قاسم أمين (٢)

من أجل درس رجل من الرجال؛ فيلسوفًا كان أو كاتبًا أو شاعرًا، يجب قبل كل شيء تعرُّف الوسط الذي عاش فيه والحال النفسية الخاصة به؛ حتى يُعلم تأثير هذه البيئة المعينة على هاته النفس المعينة، فإذا تم ذلك تفسَّر الفيلسوف أو الكاتب أو الشاعر إلى حد كبير.

لهذا نرى للوصول إلى تفهُّم أسلوب قاسم أمين وأفكاره أن نحلل حال الوسط الذي عاش فيه، والأوساط الأخرى التي قد تكون أثَّرَت عليه في حياته، ثم نبحث من بعد ذلك حاله النفسية الخاصة به، فإذا تهيَّأَ لنا من ذلك ما أردنا كان لنا أن نحلله ككاتب، وأن ننظر في كتبه من جهة أسلوبها، ومن جهة الأفكار التي وضعت فيها. حينذاك يكون قاسم قد ظهر لنا ككاتب ومفكر ظهورًا تامًّا، ونكون في حِلٍّ من الحكم على قيمة كتبه وما لها في الوجود من حق البقاء.

(١) الأوساط التي أحاطت بقاسم

ولد قاسم أمين في مصر، وأقام بها كل حياته إلا سنين قلائل قضاها في فرنسا، على أن هذه السنين القلائل كانت ذات أثر كبير عليه؛ ولذلك يجدر بنا أن نحلل الوسط المصري وأن لا نغفل الوسط الفرنسي. أما سياحاته الأخرى في بلاد الترك والشام، فلم تترك عنده أثرًا خاصًّا، ولم تكن أكثر من موضع ملاحظة السائح المار في ربوع تلك البلاد. ويجدر بنا للوصول إلى نتيجة ما من بحثنا الوسط المصري أن نُعنى به من جهتين، وبتعبير آخر: أن ندرس منه نوعين: أولهما الوسط الطبيعي، والثاني الوسط الاجتماعي للعصر الذي عاش فيه قاسم. ذلك بأن الوسط الطبيعي ذو أثر كبير في الناس الذين يعيشون فيه، وبالأخص فيما يتعلق بخلقهم. والوسط الاجتماعي هو صاحب الأثر الأكبر في تشكيل أفكارهم.

(١-١) الوسط الطبيعي

بينا ترى مصر البرزخ الذي يصل بين الغرب والشرق إذا طبيعتها الجغرافية تضعها في عزلة عن العالم بشكل غريب؛ فالصحاري تحيط بها شرقًا وغربًا وجنوبًا، والبحر المتوسط يحجبها عن بلاد الشمال. ووسط هذه العزلة المنقطعة ينساب نهرها المبارك الغدوات الميمون الروحات، يُظِل واديه طقس متشابه دائم الابتسام، وسماء صافية لا تتلبد بجهام، وجو معتدل وشمس دائمة وصفو وسكينة. تجوب الوادي من أقصاه إلى أقصاه فلا تقابلك عقبة تحتاج مجهودًا لإزالتها، ولا تثور عليك من ثائرات الطبيعة ريح أو زوبعة أو مطر، بل تراك تسير بين جبلين يقتربان حينًا فيحدان الأفق دون مرمى نظرك، ويبتعدان أحيانًا فلا ترى دون الأفق مما يجلل أرض الوادي إلا النبت النامي والأشجار اليانعة وأسراب الطير السانحة والبارحة.

وسط هذه المزارع الواسعة ترى الدواب في سكينة أشبه شيء بسكينة الخلد، وأكثرها من تلك الدواب الهادئة المطمئنة إلى عيش السكون. فالثيران واقفة وسط مزارع البرسيم أيام الشتاء لا تتحرك من مكانها، والحمر مدلاة رءوسها الفارغة لا تهتم بأكثر من أن تنال علفها القريب منها. وقلَّ أن تجد سوى هذين النوعين من أنواع الحيوان إلا ما قام الزينة أصحابه.

بل إن الحيوانات المستوحشة مما يوجد في البلاد هي على قلتها حيوانات ضعيفة مستسلمة؛ فتلك الذئاب الضئيلة الضعيفة لا تُرى إلا نادرًا، ولا يسمع أحد أنها شنَّت الغارة يومًا على مخلوق مما يعيش قريبًا منها. وهاتيك الثعالب المستميتة لا يعلم عنها إلا اعتداؤها أحيانًا على بعض منازل الدجاج. وهذا أشد الحيوانات مما يوجد في مصر حركة وافتراسًا. وليس هناك سواهما إلا ما هو دونهما بمراحل في الضآلة والضعف والاستسلام؛ حيوانات كلها لا تهيج طائرًا ولا تبعث إلى موجود هزة الخوف.

لذلك كان كل شيء مما ترى تظهر عليه هدأة السكون؛ سكون يخيل لك معه أن هذه الأشياء تائهة في أحلام مبهمة وخيالات بعيدة. ليس ثمت ما يكدر على شيء منها صفو أحلامه، ليس ثمت ما يمنع الصرصار من أن يستمر في صفيره، ولا ما يقطع على الضفدع نقيقه ثمانية أشهر في السنة؛ ليس ثمت ما يزعج الحمر عن مرابطها من قيظ محرق أو قرٍّ مخيف؛ ليس ثمت ثلج يترك الأشجار مدة الشتاء عابسة قائمة؛ ليس ثمت تلك الاختلافات التي تجيء بها الطبيعة في بعض البلاد فتغير وجهها ما بين فصل وفصل، وتغير لذلك معالم كل الموجودات التي عليها؛ وليس ثمت تلك الحواجز الطبيعية التي تستثير في كل مخلوق حب الاستطلاع، أو تستدعي منه صرف المجهود للتغلب عليها.

وليس هذا السكون الذي ترى سكون الصحراء البلقع المقفرة، بل إن ذلك الوادي المفرد في عزلته هو مستقر النضرة والنعيم؛ فنهره الفياض يجود عليه كل عام بماء الحياة، ويجعل من أرضه روضة يانعة كلها الخصب والثروة.

