مضجع العروس١

خرج العريس والعروس من الهيكل يتبعهما المهنئون الفارحون وتتقدمهما الشموع والمصابيح، ويسير حولهما الفتيان المترنِّمون بالأهازيج والصبايا المنشدات أغاني السرور.

بلغ الموكب منزل العريس المزدان بالرياش الثمينة والأواني المتلمعة والرياحين العطرة فاعتلى العروسان مقعدًا مرتفعًا وجلس المدعوون على الطنافس الحريرية والكراسي المخملية حتى غُصت تلك القاعة الوسيعة بأشكال الناس. وسعى الخدام بآنية الشراب فتصاعدت رنات الكؤوس متآلفة مع هتاف الغبطة، ثم جاء الموسيقيون وجلسوا يسكرون النفوس بأنفاسهم السحرية ويبطنون الصدور بألحانهم المنسوجة مع همس أوتار العود وتنهيدات الناس وحفيف الدفوف.

ثم قامت الصبايا يرقصن ويتمايلن بقامات تلاحق مقاطيع اللحن مثلما تتابع الأغصان اللينة مجاري هبوب النسيم، وتنثني طيات أثوابهن الناعمة كأنها سحب بيضاء يداعبها شعاع القمر، فشخصت إليهن الأبصار وسجدت لهن الرؤوس وعانقتهن أرواح الفتيان وتفطرت لجمالهن مرائر الشيوخ، ثم مال الجميع يستزيدون من الشراب ويغمرون أميالهم بالخمور، فنمت الحركة وعلت الأصوات وسادت الحرية وتوارت الرزانة وتضعضعت الأدمغة وتلهَّبَتِ النفوس واضطربت القلوب وأصبح ذلك المنزل بكل ما فيه كقيثارة مقطعة الأوتار في يد جِنِّيَّةٍ غير منظورة تضرب عليها بعنف وتولد منها أنغامًا جامعة بين التناسق والالتباس، فهنا فتى يبوحُ بسرائر حبه لفتاة أولاها الجمال تيهًا ودلالًا، وهناك شاب يستعد لمحادثة حسناء مستحضرًا إلى حافظته أعذب الألفاظ وأرق المعاني، وهنالك كهل يجرع الكأس وراء الكأس ويطلب بلجاجة إلى المنشدين إعادة أغنية ذكرته بأيام صبابته، في هذه القرنة امرأة تغامز بأطراف أجفانها رجلًا ينظر بمودة إلى سواها، وفي تلك الزاوية سيدة قد بَيَّضَ الشيب مفرَقها تنظر مبتسمة نحو الصبايا لتنتقي منهنَّ عروسة لوحيدها، وبجانب تلك النافذة زوجة قد اتحذت سُكْرَ حليلها فرصة فاقتربت من خليلها وجميعهم غارقون في بحر من الخمر والغزل مستسلمون إلى تيار الغِبطة والسرور متناسون حوادث الأمس منصرفون عن مآتي الغد منعكفون على استثمار دقائق الحاضر.

كان يجري كل ذلك والعروس الجميلة تنظر بعينين كئيبتين إلى هذا المشهد مثلما ينظر الأسير اليائس إلى جدران سجنه السوداء. وتتلفت بين الآونة والأخرى نحو زاوية من زوايا تلك القاعة حيث جلس فتى في العشرين من عمره منفردًا عن الناس المغبوطين انفراد الطائر الجريح عن سربه، مكبلًا زنديه على صدره كأنه يحول بهما بين قلبه والفرار محدقًا بشيء غير منظور في فضاء تلك القاعة كأن ذاته المعنوية قد انفصلت عن ذاته الحسية وسبحت في الخلاء متبعة أشباح الدجى.

انتصف الليلُ وتعاظمت غبطة الجماعة حتى صارت ثورة، واختمرت أدمغتهم حتى تلجلجت ألسنتهم، فقام العريس من مكانه وهو كهل خشن المظاهر وقد تغلب السكر على حواسه وطاف يتكلف اللطف والرقة بين الناس.

