سنوسرت الثالث (١٨٨٧–١٨٤٩ق.م)

(١) مكانته في التاريخ المصري

يعد «سنوسرت الثالث» عند المصريين من أكبر الغزاة الذين قاموا بحروب طاحنة دفاعًا عن حدود مصر من جهة الجنوب ضد السودان، ومن جهة الشمال ضد الأسيويين، غير أن الحروب التي قام بها جنوبًا كانت شغله الشاغل طوال مدة حياته، من أجل ذلك عدَّه المصريون من أكبر غزاتهم، حتى إنهم ألَّهوه فيما بعد، وبقي اسمه تتناقله الأجيال ويذكرونه في خرافاتهم باسم «سوزستريس» كما سنشير إلى ذلك فيما يأتي.

fig25
شكل ١: الملك سنوسرت الثالث.

(٢) الاستعداد لمحاربة النوبيين

وأول عمل قام به «سنوسرت» عند اعتلاء عرش الملك هو تأديب قبائل السود في بلاد النوبة، وهم الذين كانوا في حالة اضطراب وقلاقل في عهد الفرعون السابق، بل كانوا مصدر خوف في داخل مصر نفسها، وكانت الشلالات أكبر عائق للقيام بالغزوات في السودان لما تسببه من قطع المواصلات أو تعويقها.

فكان لزامًا على الفرعون أن يكون لديه أسطول عظيم لنقل الجنود ولمدِّهم بالغذاء والمهمات باستمرار. ومنذ خمسمائة عام من هذا التاريخ تغلب فراعنة الأسرة السادسة على هذه العقبة بحفر سلسلة ترع حفرها «وني» لعوامل تجارية (راجع مصر القديمة الجزء الأول)، ولكنها بعد هذا الزمن الطويل كانت قد هدمت، ولم تعُد صالحة لما يتطلبه الموقف وقتها؛ ولذلك رأى «سنوسرت» ضرورة حفر قناة عند الشلال الأول ليعبر فيها إلى أعالي الشلال، وقد لا يكون المقصود من ذلك حفر قناة بالمعنى الصحيح الذي نفهمه نحن الآن، بل قد يكون القصد تعميق الممر الموجود الآن شرقي جزيرة سِهِل،١ ليساعد على جر السفن فيه بدون كبير عناء؛ وذلك بدلًا من معارضة التيار القوي في الممر الغربي. وعلى أية حال فإن هذه الترعة قد تم تعميقها في بداية حكم هذا الفرعون كما تخبرنا بذلك نقوش «سِهِل». وفيها نشاهد «سنوسرت» واقفًا أمام الإلهة «عنقت» إحدى إلهات الشلال، وأسفل هذه الصورة نقرأ: لقد صنعها أثرًا للإلهة «عنقت» ربة النوبة؛ إذ شق لها ترعة تسمى «أجمل طرق خع كاو رع» «سنوسرت الثالث» الحي الخالد، ولم نجد تاريخًا لهذا النقش، ولكن لما كان من الضروري أن تطهَّر هذه الترعة من الغرين في السنة الثانية من حكم هذا الفرعون ليسير منها بحملته؛ رجحنا أنها كانت موجودة منذ بضعة أعوام قبل ذلك العهد، ويمكننا أن نتصوَّر بعد ذلك جيش الفرعون يمر في هذه الترعة الجديدة في السنة الثانية من حكمه لغزو بلاد أعدائه.

حفر ترعة الشلال من جديد استعدادًا للحملة الثانية

والظاهر أن الحملة الأولى لم تكُن كافية لتصفية الموقف مع قبائل السود، فأعاد الفرعون الكرَّة بعد ثمانية أعوام، ولكنه وجد أن الترعة التي حفرها لم تعُد صالحة لأن تعبرها السفن الحربية وسفن النقل؛ فطهرها ثانية. وقد دوَّن هذا العمل على صخور «سِهِل». فنرى الفرعون واقفًا وعلى رأسه التاج المزدوج أمام الإلهة «ساتت» إلهة الشلال، وتقدم له رمز «الحياة» وخلفه رئيس بيت المال ومدير الأشغال، ثم يلي ذلك النقوش كما يأتي: السنة الثامنة من حكم جلالة ملك الوجهين القبلي والبحري «خع كاو رع» «سنوسرت الثالث» عاش مخلدًا، أمر جلالته أن تحفر الترعة من جديد واسمها «أجمل طرق خع كاو رع» عاش إلى الأبد، وذلك عندما سار جيشه إلى أعالي النهر ليهزم الكوش الخاسئين، وطول هذه الترعة مائة وخمسون ذراعًا وعرضها عشرون ذراعًا وعمقها خمس عشرة ذراعًا؛ أي إن هذا الممر كان كافيًا لمرور أية سفينة لمثل هذه البعثة. وقد حُفرت الترعة هذه المرة حفرًا جيدًا؛ إذ بقيت مستعملة حوالي ثلاثمائة أو أربعمائة سنة تقريبًا بعد حفرها. وقد طُهرت في عهد «تحتمس الأول» وكذلك في عهد «تحتمس الثالث» عندما قاما بالغزو في هذه الجهات، وقد كان لزامًا على صيادي السمك تطهيرها سنويًّا.

العناية بحصن «إلفنتين»

وعندما كان مارًّا نحو الجنوب وجه الفرعون عنايته إلى حصن إلفنتين قاصدًا بذلك تحصين مدخله، وقد ترك لنا أحد الموظفين المحليين نقوشًا تدل على إتمام هذا العمل الذي انتهى في السنة التالية، السنة التاسعة الشهر الثالث من حكم جلالة ملك الوجهين القبلي والبحري «خع كاو رع» محبوب الإلهة «ساتت» سيدة «إلفنتين» عاش مخلدًا، أمر جلالته إلى حاكم الجنوب «أميني» ليقوم بعمل باب لحصن «إلفنتين» وليعمل … لأملاك الفرعون في الجنوب … عندما سار سيدي (له الصحة والعافية والسعادة) لهزم أهل «كوش» الخاسئين (Breasted, A. R., Vol. 1, Par. 650).

