خليل الكافر

١

كان الشيخ عباس بين سكان تلك القرية المنزوية في شمال لبنان كالأمير بين الرعية، وكان منزله القائم بين أكواخهم الحقيرة يشابه الجبار الواقف بين الأقزام. وكانت معيشته ممتازة عن معيشتهم بميزة السعة عن العوز وأخلاقه مختلفة عن أخلاقهم باختلاف القوة عن الضعف.

إن تكلم الشيخ عباس بين أولئك الفلاحين أحنوا رؤوسهم إعجابا كأن القوى العقلية قد انتدبته ممثلًا لها واتخذت لسانه ترجمانًا عنها، وإن غضب ارتجفوا جزعًا وتبددوا من أمام وجهه مثلما تتراكض أوراق الخريف أمام الأرياح وإن صفع خَدَّ رجل منهم ظل ذلك الرجل جامدًا صامتًا كأن الضربة قد أتت من السماء؛ فمن الكفر أن يتجاسر أو يرفع عينيه ليرى من أنزلها. وإن تبسم لرجل آخر قال الجميع: ما أسعده فتى رضي عنه الشيخ عباس.

ولم يكن استسلام أولئك المساكين إلى الشيخ عباس وخوفهم قساوته صادرين عن ضعفهم وقوته فقط، بل كانا ناتجين عن فقرهم واحتياجهم إليه؛ لأن الحقول التي كانوا يحرثونها والأكواخ التي يسكنونها كانت مِلكَهُ وقد ورثها عن أبيه وجده مثلما ورثوا الفقر والتعاسة من آبائهم وجدودهم، فكانوا يفلحون الأرض ويزرعونها ويحصدونها تحت مراقبته ولا يحصلون لقاء أتعابهم وجهادهم إلا على جزء من الغلة لا يكاد ينقذهم من أظافر الجوع، قد كان أكثرهم يحتاج الخبز قبل انقضاء أيام الشتاء الطويلة فيذهب إليه الواحد بعد الآخر ويتضرع أمامه باكيًا مستعطفًا لكي يقرضه دينارًا أو مكيالًا من الحنطة فكان الشيخ عباس يجيب سؤالهم مسرورًا لعلمه بأنه سيستوفي الدينار دينارين ومكيال الحنطة مكيالين عندما تجيء أيام البيادر والموسم. وهكذا كان يبقى أولئك التعساء مُثْقَلِينَ بديون الشيخ عباس مكبلين بحاجتهم إليه خائفين غضبه طالبين رضاه.

٢

قدم الشتاء بثلوجه وعواصفه وخلت الحقولُ والأودية إلا من الغربان الناعية والأشجار العارية، فلزم سكان تلك القرية أكواخهم بعد أن أشبعوا أهراء الشيخ عباس من الغلة وملأوا آنيته من عصير الكروم وأصبحوا ولا عمل لهم يفنون الحياة بجانب المواقد متذكرين مآتي الأجيال الغابرة مرددين على مسامع بعضهم حكايات الأيام والليالي.

انقضى كانون الأول (دسمبر) وقضى العام العجوز متنهدًا أنفاسه الأخيرة في الفضاء الرمادي وجاءت الليلة التي يتوج فيها الدهر رأس عام الطفل ويُجلسه على عرش الوجود.

توارى النور الضئيل وغمرت الظلمة البطاح والأودية وابتدأت الثلوج تنهمر بغزارة العواصف تصفر وتتسارع ملعلعة من أعالي الجبال نحو المنخفضات حاملة الثلوج لتخزنها في الوهاد فترتعش لهولها الأشجار وتتململ أمامها الأرض فمزجت الأرياح بين ما تساقط من الثلج في ذلك النهار والساقط منه في تلك الليلة حتى أصبحت الحقول والطلول والممرات كصفحة واحدة بيضاء يكتب عليها الموت سطورًا مبهمة ثم يمحوها، وفصل الضباب بين القرى المنثورة على كتفي الوادي وتوارت الأنوار الضئيلة التي كانت تشعشع في نوافذ البيوت والأكواخ الحقيرة، وقبضت الرعبة على نفوس الفلاحين وانزوت البهائم بقرب المعالف واختبأت الكلاب في القراني ولم يبق سوى الريح تخطب وتضج على مسامع الكهوف والمغاير فيتصاعد صوتها الرهيب من أعماق الوادي تارة وطورًا ينقض من أعالي قمم الجبال، فكأن الطبيعة قد غضبت لموت العام العجوز فقامت تأخذ بثأره من الحياة المختبئة في الأكواخ وتحاربها بالبرد القارس والزمهرير الشديد.

ففي هذه الليلة الهائلة وتحت هذا الجو الثائر كان فتى في الثانية والعشرين من عمره يسير على الطريق المتصاعدة بتدرج من دير قزحيا١ إلى قرية الشيخ عباس وقدأ يبَّس البرد مفاصله وانتزع الجوع والخوف قواه وأخفت الثلوج ثوبه الأسود كأنها تريد أن تكفنه قبل أن تميته، فكان يخطو إلى الأمام والأرياح تصده وترجعه إلى الوراء كأنها أبت أن تراه في منازل الأحياء، وتتشبث الطريق الوعرة بأقدامه فيسقط ثم ينهك ثم يصرخ بأعلى صوته مستغيثًا ثم يخرسه البرد فيقف صامتًا مرتجفًا فكأنه العناصر المتحاربة كالأمل الضعيف بين اليأس الشديد والحزن العميق، أو كعصفور مكسور الجناحين سقط في النهر فحمله التيار الغضوب إلى الأعماق.

وظل الشاب سائرًا والموت يتبعه حتى خارت قواه وانحطت عزيمته وتَجَمَّدَتِ الدماء في عروقه فارتمى على الثلوج.

وصرخ صوتًا هائلًا هو بقية الحياة في جسده: صوت خائف قد رأى خيال الموت وجهًا لوجه، صوت منازع قانط أتلفته الظلمة وقبضت عليه العاصفة لترمي به إلى الهاوية، صوت محبة الكيان في فضاء العدم.

٣

في الجهة الشمالية من تلك القرية كوخ صغير منفرد بين الحقول تسكنه امرأة تدعى راحيل مع ابنتها مريم غير المتجاوزة الثامنة عشرة من سنيها، هذه المرأة هي أرملة سمعان الرامي الذي وُجِدَ قتيلًا في البَرِّيَّةِ منذ خمسة أعوام ولم يُعْرَفْ قاتله بعد.

كانت راحيل مثل جميع الأرامل الفقيرات تعيش بالاجتهاد والعمل مخافة الموت والفناء، فكانت تخرج أيام الحصاد وتلتقط السنابل المتروكة في الحقل وفي أيام الخريف كانت تجمع فضلات الأثمار المنسية في البساتين وفي الشتاء كانت تغزل الصوف وتخيط الأثواب لقاء دريهمات قليلة أو مكيال من الذرة، وكانت جميع أعمالها مقرونة بالثبات والصبر والاعتناء، أما ابنتها مريم فكانت صبية جميلة هادئة تشاطر والدتها الأتعاب وتساهمها أعمال البيت.

ففي تلك الليلة المخيفة التي وصفناها كانت راحيل وابنتها جالستين بقرب موقد قد تَغَلَّبَ البرد على حرارته واكتنف الرماد جمره، وفوق رأسيهما سراج ضعيف يبعث أشعته الصفراء الضئيلة إلى قلب الظلمة مثلما تبعث الصلاة أشباح التعزية إلى كبد الفقير الحزين.

انتصف الليل والمرأتان جالستان تسمعان ولولة الأرياح خارجًا ومن وقت إلى آخر كانت الصبية تقف وتفتح الكوة الصغيرة وتنظر نحو الفضاء المظلم ثم تعود إلى مكانها مضطربة مرتعبة من غضب العناصر.

في تلك الدقيقة تَحَرَّكَتِ الصبية فجأة كأنها استيقظت من سبات نوم عميق والتفتت بوجل نحو أمها وقالت بسرعة: «هل سمعتِ يا أماه؟ هل سمعت صوت صارخ مستغيث؟»

فرفعت الوالدة رأسها وأصغت هنيهة ثم أجابت: «لا لم أسمع سوى عويل الأرياح يا ابنتي.»

فقالت الصبية: «أنا قد سمعت صوتًا أعمق من هزيم الريح وأمرَّ من عويل العاصفة.»

قالت هذه الكلمات وانتصبت واقفة وفتحت الكوة وأصغت دقيقة ثم قالت: «قد سمعت الصراخ ثانية يا أماه.»

فأجابت الأم وقد أسرعت مرتاعة نحو النافذة: «وأنا قد سمعت أيضًا … تعالَيْ نفتح الباب وننظر … أوصِدِي النافذة كي لا تطفئ الريح السراج.»

قالت هذا والتفَّت برداءٍ طويل وفتحت الباب وخرجت بقدم ثابتة وبقيت مريم واقفة في الباب والهواء يتلاعب بجدائل شعرها.

مشت راحيل بضع خطوات فالحة الثلج بقدميها ثم وقفت ونادت: «من الصارخ؟ أين المستغيث؟» فلم يجبها أحد ثم رددت كلماتها هذه ثانية وثالثة وإذ لم تسمع غير صراخ الزوبعة تقدمت إلى الأمام بشجاعة ملتفتة إلى كل ناحية حاجبة وجهها من تموجات الريح العنيفة، ولم تسر رمية سهم حتى رأت أثر أقدام غارقة في الثلج قد أوشكت الأرياح أن تمحوها فاتبعتها بسرعة جازع مترقب وبعد هنيهة نظرت فرأت أمامها جسدًا مطروحًا على الثلج كرقعة سوداء على ثوب ناصع البياض، فتقدمت وذرت الثلج عنه وأسندت رأسه على ركبتيها ووضعت يدها على صدره وإذ شعرت بنبضات قلبه المتهاونة التفتت نحو الكوخ وصرخت قائلة: «هلمي يا مريم هلمي إلى معونتي فقد وجدته.»

فخرجت مريم من البيت متبعة أثر أقدام والدتها مرتعشة من البرد والخوف حتى إذا ما بلغت المكان ورأت الشاب المُلْقَى بلا حراك على الثلج تَأَوَّهَتْ وصرخت بلهفة وتوجع، فقالت الأم وقد وضعت يديها تحت إبطيه: «هو حي فلا تخافي بل أمسكي بأطراف أثوابه وتعالي نحمله إلى البيت.»

حملت المرأتان الفتى والأرياح الشديدة تصدهما والثلوج تتمسك بأقدامهما حتى إذا ما بلغتا به الكوخ ألقتاه بجانب الموقد وأخذت الأم تفرك أعضاءه المتجلدة والابنة تجفف بأطراف ثوبها شعره البليل وأصابعه الباردة، فلم تمر بضع دقائق حتى عادت إليه الحياة فتحرك قليلًا وارتعشت أجفانه وتنهد تنهيدة عميقة بثت الأمل بنجاته في قلبي المرأتين الشفوقتين، فقالت مريم بعد أن حلت سيور حذائه المهشم وخلعت عباءته البليلة: «انظري يا أماه! انظري ملابسه فهى شبيهة بأثواب الرهبان.» فالتفتت راحيل وقد وضعت في الموقد غمرًا من القضبان اليابسة وقالت مستغربة: «إن الرهبان لا يخرجون من الدير في مثل هذه الليلة المخيفة فأي شيء يا ترى جعل هذا المسكين يخاطر بحياته؟»

فقالت الصبية مستدركة: «ولكن هو أمرد يا أماه وللرهبان لحى كثيفة.» فنظرت إليه الوالدة وقد انسكبت الرأفة الوالدية من عينيها وقالت متنهدة: «جففي قدميه جيدًا يا ابنتي راهبًا كان أم مجرمًا.»

وفتحت راحيل الخزانة الخشبية وأخرجت منها جرة صغيرة مملوءة خمرًا وسكبت منها في إناء من الفخار ثم قالت لابنتها: «أسندي رأسه يا مريم لنجرعه قليلًا من الخمر فينتعش وتعود الحرارة إلى جسده.»

قربت راحيل حافة الطاس إلى شفتي الشاب وجرعته قليلًا ففتح عينيه الكبيرتين ونظر إلى منقذيه لأول مرة نظرة لطيفة محزنة قد انبعثت مع دموع الشكر ومعرفة الجميل، نظرة من شعر بملامس الحياة بعد أن كان بين مخالب الموت، نظرة الأمل بعد اليأس. ثم ألوى عنقه وخرجت هذه الكلمات من بين شفتيه المرتعشتين: «ليبارككما الله.»

فقالت راحيل وقد وضعت يدها على كتفه: «لا تزعج نفسك بالكلام يا أخي بل ابْقَ صامتًا حتى تعود إليك القوة.»

وقالت مريم: «اتكئ يا أخي إلى هذا المسند واقترب قليلًا من الموقد.»

فاتكأ الشاب متنهدًا وبعد دقيقة ملأت راحيل الطاس خمرًا وسقته ثانية ثم التفتت نحو ابنتها وقالت: «ضعي جبته بقرب النار لتجف.» ففعلت مريم ثم جلست تنظر إليه بحنو وشفقة كأنها تريد أن تبث بنظراتها الحرارة والقوة في جسده النحيل.