ولقد بلغ من ذلك حتى ذهب الأقدمون إلى أن النهر يستمد ماءه الغني من ينابيع الجنان، وأن الوادي قطعة من رياض الجنة. وتفننوا في تصوير ذلك ما شاء لهم الخيال المتدفق الذي يتغنى بكل موجود على ضفاف النهر.

وعلى الرغم من هذه الثروة التي يجود بها النهر على واديه ترى حكم الطبيعة المتشابهة الساكنة على كل ما في الوادي حكمًا قاسيًا يخضع كل شيء لشدته؛ فإنك تمر وسط الحدائق والمزارع والمروج بقرى كلها من اللبِن متضائلة تائهة في سكون الوادي كأنها بأكواخها الترابية اللون آثار بالية مما خلَّف الماضي، أو هي أوجرة وأوكار لتلك الحيوانات الضئيلة المستسلمة، فإذا ما دخلتَ أحدها صدَّق الواقع ظنَّك فوجدتَ نفسك في غرف مظلمة لا يجد النور إليها سبيلًا إلا كرهًا، ثم إذا أضاءها أصحابها ليطلعوك على ما فيها جاءوك بمصباح قذر قليل النور، فرأيت على شعاعه جدرانها السوداء العارية، وأرضًا ربما غطاها فرش من الحصير أو القش. وهناك عند أحد الأركان معلَّقة جريدة من سعف النخل تحمل كل ما في الدار من فرش ودثر وما لأصحابها من ملابس وأردية. وإن أنت عثرت في بعض القرى بمنزل ذي نوافذ، وفي نوافذه زجاج، كان ذلك دليل ما عند أهله من سعة ويسار غير عاديين. على أن هذا اليسار لا يحمل أحدهم ليُدخل من مواد الترف إلى داره ما يثور على الطبيعة القانعة المستسلمة.

وفي هذا الوسط الخالد إلى السكينة يجد الضيف النازل رحبًا وسعة، ولا يمر بخاطر موجود ممن في الوادي أن يحسب فيه منافسًا أو مضايقًا.

رزق الوادي يسعه ويسع غيره معه. وكل ما يطلب إليه أن لا يبالغ في الأذى، وأن لا يزعج موجودًا عما هو فيه من أحلامه وسكينته. للتمساح إذا دخل في النهر أن يعيش مما يصل إليه من رزق؛ له أن يأكل ما ضَعُفَ عنه من الأسماك، ولكن عليه إلى جانب ذلك أن لا يثير في البر أو في الجو الفساد.

عليه أن يترك القوارب تخطر فوق مياه النيل كما تشاء.

عليه أن لا يخرج إلى حيث الناس والدواب فيقلقها عن مرافقها. فإن هو لم يفعل ذلك استعدى كلُّ من في الوادي الآلهةَ، واستعانوا عليه بما قد يبعث أذاه إلى نفوسهم من الحركة والهياج ضده. والآلهة — وأكبرها الطبيعة — ضمينة أن تخرج هذا الضيف الذي لا يلائمها من ملكوتها ملكوت الحياة المطمئنة الساكنة.

فقد جاء في التاريخ أن النيل قذف أكثر من مرة بالتماسيح إلى شاطئه، ونزل عنها وتركها وسط الرمال في جو لا يلائمها، فذهبت ضحية مقامها في وسط غير وسطها.

وجاء أن بعض السباع عدا على البلاد، فخانه الوسط الطبيعي ولم يجد لنجاته سبيلًا إلا الرحيل، وكل ما بقي من الضيفان من خضع للجو المحيط به، ونزل عن كثير من أخلاقه، ورضي بالعيش الذي يُكرهه عليه ما حوله من المجاورات … أو على الأقل من تصنَّع هذا الرضا والخضوع.

وهذا الوسط هو الذي أحاط بمن نزل وادي النيل من قرون القرون، وهو الذي خلق الموجودات والناس ممن عاشوا فيه، ولم يؤثر فيه الناس ولا الموجودات إلا أقل الأثر.

فماذا عسى تكون الخلائق التي أوجدها؟ وماذا عسى يكون أثره فيهم؟

(١-٢) الوسط الاجتماعي

لسكان وادي النيل مميزات خاصة امتازوا بها منذ القدم؛ مميزات في أنظمتهم الجسمية، ومثلها في أنظمتهم الأخلاقية والعقلية، وكلها خلق ذلك الوسط الطبيعي الذي يعيشون فيه. فكما أن طقس بلادهم طقس هادئ دائم السكينة قليل الغِيَر؛ كذلك تلمح في وجوههم أثر السكينة الهادئة المطمئنة، وتلاحظ في أخلاقهم الاستسلام والعيش في الحاضر، وترى في تفكيرهم خلودًا للماضي وعدم ميل للتغيير. هم يعيشون على نحو ما عاش آباؤهم، خلا أماني تجول برأسهم قد يتغنون بها أحيانًا إذا ساعدهم الوقت على التغني، كما يتغنى الطائر ما دام الصيف وما أسعده الدفء، فإذا جاء الشتاء أسكته.

كذلك إذا تغيرت الظروف انكمش المصريون ونسوا أغنياتهم، ورجعوا إلى عيشهم الأول مكتفين من الحياة بحرث الأرض وبإنتاج مواد الرزق وما تستلزم المعيشة.

وهذا هو سبب ما نرى في التاريخ من تقلب الولاة والحكام الأجانب على هذه الديار، من غير أن يدفع أهلها لمناوأة حاكم ملكهم دافع، بل لقد بقيت الأسرار الفرعونية تتوالى واحدة بعد أخرى وليس من بينها أحد من سكان الوادي الصميمين. وهؤلاء السكان أبعد ما يكونون عن التفكير في إسقاط أسرة أو الطمع في الاستيلاء على العرش، ويبقى الحاكم متربعًا في دسته آخذًا بيده النهي والأمر؛ حتى يجيء سواه من جنسه أو من جنس آخر فيستعين عليه بالقوة أو بالدهاء حتى يسقطه ويأخذ الحكم مكانه. والمصريون ينظرون لذلك كله بعين مطمئنة، وقلب إن جالت به بعض الوساوس، فإنها لا تخرج إلى أكثر من الهمس الذي يزول يوم ينكشف النزاع بين المتجادلين. وأي منهما غلب كان صاحب الحكم وصاحب الحق على عرش وادي النيل وصاحب الرعاية على سكانه.