نتائج الحملة الثانية

وقد كان من نتائج هذه الحملة أن تقدم المصريون في زحفهم نحو سبعة وثلاثين ميلًا جنوب «وادي حلفا»، ولكنهم كانوا لا يزالون بعيدين عن «كرمة» التي اتخذها «زفاي حعبي» مقرًّا لحكم هذه الجهات في عهد «سنوسرت الأول» بنحو مائتي ميل، وكان الفرعون «سنوسرت الثالث» مصممًا على أن يحافظ على ما فتحه، فأقام نُصبًا في «سمنة» حيث أقام حصنًا ليحافظ على حدود فتوحه الجديدة (L. D. II. Pl, 136 d-g.): الحد الجنوبي الذي عمل في السنة الثامنة في عهد جلالة ملك القطرين «خع كاو رع» معطي الحياة أبد الآبدين ليمنع أي أَسْوَد أو أي قطيع من السُّود أن يتخطاه، سواء أكان ذلك بطريق النهر أو البحر، بسفينة أو غيرها، اللهم إلا إذا أتى أَسود للتجارة في «أيقن» (مكان مجهول) أو لأداء مهمة، وفي مثل هذه الحالة يعامَلون معاملة حسنة (أي تعطى لهم كل التسهيلات) على شرط ألا يُسمح لسفينة فيها سود أن تتخطى «حح» (سمنة) ذاهبة نحو الشمال أبدًا.

الحملة الثالثة إلى بلاد النوبة

وبعد مضي أربعة أعوام على هذه الحملة في بلاد «النوبة» قامت ثالثة؛ أي في السنة الثانية عشرة من حكم هذا الفرعون، غير أننا لم نعثر على نقوش تحدِّثنا عما جرى في خلالها إلا جُملة نُقشت على صخور «أسوان»، ولم يُذكر فيها إلا تاريخها، واسم الفرعون والكلمات الآتية: سار جلالته لهزم بلاد «كوش» (Petrie, “Season”, XIII, 340).

الحملة الرابعة إلى بلاد النوبة وإقامة لوحة الحدود المشهورة

والواقع أن بلاد «كوش» هذه قد تطلبت من الفرعون غزوات عدة قبل أن تخضع وتذعن تمامًا للحكم المصري؛ إذ إنه بعد انقضاء أربعة أعوام على الحملة الأخيرة كان «سنوسرت» يزحف بجيشه كرَّة أخرى، وفي هذه المرة أقام لوحة ثانية في «سمنة» وأمر بإقامة صورة منها في جزيرة «ورونارتي»، وتقع تحت بلدة «سمنة» مباشرة. وتمتاز لوحة «ورونارتي» بأنها تعطينا بعض معلومات لم تدوَّن على لوحة «سمنة»، فبعد ذِكر اسم الملك نقرأ:
لوحة أقيمت في السنة السادسة عشرة الشهر الثالث من الفصل الثاني، عندما بني الحصن المسمى «طرد النوبيين» (L. D. II. Pl. 136).
fig26
شكل ٢: قلعة سمنة عند آخر حدود جنوبية في عهد سنوسرت الثالث.

الحصون التي أقامها هذا الفرعون

وهذه اللوحة تؤرخ لنا حصن «ورونارتي»، ومن المحتمل أن الحصون الأخرى التي في هذه الجهة قد بُنيت في نفس الوقت، وأهمها هو حصن «سمنة» كما كان يسميها المصريون «سمنة التابعة للملك خع كاو رع»، وقد كانت قلعة عظيمة بُنيت باللبن في موقع حصين، وقد زيد في حصانتها الطبعية بالتحصين الصناعي، وكانت تشرف على النهر الذي لا يزيد عرضه في هذه الجهة عن أربعمائة متر، وفي الجهة الشرقية من النهر قبالة «سمنة» أقيمت قلعة أخرى صغيرة تعرف باسم «قمة» (L. D., I. 111-112; Maspero, “L’Archelogie Egyptienne”, P.P. 9, 29, 30) بُنيت على قلعة طبعية فكان من الصعب مرور أي جيش في النهر من هذه الجهة، وخرائب هاتين القلعتين لا تزال باقية للآن، غير أننا لا يمكننا أن نتصور بالضبط ما كانتا عليه في عهد «سنوسرت الثالث».

(٣) آلهة بلاد «النوبة العليا» وتأليه «سنوسرت الثالث»

وكان في كل من الحصنين معبد، ففي «سمنة» كان معبد الإله «ددون» وهو الإله المحلي لهذه الجهة، وفي «قمة» معبد للإله «خنوم» معبود شلال «أسوان» و«إلفنتين»، وفي هذين المعبدين احتُفل بعيد عظيم ابتهاجًا بالانتصار على السود، وكان يسمى «طرد السود»، وكان يُحتفل بعده بعيد آخر يسمى «شدُّ وثاق المتوحشين»، وفي خلاله كانت تقدِّم القربان للملكة «مرسجر» العظيمة زوجةُ الفرعون «سنوسرت الثالث». وهذه الأعياد قد بقيت ذكراها إلى أزمان بعيدة؛ حتى إن «تحتمس الثالث» عندما أعاد بناء معبد سلفه بعد مضي ثلثمائة وسبعين سنة تقريبًا، أحيا الاحتفال بها مع أعياد أخرى؛ يضاف إلى ذلك أنه ألَّه الملك «سنوسرت» وجعله ثالث آلهة الحدود التي أسسها، ولا نستغرب أن يصدر هذا العمل الصالح من رجل عظيم مثل «تحتمس الثالث» الذي لم يحمل حقدًا لأحد، بخلاف «رعمسيس الثاني» الذي كان يغتصب كل شرف ليس له فيه أدنى نصيب. ونجد في معبد «أمادا» ببلاد النوبة أن الفرعون «تحتمس الثالث» كان يتعبد للإله سنوسرت الثالث (Weigall, “Lower Nubia”, P. 104)، وفي معبد «إلزيا» نراه كذلك يُعبد. ونرى «تحتمس الثالث» يتعبد إليه أيضًا في «بوهن» «وادي حلفا» (Maclver and Wooley, “Buhen”, P.P. 41, 42)، ولم تكن عبادة «سنوسرت الثالث» قاصرة على الملوك بل تعدَّتهم إلى عامة الشعب؛ إذ عثر على نقش في جهة «تشكة» شمالي «أبو سمبل» على إحدى الصخور المطلة على النهر، وهذا النقش يمثل منظر أسرة تتألف من رجل يدعى «سنبي» وزوجة وأولادهما وقد أحضروا قربانًا لصورة «حورمام» الذي مثل جالسًا ثم «سنوسرت الثالث» والإله «رشب». (Dunbar, “The Rock-pictures of Lower Nubia”, P. P. 15, 16).
وتعد نقوش لوحة «سمنة» الثانية التي سجلت لنا حملة السنة السادسة عشرة من أهم النقوش التي وصلت إلينا من هذا العصر (L. D., II. 136)، ولا تنحصر أهميتها في أنها حددت لنا «التخوم المصرية في هذا العهد من جهة بلاد النوبة، بل لأن جملها المنمقة تذكرنا بالخطب التي ذكرها «ديدور»، والذي يقول عنها إنها كتبت على لوحة نقشها «سوزستريس» الخرافي تذكارًا لفتوحه، وتعد هذه النقوش بحق من أهم ما تركه لنا قدماء المصريين في كل عصورهم؛ إذ يتمثل لنا فيها قوة إرادة هذا الفرعون وشدة حرصه على مجد بلاده، وإذكاؤه نار الغيرة في نفوس أخلافه للمحافظة على فتوحاته، والدفاع عن حدودها بالنفس والنفيس، وهاك ترجمتها حرفيًّا لتكون مثلًا حيًّا لأبناء هذا الجيل من المصريين في وقت أحوج ما تكون فيه البلاد لمثل هذه العظات الخالدة.