في تلك الدقيقة أومأت العروس إلى صبية أن تقترب منها فاقتربت وجلست بجانبها وبعد أن تلفتت العروس إلى كل ناحية تلفُّت جازع يريد أن يفشي سرًّا خفيًّا هائلا لزَّت إلى الصبية وهمست في أذنها هذه الكلمات بصوت مرتعش: «أستحلفك يا رفيقتي بالعواطف التي ضمت نفسينا مذ كنا صغيرتين، أستحلفك بكل ما هو عزيز لديك في هذه الحياة، أستحلفك بمخبآت صدرك، استحلفك بالحب الذي يلامس أرواحنا ويجعلها شعاعًا، أستحلفكِ بأفراح قلبكِ وأوجاع قلبي أن تذهبي الآن إلى سليم وتطلبي إليه أن ينزل خفية إلى الحديقة وينتظرني هناك بين أشجار الصفصاف، تضرعي عني يا سوسان حتى يجيب طلبي، ذكريه بالأيام الغابرة، توسلي إليه باسم الحب، قولي له هي تعسة عمياء، قولي هي مائتة تريد أن تفتح قلبها أمامك قبل أن يكتنفها الظلام، قولي له هي هالكة شقية تريد أن ترى نور عينيك قبل أن تختطفها نار الجحيم، قولي له هي خاطئة تريد أن تعترف بذنوبها وتلتمس عفوك، أسرعي إليه وابتهلي عني أمامه ولا تخافي مراقبة هؤلاء الخنازير لأن الخمور قد سَدَّتْ آذانهم وأعمت بصائرهم.»

فقامت سوسان من جانب العروس وجلست بقرب سليم الكئيب المنفرد وحده وأخذت تستعطفه هامسة في أذنه كلمات رفيقتها ودلائل الود والإخلاص بادية على ملامحها وهو منحني الرأس يسمع ولا يجيب ببِنْتِ شَفَةٍ، حتى إذا ما انتهت من كلامها نظرت إليها نظرة ظامئٍ يرى الكأس في قبة الفلك وبصوت منخفض تخاله آتيًا من أعماق الأرض أجابها قائلًا: «سوف أنتظرها في الحديقة بين أشجار الصفصاف.»

قال هذه الكلمات وقام من مكانه وخرج إلى الحديقة ولم تَمْضِ بضع دقائق حتى قامت العروس واتبعته مختلسة خطواتها بين رجال فتنتهم ابنة الكروم ونساء أشغلت قلوبهن صبابة الفتيان. ولما بلغت الحديقة المُوَشَّاةَ بأثواب الليل أسرعت ملتفتة إلى الوراء، ومثل غزال جازع هارب إلى كناسه من الذئاب الخاطفة تقدمت نحو أشجار الصفصاف حيث وقف ذلك الفتى، ولما رأت نفسها بجانبه ترامت عليه وطوقت عنقه بزنديها وأحدقت بعينيه ثم قالت والألفاظ تتسارع من شفتيها بسرعة الدموع من أجفانها: «اسمعني يا حبيبي، اسمعنى جيدًا، ها قد ندمت على جهالتي وتسرعي، قد ندمت يا سليم حتى سحقت الندامة كبدي، أنا أحبك ولا أحب سواك وسوف أحبك إلى منتهى العمر، قد أخبروني بأنك سلوتني وهجرتني وتعلقت بهوى غيري أخبروني بكل ذلك يا سليم وسمَّمُوا قلبي بألسنتهم ومزقوا صدري بأظافرهم وملأوا نفسي بكذبهم. قد أخبرتني نجيبة بأنك سلوتني وكرهتني وانشغفت بحبها، قد ظلمتني تلك الخبيثة واحتالت على عواطفي لكي أرضى بنسيبها عريسًا فرضيته يا سليم ولا عريس لي سواك. والآن، والآن قد رُفع الغشاء عن عيني فجئت إليك، قد خرجت من هذا المنزل ولن أعود إليه، قد جئت لكي أضمك بذراعي ولا توجد قوة في هذا العالم ترجعني إلى ذراعي الرجل الذي زففت إليه كرهًا ويأسًا، قد تركت العريس الذي اختاره لي الكذب بعلًا، وتركت الوالد الذي أقامه القدر وليًّا، وتركت الزهور التي ضفرها الكاهن إكليلًا، وتركت الشرائع التي حبكتها التقاليد قيودًا، قد تركت كل شيء في هذا المنزل المملوء بالسُّكْرِ والخلاعة وأتيت لأتبعك إلى أرض بعيدة، إلى أقاصي العالم، إلى مكامن الجن، إلى قبضة الموت. تعالَ نسرع يا سليم من هذا المكان متسترين بوشاح الليل، هلم نسير إلى الساحل ونركب سفينة تحملنا إلى بلاد بعيدة مجهولة، تعال نمشي الآن فلا يجيء الفجر إلا ونحن في مأمن من أيدي العدو. انظر، انظر هذه الحلي الذهبية، وهذه القلائد والخواتم الثمينة، وهذه الجواهر النفيسة، فهي تكفل مستقبلنا وتكفي لنعيش بأثمانها كالأمراء، لماذا لا تتكلم يا سليم؟ لماذا لا تنظر إليَّ؟ لماذا لا تُقَبِّلُنِي؟ أسامع أنت صراخ قلبي وعويل نفسى؟ ألا تصدق بأني هجرت عريسي وأبي وأمي وجئت بأثواب العرس لكي أهرب معك؟ تكلم أو هلمَّ نسرع فهذه الدقائق أثمن من حبات الألماس وأغلى من تيجان الملوك.»

