الفصل الثالث

في المادة الحية أو البروتوبلاسما

أولُ من قال بمادة أولى حية الفيلسوفُ الألمانيُّ «أوكن»، وسماها أورشليم من الألمانية، وقوله بها كان من باب الفرض، وكاد قوله يضعف لمناقضة الميكروغرافي أهرنبرغ له، لولا أن دوجاردن الطبيعي الفرنسوي بيَّن أن في الحيوان مادة مؤلفة من حبيبات متجانسة أطلق عليها اسم السر كود، ثم عرف النباتيون وجود مادة في خليات النبات شبيهة بالسر كود، وسماها فون موهل بروتوبلاسما، وقد بيَّن المشرح الألماني مكس شلتز وحدة السر كود والبروتوبلاسما، ثم تغلب اسم البروتوبلاسما في العلم لما في معناه من المناسبة؛ إذ معناه: المكون الأول.

ثم علم من التشريح أن جوهر الحياة غير قائم بالأنسجة والأجهزة وما أشبه؛ لأنها غير لازمة لها، وإن تكن مما يؤثر فيها، بل في هذه البروتوبلاسما العرية عن كل صورة، وعن كل بناء معين، فهي لا جامد ولا سائل، بل بينهما متجانسة كزلال البيض، ومركبة مثله من كربون وهيدروجين وأزوت وأكسجين، وقليل من الكبريت، ومواد أخرى معدنية. وهذا الأمر مهم جدًّا، فإن المادة الحية ليست بسيطة، بل مركبة من عناصر كيماوية بمقادير معينة، وزد على ذلك أنها شبيهة بصنف من المركبات يعرف بالمركبات الزلالية. وهذه لا شيء يحملنا على اعتبارها من طبيعة غير طبيعة سائر المركبات الكيماوية الاعتيادية، ومن ثم يعرض لنا سؤال مهم، وهو: هل يستطاع توليد البروتوبلاسما، ومن ثم خلق الحياة كيماويًّا؟

ويجب التمييز بين توليد البروتوبلاسما كيماويًّا والتولد الذاتي كما يفهم عادة؛ فليس المراد هنا توليد إحياء مركبة وإن كانت صغيرة جدًّا، ولا تكوين عنصر تشريحي مهما كان بسيطًا، وما يطلب من الكيماوي أن يصنعه إنما هو هذه المادة المتجانسة البسيطة التي يظهر أن الحياة كائنة فيها. وفي بادئ الرأي لا يظهر هذا الأمر غريبًا؛ لأن امتحانات باستور لا تطلق على البروتوبلاسما الحرة العرية عن كل صورة، والخالصة من كل صفة موروثة فيها، ولكن على الخمير وأنواع النقاعيات، وهي أجسام حية مركبة ذات تكوين معين، وصفات قديمة موروثة؛ أي على الأحياء لا على المادة الحية نفسها.

أما هذه المادة فغاية ما يعلم أن المركبات الكيماوية التي تنحل هي إليها بعد فقدها الحياة لا تستطيع أن تركبها من نفسها. وهذا ليس خاصًّا بها وحدها، بل يطلق على سائر المركبات الكيماوية؛ فإن الماء إذا انحل إلى عنصريه الأكسجين والهيدروجين، فعنصراه لا يتحدان ولا يركبان ماءً إن لم يلهبا بشرارة كهربائية أو غيرها، فليس فيما تقدم ما ينتقض به أصل البروتوبلاسما الكيماوي وتولدها الذاتي.

وعدم إمكان تركيبها كيماويًّا حتى الآن لا يفيد شيئًا كذلك ضد هذا الأصل؛ لأن المواد الزلالية تعتبر كسائر المركبات الكيماوية، مع أن الكيمياء لم يتيسر لها تركيبها للآن، إلا أنه لا يقطع باستحالة ذلك عليها بناءً على ما تم لها تركيبه بالكيمياء النموذجية، وربما لا يطول الأمر حتى يتم لها ذلك، إلا أن البروتوبلاسما وإن كانت مركبة كسائر المواد الألبيومينية فهي تختلف عنها اختلافًا كبيرًا؛ لأنها عرضة لتغير سريع مع حفظ تركيبها كما هو، بخلاف هذه المركبات؛ فإن تركيبها الكيماوي لا يعود لها ولو لم يتغير إلا قليلًا؛ أي إنها تمتاز عنها بالتغذية.