وعجيبة قوة الوسط الطبيعي للوادي في إخضاع من يقيم فيه لسلطتها، فلا يلبث الحاكم القديم أن يتدرك إلى ملابسة الناس من أهل الوادي ومخالطتهم، والعيش بينهم، حتى تداخله وتداخل أبناءه الأخلاق الخاصة التي امتازت بها الطبيعة. فهو سرعان ما يميل إلى الاستسلام للطمأنينة والأخذ في طريق الحياة الساكنة القانعة من العيش بما تنبت الأرض وبما يرزق الله؛ لهذا لم نرَ أسرة من الأسر بعد إذ غُلبت على أمرها كونت لنفسها حزبًا تناوش به من بزها عرشها سعيًا وراء استرجاع ذلك العرش، اللهم إلا في ظروف نادرة ولوقت قصير.

ولقد كان من أثر هذه العوامل الرئيسية أن زادت في ذلك الاستسلام الطبيعي الموجود في النفس المصرية، فاصطبغ كل ما دخل إليها من الأخلاق والعقائد بصبغته، وأصبحت قواعد الأديان التي توالت على أرض مصر مرتكزة على أساس الجبرية والإيمان، كما امتازت الأخلاق المصرية بالسكون إلى حكم القضاء. ولم يكن من صالح الحكام المتعاقبين تغيير شيء من ذلك كله، فانغرست تلك الصفات وتأصلت ووصلت إلى حد الجمود.

لذلك كله كان واجب المصلحين في هذه الديار أشق وأتعس ما يتصور.

كان قاسم أمين والوسط الذي عاش فيه تحكمه كل هذه الصفات، ولكن كان إلى جانبه حركة اجتماعية جديدة قامت على أثر الحركات المتوالية التي تعاقبت على مصر في القرن الأخير.

حركة حرة قامت على أساس فكرة الإصلاح متأثرة بما حصل في البلاد في سنتي ١٨٧٦ و١٨٨٢، وبما عقب ذلك من أوجه الإصلاح الاقتصادي والنهضة الشابة العلمية التي أخذتها بيدها حكومة ذلك الوقت. وأعان هذه الحركة الإصلاحية الحرة على البقاء والتقدم المركز الخاص الذي وجدت فيه مصر بعد سنة ١٨٨٣، والذي أدى لوجود حكم البلاد في يدين متنافستين تنافسًا سمح بازدياد الحرية الفردية، وترك للأمة أن تبدي على الملأ ما كان يجول بخاطرها من الأماني، متأثرة في ذلك بما ورد إليها من نظريات الغرب الذي كان قد بدأ يهتم لها اهتمامًا خاصًّا لما خلقه لها قنال السويس من المركز الخاص.

لكن هذه الحركة الجديدة كانت قاصرة على أن تمتد إلى جوف البلاد، بل كانت لا تزال متركزة في العاصمة ولا يصل منها إلى بعض المدن إلا صدى لا يؤديها بشكل مضبوط، ولا يترك منها في نفوس أهل تلك المدن إلا أثرًا ضعيفًا هو أشبه شيء بما يتركه الحلم في وهم الحالم بعد يقظته، كما أنها كانت لا تزال مترددة لم تختط لنفسها طريقًا معينًا، ولا هي تجددت بحدود خاصة إلا في نفوس بعض الرؤساء القائمين بها.

ولما كانت متركزة في العاصمة كانت كل ملاحظاتها وكل أطماعها وكل الأغراض التي ترمي إليها مأخوذة من نوع حياة العاصمة، وموجهة إلى إصلاح هذا النوع من الحياة. ومن شأن العواصم أن تعزو كل ما تراه بين جدرانها من الخير والشر، وما تتوهم في ربوع البلاد من بر وفقر إلى عمل الحكومة وإلى نظامها؛ لذلك كانت حركات العواصم متطلعة أغلب الأحيان إلى الناحية السياسية. وفي حركة العاصمة المصرية في سنة ١٨٨٢ شيء من هذا المعنى، لكن ما قدمنا من صفات أوجدتها الظروف الطبيعية والسياسية في الشعب المصري كان من شأنه أن يضعف عزم كل مصلح يريد الدعوة للانقلاب السياسي، ويدعوه للتفكير في البدء بالإصلاح الاجتماعي. هذا فضلًا عن أن قوى خارجة كانت تحول بين السياسي وبين نجاح الدعوة للانقلاب؛ لهذا كانت الحركة الحرة التي نشأت عند نشأة قاسم أمين مضطرة إلى أن تهتم بالإصلاح الاجتماعي قبل كل شيء.

ولما كانت هذه الحركات ترمي إلى شيء من التجديد في طرق العمل والتفكير والاعتقاد، كانت المعارضة القائمة في وجهها غاية في الشدة؛ فلم يكن قوامها إلا المركز الممتاز الذي كان للقائمين بها. ولولا مثابرة هؤلاء الرؤساء وما لقوا من التعضيد من بعض الجهات التي كانت تهتم بأن تبقى الحركات الإصلاحية اجتماعية كلها لماتت تلك الحركات في مهدها.

وكان من الحركات الإصلاحية الأخرى التي قامت إلى جانب هذه الأولى حركات ذات وجهة سياسية، اعتمدت في انتشارها على سغب الرأي العام لمثل المبادئ التي كانت تنادي بها، وقد لقيت هذه الحركات نجاحًا وانتشارًا كبيرًا في العاصمة، لكنها اندفعت إلى مقاومة تيار حركة الإصلاح الاجتماعي في بعض ما كانت ترمي إليه مقاومة ذات قيمة.

