوى الطبيعية بعضها ببعض، ربما لم يسلم — ولا نعلم كيف — بارتباط هذه القوى بالحياة، ولم يسلم كذلك بارتباط قوى الحياة نفسها، فجعل الحياة أكثر من واحدة من حيث الأصل، ولو فصل بينها جميعًا فصله بين المواد الحية والجماد لما جاز الاعتراض، ولكان هذا الفصل من الأمور اللازمة في العلم لسهولة البحث في المواضيع الكثيرة التي يتناولها: كفصل النور عن الحرارة، وفصلهما عن سائر القوى الطبيعية، مع اعتبار الرابط بينها، ولكنه لا يقول هذا القول، بل يفصل الحياة فصلًا مطلقًا، ويعتبرها جوهرًا مجردًا يتصل بالمادة اتصالًا عارضًا، وينفصل عنها انفصالًا لازمًا عن مركباتها، بل عن المادة نفسها.

ومع أنه في فعله ذلك يرتكب خطأين عظيمين ضد العلم وضد الفلسفة، فهو لا يبالي ولو استمسك بالمحال. فأما خطؤه ضد الفلاسفة، فلأن توحيد القوى تارة، وتعديدها أخرى، وتجريدها عن المادة تارة، ووصلها بها أخرى، وتعديد المادة وتوحيدها أمور لا تتفق بعضها مع بعض، ولا تنطبق على العقل ولا على التصور الفلسفي لوحدة العالم.

وأما ضد العلم، فلأنه قد تبين اتصال مواليد الطبيعة بعضها ببعض، وأن القوى الطبيعية ليست سوى استحالات عن الحركة، وأن الحركة ليست سوى اهتزاز أجزاء المادة. وهذا يلزم منه أن تكون المادة وقواها أو الحركة شيئًا واحدًا، وقد تبين كذلك أن القوى المذكورة تفعل في الأحياء فعلها في الجماد، وأن المواد الداخلة في بناء الأحياء هي نفس المواد الموجودة في الجماد، وأن التفاعلات التي فيها من طبع التفاعلات التي تتم فيه.

والظاهر أن اعتبار الحياة جوهرًا مجردًا بقية موروثة من الاعتقاد القديم للقوى والمواد — على ما مر — وإلا فليس في العلم ما يسوغ ذلك، بل ذلك ينافي ما قد تقرر به من الارتباط على خط مستقيم، قالوا أولًا: إن الحياة قوة مجردة تعرض على المادة فتبطل فعل القوى الطبيعية منها، وليس في أفعالها شيء من الارتباط السببي، ولما بيَّن كلود برنار أن الحياة لا تبطل فعل القوى المذكورة ولا تضادها، وأن كل عمل في الأحياء له سبب معلوم لازم له كما في الجماد، قالوا: ولكن بناء الأحياء ليس فيه شيء من البساطة الهندسية للمعادن.

ولما بيَّن شوان أن الأحياء من نبات وحيوان عبارة عن مجتمع خليات مؤلفة هي نفسها من غشاء مصمت كالبيضة يتضمن حويصلة ذات منظر مختلف في النواة، متضمنة هي نفسها كتلة صغيرة كروية هي النوية، وأن هذه الخليات ذات أشكال وحجوم لا ضابط لها فتتضام وتجتمع على ضروب شتى، كما تجتمع دقائق الجماد بدون أن تفقد استقلالها، وتؤلف وحدها كل الأحياء، قالوا: ولكن التفاعلات الحيوية غير التفاعلات الكيماوية.

ولما بيَّن باستور أن الاختمار إنما هو تفاعل كيماوي بين المادة المختمرة والخمير، وأن الخمير ليس سوى أحياء صغيرة جدًّا شبيهة بالخليات المذكورة، فحياة نبات أو حيوان مرتقٍ لا تفرق كيماويًّا عن ظواهر الاختمار إلا بكثرة اختلاف هذه الظواهر الناشئة عن اختلاف خصائص الكريات المختلفة الداخلة في بنائها، قالوا: ولكن القوى الطبيعية لا تستطيع أن تركب الهيدروجين مع الكربون كما تفعل قوى الحياة.

