في حضرة الفراعنة

طيبة الأحياء

بين جبال ليبياء، وعلى نحو فرسخين من شاطئ النيل الأيسر، تقع طيبة الأموات، وفيها معابد الدار الآخرة. وفيها لحود الرعية، وأجداث الأمراء، ومقابر الملوك.

وعلى الشاطئ الأيمن تقوم الأقصر حيث كانت تقوم طيبة الأحياء. وفيها بربة الأقصر. وفيها الأطلال الدوارس التي تتحدث إلى الأجيال المتعاقبة لمستقبل بعيد عن أجيال نائية في ماضٍ سحيق — فيها معابد الكرنك الكبرى.

•••

معابد الكرنك: هياكل النيل التي ظلت آلاف السنين تتعانق ومياه النيل. معابد خونسو، وأوزوريس، وآمون، وسيتوس، وطريق آباء الهول، والبحيرة المقدسة. أطلال طيبة الأزلية الباقية. قدس أقداس مصر القديمة. عظمة الماضي ومجد التاريخ. المدنية البائدة الخالدة. الإنسانية في كمالها الأسمى. آثار أجدادنا العظام. آثار المصريين الذين حكموا وسادوا؛ حكموا بالعقل والعلم، وسادوا بالمحبة والحلم. تلك هي الآثار الدارسة القديمة المبعثرة فوق ثرى الوادي على مقبرة من الأقصر إلى الجانب الأيمن من النيل. تلك هي الأحجار الناطقة في صمتها بمعاني العظمة، المحدثة ببلادها عن ألوف السنين التي مرت بها من يوم شادها أجدادنا هياكل لعبادتهم، ومستقرًّا لعلم آلهتهم، وذكرًا لأشخاصهم التي سبقت التاريخ من غير أن يدور في وهمها أن سيبقى ذكرها زينة التاريخ ما بقي التاريخ …!

معذرة! … لقد كنت أريد أن أصف معابد الكرنك، وأن أذكر طرفًا من تاريخها، وأن أتحدث عن بنائها، وعن ضخامتها وعن رفعتها. وكنت أريد أن أقرنها إلى ما رأيت من آثار الرومان في روما. وفي مدن فرنسا: في نيم. وآرل. وأفنيون. وروياء. فلم تكد أسماء معابد الكرنك تمر أمام خيالي، حتى امتلأ بعظمتها وبقداستها خيالي، وحتى تضاءل ما رأيت من آثار اليونان والرومان. وحتى أصبحت الفورم، والكابتول، بعض تلك الآثار الصغيرة التي لا تحصى والتي تقابلك حيث ذهبت من ديار الآثار في مصر. وهل ترى في الوجود أثرًا لا يصغر ويتضاءل ويفنى إذا ذكرت عظمة معابد الكرنك، وبينها معبد آمون.

قرون جاءت على آثار روما، وعلى آثار أثينا، وللقدم هيبته، ولجراح الماضي في تلك الآثار قداستها، وللفن عظمته، وللإبداع الفني في تلك الآثار احترامه. وأنت — ابن اليوم — لن تستطيع مهما فاخرت بعلم عصرك وفنه ودقته إلا أن تقف أمام تلك الآثار التي جاءت عليها القرون معجبًا خاضعًا … فإذا وقفت بين أطلال الكرنك لم يكفك الإعجاب، ولا الخضوع، ولا التقديس؛ لأنك ترى آثارًا تفوق آثار مدنيتك الحاضرة عظمًا وقوة وإبداعًا ودقةً.

لست أغلو. ولكني لا أستطيع أن آتي على الوصف الذي يبعث إلى نفسك الإجلال والبهر اللذين ملآ نفسي حينما كنت بين هذه الآثار، واللذين تركا في نفسي أثرًا سيبقى إلى أن تزول من بين الأحياء نفسي، ولو لم يتِحْ لي القدر أن أعود إلى طيبة المقدسة مرة أخرى.

كلا. لست أستطيع أن أصف لك هذا المشهد؛ لأنه ليس مكونًا من أحجار ولا من صور وتماثيل. ولكنه مكون من ماضٍ عريق في القدم والعظمة، عريق في الجلال والهيبة، عريق في الإبداع والدقة، عريق في كل ما تريد الإنسانية اليوم أن تصل إليه من قوة وعزة وجاهٍ وسعادة. وفيما تنفق في سبيله الجهود الكبار. ثم هي تراه أمامها سرابًا قد لا يتحقق على القرون.

