أبيس

مهداة لسر أناتول فرانس

ذهبت مع أصحاب إلى المتحف المصري أشهد للمرة العاشرة نفائس قبر توت-عنخ-آمون، واثقًا من الكشف فيها عن دقائق جديدة من آثار الفن القديم. وفيما نحن متأهبون للخروج لَقِيَنَا صديق مغرم بتاريخ أسلافه الأولين، فلا يكاد ينقضي أسبوع دون ذهابه إلى المتحف: يتحدث فيما يقول، إلى أجيال وأجيال حشرت بعد بعثها في هذا القبر غير اللائق بها. ويأمل أن يطهرها هذا العذاب من إثم قد يكون لصق بها حين حياتها، ويرجو أن لا يطول أمد تفكيرها، وأن تنقل إلى أقداس تليق بجلالها … فاستوقفنا برهة ثم دعانا لنصحبه في تحية أوجب على نفسه أداءها، كلما حضر، إلى معبود آبائه العجل أبيس. فلما كنا في حضرة التمثال المقدس وقف برهة صامتًا، ودلت حركة شفاهه على أنه كان يتلو بعض صلوات لا شك فرعونية. فأثارت حركته دهشة شاب كان معنا فتح عينيه واسعتين وحملق بتمثال العجل وبنجيه، ثم أدار نظره فينا فألفانا في شغل بما حول العجل من تماثيل. ولاحظ المصلي دهشة الشاب فالتفت نحونا بعدما أتم صلواته وقال: لعلكم تعجبون لما أصنع. أما أنا فلا أرى محلًّا لعجب. لقد كان أبيس رمز الخير والبركة. فكانت عبادة آبائنا له دليلًا على أنهم يقدِّسون من الحياة خيرها وبركتها. ومن أجدر بالتقديس والعبادة ممن يدر الخير والبركة على الناس؟

«وما أخالكم تذكرون قصة أبيس وعبادته عند آبائنا. فقد كانوا يجعلون لهذا الحيوان المخصب خير صفات الآلهة …»

وهنا اتجه إلى صاحبنا الشاب ومضى في حديثه: ولا تحسب يا صديقي أنهم كانوا يعبدون كل عجل رأوه أو أن كل عجل كان عندهم أبيسًا. ولو أنهم فعلوا هذا لطعن في عملهم الجم ومدينتهم الفاضلة. فالعبادة لا تجوز إلا للكامل حيث تجتمع صفات الفضل طرًّا. وكل عجل معرض لأكثر من واحدة من نقائص الناس. والرجل الكامل جدير بإعجاب الناس به. والعجل الكامل جدير بأن يكون رمز هذا المعنى الذي تجب عبادته: معنى خير الحياة وبركتها؛ لذلك كان للعجل الإله عند آبائنا ما يميزه على العجول جميعًا، فهو لم يكن يولد كما يولد كل عجل من كل بقرة اقترب منها ثور. بل كان أجلَّ من ذلك نسبًا وأقدس أصلًا. كانت نار سماوية تهبط فتنفخ في بقرة عذراء من روح القدس، فتذر الإله في حنايا ضلوعها حتى إذا ولدته وجب أن لا تلد بعده أبدًا.

… وليطمئن آباؤنا إلى أن روح القدس وحدها هي التي لامست البقرة العذراء، وجب أن تكون لابنها صفات كل أبيس سبقه. وأبيس يجب أن يشتمله السواد، عدا غرة مثلثة في جبينه وأخرى في صورة الهلال على جنبه الأيمن. ويجب أن تكون تحت لسانه عقدة كالجعران شكلًا، وأن يكون شعر ذنبه ذا لونين؛ وأن تجتمع له إجمالًا وتفصيلًا ما فرضه العباد على آلهم من صفات.