ولقد ساعد تلك المقاومة أن هذه الأحزاب كانت تناصر المبادئ الجامدة التي توارثتها الأمة وتحبذها، على حين كان أهم ما ترمي إليه حركة الإصلاح الاجتماعي زحزحة الأمة عن مركزها الجامد، وإدخال نوع من التفكير الحر إلى نفسها كي تستعين به على التحلل من بعض العادات والأنظمة؛ أي إن هذه الحركة كانت احتجاجًا ناطقًا على هذا الجمود وصيحة عالية في وجهه.

•••

وكان مما وجه إليه بعض المصلحين نظرهم بوجه خاص ما كانت عليه الأمة — ولا تزال — من الوقوف في الدين عند تفاسير قديمة رأى أولئك المصلحون أنها لا توافق روح العصر الذي يعيشون فيه من جهة، وليست ضربة لازب ولا ضرورة من ضرورات الدين من جهة أخرى؛ فرأوا من الواجب الأخذ بغير هذه الآراء والتحلل من قيودها، ونبذ ما ترتب عليها من المفاسد التي تراكمت بعضها فوق بعض مع الزمن، والتي أصبحت في اعتبارهم علة من العلل التي أصابت الدين وهو منها بريء. وكان على رأس هذه الحركة الشيخ محمد عبده.

ولا شك أن هذا الباب من أبواب الإصلاح كان يومئذ الأساس لكل ما سواه؛ لأن الفكرة الدينية كانت وحدها المتسلطة على عقائد الناس وأخلاقهم وأنظمتهم ومعاملاتهم تسلطًا مطلقًا لا يفكر أحد في أية وسيلة للتحلل منه ولو إلى أضعف الحدود. ومن أجل ذلك سمح المصلحون الدينيون لأنفسهم أن يجوسوا خلال كل أنواع الإصلاح؛ فكانوا يتقدمون بالرأي في الحال الاقتصادية وفي الحال الأخلاقية وفي الحال الاجتماعية، ولم تكن إلا الحال السياسية هي التي أُغلق بابها دونهم؛ لأنها لم تكن في يد الأمة، كما أن أصحابها لم يكونوا ليتهاونوا في أمرها أو ليدعوا لغيرهم أن يبدي فيها رأيًا.

ولقد وجه رئيس الحركة الإصلاحية المرحوم الشيخ محمد عبده همَّه الأول إلى تصفية الدين مما يعتقده الناس من الترهات التي ألصقت به، وكان مثله في ذلك مثل لوثر وكلفن وغيرهما من المصلحين الذين قاموا بالحركة الدينية في أوروبا في القرن السادس عشر؛ أي إنه جعل العقل مقياس الدين، فكل ما لم يتفق مع العقل من تفاسير السابقين هو يعتبره دخيلًا لا يستحق البقاء، ويجب أن يقوم مجتهد يحل غيره محله. وكان أكبر همه من ذلك موجهًا لما يختص بالعقائد؛ لذلك تراه أصدق ما يكون حملة على مسائل الأولياء والنذور وأمثال هذه الطقوس مما هو دخيل على الإيمان بالإله في رأيه، أما ما كان متعلقًا بالأنظمة الاجتماعية والاقتصادية، فلم يكن صاحب نشاط فيه وإن كان صاحب رأي. ورأيه إنما كان أغلب الأحيان أثرًا من آثار مركزه؛ فقد كان يصدره كفتاوى فيما تطلب منه الحكومة الفتوى فيه، وفيما يعرض عليه من غير الحكومة.

ولقد كان لهذه الحركة التي قام بها الشيخ محمد عبده في وقته من القوة ما لم يكن سهل الاحتمال عند الأمة لولا الظروف الخاصة التي كان فيها الشيخ المفتي؛ فقد كان صاحب الإفتاء في البلاد، كما أنه كان باطلاعه الواسع وبحسن فهمه للظروف المحيطة به وبتوفيقه ما بين العلم الشرقي والعلم الغربي صاحب مكانة لم تتهيأ لغيره من المصلحين؛ مكانة سمحت له أن ينفث روحه في الصحافة ويؤثر بذلك في الرأي العام.

لكن المصريين كانوا مع ذلك أنصار القديم إلا الأقلين منهم؛ كانوا أنصار الطمأنينة للحياة والسكون للماضي والاستسلام للحاضر وعدم الميل لجديد، بل إن كثيرين من الأقلية لم يناصروا الشيخ محمد عبده ومدرسته إلا لغرض في نفوسهم؛ فقد كانوا يرون أن هذه المدرسة تتصل بالسلطة الحاكمة وتقدر بذلك على إفادتهم فائدة مادية؛ لهذا ما لبث الشيخ محمد عبده أن وافاه الأجل المحتوم حتى ابتدأ عقد مدرسته ينفرط، وإن بقيت آثاره في نفوس جماعة الذين لم ينقطعوا للعلم الديني. وبهذه الآثار استطاعوا أن يجعلوا الأمة تسيغ من مبادئهم الحديثة ما لم يكن في وسعها أن تسيغه من قبل.

لكن هذه الهوادة في قبول الأفكار لم تجئ إلا بعد زمن طويل وفي ظروف غير التي كان فيها قاسم؛ لم تجئ إلا بعد قيام نهضة غير مستمدة من الدين، كان قاسم من السابقين إليها والذين لم يتمتعوا بثمارها.

وفي هذا الوسط الاجتماعي ظهرت أفكار قاسم، فاضطرت أن تأخذ صبغته إلى حد كبير، لولا نزعات كانت ترجع إلى ما أفاده الكاتب من فرنسا وإلى حاله النفسية الخاصة. وقويت هذه النزعات عنده في الكتب التي وضع آخرًا: المرأة الجديدة والكلمات. ولو أنه عاش بعد ذلك طويلًا لزادت قوة، ولكانت من أقوى العوامل في مساعدة الروح الشابة الحاضرة، روح التجديد.