ولما بيَّن برثلو إمكان تركيب الأستيلين رأسًا من الجماد، وتركيب سائر المركبات الكربورية بواسطته؛ كأنواع السكر والكحول والأرواح والزيوت والحوامض الآلية، وبيَّن كذلك إمكان تركيب كل المواد المتكونة في الأحياء من عناصرها رأسًا؛ أي من الكربون والأكسجين والهيدروجين والأزوت، بواسطة الكيمياء الآلية المؤسسة على النموذجات، قالوا: ولكن قد بيَّن باستور — في مقالة نشرتها جريدة العلم الفرنسوية بتاريخ ٥ ك٢ من سنة ١٨٤٤، ولخَّصها المقتطف — فرقًا مهمًّا بين المواد الآلية الطبيعية والمصطنعة.

فالأولى لها في حالتها الأمورفية العديمة الشكل قوة على تحويل سطح النور المستقطب، والثانية ليس لها ذلك، أو هي تفعل عكس فعلها خلافًا للبلورات، فذلك متوقف فيها على شكلها البلوري، وعلى انتظام تغير نظامها المسمى بالهيدريا، أي تغير زواياها المتماثلة، وذلك ما تمتاز به قوى الحياة أو كما يقال أيضًا: القوى غير المنتظمة عن القوى الكيماوية المنتظمة. قالوا: وهنا «العقدة». أمَّا كون الحياة تفعل أفعالًا تختلف عن أفعال القوى الطبيعية التي يستخدمها الكيماوي، فمما لا ريب فيه، كما أنه لا ريب في أن أفعال الكهربائية مختلفة عن أفعال النور والحرارة مثلًا، وإلا لزم أن يكون العالم واحدًا؛ جمادًا واحدًا، أو نباتًا واحدًا، أو حيوانًا واحدًا، وما نراه هو بخلاف ذلك.

وأما كون هذا الامتياز يلزم منه فصل الحياة عن قوى الطبيعة في المصدر، فمن أغرب ما يذهب إليه، وإلا وجب أيضًا فصل القوى الطبيعية بعضها عن بعض كذلك، ولا سيما أن الفرق العظيم — الذي اتخذه الحيويون حجة قوية لإثبات مذهبهم في الحياة — قد زال معظمه.

وفي النظر إلى هذه المسألة يجب اعتبار النسبة بين ما كان يُزعم سابقًا وما يُعلم اليوم، فأي فرق بين الأمرين؟ أو لعل هذا الفرق النسبي اليوم والجزئي بالنسبة لما كان يزعم قبلًا كافٍ لتأييد هذا الفصل، بل لجعل الحياة جوهرًا مجردًا عن المادة، وما الدليل على ذلك سوى عدم تمكن الكيماويين من خلق الحياة رأسًا من الجماد، وعدم تمكنهم من مجاراتها مجاراة تامة، وهل ذلك دليل يثبت به الضد؟! فإن كانت قوة تحويل سطح النور المستقطب — كما يظن — ناشئة عن عدم انتظام في تركيب جواهر الأجسام الفردة أو دقائقها، فربما كان ذلك خاصًّا بالحياة وغير ممكن الحصول عليه بدونها، إلا أن امتناع ذلك على الكيماويين لا يوجب جعل الحياة من مصدر غير مصدر سائر القوى، كما أن ظواهر الحياة في الحيوان العالي، وإن كانت تختلف عنها كثيرًا في النبات، لا توجب جعل الحياة فيهما من مصدرين مختلفين، أي إنه لا يعزز مذهب الحيويين، ولا ينقض ركنًا من أركان الماديين؛ لأنه إن صحَّ — كما قال باستور — أن سبب ذلك كيفية وقوع النور على النبات، المصدر الأول لكل المركبات الآلية، فيكون أصل هذه القوة طبيعيًّا.

على أن باستور قد تمكن من مجاراة الطبيعة على نوع ما، وأدخل عدم الانتظام في المركبات الكيماوية؛ إذ جمع بين السنكونين «مادة غير منتظمة» والحامض البراطرطريك، أي العنبيك، فرسب طرطرات السنكونين اليساري، وبقي الطرطرات اليميني ذائبًا في السائل؛ أي إنه حل الحامض العنبيك الذي لا يحول النور إلى حامضين يحولانه: أحدهما إلى اليمين، والآخر إلى اليسار، نعم قال مع ذلك أنه لم يتمكن من إزالة الحاجز بين هذه المركبات، لكنه لم يَعنِ به سوى أن الكيمياء لم تستطع حتى الآن أن تستخدم في صناعتها سوى القوى المنتظمة.

