آثار وادي الملوك (١)

من القاهرة إلى الأقصر

دعيت الصحافة المصرية أخيرًا لزيارة قبر الملك توت-عنخ-آمون. دعيت لتوقف المصريين على آثار جدٍّ من أجدادهم، باقية لا تزال، في أرض مصر بين مقابر الملوك الفراعنة. لكنها دعت بعدما أذاعت صحف لندرة، بل صحف العالم، التفاصيل التاريخية والفنية عن قبر هذا الملك المصري. وبعدما نشرت الجرائد والمجلات الأجنبية صورًا مختلفة صورت بين أطلال طيبة الأزلية الخالدة. ثم تخطت النيل، وتخطت البحار قبل أن تقع عليها عين واحد من أبناء أصحاب مقابر طيبة.

وفيما بين افتتاح باب قبر الملك المصري، ودعوة رجال الصحافة المصرية — في هذه الفترة التي تجاوبت فيها صحف العالم بخبر هذا الاكتشاف، وكتبت عنه الفصول الطوال، لم تُعنَ الحكومة المصرية ولم تُعنَ جهات حفظ الآثار المصرية، بإطلاع الأمة المصرية على أية معلومات عن هذا الأثر المصري تدلُّهم على قيمته. وتكشف لهم عن شيء من حقيقته. فلما وصلت الجرائد من إنكلترا مُتْرَعة بالأخبار عنه تكرمت وزارة الأشغال المصرية فأصدرت بلاغًا تافهًا مبهمًا لا تقف منه على شيء ولا تعرف له معنى محدودًا.

•••

دعيت الصحافة المصرية أخيرًا لزيارة قبر الملك توت-عنخ-آمون، فأذكرتني هذه الدعوة — لذلك الأثر المصري — تلك الآثار العزيزة العظيمة انتقلت على ظهور البحار إلى إنكلترا وغير إنكلترا من مختلف بلاد العالم، وكان أحرى بها أن تبقى على ثرى الوطن. وأذكرتني الرحلات الطويلة كنت أمضي فيها بياض النهار وقطعًا من الليل وجل مقصدي أن أشهد تلك الموميات الناطقة في صمت الموت بجلال القدم، وتلك التماثيل المهيبة بضخامتها وعِظَمها، وتلك النقوش الممتلئة برموز الحياة قبل الموت والحياة بعده. وأذكرتني! نعم أذكرتني بتمثال إيزيس الصغير قائمًا في بلوره بين التماثيل الضخمة في الصالة المصرية من صالات المتحف البريطاني محدثًا ما حوله من التماثيل الضخمة بحكمهم على الكون والكون في أحلام خلقه، متسخطًا على الذين كشفوا عن الموميات ليجعلوها موضع لهوهم وكأنما الأموات متاع العيون … أذكرتني هذا وأذكرتني سواه فنسيت ما نحن منهمكون فيه من أعمال الحياة، وما نحن مرتطمون فيه من الشهوات السياسية، فآثرت أن أسافر بنفسي إلى مقابر الملوك والملكات من أجدادنا الأقدمين.

•••

شقة السفر من مصر إلى الأقصر طويلة. ومهما تعزَّيت بمشهد الوادي عن جانبيك يشقه القطار، فتتابع صوره أمام نظرك كأنها صور متحركة، فإن هذه الصور بالغة آخر الأمر من التشابه ما لا ترى بعده منها محلًّا لاستزادة. لكنك واجد في اختلاف ساعات النهار الشمس قبيل المغيب، فأبشر بمغرب شمس قد يبلغ بك من الإعجاب وصنوف الجو ما يبعد عنك السآمة. فإذا أنت رأيت السحب تجاور حد العبادة، فيذهلك عن الوادي وصوره المتحركة، والزمن وساعاته المتتابعة، ونفسك وما قد بدأت تشعر به من ملال وتعب، ويمسك خيالك محدقًا بالمغرب البديع الذي أمسى يذرك رويدًا رويدًا فتعلقت به نفسك، وانجذب إليه قلبك، ووقف عنده كل وجودك حتى تراه قد غاب واختفى، وأنت لا تدري متى غاب ولا متى اختفى.