(٤) نص لوحة الحدود الخالدة

في السنة السادسة عشرة في الشهر الثالث من الفصل الثاني، عندما مد جلالته الحدود لغاية «حح» (سمنة)، «لقد جعلت تخوم بلادي أبعد مما وصل إليه أجدادي، ولقد زِدت في مساحة بلادي على ما ورثته، وإني ملك يقول وينفذ، وما يختلج في صدري تفعله يدي، وإني طموح إلى السيطرة، وقوي لأحرز الفوز، ولست بالرجل الذي يرضي لبه بالتقاعس عندما يعتدَى عليه، أهاجم من يهاجمني حسب ما تقتضيه الأحوال، وإن الرجل الذي يركن إلى الدعة بعد الهجوم عليه يقوِّي قلب العدوِّ، والشجاعة هي مضاء العزيمة، والجبن هو التخاذل، وإن من يرتد وهو على الحدود جبان حقًّا، ولما كان الأسود يحكم بكلمة تخرج من الفم، فإن الجواب الحاسم يردعه، وعندما يكون الإنسان ماضي العزيمة في وجهه «الأسود» فإنه يولي مدبرًا؛ أما إذا تخاذل أمامه فإنه يأخذ في مهاجمته. على أن السود ليسوا بقوم أشداء ولكنهم فقراء كسيرو القلب، ولقد رآهم جلالتي، وإني لست بخاطئ في تقديري، ولقد أسرت نساءهم، وسُقت رعاياهم، واقتحمت آبارهم، وذبحت ثيرانهم، وحصدت زرعهم؛ وأشعلت النار فيما تبقى منها. وبحياتي وحياة والدي لم أنطق إلا صدقًا، دون أن تخرج من فمي فرية. وكل ولد أنجبه ويحافظ على هذه الحدود التي وصل إليها جلالتي يكون ابني، وولد جلالتي، وألحِقه بنسبي، وإن من يحافظ على تخوم الذي أنجبه، يكون منتقمًا لأبيه حقًّا، أما من يتخلى عنها، ولا يحارب دفاعًا عن سلامتها فليس ابني ولم يولد من ظهري، والآن تأمل فإن جلالتي قد أمر بإقامة تمثال عند هذه الحدود التي وصل إليها جلالتي حتى تنبعث فيكم الشجاعة من أجلها، وتحاربون للمحافظة عليها.»

وهذا الروح الحربي نشاهده في الصور التي تنطق بها التماثيل العدة التي تركها لنا هذا البطل العظيم، وبخاصة تلك التماثيل التي كُشف عنها في ساحة معبد الملك «نب-حبت رع» بجوار الدير البحري؛ حيث أقامها لتكون تذكارًا لسلفه العظيم، وهذه التماثيل تصور لنا «سنوسرت الثالث» في أطوار حياته الثلاثة المختلفة الشباب – الكهولة – الشيوخة؛ وكلها موجودة الآن بالمتحف البريطاني.

(Naville, 11 th. Dyn. Temple, Vol. I., XIX; Vol. II, Pl. II).

وتلمح في تمثال شيخوخته وجهًا ينم عن القوة الساحقة والعظمة والكبرياء التي يمتاز بها عظماء الفاتحين.

(٥) ذكرى انتصارات «سنوسرت» في الأساطير وتسميته «سوزستريس»

ولقد كان لانتصارات «سنوسرت الثالث» هذه في بلاد النوبة أثر عظيم في تاريخها، وعاش اسم «سنوسرت» محرفًا باسم «سوزستريس» ومن ذلك نشأت خرافة «هرودوت» عن «سوزستريس»؛ إذ يقول لنا فيها: «هذا الملك كان حينئذ هو الفرعون الوحيد الذي حكم «أثيوبيا» (بلاد النوبة).» وذلك طبعًا لا ينطبق على الواقع، ولكن من جهة أخرى يُظهر لنا مقدار تأثير انتصارات «سنوسرت» في هذه البلاد. ولا نعلم إذا كان هذا الفرعون قد حرَّم عبادة تمثاله الذي أقامه عند الحدود أم لا، ولكنا نعرف أن هذا التحريم، إذا كان قد حدث، فإنه نُسخ بعد مدة قصيرة، وأصبح «سنوسرت» يعد من بين الآلهة الذين كانوا يُعدون أربابًا لبلاد النوبة، وقد رأينا فيما سبق أن عبادته أصبحت على قدم المساواة مع عبادة الإله «ددون» والإله «خنوم» في قلعة «سمنة» في عهد «تحتمس الثالث»، ولما تولى «تاهرقا» الفرعون النوبي حكم البلاد بعد انقضاء ألف ومائتي سنة من حكم «سنوسرت» أعاد معبد «سمنة» وعبادة فاتح «النوبة» العظيم «سنوسرت الثالث».