… فإذا نحى الموت أبيسًا عند قدس زريبته وأذَّن مؤذِّن بميلاد أبيس جديد ذهب رهط من كبار رجال الدين، فاستوثقوا من كمال صفات الإله الوليد، ثم أقاموا حيث ولد زريبة تطالع مشرق الشمس؛ ليُمضي فيها مدة رضاعه أربعة أشهر. ومتى انقضى هذا الزمن وكان هلالٌ جديد وضع العجل في مقصورة مذهبة فوق قارب كبير، ونقل إلى مدينة «نيلوبوليس» حيث يستقر أربعين يومًا. ولا يقترب من الإله في فترة هذا المقام غير النساء، يجئن إليه من كل الأنحاء راجيات خصب أرحامهن، فيتجردن في حضرته على صور وأوضاع يأباها عرفنا وعرفهنَّ في الحياء. وبعد هذه الأيام الأربعين يقفل معبد العجل دونهن، وينقل أبيس إلى مقره الأخير بمنفيس في مقام بالغٍ غايةَ الفخامة، وتبقى أمه معه في زريبة متصلة بقدسه يخلع عليهم بعض شرفه الديني. ولا تقربه من البقر إلا واحدة مرة في كل عام لتكون لربوبيته متاعًا ولذةً، ويقضي على هذه البقرة السعيدة في يوم سعدها، أن ليس يليق بالإله أن يكون له نسل كنسل الثيران جميعًا.

عند هذا الموضع من حديث صاحبنا جاء قوم وقفوا إلى جانبنا أمام تمثال العجل المقدس. فآثرنا الخروج من المتحف، وألقينا نظرة على ما حولنا من تماثيل وألواح من الحجر والصخر، ورفعنا أبصارنا إلى الطابق الأعلى لتتصل نفوسنا بموميات آبائنا الخالدين. ثم خرجنا وكانت الشمس المنحدرة إلى المغرب ترسل أشعتها الرفيقة على الفضاء المنبطح أمام المتحف، فتبعث إليه من حياة الحاضر ما يوقظ النفس بعد ساعات نسيت فيها الحاضر بين الماضي وغياباته. وتخطينا الباب الحديدي الكبير، وسرنا ميمِّمين فندق سميراميس، وأتم صاحبنا حديثه فقال: وكانت غاية حياة أبيس القديس خمسة وعشرين سنة. فإذا لم ينفق بالموت قبل انتهائها أغرقه رجال الدين في بئر لا يعرفها سواهم أعدت لإغراق كل أبيس يخالف التقاليد ويتشبث بالحياة. ثم أذاعوا في الناس أن الإله قضى على نفسه منتحرًا. فأما إن هو لم يتخطَّ التقاليد ومات قبل الخامسة والعشرين فقد حق له أن يدفن بما يجب لإله مثله من مظاهر العظمة والألم. فيحلق المصريون جميعًا رءوسهم ويلبسون ثياب الحزن، ويشيعون جثمانه المقدس إلى «سيرابيس»، ويظلون مرتدين سوادهم حتى يجيء أبيس جديد يخلفه في قدسه.

كذلك قال صاحبنا، وكانت لهجته تشهد بتبجيله للعجل المقدس، وبمشاركته آباءه الأقدمين في إحاطتهم معبودهم بمجالي الربوبية. وهنا أبدى الشاب من الضجر ما دلَّ على تحفزه للقول. ثم قال: ليس من ينكر على مصر الفراعنة براعتها في العلم والفن. وكل كشف جديد عن آثار هذه المدنية الخالية يزيد العالم إيمانًا بعظمتها وقوتها، ويدل على مَبْلَغ ما كان لأسلافنا من نشاط تصغر أمامه كل مظاهر النشاط في مدنية اليوم. وهذا الذي رأيت اليوم لأول مرة من آثار توت-عنخ-آمون يفرق في بهائه ودقته كل ما ذكر عنه، وينهض حجةً على أن الحقيقة في بساطتها قد تبلغ من الجمال حدًّا تصبح معه المبالغة في وصفها هراءً وسخفًا.