وأحضرت راحيل إذ ذاك رغيفين من الخبز وقصعة مملوءة دبسًا وطبقًا عليه بعض الثمار المجففة وجلست بجانبه تطعمه بيدها لقمًا صغيرة مثلما تفعل الأم وطفلها، حتى إذا اكتفى من الطعام وشعر بشيء من النشاط استوى جالسًا على البساط فانعكست أشعة النار الوردية على وجهه المصفر، وتلمعت عيناه الحزينتان ثم قال هازًّا رأسه بهدوء: «الرحمة والقساوة تتصارعان في القلب البشري مثلما تتحارب العناصر في فضاء هذه الليلة المظلمة، ولكن سوف تتغلب الرحمة على القساوة لأنها إلهية وسوف تمر مخاوف هذه الليلة بمجيء النهار.» وسكت الشاب دقيقة ثم زاد بصوت منخفض يكاد لا يُسمع: «يد بشرية دفعتني إلى الهوان ويد بشرية خلصتني فما أشد قساوة الإنسان وما أكثر رأفته!»

فقالت راحيل بصوت تمتزج بمقاطعه عاطفة الأمومة بعذوبة الطمأنينة: «كيف تَجَرَّأْتَ يا أخي وتركت الدير في هذه الليلة التي تخافها الذئاب وتنزوي بالكهوف وتهابها العقبان فتختبئ بين الصخور؟»

فأغمض الشاب عينيه كأنه يريد أن يعيد بأجفانه الدموع إلى أعماق قلبه ثم قال: «للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أن يسند رأسه.»

فقالت راحيل: «هكذا قال يسوع الناصري عن نفسه عندما طلب إليه أحد الكتبة أن يتبعه إلى حيث يذهب.»

فأجاب الشاب: «وهكذا يقول كل من يريد أن يتبع الروح والحق في هذا الجيل المملوء بالكذب والرياء والفساد.»

فسكتت راحيل مفكرة بمعنى كلماته ثم قالت بشيء من التردُّد: «ولكن في الدير غرف عديدة رحبة، وخزائن طافحة بالذهب والفضة، وأقبية مملوءة بالغلة والخمور، وزرائب غاصَّة بالعجول والكبوش المسمنة، فأي أمر جعلك تترك جميع هذه الأشياء وتخرج في مثل هذه الليلة؟»

فقال الشاب متنهدًا: «قد تركت جميع هذه الأشياء وخرجت كرهًا من الدير.»

فقالت راحيل: «إن الراهب في الدير نظير الجندي في ساحة الحرب يزجره رئيسه فينحني صامتًا ويأمره فيطيع مسرعًا، وقد سمعت بأن الرجل لا يصير راهبًا إلا إذا نزع عنه الإرادة والفكر والميل وكل ما يختص بالنفس، ولكن الرئيس الصالح لا يطلب من مرءوسيه فوق طاقتهم فكيف يطلب منك رئيس دير قزحيا أن تسلم حياتك إلى العواصف والثلوج؟»

فأجاب الشاب: «إن الرجل لا يصير راهبًا في عرف رئيسه إلا إذا كان مثل آلة عمياء خرساء فاقدة الحس والقوة، أما أنا فقد خرجت من الدير لأنني لست آلة عمياء بل إنسانًا يرى ويسمع.»

فأحدقت به راحيل ومريم كأنهما قد رأتا في وجهه سرًّا خفيًّا يريد كتمانه، وبعد هنيهة قالت الوالدة مستغربة: «أيخرج الإنسان الذي يرى ويسمع في مثل هذه الليلة التي تعمي العيون وتصم الآذان؟»

فتنهد الشاب وأحنى رأسه على صدره وقال بصوت عميق: «خرجت مطرودًا من الدير.»

فقالت راحيل بدهشة: «مطرودًا؟!»

ورددت مريم هذه الكلمة متأوهة.

فرفع الشاب رأسه وقد ندم على إظهاره الحقيقة للمرأتين وخاف أن تتحول رأفتهما عليه إلى استياء واستهجان، ولكنه نظر فرأى في عينيهما أشعة الشفقة متموجة مع محبة الاستطلاع فقال بصوت مخنوق: «نعم خرجت مطرودًا من الدير لأنني لم أستطع أن أحفر قبري بيدي لأن قلبي قد تعب في داخلي من متابعة الكذب والرياء؛ لأن نفسي أبت أن تتنعم بأموال الفقراء والمساكين، لأن روحي قد امتنعت عن التلذذ بخيرات الشعب المستسلم إلى الغباوة. خرجت مطرودًا لأن جسدي لم يعد يجد راحة في الغرف الرحبة التي بناها سكان الأكواخ؛ لأن خوفي لم يعد يقبل الخبز المعجون بدموع اليتيم والأرملة، لأن لساني لم يعد يتحرك بالصلاة التي يبيعها الرئيس بأموال المؤمنين والبسطاء. خرجت مطرودًا كالأبرص القذر؛ لأنني رددت على مسامع القسس والرهبان آيات الكتاب الذي جعلهم قسسًا ورهبانًا.»

وسكت الشاب وظلت راحيل ومريم ناظرتين إليه مستغربتين كلامه محدقتين بوجهه الجميل الحزين متلفتتين بين الآونة والأخرى إلى بعضهما كأنهما تتساءلان بالسكينة عن الأسباب الغريبة التي جاءت به إليهما، حتى إذا ما نمت محبة الاستقصاء في قلب الوالدة نظرت إليه بانعطاف وسألته قائلة: «أين أبوك وأمك يا أخي؟ هل هما حيان؟»

فأجاب الشاب والغصات الموجعة تقطع ألفاظه: «ليس لي أب ولا أم ولا أخت ولا مسقط رأس.»

فتنهدت راحيل متأثرة وحولت مريم وجهها نحو الحائط لتخفي دمعة محرقة استقطرتها الشفقة من أجفانها، فنظر إليهما الشاب نظرة المغلوب إلى منجده وقد انتعشت نفسه برقة عواطفهما مثلما تنتعش الزهرة النابتة بين الصخور عندما يسكب الصباح قطرات الندى في قلبها، ثم رفع رأسه وقال: «مات أبي وأمي قبل أن أبلغ السابعة من عمري فأخذني كاهن القرية التي وُلِدْتُ فيها إلى دير قزحيا، فسُرَّ الرهبان بي وجعلوني راعيًا للبقر ولما بلغت الخامسة عشرة ألبسوني هذا الثوب الأسود والخشن وأوقفوني أمام المذبح قائلين: أَقْسِمْ بالله وقديسيه بأنك قد نذرت الفقر والطاعة والعفة. فرددت كلامهم قبل أن أفهم مفاد كلامهم، وقبل أن أدرك معاني الفقر والطاعة والعفاف، وقبل أن أرى السبيل الضيقة التي سيَّروني عليها. كان اسمي خليلًا فصار الرهبان منذ ذلك الحين يدعونني الأخ مبارك ولكنهم لم يعاملونى قط كأخٍ لهم، كانوا يتنعمون باللحوم والمآكل الشهية ويطعمونني الخبز اليابس والبقول المجففة ويتلذذون بالخمور والمشارب الطيبة ويسقونني الماء ممزوجًا بالدموع، ويتضجعون على الأسرة الناعمة وينيمونني على فراش حجري في غرفة مظلمة باردة بجانب زرائب الخنازير فكنت أقول في نفسى: متى أصير راهبًا يا ترى فأشارك هؤلاء السعداء بغبطتهم، وأصبح خليقًا بملذاتهم ومسراتهم فلا تقطع قلبي رائحة الطعام، ولا تعذب كبدي ألوان الخمور، ولا ترتعش روحي لصوت الرئيس. ولكن باطلًا كنت أتمنى وأحلم لأنني بقيت أرعى البقر في البَرِّيَّة وأنقل الحجارة الثقيلة على ظهري وأحفر التراب بساعدي، بقيت أفعل كل ذلك لبقاء الخبز الدنيء والمأوى الضيق لأنني لم أكن أعلم بأنه يوجد مكان غير الدير يمكن أن أعيش فيه لأنهم علَّمُوني الكفر بكل شيء إلا معيشتهم، وسمَّموا نفسي بنقيع اليأس والاستسلام حتى ظننت بأن هذا العالم هو بحر أحزان وشقاء وأن الدير هو ميناء الخلاص.

واستوى خليل جالسًا وانبسطت ملامحه المنقبضة، ونظر كأنه رأى شيئًا جميلًا منتصبًا أمامه في ذلك الكوخ. أمَّا راحيل ومريم فلبثتا صامتتين محدقتين به وبعد هنيهة عاد فقال: «إن السماء التي شاءت فأخذت والدي ونفتني يتيمًا إلى الدير لم تشأ أن أصرف العمر كله كالأعمى السائر في المعابر الخطرة، ولم تَرْضَ بأن أكون عبدًا تعسًا متصاغرًا إلى نهاية الحياة، ففتحت عينيَّ وأذنيَّ وأرتني النور مشعشعًا وأسمعتني الحقيقة متكلمة.»

فهزت راحيل رأسها إذ ذاك وقالت: «أيوجد نور غير النور الذي تسكبه الشمس على جميع الناس؟ وهل بإمكان البشر أن يعرفوا الحقيقة؟»

فأجاب خليل قائلًا: «النور الحقيقي هو ذاك الذي ينبثق من داخل الإنسان، ويبين سرائر النفس للنفس ويجعلها فارحة بالحياة مترنمة باسم الروح، أما الحقيقة فهي كالنجوم لا تبدو إلا من وراء ظلمة الليل. الحقيقة هي مثل جميع الأشياء الجميلة في هذا العالم لا تظهر مفاعليها المستحبة إلا لمن شعر بتأثيرات البطل القاسية، الحقيقة هي تلك العاطفة الخفية التي تعلمنا أن نفرح بأيامنا وتجعلنا نتمنى ذلك الفرح نفسه لجميع الناس.»

فقالت راحيل: «كثار هم الذين يعيشون حسب العاطفة الخفية الكائنة في قلوبهم، وكثار هم الذين يعتقدون بأن هذه العاطفة هي ظل الناموس الذي سَنَّهُ الله للإنسان. ولكنهم لا يفرحون قط بأيامهم بل يظلون تعساء حتى الموت.»

فأجابها خليل قائلًا: «باطلة هي الاعتقادات والتعاليم التي تجعل الإنسان تعسًا في حياته، وكذابة هي العواطف التي تقوده إلى اليأس والحزن والشقاء؛ لأن واجب الإنسان أن يكون سعيدًا على الأرض وأن يعلم سبل السعادة ويكرز باسمها أينما كان، ومن لا يشاهد ملكوت السموات في هذه الحياة لن يراه في الحياة الآتية؛ لأننا لم نجئ هذا العالم كالمنفيين المرزولين بل جئنا كالأطفال الأغبياء لكي نتعلم من محاسن الحياة وأسرارها عبادة الروح الكلي الخالد واستطلاع خفايا نفوسنا. هذه هي الحقيقة التي عرفتها عندما قرأت تعاليم يسوع الناصري وهذا هو النور الذي انبثق من داخلي وأبان لي الدير ومن فيه كهوة مظلمة تنبعث من أعماقها الأشباح المخيفة لتميتني، هذا هو السر الخفي الذي أعلنته البَرِّيَّةُ الجميلة لنفسي عندما كنت أجلس جائعًا باكيًا متأوِّهًا في ظل الأشجار؛ ففي يوم وقد سكرت نفسي من هذه الخمرة السماوية تشجعت ووقفت بين الرهبان إذ كانوا جالسين في حديقة الدير مثلما تربض البهائم المتخومة وأخذت أبين لهم أفكاري وأتلو على مسامعهم آيات الكتاب التي تبين ضلالهم وكفرهم. قلت لهم: لماذا نصرف الأيام في هذه الخلوة متمتعين بخيرات الفقراء والمساكين مستطيبين الخبز المعجون بعرق جبينهم ودموع أجفانهم متلذذين بغلة الأرض المسلوبة منهم؟ لماذا نعيش في ظلال التواني والكسل مبتعدين عن الشعب المحتاج إلى المعرفة حارمين البلاد قوى نفوسنا وعزم سواعدنا؟ إن يسوع الناصري قد بعثكم كالخراف بين الذئاب فأي تعاليم جعلتكم تصيرون كالذئاب بين الخراف؟ لماذا تبتعدون عن البشر وقد خلقكم الله بشرًا؟ إذا كنتم أفضل من الناس السائرين في موكب الحياة فعليكم أن تذهبوا إليهم وتعلموهم وإن كانوا أفضل منكم فامتزجوا بهم وتعلموا. كيف تنذرون الفقر وتعيشون كالأمراء وتنذرون الطاعة وتتمردون على الإنجيل وتنذرون العفة وقلوبكم مفعمة بالشهوات؟ أنتم تتظاهرون بقتل أجسادكم ولكنكم لا تقتلون غير نفوسكم، وتتظاهرون بالترفع عن العالميات وأنتم أكثر الناس طمعًا. وتتظاهرون بالتَّنَسُّكِ والتَّقَشُّفِ وأنتم كالبهائم المشغولة عن المعرفة بطيب المرعى. تعالوا نعيد أراضي الدير الوسيعة إلى سكان هذه القرى المحتاجين ونرجع إلى جيوبهم الأموال التي أخذناها، تعالوا نتفرق إلى كل ناحية مثلما تتفرق أسراب الطيور فنخدم الشعب الضعيف الذي جعلنا أقوياء، ونصلح البلاد التي نعيش بخيراتها، ونعلم هذه الأمة التعسة أن تبتسم لنور الشمس وتفرح بمواهب السماء ومجد الحياة والحرية؛ لأن المتاعب التي نجدها بين الناس هي أجلُّ وأجمل من الراحة التي نستسلم إليها في هذا المكان، والرأفة التي نلامس بها قلب القريب هي أسمى من الفضيلة المختبئة في قراني الدير، وكلمة التعزية التي نقولها على مسامع الضعيف والمجرم والساقطة هي أشرف من الصلاة الطويلة التي نرددها في الهيكل.»