(١-٣) الوسط الفرنسي

قضى قاسم أمين سني دراسته العالية في فرنسا، وككل شاب يتاح له المقام في إحدى ممالك أوروبا زمنًا غير قصير تأثر قاسم بما رأى في تلك البلاد، وتأثر أكثر من سواه، وكان تأثره بنوع خاص من جهتي الإحساس والتفكير، وترك ذلك في حياته الخاصة وفي مظاهره العامة أثرًا غير قليل؛ لذلك يجدر بنا أن نستظهر قدر الطاقة نوع الوسط ومميزاته حتى يتسنى لنا تتبع قاسم ككاتب ومفكر.

ولسنا ندعي إمكان الإحاطة بمميزات الوسط الفرنسي في هذه الكلمة القصيرة؛ فإن مثل هذا الدرس تحوجه مؤلفات طويلة، لكنا إنما نريد أن نضع أمام النظر الجهات الخاصة منه التي تأخذ بذهن الشاب الشرقي الذي يقصد إلى تلك البلاد ليفيد منها العلم والنظر، وربما وصلنا إلى ما يساعدنا على تحليل أسلوب قاسم وكتبه وأفكاره وعقيدته.

تقابل الناظر في فرنسا طبيعة جديدة جميلة لم يعرفها في مصر، ولم يتذوقها إلا من طريق الخيال؛ تقابله جبال وغابات وغياض وحدائق يأخذ جمالها بالنظر ويسترعي اللب والفؤاد، وتقابله كذلك مبانٍ فخمة بديعة النظام فيها غير المعنى التاريخي الذي ألفناه في مبانينا التي وجدت على التاريخ قبل أن يوجد التاريخ معنى الاتساق والتوازن. وفي كثير من هذه المباني يجد التماثيل والنقوش والصور، وكلها مثل الجمال على مختلف أنواعه، فلا يلبث أن يرى ذلك كله حتى تأخذه نشوة تدعوه إلى تكرار النظر إليه والاستزادة منه؛ فهو يذهب المرة تلو المرة إلى قصر اللوفر الفخيم يشاهد فيه أبدع الصور وأدق التماثيل مما خلَّف اليونان والرومان والهولنديون والإيطاليون وأهل الأمم ذات المدنية والحضارة، ويتردد إلى غاب بولونيا يشاهد فيها أبهى مناظر الطبيعة من بحيرات وأشجار، وأرق مظاهر المدنية من جياد مطهمة وسيارات بديعة تحمل الحي زاد نفسه جمالًا بدقة ذوقه في نوع لباسه وكيفية ابتسامه، وما يشف عن رقة طبعه، ويعود بعد ذلك مارًّا بقصور الإليزيه وبميدان الكونكورد وبحدائق التويلري، وبما في ذلك من مختلف صور الجمال الصامت والناطق، ثم هو يخرج أيام الآحاد إلى الضواحي فتقابله الجبال الصغيرة والأنهار والغياض، فإذا تغلغل في أحشاء فرنسا إلى الأوفرن سحرته عن نفسه ببديع جمالها تلك الجبال المنيعة الرفيعة، تجلل هاماتها الثلوج وتغطي سفوحها الأشجار وتنساب في أخاديدها المياه دائمة الخرير، ويتوجها كل مساء مغرب الشمس الباهر.

وهو في حل ما دام في فرنسا من أن يرى جديدًا من هذه المناظر الطبيعة والمدنية متى شاء، أمامه غير قصر اللوفر متاحف لا يحصيها العد، وغير حدائق التويلري وغاب بولونيا حدائق وغابات لا تنتهي، وغير الأوفرن جهات الرفييرا والتيرول وسواهما. وكل هذه المتاحف والحدائق والغابات والنواحي تحوي من الجمال ما يدعو إليه ويحبب فيه؛ كلها الشعر الناطق بآي الحكمة والبهاء والرواء.

تسترعي هذه الأشياء كلها نظر النازل فرنسا، وتفتح أمامه عالمًا جديدًا لم يجُل قط من قبل في تصوره، وتدعوه بذلك للاستزادة ما استطاع مما حولها، فيقصد مسارح التمثيل يرى فيها أثر الفكر الإنساني مجسمًا متنوعًا كما يرى التفنن في حسن الذوق حين يجيل بصره في صالات التياترو المزدحمة أثناء هدنات ما بين الفصول بالمتفرجين. ويذهب إلى ملاعب الموسيقى فتأخذ بسمعه نغمات جديدة مملوءة بالحياة والقوة، مختلفة جد الاختلاف عن نغمات موسيقانا المستسلمة الشاكية. قد لا تطربه هذه النغمات بادئ الأمر، ولكنه يرى فيها معنى خاصًّا غير الذي ألفه في الموسيقى الشرقية، يراها أغلب الأحيان موسيقى عصبية يهزها الفرح أو يخرجها عن طوقها الحزن، فإذا انبعث عنها الوجد والشكوى لم تدم على ذلك إلا ريثما تصور المدنف الواله وسط الحركة الشديدة؛ حركة المدنية الحاضرة.

ثم يرى فيما حول ذلك كله المتاجر والمصانع كلها النشاط والحركة، ويحس في كل مخلوق مما على أرض هاته البلاد أنه يحب الحياة حبًّا حقيقيًّا، ويرى فيها مواضع للفائدة واللذة يمكنه الوصول إليها متى أراد. ولن يكون ذلك بالاستسلام ولا بالطمأنينة للحاضر، ولكن بالجد والعمل؛ فكلٌّ يجد ويعمل يريد أن يسخِّر كل ما على الطبيعة لفائدته ولذته. هذه هي النواحي الظاهرة التي تأخذ بنظر النازل فرنسا.

فإذا هو تعمق في تعرُّف شئون الفرنسويين إلى أكثر من المنظر الظاهر؛ إذا هو بحث أنواع حياتهم ومبلغ إحساسهم وأوجه التفكير عندهم مستعينًا في تفسير ذلك كله بما رأى، تبدَّت له صور وإحساسات وأفكار وأنظمة أكثر أخذًا باللب، وأوقع في النفس مما رأى قبل ذلك. تبدت الأسرة وليست هي مجرد ذلك القطيع الإنساني لا يجمعه أكثر من الروابط الطبيعية؛ روابط الأبوة والبنوة تحت إمرة الأب، ولكنها شركة إنسانية أساسها تبادل الإحساس الخالص والزيادة في سعادة الفرد من طريق الاجتماع وخلق الأبناء، والقيام عليهم ليكونوا في مستقبلهم رجالًا أحرارًا أو سيدات يعرفن معنى الحرية ويقدسن الواجب.