… ولقد أذكر يومًا اجتزت فيه الصحراء من ناحية البدرشين مع صحب يشبهونكم في الظُّرْف والرقة قاصدين صقارة؛ فقطعنا على ظهر الدواب فراسخ وأميالًا تحيط بنا المزارعُ والرمالُ، وتظللنا سماء صفو منذ القدم، لم تخضع لحكم الضرورة الذي تخضع له العوالم كلها، وتُقابِلُنا أحجار وتماثيل طبع الزمن على صحائفها آثارًا من البلى تزيدها حياةً وتجعل من صمتها حديث العصور الخالية. وقد استوقفنا من هذه التماثيل كثير يحدث عن ذوق القوم للفن وعبادتهم للجمال. وإني أشهد ما تأثرت لمنظر تأثري حين بلغنا من طريقنا موضعًا رأينا فيه تمثال رمسيس الكبير مُلقًى على جانب الطريق وقد جلَّ عن أن يختلط بتراب الأرض فنام فوق مخادع من الحجر ووضع تاجه إلى جانبه. عند هذا التمثال وقفت طويلًا وسمعت في أعماق نفسي صوتًا يخاطب صورة الملك العظيم بهذه العبارة: «ترى في أي ميدان من ميادين منف الخالدة الأثر كنت تقوم أيها التمثال الفخيم؟ وعلى أية مدنية فرعونية كانت تُطِلُّ عيناك الحجريتان؟ وكيف كان الناس من أهل تلك العصور ينظرون إليك وإلى تاجك المُلقَى الآن عن هامتك الملوكية؟ وكان يومئذ فوقها عزيزًا. أكانوا ينظرون بعين الطلعة التي ننظر بها نحن؟ أم كانت عيونَ إعجاب وإجلال وخضوع وعبادة؟ وصاحبك الخالد رمسيس، صاحبك الذي لن يعدو الدهر على ذكراه كما عدا عليك، فدكَّ عرشك وحطَّم سيقانك وطرحك على ظهرك، وألقى بتاجك في الأرض؛ صاحبك صاحب الروح الكبيرة؛ صاحبك ابن الشمس ومحبوب آمون وعطارد والآلهة؛ صاحبك المظفر الراكب عربة الحرب يطارد بها عدوَّه الهزيم؛ صاحبك مليك مصر العزيزة بأمر الآلهة وعيونهم؛ أين روحه الآن لترفرف على مصرنا، فتنفخ فيها روح قوة ومجد وعزة؟»

… هذا الخطاب النفسي لتمثال رمسيس، وإعجابي الخالص بآثار طيبة، يظهرانكم على ما أشعر به نحو آبائنا الفراعنة أصحاب المجد الخالد. لكني أعجب حتى لا أكاد أصدق أن شعبًا ذلك مبلغه من العظمة والرقيِّ يؤمن بأوهام كالتي تُرْوَى عن أبيس وعن غير أبيس من الآلهة، ويسلك في عبادته طقوسًا يراها أكثر الناس اليوم سذاجة بالغةً في السخف حدَّ الهوس.

أتم الشاب حديثه فأجابه صاحبنا: أنت مخطئ يا صديقي الشاب. وأنت مجدف أيضًا. فإن أبيسًا لم يكن عجلًا كالعجول. بل كان كما ذكرت نفحةً من روح القدس. وكانت له معجزات تنفي كل شك في ربوبيته أيام كانوا يعبدونه. فقد حفظ التاريخ أن آباءنا كانوا يقيمون في كل عام عيدًا لميلاده بمنفيس يجمعون فيه كل لذائذ الحياة سبعة أيام تباعًا. وكانوا يبدأون عيدهم بأن يقذفوا في مكان معين من النيل وعاءً من ذهب أو من فضة. فكانت التماسيح تمسك مدى هذه الأيام السبعة عن أن تؤذي أحدًا. فإذا كان اليوم الثامن عادت إلى افتراسها. فهل ترى هذه الحيوانات المائية الضخمة كانت تغيِّر طبعها لولا سلطان العجل. ولا تقل إن إمساكها ربما كان سببه فرضها الصوم على نفسها أيامًا خاصة من السنة. فقد كان عيد الميلاد يتغير كلما تغير العجل. أي كل خمس وعشرين سنة أو أقل من ذلك.