وسكت خليل دقيقة مسترجعًا أنفاسه ثم رفع عينيه نحو راحيل ومريم وقال بصوت هادئ: «كنت أتكلم بهذه الأشياء وما يشابهها أمام الرهبان وهم سامعون ودلائل الاستغراب بادية على وجوههم كأنهم لم يصدقوا بأن فتًى مثلي يقف بينهم ويتكلم متجاسرًا بمثل هذا الكلام حتى إذا ما انتهيت اقترب أحدهم وقال صارفًا أسنانه: «أتتجرأ أيها الضعيف وتتلفظ أمامنا بمثل هذا الكلام؟» واقترب آخر وقال ضاحكًا مستهزئًا: «هل تعلمت هذه الحكمة من البقر والخنازير التي رافقتها كل أيام حياتك؟» وجاء آخر وقال متوعدًا: «سوف ترى ما يحل بك أيها الخبيث الكافر.» ثم تفرقوا عني إلى كل ناحية مثلما يبتعد الأصحاء عن الأبرص، وذهب بعضهم وشكوني إلى الرئيس فاستدعاني عند غروب الشمس وبعد أن وبخني بقساوة على مسمع من الرهبان المبتهجين أمر بجَلدي فجلدت بسياط من المرس، ثم حكم بسجني شهرًا كاملًا، فاقتادني الرهبان متقهقهين فرحين إلى غرفة رطبة مظلمة … انقضى الشهر وأنا مطروح في ذلك القبر لا أرى النور ولا أشعر بغير دبيب الحشرات ولا ألمس سوى التراب ولا أعرف نهاية الليل من بدء النهار ولا أسمع سوى وطء أقدام أحد الرهبان عندما يجيء ويضع بقربي كسرة من الخبز اليابس العطن وطاسًا من الماء الممزوج بالخل، ولما خرجت من ذلك السجن ورأى الرهبان نحول جسدي واصفرار وجهي توهموا بأن أميال نفسي قد ماتت في داخلي وأنهم بالجوع والعطش والعذاب قد قتلوا العاطفة التي أحياها الله في قلبي … مرت الأيام أثر الليالي وأنا أجهد النفس مفكرًا في ساعات انفرادي بما يجعل أولئك الرهبان يرون النور ويسمعون نغمة الحياة، ولكن باطلًا كنت أفتكر وأفتكر، لأن الغشاء الكثيف الذي حاكته الأجيال الطويلة على بصائرهم لا تمزقه الأيام القليلة، والطينة التي طلت بها الغباوة آذانهم قد تَحَجَّرَتْ فلا تزيلها ملامس الأصابع الناعمة.»

وبعد سكينة مملوءة بالتنهدات رفعت مريم رأسها والتفتت نحو والدتها كأنها تستأذنها بالكلام ثم نظرت بكآبة نحو خليل وسألته قائلة: «هل عدت وتكلمت ثانية أمام الرهبان فطردوك من الدير في هذه الليلة المخفية التي تعلم الإنسان أن يكون رؤوفًا ورفوقًا حتى بأعدائه؟»

فقال الشاب: «في هذا المساء عندما تعاظم هول العاصفة وابتدأت العناصر تتحارب في الفضاء جلست منفردًا عن الرهبان المستدفئين حول النار والمشغولين بسرد الحوادث والحكايات المضحكة وفتحت الإنجيل متأملًا بتلك الأقوال التي تستميل النفس وتنسيها غضب الطبيعة وقساوة العناصر، ولما رآني الرهبان بعيدًا عنهم اتخذوا انفرادي سببًا للسخرية بي، فجاء بعضهم ووقفوا بقربي وأخذوا يتغامزون ويضحكون ويشيرون نحوي مستهزئين، فلم أحفل بهم بل أطبقت الكتاب وبقيت ناظرًا من النافذة، فتململوا لذاك غيظًا ونظروا إليَّ شزرًا لأن سكوتي قد أيبس عواطفهم ثم قال أحدهم ساخرًا: «ماذا تقرأ أيها المصلح العظيم؟» فلم أرفع عيني نحو المتكلم بل فتحت الإنجيل وقرأت منه بصوت عالٍ هذه الآية: «وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا منه: يا أولاد الأفاعي مَن أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟ فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة، ولا تبتدئوا تقولون في نفوسكم: إن لنا إبراهيم أبًا؛ لأني أقول: لكم إن الله قادر على أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم، والآن وقد وضعت الفأس على أصل الشجرة فكل شجرة لا تعطي ثمرًا جيدًا تُقطع وتُلقى في النار. وسأله الجموع قائلين: فماذا نفعل؟ فأجاب وقال لهم من: له ثوبان فليعط من ليس له ومن له طعام فليفعل هكذا.» عندما قرأت هذه الكلمات التي قالها يوحنا المعمدان سكت الرهبان دقيقة كأن يدًا خفية قد قبضت على أرواحهم ولكنهم عادوا وقهقهوا ضاحكين ثم قال أحدهم: «قد قرأنا هذا الكلام مرات عديدة ولسنا نحتاج لرعاة البقر أن يرددوه على مسامعنا.» فقلت: «لو كنتم تقرأون هذه الآيات وتفهمونها لما كان سكان هذه القرى المغمورة بالثلوج يتأفَّفُون بردًا ويتضورون جوعًا وأنتم ههنا تتمتعون بخيراتهم وتشربون عصير كرومهم وتأكلون لحوم مواشيهم.» لم تخرج هذه الألفاظ من بين شفتيَّ حتى صفعني أحد الرهبان على وجهي كأني لم أتكلم بغير الحماقة، ثم رفسني آخر برجله وآخر انتزع الكتاب من يدي، وآخر نادى الرئيس فجاء مسرعًا وإذ أخبروه بما جرى تعالت قامته وزوى ما بين عينيه وارتجف غضبًا وصرخ بأعلى صوته: «اقبضوا على هذا الشرير المتمرِّد وجروه بعيدًا عن الدير، ودعوا العناصر الغضوبة تعلمه الطاعة، أخرجوه إلى الظلمة الباردة لتفعل به الطبيعة مشيئة الله، ثم اغسلوا أكُفكم خوفًا من سموم الكفر المتعلقة بأثوابه وإن عاد متضرعًا متظاهرًا بالتوبة فلا تفتحوا له الأبواب؛ لأن الأفعى إذا سجنت في القفص لا تنقلب حمامة والعليقة إذا غُرست في الكرم لا تثمر تينًا».»

حينئذٍ قبض الرهبان عليَّ وجروني بعنف إلى خارج الدير وعادوا ضاحكين وقبل أن يوصدوا الأبواب سمعت أحدهم يقول ساخرًا: «كُنتَ بالأمس ملكا وكانت رعيتك البقر والخنازير، وقد خلعناك اليوم أيها المصلح لأنك أسأت السياسة فاذهب الآن وكن ملكًا على الذئاب الجائعة والغربان المتطايرة وعلِّمْهَا كيف يجب أن تعيش في كهوفها وأوجرتها.»

وتنهد خليل تنهيدة عميقة ثم حوَّل وجهه ونظر إلى النار المتأججة في الموقد، وبصوت جارح بحلاوته قال: «هكذا طردت من الدير، وهكذا سلمني الرهبان إلى يد الموت فسرت والضباب يحجب الطريق عن بصري والأرواح الشديدة تمزِّق أثوابي والثلوج المتراكمة تتمسك بركابي حتى وَهَنت قواي فسقطت مستغيثًا صارخًا صراخ يائس شعر بأنه لا يوجد من يسمعه سوى الموت المخيف والأودية المظلمة، ولكن من وراء الثلوج والأرياح، من وراء الظلمة والغيوم، من وراء الأثير والكواكب ومن وراء كل شيء قوة هي كل معرفة وكل رحمة قد سمعت صراخي وندائي فلم تشأ أن أموت قبل أن أتعلم ما بقي من سرائر الحياة فبعثتكما إليَّ لكي تسترجعاني من أعماق الهاوية والعدم.»

وسكت الشاب والمرأتان تنظران إليه بانعطاف وإعجاب وشفقة كأن نفسيهما قد فهمتا خفايا نفسه واشتركتا معها بالشعور والمعرفة، وبعد هنيهة مدت راحيل يدها أسر إرادتها ولمست يده بلطف وقالت والدموع تتلمع في عينيها: «إن من تختاره السماء نصيرًا للحق لا تفنيه المظالم ولا تميته الثلوج والعواصف.»

وهمست مريم قائلة: «إن العواصف والثلوج تُفْنِي الزهور ولكنها لا تميت بذورها.»

فقال خليل وقد أنارت التعزية وَجْهَهُ المُصْفَرَّ مثلما تنير أشعة الفجر خطوط الأفق: «إن كنتما لا تحسباني متمردًا وكافرًا كما يحسبني الرهبان يكون الاضطهاد الذي لقيته في الدير رمزًا للشدة التي تعانيها الأمة قبل بلوغها المعرفة، وتكون هذه الليلة التي كادت تميتني شبيهة بالثورات التي تتقدم الحرية والمساواة؛ لأن من قلب الامرأة الحساس تنبثق سعادة البشر ومن عواطف نفسها الشريفة تتولَّد عواطف نفوسهم.»

قال هذا واتَّكَأَ على الوسادة فلم تشأ الامرأتان متابعة الحديث لأنهما عرفتا من نظراته بأن النعاس المتولد من الراحة والاستدفاء بعد عناء المسير قد راود عينيه.

ولم تمر بضع دقائق حتى أغمض خليل أجفانه ونام كالطفل المستأمن على ذراعي أمه، فقامت راحيل بهدوء واتبعتها مريم وجلستا على فراشهما تنظران إليه كأن في وجهه الذابل جاذبًا يستميل روحيهما ويحيط بقلبيهما، ثم همست الوالدة كأنها تتكلم مع نفسها وقالت: «في عينيه المطبقتين قوة غريبة تتكلم بالسكينة وتنبه أميال النفس.»

وقالت الابنة: «يداه يا أماه مثل يدي صورة يسوع الموجودة في الكنيسة.»

فهمست الوالدة: «على وجهه الكئيب ظاهرة رقة الامرأة وقوة الرجل.»

وحملت أجنحة الكرى روحي الامرأتين إلى عالم الأحلام وخمدت النار في الموقد وتحولت إلى رماد، ثم جف زيت السراج فشح نوره ببطء ثم انطفأ، وظلت العاصفة الغضوبة تضج خارجًا والجو القاتم ينثر رقع الثلوج والأرياح العنيفة تقذفها يمينًا وشمالًا.

٤

مضى أسبوعان على تلك الليلة والفضاء المتلبد بالغيوم يسكن حينًا ثم يثور متهيجًا غامرًا الأودية بالضباب مكفنًا الطلول بالثلوج، وقد هَمَّ خليل ثلاث مرات أن يتابع مسيره نحو الساحل فكانت راحيل تصده بلطف وانعطاف قائلة: «لا تسلم حياتك ثانيةً إلى العناصر العمياء بل ابْقَ ههنا يا أخي فالخبز الذي يشبع اثنين يكفي ثلاثة، والنار في هذا الموقد تظل متقدة بعد ذهابك مثلما كانت قبله، نحن فقراء يا أخي ولكننا نحيا أمام وجه الشمس مثل جميع الناس لأن الله يعطينا خبزنا كفاف يومنا.»

أما مريم فكانت ترجوه بنظراتها اللطيفة وتستعطفه بتنهداتها الهادئة لكي يمتنع عن الذهاب لأنها منذ دخوله بين حي وميت ذلك البيت الحقير شعرت بوجود قوة علوية في نفسه تبعث الحياة والشعاع إلى قلبها وتنبه عواطف جديدة مستحبة في قدس من أقداس روحها؛ لأنها شعرت لأول مرة في حياتها بتلك الحاسة الغريبة التي تجعل قلب الصبية النقي مثل وردة بيضاء تشرب قطرات الندى وتسكب دقائق العطر.

لا يوجد في داخل الإنسان عاطفة أنقى وأعذب من تلك العاطفة الخفية التي تستفيق على حين غفلة في قلب الصبية وتملأ خلايا صدرها بالأنغام السحرية وتجعل أيامها شبيهة بأحلام الشعراء ولياليها مثل الأنبياء، ولا يوجد بين أسرار الطبيعة سر أقوى وأجمل من ذلك الميل الذي يحول سكينة نفس العذراء إلى حراك مستمر يميت بعزمه ذكرى الأيام الغابرة ويحيي بحلاوته الآمال بالأيام الآتية.

والصبية اللبنانية تمتاز عن صبايا الأمم بقوة عواطفها ورقة إحساسها؛ لأن التربية البسيطة التي تحرم عاقلتها من النمو وتوقف مداركها عن الارتقاء تحول نفسها إلى استفسار ميول نفسها، وتشغل قلبها باستطلاع خفايا قلبها، الصبية اللبنانية مثل ينبوع يخرج من قلب الأرض بين المنخفضات فلا يجد ممرًّا ليسير به نهرًا نحو البحر فينقلب بحيرة هادئة تنعكس على وجهها أشعة القمر والنجوم.