وهذا لا يستفاد منه أنه يوجد حاجز مطلق بين هذين النوعين من القوى، وقد صرح هو نفسه بذلك؛ إذ أشار بإزالة هذا الحاجز، قال: «فإذا أردنا أن نماثل الطبيعة وجب أن نتخطَّى الطرق التي جرينا عليها حتى الآن، ونستخدم الكهربائية اللولبية والمغناطيسية والنور ونحو ذلك من القوى غير المنتظمة.» وقد قال أيضًا في غير هذا المكان: «إن مركبات الحياة إذا كانت غير منتظمة فلأنه تفعل فيها قوى عالمية غير منتظمة. وهذا — فيما أرى — الرابط الذي يربط الحياة على سطح الأرض بالعالم؛ أي مجموع القوى المنتشرة فيه.» فيُرى مما تقدم أن لا شيء من كلام باستور يَحمِل على الظنِّ بأنه يعتقد علميًّا بأن قوى الحياة من مصدر غير مصدر قوى الطبيعة، ولا بأنها جوهر مجرد، بل هو أول من بيَّن ظواهر الاختمار وقال: إنها لا تفرق بشيء عن التفاعلات الكيماوية.

ذكر «كرل فوجت» في خطاب ألقاه، في مجمع جنيفا العلمي، من نحو خمس عشرة سنة، ما نؤثره عنه قال: «خذ عضلة من ضفدع حي واجعلها في أحوال مناسبة تمنع جفافها وفسادها، وقدِّم لها من وقت إلى وقت الدم اللازم ليقوم مقام المواد المحترقة منها بأكسجين الهواء، كما تقدم الفحم وقودًا للآلة البخارية، فترى العضلة تتحرك كلما هيجتها بالكهربائية كما يتحرك لولب الساعة إذا كانت دائرة، قال: ولنفصل كذلك رأس حيوان عن جسده حتى يموت، ثم لنحقن فيه بعد هذا الموت دمًا صالحًا من حيوان آخر من نوعه؛ نرَ الرأس يفتح عينيه، وكل حركاته تدل على أن الحياة قد عادت إليه، وعاد دماغه يشتغل كما كان يشتغل قبل القطع.»

وذكر المقتطف — نقلًا عن الجريدة العلمية الفرنسوية في العدد الثالث من سنته التاسعة — ما وقع للدكتور «بتيكان» مع ذلك الرأس المقطوع الذي وقع على مقطع العنق واستقر على الرمل؛ حيث وقع فخفَّ نزف دمه، فأخذ يتفرس في الدكتور المذكور، ويجيل عينيه مُحدِّقًا فيه حتى دار الدكتور حوله ربع دورة وعيناه تتبعانه وترسلان إليه نظرًا يدل على شدة الألم، وإدراك الحالة التي هو فيها، وكل ذلك يدل على أن الحياة ليست جوهرًا مجردًا عن المادة، وأن تفاعلاتها أشبه شيء بالتفاعلات الكيماوية من حيث التعيين والضبط.

ونحن نعلم أن كل عمل حيوي إنما هو نتيجة لازمة لتهيج في الجهاز العصبي، وأن المنصرف في هذا العمل ليس قوة حيوية، بل كمية معينة ومقيسة من الحرارة ناتجة عن احتراق كمية معينة، كذلك من مواد محترقة يتناولها الحي على صورة طعام أو غذاء، والطبيعيون يردون الحرارة إلى الحركة، فلماذا لا تكون الحياة التي تتحول إلى حرارة، والتي لا تختلف تفاعلاتها عن التفاعلات الكيماوية نوعًا كذلك من الحركة المعتبرة أصل القوى الطبيعية، فتكون نسبة الحياة إلى القوى الطبيعية كنسبة الإنسان إلى الحيوان؛ بمعنى أن أصل الحياة كأصل سائر قوى الطبيعة.