كان ذلك شأني بين طهطا وسوهاج. تدركت الشمس إلى المغيب، وقد ارتكز عندها مثلث من السحب ملأ الغرب وتشرذمت حوافيه. وكنت تحسبه أدكن اللون قاتمًا فلا تكاد ترى مخرجًا للودق من خلاله. فلما تدلت الشمس طوقت حوافيه القريبة منها بسوار من ذهب. ثم ولَّتْ إلى مغيبها فلم تكُ إلا دقائق بعد ذلك حتى سكبت في السماء وراءها لهبًا داميًا ودمًا ملتهبًا، وصرت ترى الذي كان قتامًا داكنًا قد استحال إلى لهب اشتعلت به السماء، فغطت النيران مثلث السحاب الذي ملأ الجو. وتشهد فحمة القتام بعد اشتعالها، وكأنك نيرون يشهد روما في احتراقها. لكن نيرون كان يشهد جريمته فيوقع على القيثارة أنغامًا يسلي بها نفسه عن وخز ضميره. أما من شهد ذلك المنظر الفذ من صنع يد القدر فكان لا يستشعر سعير اللهب المحرق، بل كان يحس فيما يرى ببرد وسلام يهبط على البسيطة. يشعر في حنايا فؤاده بترداد حنين الإعجاب والشكر على أن شاركت روحه الصغيرة في كل تلك المعاني التي لا تؤديها هينمة ولا ترنم، وإنما تؤديها نغمة سماوية من نغم موسيقى الموصلي أو بِتْهوفن.

وخبا اللهب وتبيَّنت قطعة السحاب التي حجبت المغرب، وقد امتدت خلالها من الشمال إلى الجنوب تعاريج متوازية من الأحمر القاني متتابعة فوق جبال ليبيا إلى منتصف السماء، حيث يمتد من أثر الشمس المولِّية مسرعة ظلٌّ ضافٍ متورد كأنه بقايا قبلة وداعها لهذا العالم الذي ظلت تشهده أعيننا من ساعة إضاءته في شروقها، وها تشتمله كسف الليل بعد إذ تركته مدبرة. وظلت هذه التعاريج المتوازية البديعة النظام تغالب الليل ويغالبها، وتفني فيه رويدًا رويدًا حتى كَلَّ بصري، وصرت لا أرى منها شيئًا، ولا أرى إلا الليل قد كسا الوجود، ولا أدري متى كسا أمواج النار والذهب.

وانطلق القطار في طريقه إلى الأقصر وأنا مأخوذ بهذا المنظر الذي لم يبرح خيالي ولن يبرحه. وكلما عدت إلى نفسي جاهدت أريد أن أستعيد ذكرى مغارب الشمس البديعة التي تضارع ما شهدت من سويعة مضت لأقارنها به، فيغلب هذا المشهد جهادي وأعاود التحديق في مخيلتي بالقرص النازل وبأطواق الذهب تحف بأطراف السحب، وبالنار الملتهبة تشعل الفضاء، وبنيرون يشهد روما جللها اللهب، وبهذه التعاريج البديعة من خالص العسجد.

وبلغت الأقصر، وكان الليل قد انتصف أو كاد. فآويت إلى الفندق وقد هجد الناس جميعًا فيه فلا تسمع لهم هسيسًا. آويت إليه وقد زال أكثر ما بي من النصب؛ لأني كنت مشغولًا عن التفكير فيه.

واستيقظت حوالي الساعة الثامنة من صباح يوم الجمعة، فأخذت أهبتي لمشاهدة بيبان الملوك وما حولها من آثار طيبة الخالدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