وشعر خليل بتموجات روح مريم حول روحه، وعرف بأن الشعلة المقدسة التي أحاطت بقلبه قد لامست قلبها؛ ففرح لأول وهلة فرح طفل ضائع وجد أمه ولكنه عاد فلام نفسه على تسرعها وانشغافها ظنًّا منه بأن هذا التفاهم الروحي سيضمحل كالضباب عندما تفصله الأيام عن تلك القرية فكان يناجي نفسه قائلًا: «ما هذه الأسرار الخفية التي تتلاعب بنا ونحن غافلون؟ وما هذه النواميس التي تُسيرنا تارة على سبل وعرة فنسير منقادين، وتوقفنا طورا أمام وجه الشمس فنقف فرحين، وتبلغنا مرة قمة الجبل فنبتسم متهللين وتهبط بنا أخرى إلى أعماق الوادي فنصرخ متوجعين؟ ما هذه الحياة التي تعانقنا يومًا كالحبيب ويومًا تضعفنا كالعدو؟ ألم أكن بالأمس مُكْرَهًا مُضْطَهَدًا بين رهبان الدير؟ أَوَلَمْ أقبل العذاب والسخرية من أجل هذه الحقيقة التي أيقظتها السماء في صدري؟ أَوَلَمْ أقل للرهبان بأن السعادة هي مشيئة الله في الإنسان؟ إذًا ما هذا الخوف، ولماذا أغمض عيني وأحول وجهي عن النور المنبعث من عيني هذه الصبية؟ أنا مطرود وهي فقيرة ولكن أبِالخُبز وحده يحيا الإنسان؟ أوليست الحياة دينًا ووفاء؟ أَوَلسنا بين العوز واليسر كالأشجار بين الشتاء والصيف؟ ولكن ماذا تقول راحيل إذا علمت بأن روح الفتى المطرود من الدير وروح ابنتها الوحيدة قد تفاهمتا في السكينة واقتربتا من دائرة النور الأعلى؟ وماذا تفعل يا ترى إذا مادَرَتْ بأن الشاب الذي خلصته من مخالب الموت يريد أن يكون رفيقًا لابنتها؟ وماذا يقول سكان هذه القرية البسطاء إذا ما علموا بأن فتى رُبِّيَ في الدير وخرج منه مطرودًا فجاء قريتهم لكي يعيش بقرب صبية جميلة؟ أفلا يغلقون آذانَهم إذا ما قلت لهم بأن الذي يغادر الدير ليعيش بينهم يكون كالطائر الذي يخرج من ظلمة القفص إلى النور والحرية؟ وماذا يقول الشيخ عباس العائش بين هؤلاء الفلاحين المساكين كالأمير بين العبيد إذا ما سمع حكايتي؟ وماذا يفعل كاهن القرية إذا ما رددوا على مسامعه تلك الأقوال التي سببت طردي من الدير؟»

كان خليل يناجي نفسه وهو جالس بقرب الموقد يتأمل بألسنة النار الشبيهة بعواطفه، أما مريم فكانت تختلس النظرات إليه وتقرأ أحلامه في ملامح وجهه وتسمع صدى أفكاره خارجًا من صدرها وتشعر بخيالات هواجسه متمايلة حول قلبها.

ففي عشية يوم وقد وقف خليل بقرب الكوة المطلة نحو الوادي، حيث الأشجار والصخور الملتحفة بالثلوج التحاف الأموات بالأكفان، جاءت مريم ووقفت بجانبه ونظرت من الكوة إلى الفضاء، فالتفت نحوها وإذ التقت عيناه بعينيها تنهَّد تنهيدة محرقة ثم حول وجهه وأغمض أجفانه كأن نفسه قد تركته وسبحت ساعية في أعماق اللانهاية باحثة عن كلمة تقولها.

وبعد هنيهة تشجعت مريم وسألته قائلة: «إلى أي مكان تذهب عندما تذوب هذه الثلوج وتنفتح الطرقات؟»

فأجابها وقد فتح عينيه الكبيرتين وأحدق بالأفق البعيد: «سوف أتبع الطريق إلى حيث لا أعلم.»

فارتعشت روح مريم ثم قالت متنهدة: «لماذا لا تسكن في هذه القرية وتبقى قريبًا مِنَّا، أليست الحياة ههنا أفضل من الغربة البعيدة؟»

فأجابها وقد اضطربت أحشاؤه لرقة كلماتها ونغمة صوتها: «إن سكان هذه القرية لا يقبلون المطرود من الدير جارًا لهم، ولا يسمحون له أن يتنفس الهواء الذي يحييهم؛ لأنهم يحسبون عدو الرهبان كافرًا بالله وقديسيه.»

فتأوهت مريم ولبثت ساكنة لأن الحقيقة الجارحة قد أخرستها؛ حينئذٍ أسند خليل رأسه بيده وقال: «إن سكان هذه القرى يا مريم قد تعلَّمُوا من الرهبان والكهان بُغْضَ كل من يفتكر لذاته، فصاروا يقلدونهم ويبتعدون مثلهم عن جميع الذين يريدون أن يصرفوا حياتهم فاحصين لا تابعين، فإذا بقيت في هذه القرية وقلت لسكانها تعالوا يا إخوتي نعبد ونصلي حسب مشيئة نفوسنا لا مثلما يريد الرهبان والقسس لأن الله لا يريد أن يكون معبودًا من الجاهل الذي يقلد غيره؛ يقولون هذا ملحد يعاند السلطة التي وضعها الله في أيدي كهانه. وإن قلت لهم أصغوا يا إخوتي واسمعوا صوت قلوبكم واعملوا إرادة الروح الكائنة في أعماقكم؛ يقولون هذا شرير يريدنا أن نكفر بالوسائط التي أقامها الله بين السماء والأرض.»

ونظر خليل إذ ذاك إلى عيني مريم وبصوت يحاكي رنين الأوتار الفضية قال: «ولكن في هذه القرية يا مريم قوة سحرية تمتلكني وتتشبث بنفسي، قوة علوية قد أنستني اضطهاد الرهبان وحببت إليَّ قساوتهم، في هذه القرية لقيت الموت وجهًا لوجه وفيها عانقَت روحي روح الله، في هذه القرية زهرة نابتة بين الأشواك يستميل جمالها نفسي ويملأ عطرها كبدي فهل أترك هذه الزهرة وأذهب مبشرًا بالمبادئ التي أبعدتني عن الدير أم أبقى بجانبها وأحفر لأفكاري وأحلامي قبرًا بين الأشواك المحيطة بها، ماذا أفعل يا مريم؟»

سمعت مريم هذه الكلمات فاهتزت قامتها مثلما ترتعش الزنبقة أمام نسيم السحر، وفاضت أشعة قلبها من مقلتيها فقالت والحياء يغالب لسانها: «كلانا بين يدي قوة خفية عادلة رحومة فلندعها تفعل ما تشاء بنا.»

منذ تلك الدقيقة تمازجت عواطف خليل بعواطف مريم وصارت نفساهما شعلة واحدة متقدة ينبعث منها النور وتتضوع حولها البخور.

٥

منذ ابتداء الدهر إلى أيامنا هذه والفئة المتمسكة بالشرف الموروث تتحالف وتتفق مع الكهان ورؤساء الأديان على الشعب، هي علة مزمنة قابضة بأظافرها على عنق الجامعة البشرية ولن تزول إلا بزوال الغباوة من هذا العالم عندما يصير عقل كل رجل ملكًا ويصبح قلب كل امرأة كاهنًا.

ابن الشرف الموروث يبني قصره من أجساد الفقراء الضعفاء، والكاهن يقيم الهيكل على قبور المؤمنين المستسلمين، الأمير يقبض على ذراعي الفلاح المسكين والكاهن يمد يده إلى جيبه، الحاكم ينظر إلى أبناء الحقول عابسًا والمطران يلتف نحوهم مبتسمًا، وبين عبوسة النمر وابتسامة الذئب يفنى القطيع، الحاكم يدعي تمثيل الشريعة والكاهن يدعي تمثيل الدين وبين الاثنين تفنى الأجساد وتضمحل الأرواح.

وفي لبنان — ذلك الجبل الغني بنور الشمس الفقير إلى نور المعرفة — قد اتحد الشريف والكاهن على الفقير الضعيف الذي يحرث الأرض ويستغلها كيما يحمي جسده من سيف الأول ولعنة الثاني.

ابن الشرف الموروث يقف في لبنان بجانب قصره ويصرخ باللبنانين قائلًا: «قد أقامني السلطان وليًّا على أجسادكم.» والكاهن ينتصب أمام المذبح هاتفًا: «قد أقامني الله وصيًّا على أرواحكم.» أما اللبنانيون فيظلون صامتين لأن القلوب المغلغلة بالتراب لا تنكسر؛ لأن الأموات لا يبكون.

فالشيخ عباس الذي كان في تلك القرية وليًّا وحاكمًا وأميرًا كان محبًّا لرهبان الدير، محافظًا على تعاليمهم وتقاليدهم؛ لأنهم كانوا يشاركونه بقتل المعرفة وإحياء الطاعة في نفوس حارثي حقوله وكرومه.

ففي ذلك المساء — بينما كان خليل ومريم يقتربان من عرش الحب وراحيل تنظر إليهما بانعطاف مستطلعة خفايا نفسيهما — ذهب الخوري إلياس كاهن القرية وأخبر الشيخ عباس بأن الرهبان الأتقياء قد طردوا من الدير فتًى متمردًا شريرًا وأن هذا الملحد الكافر قد جاء القرية منذ أسبوعين، وهو الآن ساكن في بيت راحيل أرملة سمعان الرامي.

ولم يكتف الخوري إلياس بإبلاغ الشيخ هذا الخبر بل زاد قائلًا: «إن الشيطان الذي يُطرد من الدير لا ينقلب ملاكًا في هذه القرية، والتينة التي يقطعها رب الحقل ويلقيها في النار لا تعطي أثمارًا جيدة وهي في الموقد، فإن كنا نريد أن تبقى هذه القرية سالمة من جراثيم العلل الخبيثة فعلينا أن نطرد هذا الشاب من منازلنا وحقولنا مثلما طردَهُ الرهبان من الدير.»

فسأله الشيخ عباس قائلًا: «وكيف عرفت بأن هذا الشاب سيكون في هذه القرية كالعلة الخبيثة؟ أليس أفضل أن نبقيه عندنا ونجعله ناطورًا للكروم أو راعيًا للبقر؟ نحن بحاجة ماسة إلى العمال فإذا ما جلبت لنا الطريق فتى قوي الساعدين نسترضيه ولا نتركه.»

فابتسم الكاهن تلك الابتسامة الشبيهة بملامس الأفعى ثم قال ممشطًا لحيته الكثيفة بأصابعه: «لو كان هذا الشاب صالحًا للعمل لما طرده الرهبان؛ لأن أراضي الدير وسيعة وقطعانه لا تحصى، وقد أخبرني مكاري الدير الذي بات عندي ليلة أمس بأن هذا الشاب كان يردد على مسامع الرهبان آيات الكفر مقرونة بألفاظ ثورية تدل على طيشه وخباثته، فقد تجاسر مرات عديدة وخطب فيهم قائلًا: «أرجعوا حقول الدير وكرومه وأمواله إلى سكان هذه القرى الفقراء وتفرَّقوا إلى كل ناحية وذاك خير من الصلاة والعبادة.» وأخبرني المكاري أيضًا بأن قساوة التوبيخ وأوجاع الجلد بالسياط وظلمة السجن لم تُعِدْ لهذا الكافر صوابه بل كانت تغذي الشيطان القابض على نفسه مثلما تكثر أوساخ المزابل عدد الحشرات.»

فانتصب الشيخ عباس على أقدامه ونظير نَمِرٍ يتراجع قليلًا إلى الوراء قبيل الوثوب بقي ساكتًا هنيهة يُصِرُّ أسنانه وينتفض غيظًا، ثم مشى نحو باب القاعة ونادى خدامه بصوت عالٍ فجاء ثلاثة منهم ووقفوا أمامه مستطلعين أمره، فخاطبهم قائلًا: «في بيت راحيل الأرملة شاب مجرم يرتدي أثواب راهب فاذهبوا الآن وقودوه إليَّ مكتوفًا وإن قاومتكم تلك الامرأة فاقبضوا عليها وجروها على الثلج بجدائل شعرها لأن من يساعد الشرير يكون شريرًا.»

فأحنى الخدام رؤوسهم وخرجوا مسرعين ليتمموا مشيئة سيدهم، وبقي الشيخ عباس والكاهن يتحدثان عما يجب أن يفعلاه بالشاب المطرود وراحيل الأرملة.

٦

توارى النهار وقَدِمَ الليلُ ناشرًا خيالاته بين تلك الأكواخ المكتنفة بالثلوج، وظهرت النجوم في ذلك الفضاء المظلم البارد ظهور الأمل بالخلود من وراء أوجاع النزاع والموت، فأوصد الفلاحون الأبواب والنوافذ وأشعلوا السراج وجلسوا يصطلون بقرب الموقد غير حافلين بأشباح الليل السائرة حول بيوتهم.

