تمهيد

في صيف عام ١٩٤٠ أتممت وضع الجزءين الأول والثاني من تاريخ مصر القديمة حتى العهد الإهناسي؛ أي الأسرة العاشرة، وكان بودِّي أن أسير قدمًا في طريقي وأضع الجزء الثالث الذي ينتظم الأسرتين الحادية عشرة والثانية عشرة، ولكن عقبات نهدت في الطريق والحرب قائمة، فلم أستطع بين طوفان الحوادث وطغيان الكوارث أن أتصل بالأوساط العلمية الأوروبية، وأن أغترف من مصادرها ما يساعدني على إخراج بحث وافٍ تام العناصر قوي الأسباب؛ من أجل ذلك آثرت وقتئذ أن أخرج للناس «كتاب الأدب المصري القديم» الذي كنت قد سرت في وضعه شوطًا بعيدًا حتى تنفرج الغمة ويزول شبح الحرب المخيف، فلما استقرت السيوف في أغمادها وذهبت نوازي الشر من الرءوس واتصل ما انقطع من أسباب التعاون الفكري؛ أخذت أدرس كل ما جدَّ من البحوث العلمية حول هذا العصر والأسرة الحادية عشرة منه بخاصة؛ لأن هذه الأسرة لا تزال رغم مجهود العلماء وكشف الباحثين في حاجة إلى من يُظهر حقائقها التاريخية ناصعة بريئة من شوائب الظن والحدس.

لقد أبان لنا معول المنقب صفحات مجيدة في حياة القوم الاجتماعية والزراعية والدينية والصناعية في هذه الفترة مما لم نحظ به في عصر آخر؛ ومن أجل هذا نشرنا هذه الصفحات مستعيضين بها عن تلك الحقائق الجافة المتكررة المتشابهة التي تتناول الملوك وأعمالهم والتي نلقنها أبناءنا في شيء من التكلف والتصنع.

فإذا قرأت رسائل «حقا نخت» في هذا الكتاب وجدت أمامك صورة حية عن حياة الفلاح المصري كانت مطوية محجوبة عنا منذ أربعة آلاف سنة تقريبًا، وإذا فحصت محتويات مقبرة «مكت رع» وجدت صفحة مجيدة تقرأ فيها حياة القوم الاجتماعية بكل مظاهرها من صناعة وفن وتجارة وشئون منزلية وزراعية واقتصادية، مما يجعلك تقف مشدوهًا حائرًا أمام ما وصل إليه القوم من الحذق والمهارة الفنية وتفهم طرائق الحياة والافتنان فيها والإبداع في إجادتها.

وإذا درس رب السيف لوحات الجندية التي عرضناها في هذا الكتاب لمس فيها قوة التضامن الحربي وإجادة فنون القتال، ومكانة الجندي بين قومه، وعرف لأوَّل مرة في تاريخ العالم قيمة الكلاب في الحروب والدور الذي كانت تلعبه.

كل هذه لمع تبدو من وقت لآخر، فتأخذ بيدنا في تلك المجاهل المظلمة التي اعترضت سيرنا عند الكتابة في تاريخ الأسرة الحادية عشرة.

والواقع أنك لا تجد اثنين من مؤلفي عصرنا يتفقان على رأي واحد عند الكتابة في تاريخ هذه الأسرة، وأن أعظم قدر كُتب فيها لا يتعدَّى عشرين صفحة، على أنَّا قد جمعنا هنا كل ما يمكن من الحقائق التاريخية الهامة عن حياة هذه الأسرة وبخاصة الناحية الاجتماعية، وقد كان اعتمادنا في ذلك على المصادر الأصلية بقدر ما سمحت به الأحوال.

أما الأسرة الثانية عشرة، وهي العصر الذهبي لمصر الخالدة، فإن الباحث فيها، رغم ما يلاقيه من فجوات في تاريخها، لا يعسر عليه أن يعرف تاريخًا لها مرتب العهود مسلسل الحوادث، وإن كان جزؤه الأخير عليه ستار رقيق من الشك والإبهام.