ما رواه «هرودوت» عن فتوح «سنوسرت الثالث»

وكذلك يقص علينا «هرودوت» في خرافة «سوزستريس» الخلابة، كيف أن الكهنة أخبروه أن «سوزستريس» كان أول ملك أقلع بسفنه الحربية من خليج العرب، وقهر الأمم التي تسكن على شاطئ البحر الأحمر، ثم سار حتى وصل إلى بحر لا يمكن السياحة فيه؛ لأن ماءه كان ضحضاحًا (Herodotus, Book, II, Par. 102)، ولما عاد إلى مصر فيما بعد، حسب ما ترويه الكهنة، جمع جيشًا عظيمًا وسار به في القارة مخضعًا كل أمة تعترضه في طريقه، وحينما كان يصادف قومًا شجعانًا متحمسين للدفاع عن حريتهم كان يقيم في بلادهم عمودًا عليه نقوش تدل على اسمهم واسم بلادهم، وكيف أنه تغلب عليهم بالقوة، وفي مكان آخر يقول إنه بعد أن ترك تذكارات أقل شأنًا في البلاد التي كانت أقل شجاعة من السابقة، عبر البحر إلى «أوروبة» حيث قهر أهل «طراقية» وغيرها؛ وهذا بلا نزاع حديث خرافة؛ لأنه ليس هناك ملك مصري قد قام بأعمال عظيمة مثل التي تعزى في هذه الخرافة إلى «سوزستريس». ولكن الذي يلفت النظر هنا، وربما كان فيه إشارة بعيدة إلى شيء من الصواب هو إقامة الأعمدة والنقوش التي عليها، وهي التي تشير إلى شجاعة الأعداء الذين كان يحاربهم أو جبنهم، فإن هذا القول ربما كان فيه تلميح بعيد يذكرنا بلوحة «سمنة» وما فيها من جمل الاحتقار والازدراء الموجهة إلى أعدائه السود.

(٦) آخر حملاته إلى «السودان»

ورغم هزائم «سنوسرت» المتتالية للسود فإنهم قاموا في وجهه كرَّة أخرى يظهر أنها كانت الأخيرة، وكان قد مضى على إخضاعهم والخضد من شوكتهم ثلاث سنوات، ولم تصلنا عن حملته الأخيرة معلومات شافية، اللهم إلا نقشًا لرئيس إدارة موظفيه الذي يدعى «سيسانت» وهي لوحة عثر عليها في «العرابة المدفونة» وهي الآن في متحف جنيف فيقول فيها: «حضرت إلى «العرابة» وبصحبتي كبير بيت المال «أخرنوفرت» لينحت تمثالًا للإله «أوزير» رب «العرابة» عندما كان ملك القطرين «خع كاو رع» الحي المخلد سائرًا ليهزم «الكوش» الخاسئين في السنة التاسعة عشرة.»

(٧) آثاره

ومن ذلك نرى أن بلاد «النوبة» قد نالت الكثير من اهتمامه؛ وقد وجد اسمه منقوشًا في «إلفنتين» «وسهل» «وأمادا» و«تشكة» وكل هذه الأماكن شمال الشلال الثاني، أما جنوبه فقد وجدنا اسمه كذلك على معبد أقيم تكريمًا له في «مرجرس» (J. E. A., (1916) P. 182 Mirgirsse) ويقع على الشاطئ الغربي من الشلال الثاني، ووجد اسمه على قطعة من لوحة في قلعة «جزيرة الملك» (J. E. A., (1916) P. 181) وتقع على مسافة أربعة أميال شمالي «سمنة».

والآن نعود إلى ما جاء في خرافة «هرودوت» عن «سوزستريس».

  • حملة البحر الأحمر: قد يكون للإشارة إلى الحملة البحرية إلى البحر الأحمر، نصيب من الصحة بالنسبة للفرعون «سنوسرت الثالث»، إذا اعتبرنا النقوش التي عثر عليها الأثري «نافيل» في «تل بسطة» (ومن الأسف أنها مؤرخة وليس عليها اسم الملك الذي دوَّنها) وفيها يصف حملة هزم فيها السود، ويشير فيها كذلك إلى بعض صعوبات بحرية عاقت السفن في السير نحو الجنوب لمشاهدة مرتفعات «حوا» ولكشف طرق الملاحة … غير أن المؤرخين قد اختلفوا في عصر هذه النقوش فيعزوها بعضهم إلى الأسرة الثانية عشرة، ويعزوها البعض الآخر إلى الأسرة الثامنة عشرة، والفريق الآخر يظن أن ذلك يشير إلى حملة «أمنحوتب الثالث» في بلاد «النوبة».
  • حملته في آسيا: أما إشارة «هرودوت» لانتصارات «سوزستريس» في آسيا فليس لدينا إلا مرجع واحد؛ وهي الحملة التي قام بها «سنوسرت الثالث» في فلسطين، وليس أمامنا عن هذه الحملة إلا وثيقة واحدة وهي لوحة «خوسبك»٢ التي عثر عليها في العرابة المدفونة، وقد ذكر عليها أعماله العظيمة تحت قيادة سيده «سنوسرت الثالث»، فيقول: «سار جلالته نحو الشمال ليهزم المنتيو «الأسيويين» وقد وصل جلالته عند مكان يدعى «سِكمم» وكان جلالته يسلك الطريق المثلى إلى القصر «له الحياة والسعادة والصحة» عندما سقطت «سِكمم» ومعها أهل «رتنو» الخاسئون، وكنت وقتئذ أعمل حارسًا، وعندئذ اشتبك أتباع الجيش في حرب مع «الأسيويين» فأسرت أسيويًّا، وسلمت أسلحته إلى تابعين من أتباع الجيش؛ لأني لم أولِّ الأدبار فرارًا من الحرب بل بقيت ووجهي إلى الأمام، ولم أولِّ ظهري للأسيويين، وإني أقسم بحياة «سنوسرت» بأني ما تكلمت إلا الصدق.

    وعندئذ منحني «سنوسرت» عصا من الذهب في يدي، وقوسًا وخنجرًا مذهَّبًا هذا إلى أسلحة أسيري.»

«خوسبك» يقص تاريخ حياته

وبعد أن قص علينا «خوسبك» أهم لحظة في تاريخ حياته، أخذ يذكر لنا ألقابه وميلاده في عهد «أمنمحات الثاني» وعمله في الجندية فيقول: «ظهر جلالة ملك القطرين «خع كاو رع» المرحوم لابسًا التاج المزدوج على عرش «حور» وأمر جلالته أن أشتغل جنديًّا خلف جلالته وبالقرب منه، ومعي ستة من رجال الحاشية؛ من أجل ذلك كنت بجانبه على استعداد، ثم أمر جلالته أن أعيَّن حاجبًا للفرعون، وورَّدت ستين رجلًا، عندما سار جلالته نحو الجنوب ليهزم رجال قبائل النوبة، وهناك أسرت أسود في … بجوار المدينة التي كنت مرابطًا فيها، وبعد ذلك اتجهت شمالًا سائرًا مع ستة من رجال الحاشية، ثم عينني قائدًا للأتباع وأعطاني مائة رجل مكافأة.»