في تلك الساعة بينما كانت راحيل وابنتها مريم وخليل جالسين حول مائدة خشبية يتناولون العشاء طرق الباب ودخل عليهم خدام الشيخ عباس، فالتفتت راحيل مذعورة وشهقت مريم مرتاعة، أما خليل فلبث هادئًا كأن نفسه الكبيرة قد تنبأت وعلمت بمجيء هؤلاء الرجال قبيل مجيئهم، فاقترب أحد الخدام وألقى يده بعنف على كتف خليل وقال بصوت أجش: «ألست أنت الشاب المطرود من الدير؟» فأجابه خليل ببطء: «أنا هو فماذا تريدون؟»

فقال الرجل: «نريد أن نسير بك مكتوفًا إلى منزل الشيخ عباس وإن أبديت ممانعة نجرك على الثلج كالخروف المذبوح.»

فانتصبت راحيل وقد اصفر وجهها وتجعدت جبهتها وقالت بصوت مرتجف: «أي ذنب أتاه أمام الشيخ عباس ولماذا تريدون جره مكتوفًا؟»

وقالت مريم ونغمة الرجاء والاستعطاف تمازج صوتها: «هو فرد وأنتم ثلاثة فمن الجبانة أن تتحالفوا على إذلاله وتعذيبه.»

فصرخ الخادم وقد حمي غضبه: «أيوجد في هذه القرية امرأة تعارض مشيئة الشيخ عباس؟» قال هذا وانتشل من وسطه حبلًا متينًا وهم ليوثق به كتفي خليل، فوقف الشاب ولم تتغير ملامحه بل ظل رأسه مرفوعا كالبرج أمام الزوبعة وسالت على شفتيه ابتسامة محزنة ثم قال: «أنا أشفق عليكم أيها الرجال لأنكم آلة قوية عمياء في يد مبصر ضعيف يظلمكم ويسحق الضعفاء بسواعدكم، أنتم عبيد الغباوة، والغباوة هي أشد اسودادًا من بشرة الزنوج، وأكثر استسلامًا للحيف والقساوة، كنت بالأمس مثلكم أيها الرجال وغدًا تصيرون مثلي، أما الآن فبيننا هُوَّةٌ عميقة مظلمة تمتص ندائي وتحجب حقيقتي عنكم فلا تسمعون ولا تبصرون، ها أنذا فشدوا ساعدي وافعلوا بي ما شئتم.»

سمع الرجال هذا الكلام فجمدت عيونهم واقْشَعَرَّتْ أبدانهم وبُهتوا بالشاب هنيهة كأن عذوبة صوته قد انتزعت الحركة من أجسادهم وأيقظت الميول العلوية الهاجعة في أعماق قلوبهم، ولكنهم عادو فانتبهوا كأن صدى صوت الشيخ عباس قد تململ في مسامعهم وذكَّرهم بالمهمة التي بعثهم من أجلها، فتقدموا وأوثقوا ساعدي الشاب، وخرجوا به ساكتين شاعرين بشيء من الألم بين تلافيف ضمائرهم. فاتبعتهم راحيل ومريم ونظير بنات أورشليم عندما اتبعن يسوع إلى الجلجلة سارتا خلف خليل نحو منزل الشيخ عباس.

٧

إن الأخبار — كبيرة كانت أم تافهة — تنتقل بسرعة الفكر بين الفلاحين في القرى الصغيرة، لأن بُعدهم عن مشاغل الاجتماع المتتابعة يجعلهم أن ينصرفوا بكليتهم إلى استقصاء ما يحدث في محيطهم المحدود، وفي أيام الشتاء عندما تكون الحقول والبساتين راقدة تحت لُحف الثلوج وتنزوي الحياة خائفة مستدفئة حول المواقد يصير القرويون أشد رغبة وأكثر ميلًا إلى استطلاع الأخبار لكي يملأوا بتأثيراتها أيامهم الفارغة ويصرفوا باستفسارها لياليهم الباردة.

وهكذا لم يقبض خدام الشيخ عباس على خليل في تلك الليلة حتى انتشر الخبر كالعدوى بين سكان تلك القرية، وأثارت محبة الاستفهام نفوسهم، فتركوا أكواخهم وتراكضوا مسرعين من كل ناحية كالجنود المتفرقين، فلم يبلغ الشاب المكتوف منزل الشيخ حتى اجتمع في تلك الدار الوسيعة الرجال والنساء والصبيان وكلهم يمدون أعناقهم بتشوق ليحظوا بنظرة من الكافر المطرود من الدير ومن راحيل الأرملة وابنتها مريم اللتين شاركتا الأرواح الشريرة على بث السموم والعلل الجهنمية في فضاء قريتهم.

جلس الشيخ عباس على مقعد عالٍ وتربع بجانبه الخوري إلياس ووقف الفلاحون والخدام مترقبين مُحْدِقِينَ بالفتى المكتوف الواقف بينهم برأس مرفوع وقوف الطود بين المنخفضات. أما راحيل ومريم فكانتا واقفتين خلفه والخوف يراود قلبيهما ونظرات القوم القاسية تعذب نفسيهما، ولكن ماذا يفعل الخوف في عواطف امرأة رأت الحق فاتبعته وماذا تفعل النظرات القاسية في فؤاد صبية سمعت نداء الحب فاستيقظت؟

ونظر الشيخ عباس إذ ذاك نحو الشاب وبصوت يشابه ضجيج الأمواج سأله قائلًا: «ما اسمك أيها الرجل؟»

فأجابه: اسمي خليل. فقال الشيخ: «من هم أهلك وذووك وأين مسقط رأسك؟»

فالتفت خليل نحو الفلاحين الناظرين إليه بكره واشمئزاز وقال: «الفقراء والمساكين المظلومون هم أهلي وعشيرتي، وهذه البلاد الوسيعة هي مسقط رأسي.»

فابتسم الشيخ عباس مستهزئًا ثم قال: «إن الذين تنتسب إليهم يطلبون معاقبتك والبلاد التي تَدَّعِيهَا وطنًا تأبى أن تكون من سكانها.»

فقال خليل وقد اضطربت أحشاؤه: «إن الشعوب الجاهلة تقبض على أشرف أبنائها وتسلمهم إلى قساوة العتاة والظالمين، والبلاد المغمورة بالذل والهوان تضطهد محبيها ومخلصيها، ولكن أيترك الابن الصالح والدته إذا كانت مريضة، وينكر الأخ الرؤوف أخاه إذا كان تعسًا! إن هؤلاء المساكين الذين أسلموني إليك مكتوفًا اليوم هم الذين أسلموك رقابهم بالأمس، والذين أوقفوني مهانًا أمامك هم الذين يزرعون حبات قلوبهم في حقولك ويهرقون دماء أجسادهم على أقدامك، وهذه الأرض التي تأبى أن أكون من سكانها هي الأرض التي لا تفغَرُ فاها وتبتلع الطغاة والطامعين.»

فقهقه الشيخ عباس ضاحكا كأنه يريد أن يغرق بضحكه القبيح روح الشاب ويوقفها عن المسير إلى أرواح السامعين والبسطاء ثم قال: «أَوَلَمْ تكن راعيًا لثيران الدير أيها الشاب الوقح فلماذا تركت رعيتك وخرجت مطرودًا؟ هل ظننت أن الشعب يكون أكثر رأفة بالمجاذيب الملحدين من الرهبان الأتقياء؟»

فأجابه خليل: «كنت راعيًا ولم أكن جزارًا، كنت أقودُ العجولَ إلى المروج الخضراء والمراعي الخصبة ولم أسر بها قط إلى الطلول الجرداء، كنت أوردها الينابيع العذبة وأبعدها عن المستنقعات الفاسدة، كنت أعيدها في المساء إلى الحظيرة ولم أتركها في الوادي فريسة للذئاب والضواري الخاطفة، هكذا كنت أفعل بالبهائم ولو فعلت أنت مثلي بهذا القطيع المهزول الرابض الآن حولنا لما كنت تسكن هذا القصر الرفيع وتتركه يبيد جوعا في الأكواخ المظلمة، لو كنت ترحم أبناء الله المخلصين مثلما كنت أرحم عجول الدير لما كنت جالسًا الآن على هذا المقعد الحريري وهم واقفون أمامك وقوف القضبان العارية أمام ريح الشمال.»

فتحرك الشيخ عباس منزعجًا، وتلمعت على جبهته قطرة عرق باردة، وتبدل ضحكه بالغضب، ولكنه عاد فامتلك نفسه كي لا يظهر الاهتمام والاكتراث أمام رجاله وتابعيه ثم قال مشيرًا بيده: «لم نأتِ بك مكتوفًا أيها الكافر لنسمع هذيانك، بل أحضرناك لكي نحاكمك كمجرم شرير فاعلم إذًا بأنك واقف الآن أما سيد هذه القرية وممثل إرادة الأمير أمين الشهابي أيَّده الله٢ وأمام الخوري إلياس ممثل الكنيسة المقدسة التي كفرت بها، فدافع إذًا عن نفسك مما اتُّهِمْتَ به أو فاركع مسترحمًا نادمًا أمامنا وأمام هذا الجمع الساخر بك، فنغفر لك ونجعلك راعيًا للبقر مثلما كنت في الدير.»

فأجاب الشاب بهدوء: «إن المجرم لا يحاكمه المجرمون والكافر الشرير لا يدافع عن نفسه أمام الخطاة.»

قال هذه الكلمات والتفت نحو الجمع المزدحم في تلك القاعة الوسيعة وبصوت جهوري يشابه رنين الأجراس الفضية ناداهم قائلًا: «أيها الإخوة، إن الرجل الذي أقامه خضوعكم واستسلامكم سيدًا على حقولكم قد أحضرني مكتوفًا ليحاكمني أمامكم في هذا القصر المبني فوق بقايا آبائكم وجدودكم، والرجل الذي جعله إيمانكم كاهنًا في كنيستكم قد جاءني ليدينني، ويساعد على تعذيبي وإذلالي. أما أنتم فقد تراكضتم مسرعين من كل ناحية لكي تنظروني متألمًا وتسمعوني مستغيثًا مسترحمًا، قد تركتم جوانب المواقد الدافئة لتشاهدوا ابنكم وأخاكم مكتوفا مُهانًا، قد أسرعتم لتروا الفريسة المتوجعة بين مخالب الكواسر، قد جئتم لتنظروا المجرم الكافر واقفًا أمام القضاة، أنا هو المجرم، أنا هو الكافر الذي طُرِدَ من دير فحملته العاصفة إلى قريتكم، أنا هو ذلك الشرير فاسمعوا احتجاجي ولا تكونوا مشفقين بل كونوا عادلين لأن الشفقة تجوز على المجرمين الضعفاء، أما العدل فهو كل ما يطلبه الأبرياء، قد اخترتكم قضاتي لأن إرادة الشعب هي مشيئة الله، فأيقظوا قلوبكم واسمعوني جيدًا ثم احكموا عليَّ بما توحيه ضمائركم، قد قيل لكم بأني رجل كافر شرير ولكنكم لم تعرفوا ما هي جريمتي، وقد رأيتموني مكتوفًا كاللص القاتل ولم تسمعوا بعد بذنوبي لأن حقيقة الجرائم والذنوب في هذه البلاد تظل مستترة وراء الضباب، أما العقاب فيظهر للناس ظهور أسياف البرق في ظلمة الليل، جريمتي أيها الرجال هي إدراكي تعاستكم وشعوري بثقل قيودكم، وآثامي أيتها النساء هي شفقتي عليكن وعلى أطفالكن الذين يمتصون الحياة من صدوركن ممزوجة بلهات الموت.

أنا واحد منكم أيها الجمع وقد عاش آبائي وجدودي بين هذه الأودية التي تستفرغ قواكم وماتوا تحت هذا النَّيْرِ الذي يلوي أعناقكم، أنا أؤمن بالله الذي يسمع نداء نفوسكم المتوجِّعَة ويرى صدوركم المقروعة، وأؤمن بالكتاب الذي يجعلني ويجعلكم إخوة متساوين أمام وجه الشمس وأؤمن بالتعاليم التي تحررني وتحرركم من عبودية البشر وتوقفنا جميعًا بغير قيود على الأرض موطئ أقدام الله. كنت في الدير راعيًا للبقر لكن انفرادي مع البهائم الخرساء في البرية الساكنة لم يُعمني عن المأساة الأليمة التي تمثلونها كرهًا في الحقول، ولم يصمَّ أذني عن صراخ اليأس المتصاعد من قراني الأكواخ، قد نظرت فرأيتني في الدير ورأيتكم في الحقول كقطيع من النعاج سائر وراء ذئب خاطف إلى وكره فوقفت في منتصف الطريق وصرخت متسغيثًا فهجم الذئب ونهشني بأنيابه المحددة، ثم احتال عليَّ وأبعدني كي لا يثير صراخي روح القطيع فيتمرد ويتفرق مذعورًا إلى كل ناحية ويتركه منفردًا جائعًا في ظلام الليل. قد احتملتُ السجنَ والجوعَ والعطشَ من أجل الحقيقة الجارحة التي رأيتها مكتوبة بالدماء على وجوهكم، وقاسيت العذاب والجلد والسخرية لأنني جعلت لسكينة تنهيداتكم صوتًا صارخًا متموجًا في خلايا الدير، ولكنني لم أخف قط ولم يضعف قلبي لأن صراخكم الأليم كان يتبع نفسي ويجدد قواي ويحبب إليَّ الاضطهاد والاحتقار والموت.