وإن الباحث في التاريخ المصري منذ نشأته يلحظ أن شعب مصر قد قام بعد سقوط الدولة القديمة بأوَّل ثورة اجتماعية على الأغنياء والملوك، وطالب بالعدالة الاجتماعية والدينية، فنال ما أراد؛ وبذلك سجل أول انتصار للإنسانية في ميدان النضال لنيل الحرية الشخصية والمساواة بينه وبين الحكام الغاشمين، مما أفضى إلى مساواته في عالم الآخرة بالملوك الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أربابًا، وأن الجنة مأواهم وحسب. وكان أن تأسست الأسرة الثانية عشرة بفضل حاكم عادل يظهر أنه من أسرة شعبية بل من أم نوبية (سودانية)، فسارت البلاد بخطًى واسعة سريعة نحو التقدُّم التجاري والصناعي والفني، وازدهر الأدب ازدهارًا عظيمًا، وبدأت الفتوح المظفرة في الشمال والجنوب، فكان ذلك إيذانًا بتأسيس إمبراطورية عظيمة لم تلبث أن امتد سلطانها على كل أرجاء العالم المتمدن في الدولة الحديثة.

والظاهرة التي تستحق التسجيل هنا أن الثقافة التي عمت البلاد في هذا العصر كانت وليدة التربة المصرية نفسها، والتفكير المصري ذاته، لم تستَعن في ذلك بدولة أجنبية، ولم تأخذ عن غيرها شيئًا؛ فأدبها وفنونها وصناعاتها وديانتها وطرق حياتها ونظم حكمها تضرب بأعراقها إلى أصل مصري بحت؛ من أجل هذا أطلقنا على هذه الفترة «العصر الذهبي في التاريخ المصري».

وقد حاولنا في هذا الفصل من الكتاب أن نعرض أعمال كل ملك على حدة، ثم شفعنا ذلك بفصل في أصول المدنية في هذا العهد، وبخاصة من ناحية علاقات مصر بالأمم المجاورة لها وهي فلسطين وسوريا وبلاد شرق الأردن ولبنان والأناضول ولوبيا، ثم السودان وارتباطه بمصر منذ أقدم العصور التي ترجع إلى ما قبل التاريخ، وقد فصلنا القول في نشأة الإمبراطورية المصرية في آسيا والروابط التي كانت بين أهلها وبين مصر في عهد الأسرة الثانية عشرة، ثم تعرَّضنا لما كان بين مصر وبلاد النوبة من علاقات، وما طرأ عليها من الوهن، ثم توثقها في عهد «الدولة الوسطى» حتى وصلت الفتوح المصرية في هذه الجهة إلى ما بعد الشلال الثالث على يد «سنوسرت الثالث» الفاتح العظيم.

ولقد وجهنا مزيد عناية لدرس الحياة الدينية في هذا العهد، فرسمنا صورها كما وجدناها على الآثار، وطبق ما أوحته متون التوابيت التي امتاز بها هذا العصر، وأخصها ما جاء عن عالم الآخرة وكيف يصل إليه المُتوفَّى، وما يصادفه من عقبات ومصاعب تحاول صدَّ المُتوفَّى عن ورد الخوض المحبوب، ولقد فصلنا القول في ذلك رغم ما في المتن من صعوبات لغوية بما لم نسبق إليه؛ إذ إن معظم المشتغلين بالآثار لم يلتفتوا إلى هذا الكتاب الذي أسموه «كتاب الطريقين»، ولقد خصصته بعنايتي لأوجه الشبه الكبيرة بينه وبين الخرافات التي نقرؤها في الكتب القصصية عن الجنة والنار، ولأنه يكشف عن ناحية من النواحي العقلية عند القوم، ويبين تصوَّراتهم الفلسفية عن عالم الآخرة الذي لا يفوز فيه إلا من آمن وعمل صالحًا.

وبعد؛ فأرجو أن أكون قد وُفقت بعض الشيء للكشف عن هذا الجزء الغامض من تاريخ مصر الخالدة.

وإني أسأل الله أن يسدِّد خطانا ويوفقنا لخدمة مصر وأبنائها، كما أسأل مواطني الأعزاء أن يقدموا وافر شكرهم معي لأولئك الذين فسحوا لي الطريق على كره منهم لإنجاز هذا العمل الشاق المحبب إلى نفسي.

وإني أتقدَّم بالشكر لصديقي الأستاذ محمد النجار الذي أسهم بقسط وافر في قراءة الكتاب قبل طبعه وقراءة تجاربه، كما أشكر حضرة الأستاذ محمد نديم مدير مطبعة دار الكتب المصرية ورجال المطبعة على ما بذلوه من عناية لإخراج هذا المؤلف.

والسلام على من اتبع الهدى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