(٨) العلاقات بين مصر وآسيا

وهذه الحملة التي لم نعرف عنها تفاصيل شافية، هي في الواقع المثل الوحيد الذي فيه تدخل المصري في الشئون «السورية» خلال الأسرة الثانية عشرة، والظاهر أن العلاقة بين البلدين كانت علاقة مودة وصفاء كما توضح لنا ذلك الهدايا التي كانت تأتي إلى مصر من هذه الجهات في عهد أسلاف «سنوسرت»، وما نفهمه من روح قصة «سنوهيت»؛ إذ نجد أن السوريين كانوا يحترمون المصريين احترامًا عظيمًا ويعجبون بالحكم المصري والعادات المصرية، ويجوز أنه كانت هناك رغم ذلك غزوات أخرى لم نعثر على نصوص لها، وربما تعدت حتى غزوات السلب والنهب كما سنشاهد بعد، ولم يكن عصر الحروب والفتوح العظيمة قد جاء بعد من جهة المصريين، بل كان أول هجوم قُصد به الاستعمار الواسع النطاق آتيًا من جهة الأسيويين الذين غزوا وادي النيل في عهد الهكسوس.

ومن ذلك يتضح لنا أن الانتصارات العظيمة التي ينسبها «هرودوت» إلى «سوزستريس» لم تكن فتوحات واسعة النطاق، وربما خلط المؤرخ اليوناني هذه الغزوة بالانتصارات العظيمة التي أحرزها «تحتمس الثالث» و«رعمسيس الثاني» فيما بعد، ونسبوها كلها للملك «سوزستريس» «سنوسرت الثالث».

ولا يفوتنا أن نذكر هنا حادثًا من أهم الحوادث الدينية له علاقة بالحروب النوبية في عهد ذلك الفرعون، تلك هي اللوحة الخاصة بعبادة «أوزير» وما ذكر عليها من الشعائر الدينية التي كانت تقام له في هذه الفترة، وذلك أن «سنوسرت الثالث» استولى خلال حملته المؤرخة بالسنة التاسعة عشرة من حكمه على كميات عظيمة من الذهب من بلاد «النوبة»، وقد اعتزم أن يستعمل جزءًا منه في ترميم مقبرة «أوزير» في «العرابة»، وهذه المقبرة كما نعلم هي في الواقع مقبرة الملك «زر» أحد ملوك الأسرة الأولى، وقد اختلط في ذلك العصر بإله الآخرة، وقد عهد بهذا العمل إلى رئيس ماليته «أخرنوفرت»، وكان يساعده فيه رئيس إدارة الموظفين الذي تكلمنا عنه فيما سلف (Melanges Maspero, Vol. 11, P.P. 217, 219)، وقد ترك لنا كل منهما لوحة عمَّا قام به، ولكن لوحة «أخرنوفرت» تشتمل على مادة لها أهمية عظيمة، وقد ذكر في لوحته الأمر الملكي ثم ذكر لنا بعد ذلك كيفية تنفيذه، وسنشرح ذلك عند الكلام على الحالة الدينية في البلاد.

(٩) تمثال «تحوتي حتب» أمير مقاطعة «الأشمونين»

وأهم ما عثر عليه في نقوش هذا العصر خاصًّا بأحوال البلاد الداخلية هو المنظر المشهور في مقبرة «تحوتي حتب»، ويمثل نقل تمثال ضخم، والتمثال «لتحوتي حتب» نفسه الذي كان في ذلك الوقت حاكمًا لمقاطعة الأرنب وعاصمتها «خمنو» (الأشمونين) التي أطلق عليها اليونان «هرمو بوليس»، وتقع قبالة «البرشة» حيث يوجد قبور هذا الحاكم وأسرته، وهذا المنظر مألوف جدًّا، غير أن ما ينتظمه من النقوش يدلنا على روح التعاون والألفة والحماسة التي تسود تنفيذ هذا العمل، وقد اهتم «تحوتي حتب» في نقوشه بإظهار أن إقامة مثل هذا التمثال لم تكن بوحي منه هو، بل كانت علامة عطف ملكي فيقول: «إن قلوبهم فرحة عندما يرون عطف الملك عليك»؛ لأن «سنوسرت الثالث» كان فرعونًا عظيم البطش إلى حد كبير لا يسمح لأي حاكم محلي بالحرية التامة التي كان يتمتع بها حكام الأقاليم في الدولة القديمة.

fig27
شكل ٣: نقل تمثال الأمير «تحوتي حتب».
وإذا أغضينا النظر عن هذا التحفظ، فإنا نلحظ من المتن أن كل أهل المقاطعة كانوا على استعداد لتقديم يد المساعدة في نقل التمثال العظيم، فيقول لنا المتن:

السير خلف تمثال طوله ثلاثة عشر ذراعًا من حجر حتنوب (المرمر) تأمل! فإن الطريق التي سار عليها كانت وعرة أكثر مما يتصور، تأمل! فإن جر الآثار العظيمة كان صعبًا على قلوب القوم، وذلك بسبب صعوبة أحجار الأرض؛ لأنها أحجار صلبة، وأمرت الشبان والأحداث من رجال الجيش ليشقوا طريقًا للتمثال، ويساعدهم في ذلك جماعات من حفاري القبور ورجال المحاجر، ومن المقدمين والمهرة.» وقال الرجال الأشداء: «أتينا لنحضره.» وكان قلبي فرحًا وقتئذ، واجتمع أهل المدينة كلهم مظهرين الفرح، وكان النظر إلى هذا سارًّا جدًّا أكثر من أي شيء، فكان الرجل المسنُّ بينهم يرتكز على الطفل ومفتول الساعد، والضعفاء زادت شجاعتهم، وقويت أذرعتهم؛ حتى إن واحدًا منهم كان في ساعده قوة ألف رجل … ما قاله الشباب الذين كان يسوقهم سيدهم الحاكم الوراثي الذي ينعم برضاء الملك والسيد: «دعنا نأتِ، دعنا نفلح وأولاده من بعده! إن قلوبنا فرحة بعطف الملك الذي يعيش مخلدًا!» ولا نزاع في أن من نظر إلى هذا العمل في ظاهره يظن أنه من أعمال السخرة، وأنه كانت هناك مظالم تُرتكب، ولكن تدل الأحوال على أن روح العدالة كانت قد أخذت تظهر في هذا العصر بصورة واضحة، ومن عاش في مصر يرى أن مثل هذه الأعمال كانت ولا تزال تعمل بين الفرح والسرور والغناء رغم ما فيها من المتاعب.