… ومعجزات أبيس كثيرة. فقد ذهب العالم الفلكي «أيدوكس» لزيارته يومًا فاقترب العجل منه ولحس أسفل ردائه. وفسر رجال الدين هذا المظهر بأن أيدوكس سيكون ذا مجد قصير الأجل. وكذلك كان. ورفض أبيس أن يتناول الطعام من يد جرمانيكوس فدل بذلك على خاتمة هذا الأمير السيئة. وكذلك كان.

… فهل ترى من حقك بعد ذلك يا صديقي أن تجدف في حق إله ذلك سلطانه وتلك مقدرته؟

فعلت ثغر الشابِّ ابتسامة وهز أكتافه وقال: عجل يُعبد! ثم يقال إن إنكار عبادته على أنها سخف وهوس تجديف غير لائق بالآلهة! أليس ذلك مضحكًا يا سيدي؟

تولى الجواب عن صاحبنا أخٌ لنا لا يزيد علينا في السن، لكن شيبًا انتشر في رأسه يذكر هو أن الخوف سببه جعل مظهره أكثر هيبة ووقارًا. قال: ألم يقل لك صاحبنا إن أبيس لم يكن عجلًا كالعجول أن حملت أمه من طريق قدسي! وأي سخف في أن يحاط جلال عجل بالأوهام الطيبة لكي يتصل ما بينه وبين إيمان السواد. أليست الأوهام التي نحتقرها في الجماعات القوة الكمينة الخالدة التي توجه نشاطها — متى كانت طيبة — إلى الصالح المفيد. وهل كان آباؤنا يعبدون في أبيس العجل الأسود الأغر المثىي لون شعر ذنبه لتكون عبادتهم له سخفًا وهوسًا. كلا. بل كانوا يعبدون فيه رمز النيل مدر الخير والبركة. كما أنه كان لباس أوزوريس وصورته الحية، وأوزوريس كما تعلمون إله الخير والفضل والسلام. وهذه كلها معانٍ جديرة بالتقديس والعبادة.

قال الشاب: هب يا صاح هذه المعاني جديرة بكل تقديس؛ لأنها أكثر المعاني اتفاقًا مع عبادتنا للحياة وفطرة الاحتفاظ بها، فما صلتها بأوزوريس وأبيس؟ ولم لا تخلع عليها القداسة في جمال تجردها من غير أن يلبسها عجل أو غير عجل من سائر الحيوان؟

فأجاب الأشيب: وهل العبادة والتقديس إلا الإعجاب يملك النفس ويبهرها، ويأخذ عليها كل مسلك الشعور والحس؟ أتراك إذا ذهبت إلى حيث يتولد من الكهرباء ما قوته مائة مليون حصان، ورأيت إلى جانب هذا النبع من القوة ما يديره من العدد والماكينات وما تنتجه هذه العدد من ثمرات، أتراك بعد ذلك إلا مأخوذًا عن نفسك ذاهلًا لعظم ما ترى؟ فإذا قصصت ذلك على غيرك وكانوا يعيشون من ثمر هذه القوة، فهل تراهم إلا يقدسونها ويسبِّحون بحمد من أجراها. كذلك كان شأن السواد من آبائنا فيما قصة عليهم ذوو الرأي منهم من قصص أوزوريس وإيزيس وأبيس وسائر الآلهة.

قال صاحب أبيس: ما أحسبك قد بعدت عن الحق كثيرًا يا أخي. وقد قصصت عليكم من أمر أبيس شيئًا. وهاكم حديث أوزوريس لتروا وليرى أخونا الشاب أن عبادة آبائنا لم تكن سخفًا وهوسًا: ولد أوزوريس من الإله جب (الأرض) والإلهة ناوت (السماء)، حين أدرك هذين الإلهين الهرمُ فعجزا عن قمع وحشية الناس وشرهم. ولما كبر تزوَّج من أخته إيزيس وجلس على عرش المصريين، وصار ملكًا على الآلهة والناس جميعًا. وقد استطاع بفضل الجمال والعلم والصلاح أن يتغلب على شر الناس وأن يردهم إلى السلم، وأن يعلمهم صناعاته. فعرفوا الزرع وطمعوا من جوع، واتخذوا من المعادن أسلحة يفلحون بها الأرض، ويتقون بها عادية الحيوانات المفترسة. وبمعونة الإله توت علمهم الأسماء كلها والفنون وفائدتها. ثم ترك لإيزيس حكم مصر وسار على رأس جيش لهداية أهل الأرض جميعًا. لكنه لم يكن بكبير حاجة إلى هذا الجيش؛ فقد سحر الناس بعبارة الإله وكلماته، وبهرهم الرقص، واستولت على ألبابهم الموسيقى. وكذلك تم للخير والفضل حكم العالم.