كانت العروس تتكلم وفي صوتها نغمة أعذب من همس الحياة وأَمَرُّ من عويل الموت وألطف من حفيف الأجنحة وأعمق من أنين الأمواج، نغمة تتموج نبضاتها بين اليأس والأمل، واللذة والألم، والفرح والشقاء، وكل ما في صدر الامرأة من الميول والعواطف.

أما الشاب فكان يسمع وفي داخل نفسه يتصارع الحب والشرف، ذلك الحب الذي يجعل الوعر سهلًا، والظلام نورًا، وذلك الشرف الذي يقف أمام النفس، ويثنيها عن رغائبها ومنازعها. ذلك الحب الذي ينزله الله على القلب، وذلك الشرف الذي تسكبه تقاليد البشر في الدماغ.

وبعد أحيان خرساء هائلة شبيهة بالأجيال المظلمة التي تتمايل فيها الأمم بين النهوض والاضمحلال، رفع الشاب رأسه وقد تَغَلَّبَ شَرَفُ نَفْسِهِ على مَيْلِهَا وحول عينيه عن الصبية الخائفة المترقبة وقال بهدوء: «ارجعي أيتها الامرأة إلى ذراعي عريسك فقد قُضي الأمر ومحت اليقظة ما صوَّرته الأحلام. أسرعي إلى أحضان المسرات قبل أن تراك أعين الرقباء فيقول الناسُ قد خانت عريسها في ليلة العرس مثلما خانت حبيبها أيام البعاد.»

فارتعشت العروس لهذه الكلمات وتململت كزهرة ذابلة أمام الريح ثم قالت متوجعة: «لا أعود إلى هذا المنزل وبي رمق من الحياة، قد خرجت منه إلى الأبد، قد تركته وكل من فيه مثلما يترك الأسير أرض المنفى، فلا تبعدني عنك ولا تقل بأنني خائنة؛ لأن يد الحب الذي مزجت روحي بروحك هي أقوى من يد الكاهن التي أسلمت جسدي إلى مشيئة العريس، ها قد طوقت ذراعيَّ حول عنقك فلا تحلهما القوات وقربت نفسي إلى نفسك فلا يفرقهما الموت.»

فقال الشاب محاولًا الخلاص من ذراعيها متكلفًا إظهار المقت والاشمئزاز: «ابتعدي عني أيتها المرأة فقد سلوتك، نعم سلوتكِ وكرهتكِ وتعلقت بهوى غيرك، فلم يقل الناس غير الصحيح. هل سمعت ماذا أقول؟ قد سلوتك حتى نسيت وجودك وكرهتك حتى أبت نفسي مرآك فابتعدي عني ودعيني أذهب في سبيلي، وعودي إلى عريسك وكوني له زوجة أمينة.»