(١٠) اهتمام «سنوسرت الثالث» بمدينة «العرابة» وإلهها «أوزير»

هذا ويدلنا على اهتمام «سنوسرت الثالث» الخاص بمدينة «العرابة المدفونة» وإلهها «أوزير» ما نجده في النقش الذي خلفه لنا أحد رجال الدولة المسمى «سبكحتب» (British Museum, No. 256)، وقد أرِّخ بالسنة السادسة من حكم هذا الفرعون، فاستمع لما يقول: «لقد أمر جلالته بإرسال رسالته إلى أملاك التاج في «طينة» لتنظيف المعابد، وأنه نفذ هذه الأوامر حتى إنها أصبحت مطهرة لقيام العيد الشهري ونظيفة لعيد نصف الشهر.» وكذلك عثر على تمثال لهذا الفرعون في معبد «العرابة المدفونة» (Petrie, Abydos, Vol. 11, pl. XVII) ووجدت له صورة في هذه الجهة أيضًا (Ibid, Vol. 111, Pl. XII. 4).

مقبرة «سنوسرت الثالث» الثانية «بالعرابة المدفونة» ووصفها

ولكن أهم حقيقة تدل على اهتمام «سنوسرت الثالث» «بالعرابة المدفونة» وإلهها، هو إقامته مقبرة ثانية لنفسه في هذه البقعة في جهة الصحراء على مسافة بعيدة جنوب الجبانة الملكية التي دفن فيها «أوزير خنتي أمنتي»، كما كان الاعتقاد. ففي هذه الجهة أقام لنفسه ضريحًا، وربما كان الغرض منه أحد أمرين، إما أنه كان قبرًا ليُدفن فيه، أو أنه كان مكانًا أُعدَّ لدفن «الكا» أو الروح، حيث كان يقدم له القربان. ونحن نعلم أن كثيرًا من فراعنة مصر قد أقاموا لأنفسهم مقبرتين، غير أننا من جهة أخرى لا نعلم على وجه التحقيق الطريقة التي كانت متبعة في استعمالهما، وقد كشف كل من «بتري» و«ويجول» عن مقبرة «سنوسرت الثالث» في العرابة (Petrie, Abydos, Vol. III, P. 11)، ولكنها وجدت منهوبة تمامًا في الأزمان القديمة، وهي عبارة عن نفق طويل منحوت في الصخر تحت سطح أرض الصحراء تنتهي بحجرة فيها تابوت من الجرانيت الأحمر، وصندوق لتوضع فيه أواني الأحشاء، وفوق ذلك على سطح الأرض أقيمت ردهة مسوَّرة تبلغ خمسمائة وعشرين قدمًا طولًا في مائتين وستة وتسعين عرضًا، وخارج هذا السور كانت توجد بعض مقابر الأشراف والأمراء، وفي هذا المكان قد أقيم بناء ضخم عمل على شكل مقبرة، وقد ظهر أنه بناء كاذب أقيم ليخفي باب النفق الحقيقي وليضلل اللصوص، ويدخل في روعهم أن الباب الأصلي الذي يؤدي إلى حجرة الدفن؛ حيث توجد الكنوز موجود هنا، وعلى بعد سبعمائة وخمسين ياردة من شرقي مدخل هذه الردهة المسورة، وحيث تلتقي الأراضي الزراعية بالصحراء أقام الفرعون معبدًا جنازيًّا صغيرًا لنفسه، وقد عثر عليه الدكتور«ماك إيفر»، والمفروض أنه أقيم لتقدَّم فيه القربان لروح الفرعون بعد موته.
(Maclver and Mace, “Él Amrah and Abydos, Pl. XX).

(١١) هرم «سنوسرت الثالث»

وقد بنى هذا الفرعون لنفسه هرمًا من اللبن، وكساه أحجارًا، ويقع في دهشور شمالي «اللشت»؛ أي في «اللاهون» وسماه «حتب» (أي سلام)، ويمتاز بتصميم حجرة الدفن فيه، فقد وضع مدخلها بعيدًا عن بناء الهرم في الجهة الغربية، كما كان لها مدخل آخر في الجهة الشرقية يؤدي إلى قاعة تخترق مقبرة إحدى الملكات وثلاث أميرات حتى يصل الإنسان إلى هذه الحجرة، وهذه طريقة مبتكرة فريدة في بابها في هذا العصر، وقد كشف عن هذه الحجرة «دي مرجان».

(De Morgan, “Fouilles à Dahchour”, Vol. II. P. 87).

(١٢) مقابر الملكة والأميرات

وقد وجد بالقرب من هذا الهرم مدافن الملكة «نفر هنت» والأميرات «منت Ment» و«سنتسنب sent-seneb» و«مريت» و«سات حتحور»، ويحتمل أن الأخيرة هي أخت الفرعون، أما الثلاث الأخر فهنَّ بناته، وقد وجد اسم «سنتسنب» على تابوتها المنحوت من الحجر الجيري الأبيض.

مجوهرات الأميرة «سات حتحور»

وقد عثر على مجوهرات الأميرة «سات حتحور» في مخبأ في رقعة حجرة الدفن، وقد نقش على صدريتها اسم «سنوسرت الثاني»، على حين أنه وجد لها جعران عليه اسم «سنوسرت الثالث»؛ ومن ثم يحتمل أنها كانت بنت الأول وأخت الثاني، وهذه المجوهرات كنز لا يضارعه في دقة الصنع إلا ما وجد في «اللاهون».

وهذه الصدرية التي وجدت معها مصوغة من الذهب ومرصعة بشغل دقيق من حجر الكرنالين، وعجينة مطلية بالأزرق الفاتح والقاتم، وتصميم رسم هذه الصدرية يشبه تصميم صدرية «نفرت» زوجة والدها، هذا وقد زينت الصدرية بطغراء الفرعون «سنوسرت الثاني» ونقش عليها «حتب نترو»؛ (أي سلام الآلهة)، وتستند هذه الطغراء من كلا جانبيها على صقر وضع أسفله علامة «نب» (سيد)، ومن خلفها قرص الشمس والصل، وقد وجد مع هذه الصدرية أساور وعقود من الذهب، و«دلايات» في صور أسود، ومخالب أسود من الذهب، وسلوك من الخرز المصنوع من الذهب والأمتست (الجمشت)، ورغم أن الملكة «نفرهنت» وجدت مدفونة في «دهشور»، فإنها لم تكن بالملكة المتوجة؛ إذ تدل النقوش على أنه كانت توجد سيدة أخرى تدعى «مرسجر» تحمل لقب الملكة، وبخاصة في خلال الحروب التي قام بها هذا الفرعون ضد «النوبة»؛ وذلك لأنه في معبد «سمنة» قد ترك لنا «تحتمس الثالث» نقشًا يشير إلى عيد سنوي يسمى «عيد شد وثاق المتوحشين»، وهو العيد الذي أسسه «سنوسرت الثالث» تكريمًا للزوجة الملكية العظيمة «مرسجر». وقد ذكر كذلك اسم زوجة أخرى غير أنها لم تحمل لقب عظيمة، وقد وجد اسمها ممحوًّا، ويحتمل أنها «نفرهنت»، يضاف إلى ذلك أن اسم الملكة «مرسجر» قد ذكر كذلك على نقش موجود الآن بالمتحف البريطاني (No. 846).