وكان «ست» إله الشر أخًا لأوزوريس. ولما رأى من آيات حكمته أدركته الغيرة فدعاه إلى وليمة أعدَّ فيها صندوقًا فاخر الصنع ووعد أضيافه بأنه مهديه لأي منهم طابق الصندوق حجمه. فدخل إليه الأضياف واحدًا بعد الآخر حتى إذا كان دور أوزوريس واستوى فيه — وكان قد صنع على حجمه — أسرع شركاء إله الشر فأقفلوا الصندوق وألقوا به في النيل، فدفعه التيار إلى البحر وقذفته الأمواج إلى شاطئ الشام، وبقي عنده إلى جانب شجرة أنماها القدر لتحميه من الأعين إلى أن جاءت به إيزيس إلى مصر بعد حزن وبحث. لكن «ست» عثر به ثانية في إحدى جولاته جوف الليل فمزق جسد أخيه أربعة عشر جزءًا ألقى بكل منها في مكان. فعادت إيزيس إلى بحثها واستعادت أجزاء الجسم، واستعانت بأختها وبابنها الإله هورس وبطقوس الدين فردوا إليه حياة شابة خالدة لا يحياها على الأرض، بل في السماء. وكذلك بعث الإله الملك ووعد بالبعث كل من يفعل الخير حين حياته.

… وهذه قصة المعركة بين الآلهة وأوزوريس إله الخير قد وجد من العجل أبيس ممثلًا له ولباسًا. أو قل: إنهما صورتا روح واحد ورمز لمعنى الخير. فما السخف في أن يعبد الناس هذا الرمز ويقدسوه.

بلغنا من سيرنا ثكنات قصر النيل. فملنا إلى يميننا في طريق الجسر، وهبت علينا نسمات الأصيل المنعشة في هذه الأيام الصحو الجميلة التي تفصل الخريف من الشتاء. ولحق بنا أثناء الطريق شيخ من ظرفاء أصدقائنا قال: إنه يقصد أن يعبر النيل على جسر إسماعيل لرياضة نفسه في حدائق الجزيرة، ولملاقاة أصحاب على موعد معه بجوار الكوبري الأعمى. وكان قد أنصت إلى طرف من الحديث لم يشغل عنه إلا بمنظر شبان من جنود الإنجليز يلعبون كرة القدم في فناء الثكنات، وقد كشف رداء اللعب عن أذرعهم وسيقانهم، وبدت على بعضهم مظاهر جمال القوة والنعمة. ولما ملأ أعينه من هذا المنظر كان أخونا الأشيب قد أتم حديثه. فقال الشيخ: ما لكم تدهشون أن عبد قدماء المصريين عجلًا، وقد عبد العرب الأصنام وآمنوا بالهُبل الأكبر وبمن دونه حتى بعث الله نبيه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. وهل أرسل نبي إلا لقوم أولعوا بالحياة حبًّا، فجعلوا من كل مظهر فيها قدسًا، وزين لهم الشيطان عملهم فصدهم عن عبادة الله، فقام النبي بينهم ليهديهم السبيل؛ فمنهم من آمن ومنهم من كفر. ولقد كان فراعنة مصر أشدَّ الناس إلحاحًا في الكفر. جاءهم موسى بالهدى والبينات وخرَّ سحرتهم أمامه سُجَّدًا فأبى فرعون واستكبر وهَمَّ بقتل الرسول، فخرج موسى وقومه من ديارهم وأنجاهم الله بآية منه أن أمر موسى فضرب بعصاه البحر فانفتح أمامه في البحر سرب، وتبعه فرعون وجيشه فابتلعه اليَمُّ فكان من المغرقين.