وتبدت له إحساسات دقيقة رقيقة قوية عنها صدرت تلك الموسيقى العصبية الحرة، وهاته النقوش والصور البديعة المملوءة حياةً ونظامًا ومعنى، وتلك الروايات المملوءة بالشعر والفكر؛ وعنها تصدر كل جلائل الأعمال التي يرى في تلك البلاد.

وبدا له إلى جانب هذه الإحساسات وآخذًا بيدها فكر دقيق مصقول هو مصدر فلسفة طويلة عريضة لم تترك نقطة من نقط الأخلاق أو العقائد أو الأديان إلا حققتها وحللتها، ووصلت فيها إلى مختلف النتائج.

وليست هذه الفلسفة فلسفة استسلام وتواكل، بل هي الأخرى فلسفة قوية مبناها احترام الجنس الإنساني وكل ما ينتج، لا تعرف تقديس الماضي ولا الخضوع له، بل هي تأخذ كل ذرة من ذراته فتحللها وتبحث عن مصدرها وأصلها وطرق نموها والنتائج التي انبنت عليها، ثم تبحث عن قيمتها وحقها من البقاء، فإن لم ترها متفقة مع العقل أو رأتها عقيمة النتيجة طرحتها جانبًا.

لذلك لم تذر الاعتقادات دون النقد المر، ولم تترك الديانات ولا أساسها إلا بعد إذ هدمت منها جانبًا غير قليل. وقد سارت في هذا الطريق أزمانًا طويلة حتى كانت مسألة عدم التدين في العصر الذي نزل فيه قاسم أرض فرنسا مسألة مفروغًا منها، بعدما استنفدت من الكتب الفلسفية ومن كتب الشعر والأدب آلاف الصحائف.

وكان من أثر هذه الفلسفة اللادينية أن بثت في الشعور العام فكرة جديدة عن الأخلاق، وعن المعاملات، وعن طرائق النظر عامة، فصارت فرنسا المفكرة تعمل لبناء عمرانها الاجتماعي على أساس من العقل والعلم البحت؛ وصارت فرنسا المتصلة بهذه الأولى — أقصد بذلك شعب المدن — بعيدة عن أن تدين بالأفكار القديمة أفكار الزهد والتقشف، بل آمنت بالأفكار الاقتصادية المنادية بوجوب السعادة في هذه الحياة الدنيا.

ولقد كانت هذه الطوائف جميعًا قائمة بهذه المبادئ بنفس الحدة والقوة التي قام بها أهل العصور السالفة لنصرة الدين، فكأن هذه الأفكار العلمية البحتة كانت ترمي لتأخذ صبغة إيمان جديد يحل محل الإيمان القديم، ويطالب أنصاره بتعزيزه بمبلغ ما عزز الدينيون إيمانهم الأول.

لكنما كانت هذه المبادئ الجديدة لا تزال في تشعبها لم تتركز ولم تصل إلى حد الإيمان فعلًا. كان كل صاحب رأي يجاهد لإعلاء أمره جهاد صاحب الدعوة، لكن أصحاب الدعوات المختلفة كانوا جميعًا من التحمس بحيث لم يصل أحد منهم ليبلغ بدعوته من النفوس ما يجعلها دينًا جديدًا يحل محل الدين الذي هدمه فولتير ورينان وتين ومن عاصر كلًّا منهم من الفلاسفة.

هذه الحركة الفكرية القوية في ذلك الشعب الحي وسط تلك الطبيعة الناطقة المتحركة، وهذه المظاهر الفنية من نقوش وتماثيل وروايات وموسيقى، وتلك العواطف الشديدة التي تحرك النفوس — ذلك كله هو أول ما يأخذ بنظر الأجنبي المقيم في فرنسا، وذلك كله هو أساس مدنية الغرب.

في هذا الوسط أقام قاسم أمين زمنًا من حياته وتأثر به أكبر الأثر، تأثر به إلى حد تدثرت معه صفات وملكات مما يستلزم الوسط المصري المستسلم الساكن، وظهر هذا الأثر في حالته النفسية، وفي أخلاقه، وفي كتبه وعقائده إلى حد كبير.

(٢) الرجل

لم تتح لي معرفة قاسم أمين على قرب عهدنا به، وكل ما كنت أعرفه عنه مظاهره في الحياة ككاتب وكقاضٍ، على أن هذه المظاهر كفت لتحل الرجل من نفسي مكانًا جمع بين الإجلال والمحبة، فلما وافته منيته في سنة ١٩٠٨ شيَّعته إلى مقر وفاته وفي القلب لوعة حزن وأسى وحسرة.

لكن إنعام النظر في صورة الرجل والتدقيق في ما كتب وفي ما ذكره عنه من عرفوه، ومقارنة ذلك كله بعضه ببعض تحيي في النفس منه صورة مضبوطة تجعله أمام المخيلة حيًّا جالسًا في هدأته العصبية الحزينة تؤثر فيه الحوادث جميعها دقيقها وجليلها من جهات العواطف والإحساس أولًا، ومن جهة الفكر المنطقي البحت بعد ذلك، وتستدعي منه ملاحظات عصبية هي الأخرى، ولكنها بعيدة عن ذلك التهيج الذي يلزم في أحيان كثيرة جماعة الكتاب العواطفيين. فإذا هو توترت أعصابه أمام تكرر المشاهد والمناظر، وأمام جمود المحيطين به دون التأثر بما يراه هو ويلاحظه، ترك الناس إلى وحدته آملًا أن يجد فيها من الطمأنينة والسكون ما يرد إليه هدأته، وكذلك تبقى هاته الحال العصبية تتناوبه حتى تدفعه ليكتب أجمل ما في كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، وليحفظ في أوراقه الخاصة بعض كلمات بديعة أظهرتها الظروف بعد وفاته.