فقالت الصبية متفجعة: «لا، لا أصدق كلامك فأنت تحبني وقد قرأت معنى الحب في عينيك وشعرت بملامسه عندما لمست جسدك، أنت تحبني وتحبني وتحبني مثلما أحبك فأنا لا أترك هذا المكان إلا بجانبك ولن أدخل هذا المنزل وفي نفسي بقية من الإرادة، قد جئت لكي أتبعك إلى آخر الأرض فسِرْ أمامي وارفع يدك وأهرق دمي.»

فقال الشاب وقد رفع صوته عن ذي قبل: «اتركيني أيتها الامرأة وإلا صرخت بأعلى صوتي وجمعت في هذه الحديقة أولئك الناس المدعوين إلى أفراح عرسك وأريتُهم عارك وجعلتك مضغة مرة في أحناكهم ومثلًا قبيحًا على ألسنتهم وأوقفت نجيبة التي أحبها قلبي تسخر بك وتبتسم فارحة بانتصارها مستهزئة بانغلابك.»

قال هذا وأمسك بذراعها ليبعدها عنه فتغيرت ملامحها وأبرقت عيناها وتحولت بكليتها من الاستعطاف والرجاء والتوجع إلى الغضب والقساوة وصارت كلبوة فقدت أشبالها أو كبحر أثارت أعماقه الزوابع ثم صرخت: «من هي التي تتمتع بحبك بعدي وأي قلب يسكر بقُبَلِ شفتيك غير قلبي؟!»

لفظت هذه الكلمات وانتشلت من بين أثوابها خنجرًا سنينًا وأغمدته بصدره بسرعة البرق، فهوى وسقط على الأرض كغصن قصفته العاصفة فانحنت فوقه والخنجر في يدها يقطر دمًا، ففتح عينيه المغمورتين بظل الموت وارتعشت شفتاه وخرجت هذه الكلمات مع أنفاسه الضعيفة: «اقتربي الآن يا حبيبتي اقتربي يا ليلى ولا تتركيني، الحياة أضعف من الموت والموت أضعف من الحب، اسمعي اسمعي قهقهة الفارحين بعرسك، اسمعي رنين كؤوسهم يا حبيبتي، لقد أنقذتني يا ليلى من قساوة هذه القهقهة ومرارة تلك الكؤوس فدعيني أُقَبِّل اليد التي كسرت قيودى، قَبِّلِي شفتيَّ، قبلي شفتي اللتين تكلفتا الكذب وأخفتا أسرار قلبي، أغمضي أجفاني الذابلة بأصابعك المغموسة بدمي، وعندما تطير روحي في الفضاء ضعي الخنجر في يميني وقولي لهم قد انتحر يأسًا وحسدًا، قد أحببتك يا ليلى ولم أحب سواك ولكنني رأيت تضحية قلبي وسعادتي وحياتي أفضل من الهرب بك في ليلة عرسك، قبليني يا حبيبة نفسي قبل أن يرى الناس جثتى، قلبيني قبليني يا ليلى.»

ووضع المصروع يده فوق قلبه المطعون ولوى عنقه وفاضت روحه!

فرفعت العروس رأسها والتفتت نحو المنزل وصرخت بصوت هائل: «تعالوا، تعالوا أيها الناس، فهنا العرس وهذا العريس، هلموا لنريكم مضجعنا الناعم، استيقظوا أيها النيام وانتبهوا أيها السكارى وأسرعوا لنريكم أسرار الحب والموت والحياة.»