وهي ليست قائمة بنمو بسيط، وإلا لم يكن فرق بينها وبين البلورات، فإن البلورة إذا وضعت في سائل مشبع من محلول مادتها تنمو كذلك، وتشبه في نموها نمو البروتوبلاسما شبهًا ظاهريًّا، ولكن عند تدقيق النظر يرى أن هذا النمو فيها يتم على نوعين مختلفين؛ فالبلورة إنما تنمو بجذب دقائق تركيبها الكيماوي كتركيبها، وبوضعها على سطحها.

وأما البروتوبلاسما فتجذب إليها — غالبًا — مواد مختلفة عنها، فتحلها ممثلة بعضها، ونابذة البعض الآخر، ومتغيرة في حدود معلومة تغيرات كلية؛ فإن تركيبها التشريحي والكيماوي يظهر أنه واحد في جميع بيوض الحيوان، وهي مع ذلك تولد هنا إسفنجًا، وهناك سمكة، ومرة ضفدعًا، وأخرى حيوانًا آخر.

وتمتاز عن البلورات كذلك بنموها المحدود؛ فإن البلورة لا حدَّ لنمو حجمها بخلاف البروتوبلاسما، فكل كتلة بلغت منها بعض أعشار الميليمتر تنقسم من ذاتها إلى كتلتين أو أكثر، وتؤلف الجسيمات الصغيرة المعروفة بالخليات، فلو لم يكن في البروتوبلاسما قوة تفعل في ظاهرها كما تفعل في باطنها لم يكن مثل هذا الانقسام والتغير والتحديد فيها ممكنًا، ولكان نموها لا يفرق عن نمو البلورات، فالبروتوبلاسما تختلف إذن عن سائر المركبات الكيماوية من حيث اختصاصها بالتغذية والنمو والانقسام والتوالد اختلافًا كبيرًا.

وبهذه الخصائص تختلف أيضًا عن المواد الزلالية، ولذلك ربما لم تستطع الكيمياء خلق الحياة وإن استطاعت اصطناع أشد المواد الزلالية اختلاطًا، ولا سيما إذا صح أن البروتوبلاسما متجانسة، على أن من يذهب إلى أن الحياة نتيجة التعضي ربما أنكر على البروتوبلاسما تجانسها، وقال: ربما كان عدم تحققنا تعضيها ناشئًا عن ضعف الآلات البصرية المكبرة لا عن عدم الشيء بنفسه، فالجواب على ذلك ربما لم يكن صعبًا، وهو: لا يخفى أن العين المجردة تبصر أشياء ليس لها من الغلظ سوى جزء من مائة جزء من الميليمتر قطرًا؛ كوبر الجلد، وخيطان بعض أنواع الرتيلاء، وأقوى ما لنا من المناظير يرينا أشياء أصغر من ذلك بألفي مرة؛ أي مما قطره ليس إلا جزءًا من مائتي جزء من الألف، أو خمسة ملايين جزء من الميليمتر، فإذا أمكن معرفة المسافات التي تفصل بين دقائق الأجسام ومعرفة هذه الدقائق هان علينا حل هذه المسألة.

وقد توصلوا إلى ذلك بطرق مختلفة، فلوشميدت عيَّن قطر الدقائق من النسبة بين كثافة غاز وسائله الناتج عن تكثفه، ووندرولس من الفرق بين قابلية الغازات الحقيقية للانضغاط وقابليتها النظرية لذلك، كما في ناموس مريوط، وطمسن من درس طبيعة النور في أبواق الصابون، وكلهم اتصلوا بهذه الطرق إلى نتائج تكاد تكون واحدة،١ ولا يفرق بعضها عن بعض إلا بكسر من المليون من الميليمتر، وذلك أقل قليلًا من حجم أصغر الأجزاء المنظورة بأقوى تكبير ميكروسكوبي، ثم إن المواد الألبيومينية٢ تعتبر بإجماع الكيماويين من المركبات التي دقائقها ذات حجم من أكبر الحجوم، فلو كانت هذه الدقائق مركبة فيها تركيبًا مختلطًا كالأنسجة التشريحية لما خفي ذلك علينا، وبما أن البروتوبلاسما تعتبر في طبعها كالمواد المذكورة كانت تعتبر متجانسة نظيرها طالما لا يعرف عنها ما ينقض ذلك، ثم إن كان المراد بالتعضي ترتيب أجزاء متماثلة أو مختلفة ترتيبًا خاصًّا معينًا، فالأولى أن يطلق على المركبات الأخرى الكيماوية لا على البروتوبلاسما؛ فإن دقائق تلك المركبات مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا شديدًا يجعلها أثبت من البروتوبلاسما المتغيرة على الدوام، والتي تمتاز عن سواها من المركبات بعدم ثبات تركيبها، وإذا اعتبرنا أن أقرب المركبات المذكورة إلى البروتوبلاسما ما كان منها أقل ثباتًا من غيره؛ جاز لنا حينئذٍ أن نعتبر مثل هذه المركبات الفاقدة كل ثباتٍ الحلقة المتوسطة بين الجماد والحي، فإنها تختلف عن الجماد بعدم ثباتها، وعن الحي بعدم اقتدارها على استرداد تركيبها مع هذا التغير، بخلاف البروتوبلاسما — كما تقدم — فإن تركيبها الكيماوي يتغير على الدوام مع بقاء صفاتها الحية، كأنها الزوابع التي تتكون في مجاري المياه وفي البحار؛ فإنها تحفظ ذاتها زمانًا طويلًا مع تغير دقائقها دائمًا.

