مقدمة المترجمة
قبَّلتُ فجر الصيف
«سنرى مئاتٍ من الرجال يرفضون مغادرةَ أرصفة شوارعهم، يتجاهلون الحي المجاور الذي يحتضر، وينتظرون بلا حراك مواصلةَ حصار العدو لهم.»
… في شرائط مصوَّرة
«كومونة باريس في شرائط مصوَّرة» كتابٌ لا يتوجَّه إلى خلفاء فرساي ولا إلى المؤرخِين المتخصصِين، كتابٌ يذكِّرني بطفولتي ومراهقتي: اسكتشات الرسم التي كنتُ أستخدمها كدفتر فني تتحاور فيه الصور مع كلماتٍ وتعليقاتٍ «تعليقاتٍ تضيء الوجوه» ورسوماتٍ متنوِّعة، تُحدِّث مَن لم يسمع عن الكومونة، أو هي بالنسبة له حدَث غامض، قرأ عنه بضع جُمل متناثرة.
لهذه الصورة التي ألصقتها على حوائط باريس تاريخٌ طويل
حكاياتٌ متناثرة عن كومونة باريس، أول ثورة اشتراكية في العصر الحديث، يسردها والدي — أو أقرأ عنها — مع حكايات ثورات أخرى، أسترجعها مع ما تسرده لي «... شرائط مصوَّرة» في كتاب صدر عام ۱۹۷۸م لبرنار فيسك.
۱۹۷۸م، السبعينيات، قصيدة النثر ورامبو؛ رامبو والكومونة. ملصق رامبو في جادة سان ميشيل يلازمني صورة عبر أو خارج الزمن التقطها إتيين كارجا، واستخدمها إرنست بينيون إرنست لتلازمني — مثله — «منذ مراهقتي» إلى اليوم. إلى اليوم. فما أشبه اليوم بالبارحة!
ماذا بقي من كومونة باريس؟
يتساءل كريستوف فوايو في لوموند ديبلوماتيك (ديسمبر ۲۰۱۱م): «ماذا بقي من كومونة باريس؟» بقي ما رأيته منذ أول يوم في ثورة ٢٥ يناير ۲۰۱۱م وأراه الآن «... رجال يرفضون مغادرةَ أرصفة شوارعهم»، ويؤكِّدون — مثل الدائرة السابعة خلال الكومونة» على الطابع الإلزامي والقابل للخلع لعملية التفويض.
اثنان وسبعون يومًا
اثنان وسبعون يومًا استولت الكومونة خلالها على السلطة في باريس اعتبارًا من مارس ۱۸۷۱م، من أجل بناء مجتمع جمهوري جديد يقوم على فكرة حكم الشعب بنفسه، الفيدرالية بين المقاطعات وانتخاب المسئولين والموظفين؛ يوفِّر الحرية الشخصية وحرية العمل، ويشرك المواطنين مباشرةً في إدارة الكومونة، وانتخاب قادة الحرس الوطني.
الحق في التمرُّد (وكأنها تحادثني الآن)
بعد أيام من انتخاب أعضاء الكومونة التسعين على أساس الاقتراع العام، تولَّت اللجنة المركزية مسئولية إدارة المرحلة الانتقالية فأعلنت موعد انتخابات مجلس البلدية وألغت الأحكامَ العرفية، كما حلَّت المجالس العسكرية، ومنحت العفوَ لكل المحكومين السياسيين وحرَّرتهم من السجون. ساهم في دعم اللجنة المركزية العمال الذين قُمعوا في انتفاضة عام ١٨٤٨م، وأعطوا الانتفاضةَ توجُّهها الاجتماعي، وطابعها الاشتراكي والديمقراطي على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لم ترغب اللجنة المركزية في اتخاذ أي تدابير عسكرية أو إشعال حرب أهلية، لكنها لم تستطِع تحقيقَ المصالحة بين الشعب المنتفِض والبورجوازية التي تجمَّعت رموزها في حكومة فرساي، ودَعت الفرنسيِّين إلى مقاتلة ثوار الكومونة الذين أسمتهم «المجرمين».
إبداع يومي ومشاركة نسائية غير مسبوقة
لم تترسَّب في ذاكرتي أيُّ معلومة عن مشاركة النساء في الكومونة. وخلال ترجمتي للكتاب فوجئت بدورهن فيها وبعددهن من الكبير، وتذكَّرت الشهيدة سالي زهران، وصور شهيدات مجهولات، وأمهات وأخوات وزوجات شهداء ومصابين. لم يسعف الوقتُ الكومونة كي تحصل النساء على حق الاقتراع، وما زال وقتنا ينتمي لقرون سحيقة تتهاون مع كشوف العذرية والاغتصاب والتحرُّش والختان. دروس الكومونة وثورة ٢٥ يناير كثيرة، لكن ارتباط تحرُّر الشعب بتحرُّر المرأة، من أهمِّها بالنسبة لي.
«الأسبوع الدامي» وأسابيعنا الدامية
هجم جيش الجمعية التأسيسية في فرساي على باريس، قُمعت الثورة بشكل دموي على يد تيير، فأعدم ٣٠ ألف متمرد، منهم ٣٥٠٠ رميًا بالرصاص في باريس بدون محاكمة. ٤٠ ألفًا حُكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبَّدة، و ۱۰۱۳۷ شخصًا بالسَّجن، منهم ٦٥٧ طفلًا. أما نحن، فمنذ ٢٥ يناير ۲۰۱۱م وأرقام الشهداء والمصابين والمعتقلين لا تكفُّ عن الارتفاع: ٢١٥ شهيدًا وأكثر من ٧٦٥٠ مصابًا خلال فترة المجلس العسكري؛ ١٥٤ شهيدًا في عهد مرسي. دون ذكر المصابين والمعتقلين (الأرقام منقولة عن الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان).
وكأنَّ رامبو معنا
«الماء كان ميتًا، ومعسكرات الظلال لم تكن تترك طريقَ الغابة». هذا ما كان عليه الحال قبل ٢٥ يناير ۲۰۱۱م مع أغلبنا، لكنه الآن لم يَعُد كذلك؛ فقد قال المصريون، مثلما قال الكومونيون، إنهم يملكون خيارًا ثالثًا غير ما يقترحه عليهم أصحاب المصالح الحاكمة.
توقَّف الكومونيون فى منتصف الطريق، فأين سنتوقَّف نحن؟ هذا ما ستجيب عنه حوليات صيف ۲۰۱۳م.
م. الجديدة يوليو ٢٠١٣م