تموج صراخ العروس في زوايا ذلك المنزل حاملًا كلماتها إلى آذان المحتفلين المغبوطين، فارتعشت أرواحهم، وأَصْغَوْا هنيهة كأن الصحوَ قد باغت نشوتهم، ثم تراكضوا مسرعين من أبواب المنزل ومخارجه وساروا ملتفتين يمينًا وشمالًا حتى إذا ما رأوا جثة المصروع والعروس الجاثية بقربها تَراجَعُوا مذعورين إلى الوراء ولا أحد منهم يجسر على استقصاء الخبر كأن منظر الدماء المنبعثة من صدر القتيل ولمعان الخنجر في يد العروس قد عقد ألسنتهم وأجمد الحياة في أجسادهم.

فالتفتت العروس إليهم وقد اتَّشَحَتْ ملامحها بهيبة محزنة وصرخت قائلة: «اقتربوا أيها الجبناء ولا تخافوا خيال الموت فهو عظيم لا يدنو من صغارتكم، اقتربوا ولا ترتجفوا جزعًا من هذا الخنجر فهو آلة مقدسة لا تلامس أجسادكم القذرة وصدوركم المظلمة، انظروا هذا الفتى الجميل المتسربل بحلة العرس، هو حبيبي وقد قتلته لأنه حبيبي، هو عريسي وأنا عروسته وقد بحثنا فلم نجد مضجعًا يليق بعناقنا في هذا العالم الذي جعلتموه ضيقًا بتقاليدكم ومظلمًا بجهالتكم وفاسدًا بلهاثكم ففضلنا الذهاب إلى ما وراء الغيوم. اقتربوا أيها الضعفاء الخائفون وانظروا لعلكم ترون وجه الله منعكسًا على وجهينا وتسمعون صوته العذب منبثقًا من قلبينا. أين هي تلك المرأة الخبيثة الحسودة التي وشت إليَّ بحبيبي وقالت بأنه شغف بها وسلاني وتعلق بحبها لينساني. قد توهمت تلك الشريرة بأنها ظفرت عندما رفع الكاهن يده فوق رأسي ورأس نسيبها. أين نجيبة المحتالة؟ أين تلك الأفعى الجهنمية؟ دعوها تقترب الآن وترى بأنها قد جمعتكم لتفرحوا بعرس حبيبي وليس بعرس الرجل الذي اختارته لي … أنتم لا تفهمون كلامي، لأن اللُّجَّةَ لا تعي أغاني الكواكب. لكنكم سوف تخبرون أبناءكم عن المرأة التي قتلت حبيبها ليلة عرسها، سوف تذكروني وتلعنوني بشفاهكم الأثيمة، أما أحفادكم فسوف يباركونني لأن الغد سيكون للحق والروح. وأنت أيها الرجل الغبي الذي استخدم الحيلة والمال والخباثة ليصيرني له زوجة، أنت رمز هذه الأمة التعسة التي تبحث عن النور في الظلمة وتترقب خروج الماء من الصخرة وظهور الورد من القطرب، أنت رمز هذه البلاد المستسلمة لغباوتها استسلام الأعمى إلى قائده الأعمى، أنت ممثل الرجولة الكاذبة التي تقطع الأعناق والمعاصم توصلًا إلى العقود والأساور، أنا أغتفر لك صغارتك لأن النفس الفارحة بذهابها من هذا العالم تغتفر جميع زلات هذا العالم.»

حينئذٍ رفعت العروس خنجرها نحو العلاء ونظير ظامئ يقرب حافة الكأس إلى شفتيه أغمدته بعزم في صدرها وهبطت بجانب حبيبها نظير زنبقة قطع عنقها حد المنجل، فتململت النساء وصرخن صراخ الخوف والألم وأغمي على بعضهن وتصاعد ضجيج الرجال من كل ناحية واقتربوا من المصروعَيْنِ بوجل وهيبة.

فنظرت إليهم العروس المنازعة وقالت ونجيع الدماء ينهل بغزارة من صدرها البلوري: «لا تقتربوا أيها العاذلون ولا تفصلوا بين جسدينا، وإن حاولتم فالروح الحائمة فوق رؤوسكم تقبض على أعناقكم وتخنقكم بعنف وقساوة، دعوا هذه الأرض الجائعة تلوك جسدينا لقمة واحدة، دعوها تخفينا وتحمينا في صدرها مثلما تحمي البذور من ثلوج الشتاء حتى يجيء الربيع.»