وكانت هذه الحال العصبية المحتوية نفسها مرتبة حياته الخاصة، كما كانت مصدر أعماله جميعًا. كانت منبع سعادته ولذته وأمله، وسبب آلامه ومتاعبه، ومصدر كتاباته وأفكاره، وأساس أحكامه وقضائه، فكأنما كانت أعصابه أوتارًا تتأثر بملامسة الحوادث تأثرًا سريعًا ينقل إلى نفسه الإحساسات المختلفة، وينقل إلى الخارج مظاهر هذه الإحساسات على النظام الذي تعطيها إياه قوة ملاحظته الحادة الدقيقة.

عاش قاسم أمين حياة لم يتخللها حادث غير عادي يجعل لها صبغة غير مألوفة. دخل المدارس في مصر ثم سافر مع إرسالية الحكومة إلى فرنسا، فلما عاد منها اشتغل في وظائف قضائية انتهت به إلى منصب مستشار في محكمة الاستئناف الأهلية، وبقي في هذا المنصب حتى آخر حياته.

لكنه مع ذلك لم يكن الشخص العادي في أي طور من هذه الأطوار؛ فلقد امتاز في فرنسا بحدة في الذهن لفتت إليه أساتذته. وإني لأذكر الساعة يومًا كنت فيه مع الأستاذ «لرنود» أحد أساتذة كلية الحقوق في باريس، ومال بنا الحديث إلى المصريين فذكر لي قاسم بشيء من الإعجاب ملأني كمصري غبطة، وكمعجب بقاسم سرورًا، أن شاركني في إحساسي عالم كبير، كما أنه امتاز في القضاء بحسن ذوق غير متعارف، وبدقة في التقدير أكسبته ثقة زملائه وعطفهم. كذلك لم يشاركه في حياة مصر العامة مشارك؛ لم يقم معه قائم بمبدأ جديد بتلك الثقة بالنفس وهذه القوة في العقيدة. وهذا الامتياز في درجات الحياة التي مر بها راجع إلى حالته النفسية؛ إلى تلك الحال العصبية الحساسة.

فلم تكن تقابله مسألة مهما تكن من البساطة إلا تأثر بها وارتسمت في مخيلته، واستدعت منه النظر والفكر واهتزت نفسه لها؛ فتلك امرأة محجوبة تسير في شارع الدواوين مبرقعة كما يسير آلاف غيرها، ولكن يظهر من هيئتها أنها من عائلة كبيرة، فنرى عيون قاسم الواسعة تحدق بها، لماذا؟ لأن إحساساته تأثرت، ونفسه تغيرت، أن رآها «تمشي خطوات مرتبة يهتز معها جسمها مائجًا كما تفعل الراقصة على المسرح، وتخفض جفونها بحركة بطيئة وترفعها كذلك، وترسل إلى المارة نظرات دعابة ورخاوة واستسلام يجعل مجموعها تحريضًا مهيجًا لحواسهم». هذا هو أثر حي أمامه من آثار الحجاب الذي يحار به، وهذه هي الصورة التي يدَّعي خصومه أنها مثال ذلك النظام الذي وضعته العادة محافظة على العفة. أفلا يرى الناس هاته المرأة أمامهم تكذِّب كل ما يزعمون؟

وتلك بعض الحوادث في عمل القضاة لا تتفق مع وجدانه وضميره؛ حوادث يأتيها بعض زملائه لسبب قد يعرفه وقد لا يعرفه؛ قضايا يحكمون فيها أحكامًا لا تتفق مع المألوف، فإذا كان لا يستطيع أن يعين هذه القضايا، فإنه يعجز عن أن يسكت نفسه دون أن تصيح: «أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل.»

ويتوفى صاحب اللواء وتمر جنازته في الشوارع، ويشهدها قاسم ويرى تلك الجموع الحاشدة التي تسير فيها جامعة مختلف طبقات الأمة وأهالي بلادها المختلفة، مظهرة اتحادًا في الشعور، فتهتز أعصابه وتمتلئ بالأمل نفسه المحزونة، ويرى أن «الإحساس الجديد، هذا المولود الحديث الذي خرج من أحشاء الأمة، من دمها وأعصابها، هو الأمل الذي يبتسم في وجوهنا البائسة، هو الشعاع الذي يرسل حرارته إلى قلوبنا الجامدة الباردة، هو المستقبل».

وكانت هذه الهزات العصبية تترك في نفسه صورًا مضبوطة من الحوادث أو المظاهر التي أنتجتها؛ فالمرأة التي رأى في شارع الدواوين «طويلة القامة ممتلئة الجسم عمرها بين العشرين والثلاثين في وسطها حزام جلد مشدود على خصر رفيع … وعلى وجهها قطعة من الموسلين الرقيق أقل عرضًا من الوجه تحجب فاها وذقنها حجابًا لطيفًا شفافًا … وتترك الحواجب والجبهة والشعر والرأس إلى منتصف الشعر مكشوفة».

وقد رأى مدة وجوده في فرنسا طفلًا عمره عشر سنين كان يتفرج بجانبه على فرقة من العساكر الفرنسوية وهي عائدة من حرب التونكين، «فلما مر أمامه حامل العلم وقف هذا الغلام باحترام، ورفع قبعته وحيَّا العلم وصار يتابعه بنظره حتى غاب عنه». أمام هذه الصورة المضبوطة من جاره وحركاته أحس قاسم «أن الوطن تجسم لهذا الطفل في العلم الذي مر أمامه، وأثار فيه جميع الإحساسات التي بعثها فيه ما تربى عليه من حبه حتى خاله رجلًا كاملًا»، وصورٌ غير هاتين كثيرة يمر بها من يقرأ ما كتب قاسم؛ صور حية ناطقة بما تحوي منبئة باهتزاز روح واضعها وتأثره.