… وهل تظنون أن هؤلاء السكونيين — وألقى من جديد نظرة على اللاعبين — لم يكن يعبد آباؤهم أصنامًا شرًّا من أبيس ومن الهبل الأكبر. تلك سنة خلت حين كان العالم في جهله وعمايته.

قال صديقنا الأشيب مبتسمًا: وهل أتاك يا سيدنا الشيخ نبأ السكسونيين؟ لقد كانوا أيام ربوبية أبيس في الكهوف بين الوحوش. وأيام أبيس كان الكهنة ورجال الدين في مصر يؤمنون بوحدانية الله. فأما آلهة الخير والشر والحرب والسلم، فكانوا رموزًا لمعانٍ سامية لا يدركها السواد ما لم يكن لها جسم وكيان. وأظنك ترى مصر الحديثة كمصر القديمة. يوحد رجال الدين ويقدس السواد رموزًا لأمانيهم كالعجل القديم.

لكن الشيخ كان قد بلغ جسر إسماعيل، وآن له أن يعبر إلى الكبري الأعمى؛ فألقى علينا السلام مودعًا، ورددنا تحيته بأحسن منها.

وكان الذي دعانا إلى الشاي قد لزم الصمت إلى هذه اللحظة. فقال له صديقنا الشاب وكان بآرائه مغرمًا: ما لك لا تتحفنا برأيك؟

قال الذي دعانا إلى الشاي: علَّمنا أساتذتنا أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فالحكم على أبيس وعبادته وطقوس تلك العبادة يجب له أن نحيط بكيفية إدراك المصريين لهذا العجل إحاطة تامة. وما أحسب واحدًا منا هنا يدعي هذه الإحاطة. بل ما أحسب علماء العاديات المصرية أنفسهم — مع كثرة ما بحثوا ونقبوا — على ثقة من أنهم عثروا من النصوص والآثار على ما يكفي ليرسم أمامهم في صورة ناطقة حياة هذه الجمعية التي يعترف الكل اليوم لها بأعظم حظ من الرقي في درجات الحضارة. ولقد قال هؤلاء العلماء أنفسهم بعد الكشف عن قبر توت-عنخ-آمون: إنه واجب تحوير ما كتب حتى اليوم عن العاديات المصرية تحويرًا جوهريًّا وتصحيحه ليقرب من مطابقة الواقع. هذا ولما يعرف كل ما في قبر الملك الشاب من أسرار. ولا يمكن لأحد بعدُ أن يقطع بأن هذا القبر آخر ما يمكن الكشف عنه من آثار المدنية القديمة العظيمة.

