آثار وادي الملوك (٣)

قبر توت-عنخ-آمون

جاوزنا مدخل بيبان الملوك، فتجلى أمامنا الوادي الصامت القفر من كل مظاهر الحياة، العامر بكل معاني المجد والعظمة، وبكل آثار الموت والخلود. وقامت أمام النظر أبواب قصور موميات الفراعنة نقروها في جوف الجبل ملجأً من الفناء، وحصنًا من البِلَى، ومستقرًّا يعبرون فيه فوق ظهر الزمن إلى الدار الآخرة ملوكًا أعزة وفراعنة حاكمين. وهم قد ظلوا في هذا الوادي القفر ملوكًا على سائر ساكني وديان طيبة الأموات من أربعين قرنًا خلت. وكانوا قبل ذلك ملوكًا لسكان طيبة الأحياء؛ إذ قضى كل منهم في ملكه سنين لا تتجاوز العشر أو العشرات.

جاوزنا مدخل بيبان الملوك، وكان باب رمسيس التاسع عن شمالنا. وباب رمسيس السادس عن يميننا. وبين البابين فجوة تؤدي إلى باب القصر الجديد أو القبر الجديد. القبر الذي نقر من ثلاثة آلاف سنة؛ قبر توت-عنخ-آمون. فهبطنا إلى بابه حتى كنا عند الغرفة التي كَشَفَتْ عنها يد المنقِّبين. فإذا نور الكهرباء يضيء ظلمة ذلك الرمس العريق في القدم. وهناك وقعت العين على ما يبهرها: غرفة ملأى بآثار فرعون، بعروش الملك ومتكآته وسرره وعصيه وعرباته، فجعلت تتنقَّل من واحد إلى الآخر ولا تكاد تستقر عنده. لا تكاد تجتمع فيها صورة منه. ووقفت النفس حيرى ذاهلة أمام هذه المشاهد العجيبة. لبثت هذه الآثار في هذا الرمس ثلاثين قرنًا أو يزيد … واهتزَّ القلب بذكرى أولئك الجدود الذين كانوا زينة الدهر وموضع فخر بني مصر. والذين لا يزالون على الدهر موضع إعجاب بني الدهر. وجاهد الذهن يريد أن يقف مما رأت العين وتأثرت به النفس واهتز له القلب عند فكرة فكان أكثر منها جميعًا بهرًا وحيرة واهتزازًا.

•••

رأينا الأشياء التي حشرت مع الملك ليبعث بينها. رأينا تمثالي الملك وعروشه وكرسيه وعرباته وباقات الورد استبقاها الحنوط حية على القرون. رأينا هذه الآثار ووقفنا أمامها زمنًا سمح للناظر أن يرى، وللنفس أن تستجمَّ، وللقلب أن يطمئنَّ، وللذهن أن يستقرَّ. لكنها جميعًا اتجهت بكل ما فيها من قوة الأبصار والحس والشعور والاستجمام إلى هذا التراث المجيد من آثار مصر القديمة. ثم غادرناها وقد ارتكزت صورها في غور وجودنا، فأصبحت قسمًا منا نحس ونشعر ونفكر وله على حِسِّنا وشعورنا وتفكيرنا أثر لن يزول.

غادرنا هذه الآثار إلى الدير البحري. ثم عدنا أدراجنا إلى الأقصر. وبلغنا الفندق وقد نال منا التعب وهدَّنا ما أنفقنا من جهد. لكن هذه الآثار الباقية ما بقينا والباقية بعدنا إلى أجيال وأجيال مقبلة لم تغادر تصورنا، ولم ينلها في تخيلنا أي جهد أو كلال. بل ازدادت وضوحًا وازدادت قوة وازدادت استئثارًا بنا، فصرت لا تسمع بين أهل الفندق ممن زاروها إلا تحدثًا عنها، وممن لم يزوروها إلا تساؤلًا ودهشة ورغبة في مشاهدتها.

استأثرت آثار باب توت-عنخ-آمون بخيالنا وبتصورنا، فلما خلا كلٌّ إلى نفسه، وسعد بالوحدة الحلوة الطيبة، وتأهب للراحة وللنوم عاودته بكل قوتها وبكل حياتها، وارتسمت أمامه ناطقة متكلمة.

•••

تلك آثار أجدادنا — نحن المصريين. تلك آثار الفراعنة. وهي كانت مخبوءة في جوف الصحراء، في ذلك الصخر القاسي اتخذه صاحبها درعًا من الفناء. فكشف عنها رجل ليس له بالفراعنة صلة، رجل جاء في أرض الفراعنة مستشفيًا، ثم أوحى له القدر أن يعمل لكشفها. فكشف عنها بعد لَأْيٍ ونصب ولغوب، وعاونه رجل مثله ليس بينه وبين الفراعنة إلا صلة الإعجاب بهم والتنقيب عنهم، وقام بالعمل أبناء الأقصر وما حولها من شبان ورجال تداولوا العمل بإرشاده وبإشرافه وعلى نفقته. لكنها آثار أجدادنا نحن، فنحن وحدنا أصاحبها، وله الفضل عن كشفها، وله منا الشكر والمنة. وله على التاريخ الاسم الباقي ما بقي اسم الفراعنة، وما بقي اسم توت-عنخ-آمون.