وقد انتبه الفيزيولوجيون إلى هذه المشابهة منذ زمان طويل، فكوفيه شبَّه الحي بهذه الحلقات الزوبعية، وهكسلي يشبه بها كذلك إشارة إلى بقاء الحي على صورته مع تجدد أجزائه. وصحة هذا التشبيه أكثر ظهورًا في البروتوبلاسما نظرًا لبساطتها بالنسبة إلى الحي المركب من أعضاء وأنسجة مختلفة؛ فليس في مادتها سوى تركيب كيماوي فقط، وهي مع ذلك مقر لحركة خاصة تتناول من الخارج دقائق تحفظها في جوهر مادتها مدة معلومة ثم تنبذها وتأخذ غيرها، وهكذا كما تفعل الحلقات الزوبعية المذكورة. وبهذه الحركة تمتاز حقيقة البروتوبلاسما الحية عن المواد الألبيومينية وسائر المركبات الكيماوية، فالحياة البروتوبلاسما نفسها، بل الحركة التي تحركها.

بقي علينا أن نعرف طبيعة هذه الحركة؛ فقد تقدم أن الطبيعيين والكيماويين كانوا في أوائل هذا القرن يحسبون القوى أنيات مستقلة بعضها عن بعض، ثم تحققوا بعد البحث أنها ليست سوى استحالات قوة واحدة هي الحركة، وجواهر المادة — كما يتحصل من مباحث طمسن التي مال إليها مشاهير علماء الكيمياء كورتز وغيره — ليست سوى زوابع في الهيولي وجميع ظواهر الجاذبية والألفة ناشئة عن استحالات الحركة، وكل شكل من الحركة يولد نظيره، فإذا صدم جسم جسمًا آخر تحرَّك الجسم المُصطَدَم بحركة الجسم الصادم، فالجسم السخن يسخن الأجسام التي حوله، والمنير ينيرها، والمكهرب يكهربها.

وتحويل هذه القوى بعضها إلى بعض لا يخفى على أهل العلم، ولا يخفى عليهم أن هذه الحركات كلما تركبت عسر تحويلها، ويعلمون كذلك أن هذه الحركات لا تتلاشى. وقد تحقق بالبرهان كما بيَّن هلمهلتز وطمسن أن الحلقات الزوبعية التي يشبهون بها الجواهر الفردة أبدية أزلية لا تقبل القسمة. ومعلوم أن الجواهر الفردة كالحلقات الزوبعية المنتشرة في السائل المتكونة فيه حركات في هذا السائل، لا أنها أجزاؤه نفسها، فذاتيتها قائمة بهذه الحركات، إلا أنه لا يُعلَم إذا كانت أجزاء الهيولي التي تؤلف الجوهر الفرد لا تتجدد دائمًا؛ لأن هذه الأجزاء لا تظهر لنا إلا بعد دخولها في الزوبعة، فإذا كان ذلك فالأجسام لا توجد إلا بنوع من التغذية شبيه بما يحصل بالبروتوبلاسما.

ومهما يكن من ذلك، فإننا نرى بهذا المثل أن الحركة في الهيولي تولد ذوات حقيقية ثابتة يفعل بعضها في بعض، متغيرة إلى ما لا حد له بدون أن تفقد استقلالها، مُظهِرةً بدوام نوع اهتزازاتها أنها تحفظ نوعًا من الذكرى لما يؤثر فيها. نعم، إن ذلك ليس الحياة كما يراد بها، إلا أن معرفتنا بأن صور الحركة كلما تركبت واختلطت كونت أجسامًا تقترب أكثر فأكثر من الأحياء لا تكون بدون فائدة.