… ولو أنا أتانا اليقين بكشف العلم عن جميع العاديات والآثار المصرية القديمة، وبوقوف العلماء على جميع مخطوطات تلك العصور لما قطع ذلك بأنهم بلغوا غور النفس المصرية من ستة آلاف سنة، ففتحت لهم أبوابها، وساغ لهم تتبع دبيب إحساساتها ومشاعرها، وتقدير أثر الظواهر العالمية على تلك الإحساسات والمشاعر. فإنما يترجم العلماء نصوصًا مصرية من اللغة الهيروغليفية القديمة إلى اللغات الحديثة، ويقربون بينها ويستنبطون منها. والمترجم من لغة إلى لغة لا يعكس صورة الأصل، وإنما يعكس صورته هو من خلال هذا الأصل، كما تحيل المرآة اللون إلى الصفرة أو الحمرة على قدر صفاء مائها، وكما تطيل الشخص وتقصره وتعظم بطنه وتعرج سيقانه على قدر استواء سطحها أو تعرجه. هذا ولو كان المكتوب الذي ينقله المترجم معاصرًا له. ثم هو بعد تمام الترجمة غير مطمئن إلى أنه أبرز كل ما فهمه في الأصل من معان وصور ومشاعر. ذلك بأن لكل لغة سرًّا وروحًا. فالكلمة الواحدة تصقلها البيئة والعصر فتبعث فيها حياة ذات صور وحدود قد تختلف جدَّ الاختلاف عن مقابلتها في اللغة الأخرى. وقد تختلف جدَّ الاختلاف عن حياتها نفسها في بيئة أخرى أو في عصر آخر. ما بالك والنقل من لغة بائدة من آلاف السنين، والعلماء الناقلون غير واثقين بكم حياة كل لفظ ينقلونه ولا بكيف هذه الحياة. وأهل هذه العصور البائدة يتصورون العوالم والأفلاك غير تصورنا نحن إياها … وإذا كان المسيحيون قد اختلفوا في تفسير كتب المسيحية فنتج من خلافهم الكثلكة والأرثوذكسية والبروتستانتية وسائر المذاهب؛ وإذا كان المسلمون قد انقسموا فرقًا من سنية وشيعة ودروز ومتاولة وغيرهم؛ وإذا كان الفلاسفة الذين يزعمون الأخذ بالواقع تحت الحس والملاحظة قد تشعَّبت فرقهم، وإذا كان هذا الخلاف كله حاصلًا وليس ثمة نقل من لغة إلى لغة، فكيف تستطيع أن تطمئن إلى ما يقال لك: إنه طقوس عبادة أبيس وغيره من آلهة المصريين. وكيف تسلم بأن ربوبية آلهة تلك العصور كانت تزيد على إيمان سواد المسيحيين بالقديسين والقديسات، وسواد المسلمين بالأولياء والصالحين.

وفيما كان صاحب الدعوة إلى الشاي يتم حديثه كانت الشمس قد بدأت تهبط إلى مغيبها. فاقتعد القرص هام أشجار الجزيرة، وألقى على لجة النهر نظرة خطت فيه سطرًا من لجين معسجد. وألهب نوافذ المنازل المقابلة بنور انقلب مع انحدار الشمس نارًا تشب في مثل هذا الموعد من كل مغرب لتخبو ساعة المغيب. وسَرَتْ في الجو طلائع المساء ونذر الليل المخوف الظريف. وسار مَنْ سار إلى جانبنا أكثر سكونًا ومهابة.

ثم مَرَّ أحد باعة اللبن يقود أمامه بقرة صفراء فاقعًا لونُها تسر الناظرين، ويتبعها عجل أسود تبدو عليه أمارات الحضارة التي يعانيها في أنحاء العاصمة الكبيرة كل يوم لأخذه بالنظام في سيره تجنبًا للعجلات المتباينة الأنواع. فلما رآه صديقنا الأشيب استوقف بائع اللبن وسأله عن عمر العجل، فإذا هو خمسة أشهر؛ واستدنى البائع العجل من أمه ليدر ضرعها، وأخذنا العجب لفعلة صديقنا. فنادانا لنحيط بالعجل وأمه ثم قال: لم يولد هذا العجل من ستة آلاف سنة؛ وهو لذلك يجوب طرقات القاهرة التي لم تشهد الفراعنة ولم تنل شرف حكمهم. وأشهد لو أنه ولد من ستة آلاف سنة لكان أبيسًا مقدسًا. فهذه غرته، وهذا الهلال في جنبه الأيمن، وهذا ذنبه ذو لونين، وله كل مظاهر الجلال؛ فما كان لأحد من رجال الدين أن ينكر قداسته. ولو أنه أوتي من الحظ أن يولد في ذلك العصر القديم أو أن مصر بقيت إلى اليوم في سلطان حضارة الفراعنة وإيمانهم لكان له شأن غير شأنه الذي نرى، ولكان اليوم في مدينة نيوبوليس لا تقع نظراته الساذجة المملوءة حكمة وحذرًا على غير العذارى والنسوة المتجردات، ثم لكان له من احترامهنَّ وعبادتهنَّ غير تلك النظرات الشزر التي تناله من مفتونات اليوم فتيات وعجائز. وليدون له في صور وأوضاع تكفل لهن الخصب الذي يرتجين؛ ولتنافسن في ذلك خاضعات لطبعهن البشري. فأبدت كلٌّ من محاسنها ما يأخذ بنظر الإله الشاب وينال رعايته، واتجهت إليه نظرات معسولة من صور وأوضاع تكفل لهن الخصب الذي يرتجين، ولتنافس في شفاه شهية عن لؤلؤ رطب يتألف نوره بين حمرتها الملتهبة. ومالت أعناق عالية تبدو من خلال الشعر الأسود المرسل على الأكتاف كما تبدو تباشير الفجر من خلال ظلمة الليل، وامتدت أذرع ناعمة تشتبك أطرافها داعية مستجيبة. وبدت نهود، وماست قدود، وتثنت خصور، وارتجَّت أرداف، وتحرقت للحركة سيقان، وماج هذا الجمال الثائر في طلب الحياة يحملها على أضلعه. ثم لوقف العجل بذلك في معرض حي لأكمل ما أبدع مصوِّر المرأة مجلوًّا في أجمل مظهر وأسناه. وما بالك بمعرض متجردات خلعن عذار الحياء وتيارين في أوضاع الخصب الذي تتباهى به الأمم يوم القيامة.