(١٣) مباني «سنوسرت الثالث» وبعوثه لقطع الأحجار

وقد أقام هذا الفرعون عدة مبانٍ في جهات القطر، كما أرسل البعوث لقطع الأحجار في «وادي الحمامات» وغيرها لعمائره.

فقد خلف لنا موظف اسمه «خني» نقوشًا في محاجر «وادي الحمامات» في الصحراء الشرقية مؤرخة بالسنة الرابعة عشرة من حكم هذا الفرعون في اليوم السادس عشر من الشهر الرابع الفصل الأول؛ وهذه الوثيقة هي:

أمرني جلالته أن أذهب إلى «وادي الحمامات» لأحضر قطعًا جميلة من البازلت الأسود لعمل أثر أمر جلالته بإقامته للإله «حرشف» سيد «إهناسية المدينة» …

وقد أرسلني بوصفي مدير الأشغال؛ لأني كنت رجلًا محبوبًا، وقائدًا يوثق فيه؛ إذ قد أخضعت له قبائل الصحراء الشرقية الأربعة باستمرار، كما أحضرت له المحصولات الطيبة التي تنتجها لوبيا (الصحراء الغربية)، وذلك بفضل شهرة جلالته. (Couyat and Montet, “Hammamat”, 47).

وهذا النقش يدل على أن «سنوسرت الثالث» كان قد أرسل من قبل جنوده إلى واحات صحراء لوبيا — ومن ثم نرى أن هذا الفرعون النشيط قد ساق جيوشه إلى كل حدود بلاده — إذ انقض على بلاد السودان وتخطى حدودها الشمالية الشرقية مخترقًا الصحراء إلى حدود «سوريا»، وسار بجنوده على ساحل البحر الأحمر حتى بلاد «الصومال» (أي بلاد «بنت»).

ولدينا أدلة على أنه قد استخرج المعادن من شبه جزيرة «سينا»، إذا قد عثر على لوحة وتمثال صغير في «سرابة الخادم» باسم هذا الفرعون. (Gardiner and Peet, “Sinai”, P. P. 81, 82).

وقد كان يستعمل قطع الأحجار المستخرجة من «وادي الحمامات» لبناء معبد «إهناسية المدينة» كما ذكر من قبل، وقد عثر «بتري» على قطع من معبد هذا الفرعون في «إهناسية المدينة».

(Petrie, “Ehnasya”, Pls. XI, XIII, XIV; A. S. Vol., XVIII, P. 35).
وكذلك أقام معابد كثيرة في مدن أخرى، أو أصلح ما كان قد تهدَّم من المعابد القديمة، ففي «ثوان» (تانيس) الواقعة في شمالي الدلتا عثر على أجزاء من تماثيل (Petrie, “Tanis” 1, II. 67).
ووجد في «الخطاعنة» (A. Z. Vol. XXIII, P. 12) التي تقع في هذه الجهة أيضًا جزء باب من الجرانيت الأحمر (A. Z., Ibid) وعثر في «تل المقدام» الواقع في مركز «ميت غمر» على قاعدتي تمثالين. (Naville, “Ahnas”, P. 29, Pls. IV, XII).
وفي «تل بسطة» عثر على قطع كبيرة تحمل اسمه من بينها قطع مؤرخة. (Naville, “Bubastis”, Pls. XXXIII, XXXIX).
وفي «طيبة» بالوجه القبلي خَلف لنا هذا الفرعون كثيرًا من الآثار التي تدل على نشاطه، ففي معبد «الكرنك» عثر على تمثالين ضخمين من الجرانيت الأحمر، وكذلك عثر على قطع أخرى (Legrain, “Statues”, Nos. 42011, 42012, 42013)، ويوجد في المتحف المصري مذبح عثر عليه في «الأقصر»، وأقام هذا الفرعون كذلك عدَّة تماثيل لنفسه في معبد الأسرة الحادية عشرة «بالدير البحري» (Naville, “Temple”, Vol. I, Pl. XIX; Vol. II. Pl. II)، ومن هذه ثلاثة في المتحف البريطاني الآن (British Museum, Nos. 158, 159, 160).

وعثر على قاعدة تمثال له في خرائب معبد «الجبلين» على مسافة بضعة أميال من «طيبة» وهي موجودة الآن بالمتحف المصري.

على أنه توجد آثار أخرى كثيرة وجد اسم هذا الفرعون منقوشًا عليها في جهات متفرقة، فعثر في «الرقة» على حلية من الذهب في صورة صدفة، ويوجد له في متحف نيويورك تمثال (Engelbach, “Riqqeh and Memphis” Pl. 1; M. M. A. June 1920)، «بو الهول» منحوتًا من حجر الديوريت.
وفي متحف القاهرة يوجد هاون عليه اسمه (Cat. 18735)، وجيء من «قفط» بلوحة منقوش عليها اسمه (Lange and Schafer, “Grab und Denkstein”, 20702)، ولكن يحتمل أنها من تاريخ متأخر، يضاف إلى ذلك عدة أحجار لمقابر أفراد نُقش عليها اسم هذا الفرعون في أوائلها (Birch, “Alnwick Catalogue” 270, Pl. V)، وكذلك توجد عدة أسطوانات وجعارين كُتب عليها اسمه (Petrie, “Scarabs”, 12, 5, 14–16; Ibid, 12, 5, 1–13).

(١٤) إشراك «سنوسرت الثالث» ابنه «أمنمحات الثالث» في الحكم

وفي آخر أيام حكمه الذي استمر ثمانية وثلاثين عامًا؛ أشرك «سنوسرت الثالث» ابنه «أمنمحات الثالث» في حكم البلاد، متبعًا في ذلك العادة الحازمة التي سنها له آباؤه من قبل، ويظهر أن مدة اشتراك ابنه في الحكم كانت قصيرة؛ لأننا نشك أن رجلًا في قوة «سنوسرت» ومضاء عزيمته كان يميل إلى تقسيم سلطته؛ إذ في عهده لم نسمع كثيرًا عن حكام الإقطاعات، والظاهر أنه قضى عليهم قضاء مبرمًا ومحا كل سلطان لهم، حتى أصبح خلفه من بعده يتسلط على البلاد من أقصاها لأقصاها، وصار المسيطر الإلهي عليها كما كانت الحال في عهد «خوفو» و«خفرع».