•••

معابد الكرنك. هياكل آمون وسيتوس وتتموزس وفتاح، وفي مقدمتها طريق آباء الهول، وعلى أبوابها درجات الطول والعرض، لتعرف أين أنت من كرة الأرض. وبينها معابد آلهة الخير والشر تطالعها الشمس ظهيرة كل يوم؛ لتطلعها على آثار الناس وحسناتهم. ومن خلالها تماثيل رمسيس وتحتمس وآل فرعون. وفي غايتها البحيرة المقدسة.

ألست ترى هذا الجمع من كهنة آمون قادمين على شاطئ النيل إله الخير والخصب، وهم ينظرون إلى مياهه الهادئة في موجها نظرة اعتراف بالجميل وتقديس وإجلال؟ ألا تراهم يريدون أن يسلكوا سبيلهم إلى معبد إله الشمس آمون؛ ليرتلوا لمبعث النور والدفء آيات الثناء والحمد. هاهم أولاء انعطفوا في طريق آباء الهول بين تماثيل السباع ركبت عليها رؤوس كباش الغنم، وازدان صدرها بتمثال آمون، فجمعت بين القوة والعظمة والحنان والرقة والقداسة والهيبة. وتتالت كثيرة متتابعة تزيد الجمع بكثرتها خشوعًا وبنظام تتابعها رهبة ومهابة. وقام أمام الجمع مدخل المعبد الضخم الرفيع لا تدرك شرفته نظرة الخاشع السائر في هذا المشهد الرهيب. هاهم أولاء تخطَّوا المدخل، فأحاطت بهم نصب الآلهة وتماثيل الملوك ومن حولها العمد الرفيعة الشاهقة. فلما نادى رئيس الكهنة باسم آمون خروا جميعًا سجدًا.

كان هذا الجمع يتخطى هذه المشاهد بملابسه الكهنوتية، وقلبه ممتلئ قداسة وإجلالًا وإكبارًا. أما أنت فتمرُّ في طريق آباء الهول وترى مدخل معبد آمون، وتتخطى إلى داخله، فترى هامات الكباش طائرة عن أجساد السباع. وترى تماثيل آمون القائمة على صدورها أبلاها مَرُّ القرون، وترى معبد آمون تحطمت نصبه، وتداعت تماثيله، وتطايرت رؤوس عمده. ثم لا يكون قلبك الذي امتلأ بالقداسة والإجلال والإكبار أقلَّ خشوعًا من قلوب هذا الجمع بملابسه الكهنوتية.

وتتخطى بين هذه الآثار مسلات رفيعة وعمد لا تملُّ العين التحديق بها، ونصب فوقها تماثيل بالغة في الأحكام، وجدران ترى الطير والوحش قد زينت سطحها، وذلك كله وما هو حوله من مثله ومما هو أعظم منه وأبدع فوق متسع من الفلاة، لا يجيء عليه الناظر في مدى نظرته، ولا يتخطى واحده إلى ما بعده من غير أسف على تخطيه.

كيف كانت تنحت تلك التماثيل العظيمة؟ وكيف كانت ترفع فوق تلك النصب؟ وكيف كانت تقام تلك العمد؟ وكيف كانت تصل إلى قممها شرفاتها البديعة النقش؟ وكيف كانت تحمل فوق تلك الشرفات الأحجار الضخمة التي تصل العمد بعضها ببعض؟! أيُّ فن وأيُّ علم وأي مقدرة كانت تقوم بذلك كله؟ وأين من هذا الفن والعلم والمقدرة فنُّنا وعلمنا ومقدرتنا؟ وهل لنا أن نباهي أهل تلك العصور البائدة؟!

•••

معابد خونسو. وفتاح. وآمون. آيات المجد والعظمة. آثار الكرنك الخالدة. كلا. لن يحيط بك وصف الواصف إلا إذا وقف عليك من حياته سنين طوالًا.

أما أنا فيكفيني ما شهدت. هو يكفيني فخرًا بالماضي، ولوعة للحاضر، وأملًا للمستقبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