… لكن هذا العجل العزيز لم يؤتَ حظ القداسة، فلم يولد من ستة آلاف سنة، ولم تبق ربوبية أجداده آية إيمان لهذا الجيل الذي نعيش فيه. وهو بذلك ليس أسوأ من أي مخلوق حظًّا، فقد يكون من بيننا من آباؤه ملوك ومن لو رأى الحياة من بضع مئات من السنين لكان ملكًا. على أن عجلنا أسعد من غيره من العجول. فهو قد حرم القداسة ومعرض المتجردات الحي، لكنه لم يحرم حضارة المدنية وما فيها من لهو أليم وشقاء مستطاب. ثم لعله في شأنه الحاضر أنعم بالًا. فهو ينعم بمعاشرة الناس والدواب نهاره، ويتمتع بالوحدة وبمناجاة الطبيعة ليله، وله من حرية الجري والرتع ما لم يكن لجده الأعلى؛ وربما كان له من ذلك ما يعوضه عن مقام أبيس في قصر زريبته، وعن طعامه الفاخر من نظيف البرسيم ونقي التبن والفول، وعن الاحترامات القدسية التي تقيده ولا تفيده. بل لو أن عجلنا هذا كان عجلًا فلاحًا لما أعوزنا المنطق عن أن نجد له من المزايا على أبيس ما ينفي حقارته إلى جانبه، وما يصدق معه أن كل فرد من المخلوقات أسعد ما يكون ما وجد في نفسه سعادته، وهو أشقى ما يكون ما فاضل بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين النعماء والبأساء …

فيما كان صديقنا الأشيب يتحدث كان صاحبنا نجي أبيس يمسح العجل ويملقه والسرور يلمع في عينيه. فلما فاض عنه سروره قطع حديث الأشيب وقال لبائع اللبن: بكم تبيعني عجلك هذا؟

وتمت الصفقة ودفع العربون، وكفل بواب سميراميس بائع اللبن الذي رأى الاحتفاظ بالعجل أيامًا حتى يحل محله «بو» يدر لبن أمه.

قال المشتري وقد التفت نحونا: لأجعلن لهذا العجل عندي قدسًا كقدس أجداده. ولأمتعنَّه من نعيم الحياة ومن احترام الناس بما تمتعوا به.

قال الأشيب: حذار أن تنسى حقه في المتاع ببقرة في كل عام، وإياك أن تتخذ من هذه الأبقار ونسلها تجارة، فيكون ذلك منك تجديفًا قد ينالك أوزوريس بعده بضُرٍّ.

قال صاحب أبيس: أوزوريس إله الخير! فهل تنال آلهة الخير الناس بضر؟! على أني لن أجدف ولن أجعل من صاحبات أبيس تجارة. بل سأنحرها يوم متاعه وسأجعل لحمها وقفًا على أحباب أبيس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