أنتم تسألون نفوسكم الآن قائلين: «أي متى صرخنا متظلمين وأي فرد منا يتجاسر أن يفتح شفتيه؟» وأنا أقول لكم بأن نفوسكم تصرخ متظلمة في كل يوم وقلوبكم تستغيث متوجعة في كل ليلة، ولكنكم لا تسمعون نفوسكم وقلوبكم؛ لأن المنازع لا يسمع حشرجة صدره أما الجالسون بجانب مضجعه فيسمعون، والطائر المذبوح يرقص متململًا أسر إرادته ولا يعلم، أما الناظرون فيعلمون في أي ساعة من النهار لا تتأوه أرواحكم متوجعة؟ أفي الصباح عندما تنتهركم محبة البقاء وتمزق نقاب الكرى عن أجفانكم وتقودكم كالعبيد إلى الحقول؟ أم في الظهيرة عندما تتمنون الجلوس في ظل الأشجار لكي تتقوا سهام الشمس المحرقة ولا تستطيعون؟ أم في المساء عندما تعودون جائعين إلى أكواخكم ولا تجدون سوى الخبز اليابس والماء العكر؟ أم في الليل عندما تطرحكم المتاعب على الأَسِرَّةِ الحجرية فتنامون قلقين ولا يكتحل النعاس أجفانكم إلا وتهبون خائفين متوهمين صوت الشيخ يرن في آذانكم؟ وفي أي فصل من السنة لا تندب قلوبكم متحسرة؟ أفي الربيع عندما ترتدي الطبيعة حُلَّةً جديدة فتخرجون لمشاهدتها بأطمار بالية ممزقة؟ أم في الصيف عندما تحصدون الزرع وتجمعون الأغمار على البيادر وتملأون أهراء سيدكم الظلوم بالغلة ولا تحصلون لقاء أتعابكم على غير التبن والزوان؟ أم في الخريف عندما تجنون الأثمار وتعصرون العنب ولا يكون نصيبكم منها سوى الخل والبلوط؟ أم في الشتاء عندما يضطهدكم الفضاء ويطردكم البرد والزمهرير إلى الأكواخ الملتحفة بالثلوج، فتجلسون بجانب المواقد متأففين خائفين غضب الزوابع والعواصف؟

هذه هي حياتكم أيها الفقراء، هذا هو الليل المخيِّم على أرواحكم أيها التعساء، هذه هي أشباح ذُلِّكُم وشقائكم أيها المساكين، هذا هو الصراخ الأليم المستمر الذي سمعته خارجًا من أعماق صدوركم فاستيقظت وتمردت على الرهبان وكفرت بمعيشتهم، ووقفت منفردًا متظلمًا باسمكم واسم العدالة المتوجعة بأوجاعكم فحسبوني كافرًا شريرًا وطردوني من الدير فجئت لكي أشاطركم التعاسة وأعيش بقربكم وأمزج دموعي بدموعكم فأسلمتموني مكتوفًا إلى عدوكم القوي الذي يغتصب خيراتكم ويحيا غنيًّا بأموالكم ويملأ جوفه الوسيع من أثمار أتعابكم … ألا يوجد بينكم شيوخ يعلمون بأن الأرض التي تَحرثونها وتُحرمون غلتها هي لكم وقد اغتصبها والد الشيخ عباس من آبائكم عندما كانت الشريعة مكتوبة على حد السيف؟ أما سمعتم بأن الرهبان قد احتالوا على جدودكم وامتلكوا مزارعهم وكرومهم عندما كانت آيات الدين مخطوطة على شفتي الكاهن؟ ألا تعلمون بأن ممثلي الدين وأبناء الشرف الموروث يتعاونون على إخضاعكم وإذلالكم واستقطار دماء قلوبكم؟ أي رجل منكم لم يَلْوِ عُنُقَهُ كاهنُ الكنيسة أمام سيد الحقول؟ وأي امرأة بينكم لم يزجرها سيد الحقول ويستحثها لكي تتبع مشيئة كاهن الكنيسة؟

«قد سمعتم بأن الله قد قال للإنسان الأول: «بعرق جبينك تأكل خبزك.» فلماذا يأكل الشيخ عباس خُبزه مجبولًا بعرق جبينكم ويشرب خمره ممزوجًا بدموعكم؟ هل ميَّز الله هذا الرجل وجعله سيدًا إذ كان في رَحِمْ أمه أم غَضِبَ عليكم لذنوب مجهولة وبعثكم عبيدًا إلى هذه الحياة لكي تجمعوا غلة الحقول ولا تأكلون غير أشواك الأودية، وتقيموا القصور الفخمة ولا تسكنون غير الأكواخ المتداعية؟ قد سمعتم بأن يسوع الناصري قد قال لتلامذته: «مجانًا أخذتم ومجانًا أعطُوا. لا تقتنوا فضة ولا ذهبًا ولا نحاسًا في مناطقكم.» إذًا أي تعاليم أباحت للرهبان والكهان بيع صلواتهم وتعازيمهم بالفضة والذهب؟ أنتم تصلون في سكينة الليالي قائلين: «أعطنا يا رب خبزنا كفاف يومنا.» والرب قد وهبكم هذه الأرض لتعطيكم الخبز والكفاف فهل وَهَبَ رؤساء الأديرة السلطة لانتزاع هذا الخبز من بين أيديكم؟ أنتم تلعنون يهوذا لأنه باع سيده بالفضة فأي شيء يجعلكم أن تباركوا الذين يبيعونه في كل يوم من حياتهم؟ إن يهوذا التعس قد ندم على خطيئته فشنق نفسه، أما هؤلاء فيسيرون أمامكم برؤوس مرفوعة وأذيال طويلة ناعمة وقلائِدَ ذهبية وخواتم ثمينة، أنتم تعلمون أبنائكم محبة الناصري فكيف تعلمونهم الخضوع أمام مبغضيه ومخالفي تعاليمه وشرائعه، قد عرفتم بأن رسل المسيح قد ماتوا قتلًا ورجمًا لكي يُحيوا فيكم الروح المقدسة فهل تعرفون بأن الرهبان والكهان يقتلون أرواحَكم لكي يَحْيَوْا متمتعين بخيراتكم متلذذين بحرتقة قيودكم، ماذا يغركم أيها المساكين في وجود مفعم بالذل والهوان ويبقيكم راكعين أمام صنم مخيف أقامه الكذب والرياء على قبور آبائكم؟ وأي كنز ثمين تحافظون عليه بخضوعكم لتبقوه إرثًا لأبنائكم؟

«نفوسكم في قبضة الكاهن، وأجسادكم بين مخالب الحاكم، وقلوبكم في ظلمة اليأس والأحزان، فأي شيء في الحياة يمكنكم أن تشيروا إليه قائلين: «هذا لنا.» أتعرفون أيها المستسلمون الضعفاء من هو الكاهن الذي تهابونه وتقيمونه وصيًّا على أقدس أسرار نفوسكم؟ اسمعوني فأبين لكم ما تشعرون أنتم به وتخافون إظهاره، هو خائن يعطيه المسيحيون كتابًا مقدسًا فيجعله شبكة يصطاد بها أموالهم ومُرائي يقلده المؤمنون صليبًا جميلا فيمتشقه سيفًا سنينًا ويرفعه فوق رؤوسهم، وظالم يسلمه الضعفاء أعناقهم فيربطها بالمقاود ويوثقها باللجم ويقبض عليها بيد من حديد ولا يتركها حتى تنسحق كالفَخَّار وتتبدد كالرماد.

هو ذئب كاسر يدخل الحظيرة فيظنه الراعي خروفًا وينام مطمئنًّا وعند مجيء الظلام يَثِبُ على النعاج ويخنقها نعجة إثر نعجة، هو نهم يحترم موائد الطعام أكثر من مذابح الهيكل، وطامع يتبع الدينار إلى مغاور الجن ويمتص دماء العباد مثلما تمتص رمال الصحراء قطرات المطر، وبخيل يحرص على أنفاسه ويدَّخِر مالًا يحتاجه، هو محتال يدخل من شقوق الجدران ولا يخرج إلا بسقوط البيت، ولص صخري القلب ينتزع الدرهم من الأرملة والفِلْس من اليتيم، هو مخلوق عجيب له منقار النسر ومقابض النمر وأنياب الضبع وملامس الأفعى، خذوا كتابه ومزقوا ثوبه وانتفوا لحيته وافعلوا به ما شئتم ثم عودوا وضموا الدينار في كفه فيغفر لكم ويبتسم بمحبة، اصفعوا خده وابصقوا بوجهه ودوسوا عنقه ثم أجلسوه على موائدكم فيتناسى ويتهلل ويحل حزامه لينمو جوفه بمآكلكم ومشاربكم، جدفوا على اسم ربه واقذفوا بعقائده واسخروا بإيمانه ثم ابعثوا إليه بجرة من الخمر أو بسلة من الفاكهة فيسامحكم ويبرركم أمام الله والناس، يرى الامرأة فيحول وجهه قائلًا بأعلى صوته: «ابتعدي عني يا ابنة بابل.» ثم يهمس بسره قائلًا: «الزيجة أفضل من التحرق.» يرى الفتيان والصبايا سائرين في موكب الحب فيرفع عينيه نحو السماء ويهتف قائلًا: «باطلة الأباطيل وكل شيء تحت الشمس باطل.» ثم يختلي ويتنهد قائلًا: «لِتَفْنَ الشرائع وتضمحل التقاليد التي أبعدتني عن غبطة الحياة، وأحرمتني ملذات العمر.» يقول للناس مستشهدًا: «لا تدينوا لِئَلَّا تدانوا.» ولكنه يدين بقساوة جميع الذين يسخرون بمكارهه ويبعث بأرواحهم إلى الجحيم قبل أن يبعدهم الموت عن هذه الحياة، يحدثكم رافعًا عينيه بين الآونة والأخرى نحو العلاء أما فكرته فتظل منسابة كالأفعى حول جيوبكم، يناديكم بقوله لكم: «يا أولادي ويا أبنائي.» وهو لا يشعر بالعاطفة الأبوية ولا تبتسم شفتاه لرضيع ولا يحمل طفلًا على منكبيه، ويقول لكم هازًّا رأسه بتخشع: «لنترفعن عن العالميات لأن أعمارنا تضمحل كالضباب وأيامنا تزول كالفيء.»

وإذا نظرتم جيدًا رأيتموه متمسكًا بأذيال الحياة متشبثًا بأهداب العمر، متأسفًا على ذهاب الأمس، خائفًا من سرعة اليوم، مترقبًا مجيء الغد، يطلب منكم الإحسان وهو أوفر منكم مالًا فإن أجبتموه يبارككم علنًا وإن منعتموه يلعنكم سرًّا، في الهيكل يوصيكم بالفقراء والمحتاجين وحول منزله يصرخ الجائعون وأمام عينيه تمد أيدي البائسين فلا ينظر ولا يسمع، يبيع صلاته ومن لا يشتري يكون كافرًا بالله وأنبيائه محرومًا من الجنة والنعيم، هذا هو المخلوق الذي يخيفكم أيها المسيحيون، هذا هو الراهب الذي يمتص دماءكم أيها الفقراء، هذا هو الكاهن الذي يرسم إشارة الصليب بيمينه ويقبض على قلوبكم بشماله، هذا هو الأسقف الذي تقيمونه خادمًا فينقلب سيدًا، وتطوبونه قديسًا فيصير شيطانًا، وترفعونه نائبًا فيصبح نيرًا ثقيلًا، هذا هو الظل الذي يتبع أرواحكم منذ بلوغها هذا العالم حتى رجوعها إلى الأبدية، هذا هو الرجل الذي جاء في هذه الليلة لكي يدينني ويرذلني لأن روحي تمرَّدت على أعداء يسوع الناصري الذي أحبكم ودعاكم إخوة له ثم صُلب من أجلكم.»