وهذا لا يلزم منه أن تكون ناشئة رأسًا من القوى المذكورة في حالها المعروف اليوم، وأن يكون ذلك غير ممتنع عقلًا، كما أن الإنسان ليس ناشئًا من القرد رأسًا؛ أي إن الحياة لا يلزم أن تكون اتصال كمال القوة المبلورة، بل من أصلها، كما أن الإنسان ليس اتصال كمال القرد، بل من أصله، ولا يلزم أن تكون حركات الحياة كحركة دقائق الجماد، كما أن اعتبار القوى المعروفة من أصل واحد كالحرارة والكهربائية والنور — مثلًا — لا يلزم منه أن تكون حركات كل قوة منها كحركات الأخرى، ولا يمنع أن تكون حركات الحياة من جنس حركات الدقائق، كما أن اختلاف حركات القوى الطبيعية لا يمنع كونها من جنس واحد.

وبهذا الاعتبار لا تختلف قوى العالم بعضها عن بعض، ولا تختلف مواده كذلك إلا اختلاف المركب عن البسيط، أو اختلاف الفصل عن النوع، والنوع عن الجنس. وهذ الاختلاف لا يكون جوهريًّا إلا إذا أريد بالجوهر الكيفية لا الذات، وعليه فلا يكون في اعتبارنا تأثرات المادة نوعًا من الحس شيء غريب باعتبار الحس في أبسط أحواله، وباعتبار الحياة نوعًا من الحرارة، والحرارة نوعًا من الحركة، والحركة صفة لازمة للمادة وأم كل القوى.

نعم، إذا أريد بالحس كما يتبادر منه إلى الفهم لغة، يكون مثل هذا القول في منتهى الغرابة، ولا يجوز أن يطلق على النبات ولا على غير الحيوان العالي، إلا أن الحس كما يراد به فسيولوجيًّا يقسم قسمين كما تقسم الحياة قسمين كذلك: حسًّا حيوانيًّا للحياة الحيوانية، وهو يقتضي العلم به، ويسمى حسًّا معلومًا، وحسًّا نباتيًّا للحياة النباتية؛ كحس المعدة والقلب والأوعية الشعرية وسائر أعضاء الحياة الآلية، ويسمى حسًّا غير معلوم.

ومن هذا القبيل أيضًا حركات أوراق السنط الحساس وغيره من جوارح النبات التي تقتنص الذباب وتهضمه في أوراقها الملتفة عليه وتغتذي به، فهذا الحس ليس فيه شيء من الإدراك، وهو بعيد عما يتبادر من معناه إلى الذهن، فإذا صح أن يسمى هذا النوع من التأثر حسًّا؛ جاز لنا مع مراعاة النسبة أن نتوسع ونقول: إن المادة تحس؛ لأن نسبة تأثرات قضيب معدني إلى حس النبات السافل ليست أبعد من نسبة حس هذا النبات إلى حس الإنسان.

ثم إذا أطلقنا الحس على الحيوان والنبات وجب أن نطلقه على كليهما لا على بعضهما، ولا يخفى ما بين أنواعهما من المباينة في إبداء دلائل الحس، ولا يخفى كذلك صعوبة التمييز بين عالم وعالم من العوالم الثلاثة، بحيث تعتبر آفاقها مختلطة، قال الطبيب في المقالة المذكورة آنفًا: «والحاصل أن كثيرًا من العلماء يرون أن الكائنات متداخلة بعضها في بعض، فلا توجد حدود حقيقية فاصلة بينها؛ لأن أدنى مراتب النبات والحيوان متصلة ببعض مراتب الجماد.» وكيف لا توجد «حدود حقيقية» بين عالم الأحياء وعالم الجماد، وتوجد هذه الحدود بين القوى الفاعلة فيهما؟ بل كيف يمكن الاشتباه إن لم تكن القوة فيهما من طبع واحد؟ لعمري إن ذلك غريب.

نقول: ومن عجيب ما ورد في كلام الفلاسفة المتقدمين على هذا الارتباط والارتقاء أيضًا كلام لابن خلدون في مقدمته، قال: «ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن، ثم النبات، ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج: آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات، وآخر أفق النبات متصل بأول أفق الحيوان. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده، واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية.» ا.ﻫ. والحاصل أن المسافة البعيدة التي كان يزعم أنها تفصل الحياة عن سائر قوى الطبيعة فصلًا مطلقًا لم يبق منها اليوم سوى فرق جزئي لا يصح أن يعتبر كذلك، إلا أن ذلك يدعو إلى النظر في مسألة أخرى ربما كانت من أكثر المسائل إشكالًا على الطبيعي، وهي التولد الذاتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