وكان من أثر هذه الحال العصبية الخاصة عنده أن كان على الرغم من دقة ملاحظته، ومتانة تفكيره رجل عواطف يحس بالحياة أولًا ويحللها ثانيًا. لم تكن الحياة وما فيها من مظاهر وموجودات موضوعًا خارجًا عنه؛ فهو يحلله وينظر فيه بالهدأة التي يشرِّح بها الطبيب جثة أمامه يريد أن يعرف ما تحوي، ولكنها كانت روضة يريد أن يسعد بما فيها، ويود لو يشاركه في هذه السعادة أمثاله؛ لذلك تراه دائم التغني بمعاني الحب وآثار الجمال، داعيًا الناس بشوق وشدة يريد منهم أن يسيروا معه، ويشاركوه في المتاع بذلك الجمال، وأن يسعدوا أنفسهم بالحب ليكون له بسعادتهم سعادة مضاعفة؛ ولذلك تراه شديد المقت لكل ما يحول دون هذا المتاع من ظلم أو جهل أو فساد. وهو يمقته بنفس تلك الهزة العصبية التي توجهه في جميع أفكاره وإحساساته، هو لا يريد لبني آدم ممن حوله أن يعيشوا عيش النبات يشبون ويذبلون ويفنون من غير أن يكون لهم في ذلك من حظ، ولكنه يريد منهم ولهم عيشًا إنسانيًّا ممتلئًا، عيشًا تهزه العواطف وتملأه الأعمال، عيشًا يسمح لهم بورود مناهل السعادة، ويجعل لمجموعهم وللأفراد الممتازين منهم محلًّا للخلود الشريف.

وظاهر من ذلك أن قاسم لم يكن من مذهب الساخرين من الحياة، وأنه كان يرى لها قيمة كبرى ويظنها مجالًا للسعادة والنعيم؛ هو لم يكن يقول لنفسه: ما دام الموت هو الغاية العظمى والنتيجة الأخيرة لهذا الوجود المملوء بالمتاعب والآلام، فخير الطرق إليه أسرعها وأقلها متاعب وآلامًا. ولكنه كان ينظر إلى الموت بعين الخائف الوجل، ويخيل إليَّ أنه كان يتمنى لو يصدق الظن ويحشر مع أهل الجنة وينجو بذلك من الفناء المخوف الأسود الذي يقول بعضهم إنه ينتظرنا ساعة الموت. ولقد عبَّر هو نفسه عن هذا الإحساس بكلمة بالغة في الدقة والإبداع، قال: «أتعس البرية إنسان ضاع إيمانه يدس الموت بسمه في حياته فيفسد عليها لذتها، وينغص عليه شهوتها.» تلك كلمة تعبر عن أثر الخوف من موت يقطع كل أمل في البقاء، تعبر عن إحساس نفس تحب الحياة وترجو البقاء فيها، وترى أن فيما يحيطنا من أنواع الجمال وفيما يختلج صدورنا من مختلف العواطف، وفي ذلك العالم المملوء بما يبهر العين ويأخذ بالقلب ويستدعي الملاحظة، ويشحذ الفكر وينبه الإحساس، وبالجملة ما يبعث إلى النفس السعادة وإلى الذهن النشاط – ترى في ذلك ما يجعل الحياة حقيقة لذيذة تستحق أن يتمسك بها وأن يسعى لها.

وكل ما كان يؤلم نفس قاسم تلك العقبات التي يجد في سبيل الوصول إلى هذه الحقيقة اللذيذة والاستمتاع بها كلها، ويهزه ذلك الألم فيبعثه إلى النظر والسعي في إزالة هذه العقبات التعسة، ولكن ما في طوقه من ذلك قليل.

فإذا هو شعر بضعفه أمام المجموع وأمام العادة، وبعجزه أمام طبيعة الحياة، عاوده الغضب حتى يكاد يخرجه عن طوقه، ثم يستطيع لكثير ما درب نفسه أن يسكن ثائرة نفسه أو على الأقل أن يخفيها عمن سواه. وإنك لتشعر في كثير من كلماته التي خلف بعد وفاته بأثر هذه الثورة العصبية المغضبة. اسمعه مثلًا حين يقول: «إذا رأيت الرأي العام يرمي أحد رجال الحكومة بالخيانة ساخطًا عليه شديد الرغبة في سقوطه، فاعلم أنه غالبًا رجل طاهر وعامل نافع، وإذا رأيت الرأي العام معاديًا لكاتب وأعد له خصومًا يتسابقون إلى نقض أفكاره وهدم مذهبه، وعلى الخصوص إذا رأيتهم ذهبوا في مطاعنهم إلى السب والقذف فتحقق أنه طعن الباطل طعنة مميتة ونصر عليه الحق. ما هو الرأي العام؟ أليس هو في كثير من الأحوال هذا الجمهور الأبله عدو التغيير، خادم الباطل ومعين الظلم؟» فمن هو هذا الكاتب الذي عاداه الرأي العام؟ أليس هو قاسم نفسه! ولمَ كل هذا الغضب؟ لأن الحالة العصبية لا تسمح لنفس صاحبها أن لا يتأثر بالحوادث، وكل ما استطاع قاسم أن يكتم هذا الغضب في نفسه فلا يظهر عليه سواه، بل إنك تراه يعيد الكرة في جهاده، وكتابته هي هي لم تخرجها ثورة نفسه عن حدها الأول.

وكذلك عاش قاسم مناديًا للسعادة طالبًا إياها، يحدوه الأمل في الوصول إليها من طريق عواطفه مرة، ويتوقعها أخرى من طريق الصداقة والجماعة، ولكنه طول حياته «يجد السآمة غالبًا في الاجتماعات ولا يشعر بها في الوحدة، يشتاق إلى الناس، فإذا اختلط بهم رأى وسمع ما يزهده فيهم، فيفر منهم ويرجع ملتجئًا إلى نفسه فيجد فيها الراحة والسكون». وبكلمة أخرى بقي دائمًا وكل سعادته في الحياة منتزعة من أحلامه بالسعادة.

ومات وهو لا يزال في دور جهاده، مات تاركًا من بعده أثرًا خالدًا هو عمله الذي كان لذته الأخيرة الباقية، بعد إذ خذلته واحدة بعد أخرى كل ما سواه من اللذات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