وتهلل وجه الشاب المكتوف وقد شعر باليقظة الروحية المتمايلة في صدور سامعيه واتَّضَحَتْ له تأثيرات كلامه في وجوه الناظرين إليه فرفع صوته وزاد قائلًا: «قد سمعتم أيها الإخوة بأن الشيخ عباس قد أقامه الأمير أمين الشهابي سيدًا على هذه القرية، وسمعتم أيضًا بأن الأمير قد أقامه المليك حاكمًا على هذا الجبل، فهل سمعتم أو رأيتم القوة التي أقامت المليك ربًّا على هذه البلاد؟ أنتم لا ترون تلك القوة متجسدة ولا تسمعونها متكلمة ولكنكم تشعرون بوجودها في أعماق أرواحكم، وتسجدون أمامها مصلين مبتهلين وتنادونها بقولكم: «أبانا الذي في السماوات.» نعم إن أباكم السماوي هو الذي يقيم الملوك والأمراء وهو القادر على كل شيء، ولكن هل تعتقدون بأن أباكم الذي أحبكم وعلَّمَكُم سبل الحق بواسطة أنبيائه يريد أن تكونوا مظلومين ومرذولين؟ هل تعتقدون بأن الله الذي يُنزلُ السحاب مطرًا، ويستنبت البذور زرعًا، وينمي الزهور أثمارًا، يريد أن تكونوا جياعًا مُحْتَقَرِين لكي يبقى واحد بينكم منتفخًا متلذذًا؟

هل تعتقدون بأن الروح السرمدي الذي يوحي إليكم محبة الزوجة والرأفة بالبنين والشفقة على القريب يقيم عليكم سيدًا قاسيًا يظلمكم ويستعبد أيامكم؟ هل تعتقدون بأن النواميس الأزلية التي تحبب إليكم نور الحياة تبعث إليكم بمن يحبب إليكم ظلمة الموت؟ هل تعتقدون بأن الطبيعة قد بعثت القُوى في أجسادكم لكي تعود وتخضعها أمام الضعف؟ أنتم لا تعتقدون بهذه الأشياء لأنكم إن فعلتم تكونون كافرين بالعدل الإلهي جاحدين نور الحق الذي يضيء على جميع الناس. إذًا أي شيء يجعلكم أن تساعدوا الشرير على نفوسكم؟ ولماذا تخافون مشيئة الله الذي بعثكم أحرارًا إلى هذا العالم وتصيرون عبيدًا للمتمردين على ناموسه، كيف ترفعون أعينكم نحو الله القوي وتدعونه أبًا ثم تحنون رقابكم أمام الإنسان الضعيف وتدعونه سيدًا؟ كيف يرضى أبناء الله أن يكونوا عبيدًا للبشر؟ أما دعاكم يسوع إخوة فكيف يدعوكم الشيخ عباس خدمًا؟ أما جعلكم يسوع أحرارًا بالروح والحق فكيف يجعلكم الأمير عبيدًا للحَيْف والفساد؟ أما رفع يسوع رؤوسكم نحو السماء فكيف تخفضونها إلى التراب؟ أما سكب يسوع النور في قلوبكم فكيف تغمرونها بالظلام؟

إن الله قد بعث أرواحكم في هذه الحياة كشعلات مضيئة تنمو بالمعرفة وتزيد جمالًا باستطلاعها خفايا الأيام والليالي فكيف تلحقونها بالرماد لتبيد وتنطفيء، إن الله قد وهب نفوسكم أجنحة لتطير بها سابحة في فضاء الحب والحرية فلماذا تَجزُّونها بأيديكم وتدبون كالحشرات على أديم الأرض، إن الله قد وضع في قلوبكم بذور السعادة فكيف تنتزعونها وتطرحونها على الصخر لتلتقطها الغربان وتذريها الأرياح، إن الله قد رزقكم البنين والبنات لكي تدربوهم على سبل الحق وتملأوا صدورهم بأغاني الكيان وتتركوا لهم غبطة الحياة إرثًا ثمينًا فكيف تهجعون وتخلفونهم أمواتًا بين أيدي الدهر، غرباء في أرض مولدهم، تعساء أمام وجه الشمس؟ أوليس الوالد الذي يترك ابنه الحر عبدًا يكون كالوالد الذي يسأله ابنه خبزًا فيعطيه حجرًا؟ أما رأيتم عصافير الحقل تدرب فراخها على الطيران فكيف تعلمون صغاركم جر القيود والسلاسل؟ أما رأيتم زهور الأودية تستودع بذورها حرارة الشمس فكيف تسلمون أطفالكم إلى الظلمة الباردة.»

وسكت خليل هنيهة كأن أفكاره وعواطفه قد نمت واتَّسَعَتْ فلم تَعُدْ ترتدي الألفاظ ثوبًا ثم قال بصوت منخفض: «إنَّ الكلام الذي سمعتموه مني في هذه الليلة هو الكلام الذي طردني الرهبان من أجله، والروح التي شعرتم بتموجاتها في قلوبكم هي الروح التي أوقفتني مكتوفًا أمامكم، فإن وثب عليَّ سيد حقولكم وكاهنُ كنيستكم وصرعاني أموت سعيدًا فرحًا لأني بإظهاري لكم حقيقة ما يحسبه الظالمون جُرمًا هائلًا قد تممت مشيئة بارئي وباريكم.»

كان خليل يتكلم وفي صوته الجهوري نغمة سحرية تضطرب لها قلوب الرجال الناظرين إليه بإعجاب يشابه استغراب الأعمى إذا ما أبصر فجأة وتهتز لحلاوتها نفوس النساء المحدقات به بأعين طافحة بالدموع، أما الشيخ عباس والخوري إلياس فكانا يرتجفان غضبًا ويتلويان كالمطروحين على وسائد من الأشواك، وقد حاول كل منهما أن يوقف الشاب عن الكلام فلم يستطع لأنه كان يخاطب الجمع بقوة علوية تشابه العاصفة بعزمها والنسيمَ برقتها.

ولما انتهى خليل من كلامه وقد تراجع قليلًا إلى الوراء ووقف بجانب راحيل ومريم حدث سكوتٌ عميقٌ كأن رُوحَهُ المرفرفة في جوانب تلك القاعة الوسيعة قد حولت بصائر القرويين نحو مكان قصي وانتزعت الفكر والإرادة من نفسي الشيخ والكاهن وأوقفتهما مرتعشين أمام أشباح ضميريهما المزعجة.

حينئذٍ وقف الشيخ عباس وقد تقلصت ملامحه واصْفَرَّ وجهه وانتهر الرجال الواقفين حوله قائلًا بصوت مخنوق: «ما أصابكم أيها الكلاب؟ هل تسممت قلوبُكم وجَمدَت الحياة في داخل أجسادكم فلم تعودوا قادرين على تمزيق هذا الكافر المهزار؟ هل اكتنفت روح هذا الشيطان أرواحكم وكبلت بسحره الجهنمي سواعدكم فلم تستطيعوا إبادته؟»

قال هذه الكلمات وامتشق سيفًا كان بجانبه وهجم على الفتى المكتوف ليوقِعَ به فتقدم رجل قوي البنية من بين الشعب واعترضه قائلًا بهدوء: «أغمد سيفك يا سيدي لأن من يأخذ بالسيف، بالسيف يهلك.»

فارتعش الشيخ عباس وسقط السيف من يده وصرخ قائلًا: «هل يعترض الخادم الضعيف سيده وولي نعمته؟»

فأجابه الرجل: «الخادم الأمين لا يشارك سيده بالشرور والمظالم، إن هذا الشاب لم يقل غير الحق ولم يعلن لهؤلاء السامعين سوى الحقيقة.»

وتقدم رجل آخر وقال: «لم يقل هذا الفتى شيئًا يستوجب الحكم؛ فلماذا تضطهده؟»

ورفعت امرأة صوتها وقالت: «لم يقذف بالدين ولم يجدف على اسم الله فلماذا تدعوه كافرًا؟»

فتشجعت راحيل إذ ذاك وتقدمت إلى الأمام وقالت: «إن هذا الشاب يتكلم بألسنتنا ويتظلم عَنَّا ومن يريد به شرًّا يكون عدوًّا لنا.»

فقال الشيخ عباس صارفًا أسنانه: «وأنت تتمردين أيضًا أيتها الأرملة الساقطة؟ هل نسيت ما أصاب زوجك عندما تمرد عليَّ منذ خمس سنوات؟»

فشهقت راحيل عندما سمعت هذه الكلمات وارتعشت متوجعة كمن أدرك سرًّا هائلًا، والتفتت نحو الجمع وصرخت بأعلى صوتها: «هل سمعتم القاتل يعترف بجريمته في ساعة غضبه؟ ألا تذكرون أن زوجي قد وُجِدَ قتيلًا في الحقل وقد بحثتم عن القاتل فلم تجدوه لأنه كان مختبئًا وراء هذه الجدران؟ ألا تذكرون أن زوجي كان رجلًا شجاعًا؟ أما سمعتموه متكلمًا عن مكاره الشيخ عباس منددًا بأعماله متمردًا على قساوته؟ ها قد أبانت السماء قاتل جاركم وأخيكم وأوقفته أمامكم فانظروا إليه واقرأوا جريمته مكتوبة على وجهه المصفر، انظروه متململًا جازعًا، تأملوا كيف قد ستر وجهه بيديه كي لا يرى عيونكم محدقة به، انظروا السيد القوي مرتجفًا كالقصبة المرضوضة، انظروا الجبار العظيم مرتاعًا أمامكم كالعبد الخاطئ، إن الله قد أراكم على حين غفلة خفايا هذا القاتل الذي تخافونه وأبان لكم النفس الشريرة التي جعلتني أرملة بين نسائكم وتركت ابنتي يتيمة بين أبنائكم.»

وبينما راحيل تتكلم صارخة وألفاظها تنقض كالصواعق على رأس الشيخ عباس وضجيج الرجال وزفرات النساء تتموج كشعلات النار والكبريت حول دماغه وقف الكاهن وأخذ بساعده وأجلسه على المقعد ثم نادى الخدم بصوت مرتجف قائلًا: «اقبضوا على هذه المرأة التي تتهم سيدكم زورًا وجروها مع هذا الشاب الكافر إلى غرفة مظلمة، ومن يعترضكم يكون شريكًا لهما بالجريمة محرومًا نظيرهما من الكنيسة المقدسة.»

فلم يتحرك الخدام من أماكنهم ولم يحفلوا بأوامر الكاهن بل لبثوا جامدين محدقين بخليل المكتوف وراحيل ومريم الواقفتين عن يمينه وشماله كأنهما جناحان قد فتحهما ليطير ويحلق بهما في السحاب.

فقال الكاهن ولحيته تتراقص حنقًا: «هل تكفرون بنعمة سيدكم أيها الأجلاف وتجحدون فضله وتنكرونه من أجل فتى مجرم كافر وامرأة عاهرة كاذبة؟» …

فأجابه أكبر الخدام سنًّا وقال: «قد خدمنا الشيخ عباس لقاء الخبز والمأوى ولكننا لم نكن له عبيدًا قط.» قال هذا ونزع عباءته وكوفيته وطرحهما أمام الشيخ عباس وزاد قائلًا: «لا أريد أن أنعم جسدي بهذه الملابس الحقيرة كيما تبقى نفسي متعذبة في منزل سفاك الدماء.»

ففعل الخدام كافة نظيره وانضموا إلى الجمع وعلى وجوههم سيماء الانعتاق والحرية.

فلما رأى الخوري إلياس ما فعلوه وقد شعر بأن سلطته الكاذبة قد تضعضعت خرج من ذلك المنزل مجدفًا على الساعة التي أتت بخليل إلى تلك القرية.

حينئذٍ تقدم رجل من بين الجمع وحل وثاق خليل ونظر إلى الشيخ عباس المرتمي على كرسيه كجثة هامدة وبلهجة مملوءة بالعزم والإرادة خاطبه قائلًا: «إن الشاب الذي أحضرته مكتوفًا لكي تحاكمه كمجرم أثيم قد أنار قلوبنا المظلمة وحوَّل بصائرنا نحو سبل الحق والمعروفة، والأرملة البائسة التي دعوتها عاهرة كاذبة قد أبانت لنا السر الهائل الذي ظل مكتومًا خمسة أعوام، أما نحن فقد تراكضنا مسرعين إلى هذه الدار بدينونة البريء واضطهاد العادل، والآن وقد انفتحت أعيننا وأرتنا السماء جريمتك المخيفة ومظالمك القاسية نغادرك منفردًا ولا ندينك، ونهملك ولا نشكوك ونبتعد عنك طالبين من السماء أن تفعل مشيئتها بك.»

وارتفعت إذ ذاك أصوات الرجال والنساء في تلك القاعة الوسيعة فكان هذا يقول: هلموا نخرج من هذا المكان المشحون بالآثام والمعاصي ونذهب إلى بيوتنا. وذا يصرخ: تعالوا نتبع الشاب إلى بيت راحيل ونسمع حكمته المعزية وأقواله العذبة. وذاك يهتف: لنفعلن إرادة خليل فهو أعلم بحاجاتنا وأدرى منَّا بمطالبنا. وغيره يقول: إن كنا نريد العدل والإنصاف فلنذهب غدًا إلى الأمير أمين ونخبره بجرائم الشيخ عباس ونطلب إليه أن يعاقبه. وآخر يصيح: يجب أن نستعطف الأمير ونرجوه أن يقيم خليلًا ممثلًا له في هذه القرية. وغيره يقول: يجب أن نشكو الخوري إلياس إلى الأسقف لأنه يشارك الشيخ بجميع أعماله.

وبينما هذه الأصوات تتصاعد من كل ناحية وتهبط كالسهام الحادة على صدر الشيخ الخفوق رفع خليل يده وأسكت الجمع بإشارة ثم ناداهم قائلًا: «اسمعوا وتبصَّروا أيها الإخوة ولا تكونوا متسرعين، أنا أطلب إليكم باسم محبتي ألا تذهبوا إلى الأمير فهو لا ينصفكم من الشيخ لأن الكواسر لا تنهش بعضها البعض، ولا تشكوا الكاهن إلى رئيسه لأن الرئيس يعلم أن البيت الذي ينقسم على ذاته يخرب، ولا تطلبوا أن أكون ممثلًا للحاكم في هذه القرية لأن الخادم الأمين لا يريد أن يكون عونًا للسيد الشرير، إن كنت خليقًا بحبكم وانعطافكم فدعوني أعيش بينكم وأشارككم بأفراح الحياة وأحزانها، وأشاطركم العمل في الحقول والراحة في المنازل؛ لأننى إن لم أكن كواحد منكم أكن كالمرائين الذين يكرزون بالفضيلة ولا يفعلون غير الشر، والآن وقد وضعت الفأس على أصل الشجرة تعالوا نذهب تاركين الشيخ عباس واقفًا في محكمة ضميره أمام عرش الله الذي يشرق شمسه على الأبرار والأشرار.»