لنفرض أن حركات متشابهة أو مختلطة تتناول بعض الزوابع المتكونة في الهيولي وتركبها عوضًا عن أن تتناول الهيولي نفسها، فإن هذه الزوابع لا تبقى على حالها؛ لأن اشتراك الحركات حينئذٍ لا يحدث عنه نفس الحركات؛ أي إنه لا يتولد عن تركب الزوابع أو الجواهر نفس هذه الجواهر، بل ينشأ عنها كائنات أخرى مختلفة عن الدقائق التي تؤلفها ذات حجوم معينة على الدوام بدون أن تفقد جوهرها، حافظة فيها نوعًا من الذكرى للتأثيرات السابقة الطارئة عليها، أي إنه ينشأ عنها أنواع البروتوبلاسما.

فإذا كانت أنواع البروتوبلاسما قد تكونت من هذه الحركة في أول الأمر كما تكونت العناصر، فربما لم يكن تكونها كيماويًّا أو بفعل الطبيعة ممكنًا اليوم كعدم إمكان ذلك في العناصر، وربما كانت أنواعها المتولدة في هذا الطور متعددة كما أن العناصر متعددة، إلا أن ذلك لا يجعل الحياة من مصدر آخر غير مصدر القوى الطبيعية؛ فالحياة كسائر القوى نوع من الحركة، وبهذا الاعتبار يجوز أن يقال: قوة حيوية، كما يقال: ألفة كيماوية إلا أنها غير القوة الحيوية للحيويين، فهي هنا خلاف لتلك كسائر أنواع الحركة خاضعة لناموس الميكانيكيات، وهي للبروتوبلاسما كالألفة للمعادن ذات أفعال معينة تضاف إلى القوى الطبيعية، لا أنها تعرض على المادة فتبطل فعل هذه القوى منها، وعليه فإن كان المراد بمذهب النشوء تولد حي من لا حي بفعل القوى الطبيعية المنتشرة في العالم؛ فهذا يصعب نقضه، وهو كائن بالبروتوبلاسما، وإلا فإن كان المراد به حصول التولد الذاتي اليوم، فربما لم يكن ذلك ممتنعًا، إلا أنه غير ضروري لمذهب النشوء.

وأما بعد ذلك فكوفيه صاحب ثبوت الأنواع، وهكسلي صاحب تغيرها إلى ما لا حد له يلتقيان عند هذه النقطة، وهي «كل حي من حي». وتوجد اليوم أيضًا في البحار والمياه العذبة حتى الأرض الندية كائنات بسيطة تعد من أقرب الصور الحية إلى الصور الأصلية كالمونير والباثيبيوس والبروتوباسيبيوس وأشباهها، على أن الآراء في التولد الذاتي مهما اختلفت فإنها متفقة على حصول ذلك بقوى الطبيعة؛ أي بالنشوء كما تكونت سائر العوالم بالنشوء أيضًا.

والعقل لا يأبى ذلك، ولا سيما بعد أن مهد العلم له سبيل القول بوحدة الكون بما قرره من الارتباط بين العوالم، ولا يرى فيه ما يحط بشأن الخالق عند المؤمن، خلافًا لما يظن أن كل ما خالف ما قام في مخيلته هو جهل وبطلان وضلال وبهتان. وهذه دعوى لا يقولها إلا مثل من لا يرى العلم إلا في تخريفه. سئل أحد كبار العلماء والفلاسفة المؤمنين: ما قولك في مذهب دارون؟ وكيف نصنع معه بخلق الأنواع؟ فقال: «إذا كان الذي يصنع ساعة يعد عظيمًا، فلا شك أن الذي يصنع ساعة تصنع ساعة يكون أعظم أيضًا.» ا.ﻫ.

١  المباحث المتعلقة بذلك مبسوطة جيدًا في كتاب الرأي الجوهري للعلامة أدولف ورتز الكيماوي الشهير، صفحة ٢٣٤.
٢  تركيب الألبيومن حسب ليبركهن من كربون ٢٤٠، هيدروجين ٢٩٢، أزوت ٧٥، أكسجين ٧٥، كبريت ٣، أي إن كل دقيقة من الألبيومن مؤلفة من ٧٨٥ جوهرًا فردًا من عناصر مختلفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