(١٥) وفاة «سنوسرت الثالث» وقداسته في نفوس شعبه

ولما مات انتهى حكم ملك قوي البأس مهيب الجانب، فإذا ما قيس عهده بما ناله من شرف مكانة وعظمة جاه في نفوس الناس مدة حياته وبعد مماته بأجيال عديدة، فإنه بلا نزاع يعد من أفخر العصور وأمجدها في التاريخ المصري، ذلك العصر الذي وضع فيه أساس بناء الإمبراطورية المصرية المستقبلة. ولا غرابة إذن في أن نرى الأثر العميق الذي تركه نشاط «سنوسرت» الذي لا يعرف الملل، في نفوس شعبه، وقد تمثل هذا في القصيدة التي كُتبت تخليدًا لذكره؛ وقد عثر عليها بين أوراق «كاهون» (اللاهون) وهي تدل على ما كان لهذا الفرعون من المكانة المقدسة في نفوس شعبه فاستمع إليها:

الأنشودة الأولى

الثناء لك يا «خع كاو رع»! يا «حور»، يا صقرنا المقدس الوجود
الذي يحمي الأرض ويمد حدودها
الذي يقهر البلاد الأجنبية بتاجه
الذي يضم الأرضين (مصر) بين ذراعيه
والذي يمسك الأراضي الأجنبية بقبضته
والذي يذبح رماة السهم من غير ضربة عصا
والذي يقوي سهمه دون أن يشد خيط القوس
والخوف منه قد أخضع «الأنو» في بلادهم
والرعب منه قد ذبح قبائل «البدو التسع» (أعداء مصر)
وسكِّينه قد أمات الألوف من رماة السهام
وذلك قبل أن تطأ أقدامهم حدوده
وهو الذي يفوق السهم كالإلهة «سخمت»
حينما يهزم الآلاف ممن لم يعرفوا بطشه
وإن لسان جلالته هو الذي يحكم النوبة
ونطقه هو الذي يجعل البدو يولُّون الأدبار
والواحد الفريد، ذو القوة الفتية، الذي يذود عن حدوده
ومن لا يجعل شعبه يدب فيه الوهن
بل يجعل الناس ينامون في أمان إلى طلوع الفجر
وشباب جنوده ينامون؛ لأن قلبه هو المدافع عنهم
وأوامره قد أقامت حدوده.

الأنشودة الثانية

ما أعظم اغتباط الآلهة! قد جعلت قرابينهم ثابتة
وما أعظم اغتباط أراضيك! وقد ثبت حدودها
وما أعظم اغتباط آبائك! فقد زدت في أنصبتهم
وما أعظم اغتباط مصر بقوَّتك! فقد حميت النظام القديم
وما أعظم اغتباط الشعب بحكومتك! فقد قمعت السلب، وقوتك قد استولت …
وما أعظم اغتباط الأرضين بشدة بأسك! فقد وسعت ممتلكاتها
وما أعظم اغتباط مجنديك! فقد جعلتهم سعداء
وما أعظم اغتباط مسنيك! فقد جددت شبابهم
وما أعظم اغتباط الأرضين بقوتك! فقد حميت جدرانها.

[وبعد ذلك تأتي الديباجة]:

«إنه … «حور» الذي يمد حدوده، ليتك تعيد الأبدية.»

ومما لا شك فيه أن ذلك كان حداء.

الأنشودة الثالثة

ما أعظم سيد مدينته! فهو يعدل ألف ألف، وآلافًا آخرين وليسوا هم جميعهم إلا قليلًا «بالنسبة إليه»
ما أعظم سيد مدينته! فهو سد حاجز للنهر ليمنع الفيضان
ما أعظم سيد مدينته! فهو حجرة رطبة توحي النوم لكل الناس حتى مطلع الفجر
ما أعظم سيد مدينته! فهو مأوى لا ترتعد يده
ما أعظم سيد مدينته! فهو محراب ينجي الخائف من عدوِّه
ما أعظم سيد مدينته! فهو ظل ظليل منعش في الصيف
ما أعظم سيد مدينته! فهو ركن دافئ وجاف في وقت الشتاء
ما أعظم سيد مدينته! فهو تل يحمي من الزوبعة عندما تكون السماء ثائرة
ما أعظم سيد مدينته! فهو كالإلهة «سخمت» لأعدائه الذين تطأ أقدامهم حدوده.

الأنشودة الرابعة

لقد جاء إلينا ليتولى أمر مصر العليا، وقد وضع التاج المزدوج على رأسه
لقد جاء إلينا ووحد الأرضين، وضم البوصة إلى النحلة، [رمز الوجهين القبلي والبحري]
لقد جاء إلينا وجعل الأرض السوداء تحت سلطانه، وضم إليه الأرض الحمراء، [الصحراء]
لقد جاء إلينا وأخذ الأرضين تحت حمايته، ومنح الأرضين السلام
لقد جاء إلينا وجعل أهل مصر يحيون، ومحا آلامهم
لقد جاء إلينا وجعل الشعب يعيش؛ وجعل حناجر الرعية تتنفس
لقد جاء إلينا ووطئ بقدمه الممالك الأجنبية، فضرب على أيد «الأنو» الذين لم يعرفوا الخوف منه
لقد جاء إلينا وحمى حدوده، وخلص من كان قد سرق
لقد جاء إلينا … واحترم المسن بما جلبته إلينا قوته
(بيت مهشم)
لقد جاء إلينا وساعدنا على تربية أولادنا وعلى دفن المسنين منا.

الأنشودة الخامسة

[وهي خاصة بالآلهة، ويمكن الإنسان أن يستخلص منها]:

أنت تحب «خع كاو رع» الذي يعيش إلى أبد الآبدين … فهو يوزع نصيبك من الغذاء … راعينا الذي يمكنه أن يمنح النفس … وأنت تجزيه عليها في حياة وسعادة مرات يخطئها العد.

الأنشودة السادسة

ثناء «لخع كاو رع» الذي يعيش أبد الآبدين … حينما أسيح في السفينة … محلاة بالذهب …

١  (Rec. Trav. Vol. XIII, P. 202; A. Z., XXXII, P. 63; Breasted, A. R. Vol. 1, Par. 642–648).
٢  Garstang, “El Arabah”, Pl. V, P. P. 32, 33, Breasted, A. R. Vol. I, Par. 676, f. f; Peet, “The Stele of Sebek-Khu,” Manchester.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