قال هذا وخرج من ذلك المكان فتبعه الجمع كأن في شخصه قوة تتحول نحوها الأبصار كيفما تحولت، وبقي الشيخ منفردًا كالبرج المهدوم متوجعًا كالقائد المغلوب، ولما بلغ الجمع ساحة الكنيسة وكان القمر قد طلع من وراء الشفق وسكب أشعته الفضية في السماء التفت خليل ورأى أوجه الرجال والنساء متجهة نحوه كالخراف الناظرة إلى راعيها فتحركت روحه في داخله كأنه وجد في أولئك القرويين المساكين رمز الشعوب المظلومة وشاهد في تلك الأكواخ الحقيرة المكتنفة بالثلوج المتجلدة رمز البلاد المغمورة بالذل والهوان، فوقف وقفة نبي يسمع صراخ الأجيال، وتغيرت ملامحه واتسعت عيناه كأن نفسه قد أبصرت جميع أمم المشرق سائرة تجر قيود العبودية في تلك الأودية، فرفع كفيه نحو العلاء وبصوت يشابه ضجيج الأمواج صرخ قائلًا: «من أعماق هذه الأعماق نناديك أيتها الحرية فاسمعينا، من جوانب هذه الظلمة ترفع أَكُفَّنَا نحوكِ فانظرينا، وعلى هذه الثلوج نسجد أمامك فارحمينا، أمام عرشكِ الرهيب نقف الآن ناشرين على أجسادنا أثواب آبائنا الملطخة بدمائهم، عافرين شعورنا بتراب القبور الممزوج ببقاياهم، حاملين السيوف التي أُغْمِدَتْ بأكبادهم، رافعين الرماح التي خرقت صدورهم، ساحبين القيود التي أبادت أقدامهم، صارخين الصراخ الذي جرح حناجرهم، نائحين النواحَ الذي ملأ ظلمة سجونهم، مصلين الصلاة التي انبثقت من أوجاع قلوبهم، فأصغي أيتها الحرية واسمعينا، من منبع النيل إلى مصب الفرات يتصاعد نحوك عويل النفوس متموجًا مع صراخ الهاوية، ومن أطراف الجزيرة إلى جبهة لبنان تمتد إليك الأيدي مرتعشة بنزاع الموت، ومن شاطئ الخليج إلى أذيال الصحراء ترتفع نحوِك الأعين مغمورة بذوبان الأفئدة، فالتفتي أيتها الحرية وانظرينا: في زوايا الأكواخ القائمة في ظلال الفقر والهوان تُقرع أمامك الصدور، وفي خلايا البيوت الجالسة في ظلمة الجهل والغباوة تُطرح لديك القلوب، وفي قراني المنازل المحجوبة بضباب الجور والاستبداد تحن إليك الأرواح، فانظري أيتها الحرية وارحمينا … في المدارس والمكاتب تناجيك الشبيبة اليائسة، وفي الكنائس والجوامع يستميلك الكتاب المتروك، وفي المحاكم والمجالس تستغيث بك الشريعة المهملة، فأشفقي أيتها الحرية وخلصينا … في شوارعنا الضيقة يبيع التاجر أيامه ليعطي أثمانها إلى لصوص المغرب، ولا من ينصحُهُ، وفي حقولنا المجدبة يحفر الفلاح بأظافره، ويزرعها حبات قلبه، ويسقيها دموعه، ولا يستغل غير الأشواك ولا من يعلمه، وفي سهولنا الجرداء يسير البدوي عاريًا حافيًا جائعًا ولا من يترأف عليه، فتكلمي أيتها الحرية وعلمينا.

نعاجنا ترعى الأشواك والحسك بدلًا من الزهور والأعشاب، وعجولُنا تقضم أصول الأشجار بدلًا من الذرة، وخيولنا تلتهم الهشيم بدلًا من الشعير فهلمي أيتها الحرية وأنقذينا.

منذ البدء وظلام الليل يخيم على أرواحنا فأي متى يجيء الفجر؟ من الحبوس إلى الحبوس تنتقل أجسادنا والأجيال تمر بنا ساخرة فإلى متى نحتمل سخرية الأجيال؟ ومن نير ثقيل إلى نير أثقل تذهب أعناقنا وأمم الأرض تنظر من بعيد ضاحكة منا فإلامَ نصبر على ضحك الأمم؟ ومن القيود إلى القيود تسير ركابُنا فلا القيود تفنى ولا نحن ننقرض. فإلى متى نحيا؟

من عبودية المصريين إلى سَبْيِ بابل إلى قساوة الفرس إلى خدمة الإغريقيين إلى استبداد الروم إلى مظالم المغول إلى مطامع الإفرنج فإلى أين نحن سائرون الآن، وأي متى نبلغ جبهة العقبة؟

من مقابض فرعون إلى مخالب نبوختنصر إلى أظافر الإسكندر إلى أسياف هيرودس إلى براثن نيرون إلى أنياب الشيطان فإلى يَدِ من نحن ذاهبون الآن وأى ومتى نبلغ قبضة الموت فنرتاح من سكينة العدم؟

بعزم سواعدنا قد رفعوا أعمدة الهياكل والمعابد لمجد آلهتهم، وعلى ظهورنا قد نقلوا الطين والحجارة لبناء الأسوار والبروج لتعزيز حماهُم، وبقوى أجسادنا قد أقاموا الأهرام لتخليد أسمائهم، فحتى متى نبني القصور والصروح ولا نسكنُ غير الأكواخ والكهوف، ونملأ الأهرام والخزائن ولا نأكل غير الثوم والكراث، ونحوك الحرير والصوف ولا نلبس غير المسوح والأطمار؟

بخبثهم واحتيالهم قد فرقوا بين العشيرة والعشيرة وأبعدوا الطائفة عن الطائفة، وبَغَّضُوا القبيلة بالقبيلة، فحتى متى نتبدد كالرماد أمام هذه الزوبعة القاسية، ونتصارع كالأشبال الجائعة بقرب هذه الجيفة المنتنة؟»

«لحفظ عروشهم وطمأنينة قلوبهم قد سلَّحوا الدرزي لمقاتلة العربي وحمَّسوا الشيعي لمصارعة السني ونشطوا الكردي لذبح البدوي وشجعوا الأحمدي لمنازعة المسيحي، فحتى متى يصرع الأخ أخاه على صدر الأم وإلى متى يتوعد الجار جاره بجانب قبر الحبيبة وإلامَ يتباعد الصليب عن الهلال أمام عين الله؟

أصغي أيتها الحرية واسمعينا، التفتي يا أم ساكني الأرض وانظرينا فنحن لسنا أبناء ضرَّتِك، تكلمي بلسان فرد واحد منا، فمن شرارة واحدة يشتعل القش اليابس، أيقظي بحفيف أجنحتك روح رجل من رجالنا، فمن سحابة واحدة ينبثق البرق وينير بلحظة خلايا الأودية وقمم الجبال، بددي بعزمك هذه الغيوم السوداء وانزلي كالصاعقة واهدمي كالمنجنيق قوائم العروش المرفوعة على العظام والجماجم المُصَفَّحَةِ بذهب الجزية والرشوة، المغمورة بالدماء والدموع.»

«اسمعينا أيتها الحرية، ارحمينا يا ابنة أثينا، أنقذينا يا أخت رومة، خلصينا يا رفيقة موسى، أسعفينا يا حبيبة محمد، علمينا يا عروسة يسوع، قوي قلوبنا لنحيا أو شددي سواعد أعدائنا علينا فنفنى وننقرض ونرتاح.»

كان خليل يناجي السماء وعيون الفلاحين محدقة به، وعواطفهم تنسكب مع نغمة صوته، ونفوسهم تتطاير مع أنفاسه، وصدورهم تخفق بنبضات قلبه، فكأنه أصبح منهم في تلك الساعة بمنزلة الروح من الجسد، ولما انتهى من مناجاته التفت نحوهم وقال بهدوء: «قد جمعنا هذا الليل في منزل الشيخ عباس لكي نرى نور النهار، وأوقفتنا المظالم أمام هذا الفضاء البارد لكي نتفاهم وننضم كالفراخ تحت جناحي الروح الخالدة، فليذهب الآن كل منا إلى فراشه لينام مترقبًا لقاء أخيه في الصباح.»

قال هذا ومشى متبعًا خطوات راحيل ومريم إلى كوخهما، فتفرق إذ ذاك الجمع وذهب كلٌّ إلى بيته مفكرًا بما سمعه ورآه شاعرًا بملامس حياة جديدة في داخل نفسه.

ولم تمر ساعة حتى انطفأت السرج في الأكواخ وألقت السكينة وشاحها على تلك القرية وحملت الأحلام أرواح الفلاحين تاركة روح الشيخ عباس ساهرة مع أشباح الليل مرتعدة أمام ذنوبه متعذبة بين أنياب هواجسه.

٨

مرَّ شهران وخليل يسكب سرائر روحه في قلوب أولئك القرويين محدثًا إياهم في كل يوم عن غوامض حقوقهم وواجباتهم، مصورًا لبصائرهم حياة الرهبان الطامعين مرددًا على مسامعهم أخبار الحكام القساة، جاعلًا بين عواطفه وعواطفهم صلة قوية شبيهة بالنواميس الأزلية التي تقيد الأجرام ببعضها بعضًا، فكانوا يصغون إليه بفرح يضارع بهجة الحقول الظمآنة بانهطال الأمطار، ويرددون كلامه في خلوتهم ملبسين نسمات مقاصده أجسادًا من محبتهم غير حافلين بالخوري إلياس الذي أصبح يتزلَّف إليهم منذ ظهور جريمة حليفه الشيخ، ويقترب منهم لينًا كالشمع بعد أن كان صلبًا كالرخام.

أما الشيخ عباس فقد أصيب بعِلَّةٍ في نفسه شبيهة بالجنون، فكان يسير ذهابًا وإيابًا في رواق منزله كالنمر المسجون، وينادي خدامه بأعلى صوته فلا يجيبه غير الجدران، ويصرخ مستنجدًا برجاله، فلا يأتي لمعونته غير زوجته المسكينة التي عانت من خشونة طباعه ما قاساه الفلاحون من مظالمه واستبداده، ولما جاءت أيامُ الصوم وأعلنت السماء قدوم الربيع انقضت أيام الشيخ بانقضاء زوابع الشتاء فمات بعد نزاع موجِع مخيف، وذهبت روحه محمولة على بساط أعماله لتقف عارية أمام ذلك العرش الذي نشعر بوجوده ولا نراه، وقد اختلفت آراء الفلاحين في سبب موته، فكان بعضهم يقول قد اختل شعوره فقضى مجنونًا وبعضُهم يقول قد سمم اليأس حياته عندما زالت سطوته فمات منتحرًا. أما النساء اللواتي ذهبن لتعزية زوجته فأخبرن رجالهن بأنه مات خائفًا مرتاعًا؛ لأن شبح سمعان الرامي كان يظهر له مرتديًا أثوابًا ملطخة بالدماء ويقوده كُرهًا عندما ينتصف الليل إلى المكان الذي وجد فيه مصروعًا منذ خمسة أعوام.

•••

وأعلنت أيام نيسان لسكان تلك القرية سرائر الحب الخفية الكائنة بين روح خليل وروح مريم ابنة راحيل فتهللت وجوههم فرحًا، ورقصت قلوبهم ابتهاجًا، ولم يعودوا يخشون ذهاب الشاب الذي أيقظ قلوبهم إلى محيط أوسع وأرقى من وسطهم فطافوا يبشرون بعضُهم بعضًا بصيرورته جارًا قريبًا وصهرًا محبوبًا لكل واحد منهم.

ولما جاءت أيامُ الحصاد خرج الفلاحون إلى الحقول وجمعوا الأغمار على البيادر ولم يكن الشيخ عباس هناك ليغتصب الغلة ويحملها إلى أهرائه ومخازنه بل كان كل من الفلاحين يستغل الحقل الذي فلحه وزرعه فامتلأت تلك الأكواخ من القمح والذرة والخمر والزيت.

أما خليل فكان يشاطرهم الأتعاب والمسرات ويساعدهم بجمع الغلة وعصر العنب واجتناء الأثمار، ولم يكن يميز نفسه عن الواحد منهم إلا بمحبته ونشاطه.

منذ تلك السنة إلى أيامنا هذه أصبح كل فلاح في تلك القرية يستغل بالفرح الحقل الذي زرعه بالأتعاب، ويجمع بالمسرة ثمار البستان الذي غرسه بالمشقة، فصارت الأرض ملكًا لمن يفلحها، والكروم نصيبًا لمن ينقبها ويحرثها.

والآن وقد انقضى نصفُ قرن على هذه الحادثة، وراودت اليقظةُ أجفانَ اللبنانيين، يمر المسافر على طريقه إلى غابة الأرز ويقف متأملًا بمحاسن تلك القرية الجالسة كالعروس على كَتِفِ الوادي فيرى أكواخها قد صارت بيوتًا جميلة مُكْتَنَفَةً بالحقول الخصبة والحدائق الناضرة، وإن سأل أحد سكانها عن تاريخ الشيخ عباس يجبه مشيرًا نحو حجارة متقوضة وجدران مهدومة مرتمية قائلًا: «هذا قصر الشيخ عباس وهذا هو تاريخ حياته.» وإن سأله عن خليل يرفع يده إلى العلاء قائلًا: «هناك يسكن خليلنا الصالح، أما تاريخُ حياته فقد كتبه آباؤنا بأحرف من شعاع على صفحات قلوبنا فلن تمحوه الأيام والليالي.»

١  وهو أغنى وأشهر دير في لبنان تقدر حاصلاته بألوف الدنانير يسكنه عشرات من الرهبان المعروفين بالبلديين، وقزحيا لفظة سريانية معناها «فردوس الحياة».
٢  الأمير أمين شهاب هو ابن الأمير بشير الكبير وقد حكم الجبل بعد موت أبيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