ولزت العروس إلى حبيبها وألقت شفتيها على شفتيه الباردتين وخرجت هذه الكلمات المتقطعة مع أنفاسها الأخيرة: «انظر يا حبيبي، انظر يا عريس نفسي كيف وقف الحساد حول مضجعنا، انظر عيونهم المحدقة بنا، واسمع صرير أسنانهم وتكسير ضلوعهم، قد انتظرتني طويلًا يا سليم فها أنذا. قد كسرت القيود وفككت السلاسل فلنسرعن نحو الشمس فقد طال وقوفنا في الظل، ها قد امَّحت الرسوم وانحجبت الأشياء فلم أعد أرى سواك يا حبيبي، ها شفتاي فاقتبل أنفاسي الأخيرة، هلم نذهب يا سليم فقد رفع الحب أجنحته وسبح أمامنا نحو دائرة النور.»

وألقت العروس صدرها على صدر حبيبها فامتزجت دماؤها بدمائه وأحنت رأسها على عنقه وظلت عيناها محدقتين بعينيه.

ولبث الناس صامتين هنيهة وقد اصفرَّتْ وجوههم وتراخت ركابهم كأن هيبة الموت قد سلبتهم القوة والحراك.

فتقدم إذ ذاك الكاهن الذي ضفر بتعاليمه أكاليل ذلك العرس وأشار بيمينه نحو القتيلين ونظر نحو القوم المذهولين وخاطبهم بصوت خشن قائلًا: «معلونةٌ هي الأيدي التي تمد إلى هذين الجسدين الملطخين بدماء الجريمة والعار، وملعونة هي الأعين التي تذرف دموع الحزن على هالكين قد حملت الأبالسة روحيهما إلى الجحيم، لتبقَ جثة ابن سادوم وجثة ابنة عمورة مطروحتين على هذا التراب الدنس المجبول بدمائهما حتى تتقاسم لحمانهما الكلاب وتذري عظامهما الرياح. اذهبوا إلى مساكنكم أيها الناس واهربوا من الرائحة المنتنة المتصاعدة من داخل قلبين جبلتهما الخطيئة وسحقتهما الرذيلة، تفرقوا أيها الواقفون بقرب هاتين الجيفتين، وانصرفوا مُسْرِعِينَ قبل أن تلسعكم ألسنة النار الجهنمية ومن يبقَ منكم ههنا يكن محرومًا ومرذولا فلا يدخل الهيكل الذي يركع فيه المؤمنون ولا يشترك بالصلاة التي يقدمها المسيحيون!»

فتقدمت سوسان، تلك الصبية التي بعثتها العروس رسولًا إلى حبيبها، ووقفت أمام الكاهن ونظرت إليه بعينين مغرورقتين بالدموع وقالت بشجاعة: «أنا أبقى هنا أيها الكافر الأعمى وانا أحرسهما حتى يجيء الفجر وأنا أحفر لهما قبرًا تحت هذه الأغصان المتدلية، فإن منعتم عني محفرًا مزقت صدر الأرض بأصابعي، وإن ربطتم ساعدي حفرته بأسناني، أسرعوا من هذا المكان المملوء برائحة البخور واللبان فالخنازير تأبى استنشاق العطور الزكية، واللصوص الخاطفة تهاب رَبَّ البيت وتخشى قدوم الصباح، أسرعوا إلى مضاجعكم المظلمة لأن أغاني الملائكة المتموجة فوق شهيدَيِ الحب لا تدخل آذانكم المسدودة بالتراب.»

وتفرق الناس من أمام وجه الكاهن العبوس ولبثت تلك الصبية واقفة بقرب الجثتين الهامدتين كأنها أم رَقُوبٌ تحرس طفليها في سكينة الليل ولما توارى الجمع وخلا ذلك المكان استسلمت للبكاء والنحيب.

١  هذه حادثة جرت في شمال لبنان في النصف الأخير من الجيل التاسع عشر وقد أخبرتني بها سيدة فاضلة من تلك النواحي، تنتسب الى أحد أشخاص الحكاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