تلك آثار أجدادنا الفراعنة الذين عاشوا من أربعين قرنًا مضت. أليس عجيبًا أن تضاهي تماثيل الملك المصري تماثيل الإغريق وتماثيل روما وتتفوَّق عليها. يعجب الناس من كل الأقطار بتمثال الزهرة إلهة الجمال ويعدونه مثلًا نادر المثال. ويعجب الناس بصور ميكلانج وبنقوشه. ويذهب بهم الإعجاب إلى حد البَهر وإلى حد الهُيَام؛ ذلك أنهم لم يروا تماثيل توت-عنخ-آمون، وبأنهم لم يروا تماثيل السباع والبقر والخرتيت في عروشه. ويعجبون بنقوش الرومان والقوط؛ ذلك أنهم لم يروا نقوش صناديق الملك المصري أو عرباته. ولو رأوها لتضاءل إعجابهم بتلك التماثيل والنقوش، ولأخذ بأبصارهم وبقلوبهم وبعقولهم ملك الأسرة الثامنة عشرة المصرية.

أجل. لو رأوها لقالوا عن أجدادنا إنهم أجداد الفن، وعن مصر إنها مهد المدنية. ولو رأوا حنوط الورد واللحم وما تنبت الأرض من بقلها لتضاءلت مدنيتهم أمام ما يرون. لو رأوا خلود هذا الزهر الرقيق السريع إلى الذبول، وبقاء تلك الحنطة الدقيقة المتآكلة، وقرنوا إليها حديدهم الصلب يفنى ويتآكل رغم عنايتهم، وحجارته القاسية تنهار وإن شادوها، إذن لأيقنوا أن هؤلاء المصريين القدماء وصلوا من المدنية إلى قمة نفخ بعدها في الصور، فاضطرب الوجود وتداعت قوائمه، ثم بعث من بعدهم خلق جديد وسار يتطور في سبيل التقدم، وهو لم يبلغ بعدُ مدنيتَهم، وهو لن يبلغها إلا أن تكون مصر على رأس العالم، وإلا أن تكون أمَّ المدنية، وإلا أن تبلغ هي الغاية التي تطمح إليها الإنسانية. والإنسانية لم تصلها. وهي لن تصلها حتى تمسك مصر زمام القيادة، فتتولى السير بالعالم في سبيل الرقي والسعادة.

كلا! لم تكن مصر القديمة مهد المدنية، بل كانت قمتها وغايتها. وهذا التاريخ الذي يروُونه وهذه الأساطير التي يتناقلونها ليست إلا أثرًا من آثار كبرياء الشباب الفارغة. أما آثار العقل الناضج، آثار المدنية الصحيحة، آثار الرقيِّ الإنساني الصاعد بالروح إلى ملكوت الملائكة بله الآلهة، فذلك ما لم تبلغه الإنسانية، وما لن تبلغه، حتى تكون مصر في الطليعة، وحتى يدين الناس لها بالسبق والقيادة إلى غاية الكمال.

وليس ما يطالعنا به توت-عنخ-آمون من صور الحضارة دليلًا على أن هؤلاء الأجداد العظام كانوا يحضرون للمدنية المادية السخيفة، التي يرزح العالم اليوم تحت أرزائها، وإنما هو دليل على أن الإنسانية بلغت في عصره كل القوة والعزة والمَنَعَة والشباب، ووصلت إلى غاية ما ترجوه الإنسانية. ثم اضمحلَّت من بعده، وتدرَّكت إلى الهرم وإلى الفناء. ثم بعثت فاضطربت في حمأة الطفولة وتلوثت في أدرانها، وهي قد خرجت منها من زمن، وهي اليوم تعاني آلام شهوات الشباب المبتدئ. وليس من يدري متى تطمئن إلى شيء من الحكمة. ومتى تعاودها نعمة العقل.

هذا ما تنطق به آثار باب توت-عنخ-آمون البالغة في الإبداع حد الإعجاز. وهذا ما تنادي به معها آثار طيبة الأموات مما وقعت عليه عين الإنسانية. وهذا ما تشهد به الآثار المصرية القديمة ما بقي منها في مصر وما عبر منها البحار إلى الدول الأخرى. فإن كان لا يزال في نفسك من ذلك ريب، فاقصد معي إلى الكرنك وإلى بربة الأقصر، واقرن ما ترى هناك إلى مثله من آثار روما، تَرَ أمامك واضحًا هيبة القدم وجلال العظم عند المصريين بالغَيْن حدًّا تتضاءل معه الآثار الرومانية والآثار الإغريقية، حتى لتكاد تنسى. وهل جلالٌ أعظم من جلال الكرنك؟ وهل أثر باقٍ للحضارة الكاملة غير آثار المصريين القدماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