ساعة واحدة

مع جثة محبوب ذاهب

توفيت حسناء في الثامنة عشرة تحت يد الطبيب حينما كان يقاسي معها آلام استخراج الجنين من الرحم. توفيت ولم يعرف المرض إليها سبيلًا إلا سويعات من زمان. وقد كانت غريبة عن الديار ليس معها في منزلها إلا أمها وخادمة صغيرة في السن وزوج نصف. وتوفيت مقتبل الليل فلم يعرف أحد من أهل المنازل المجاورة شيئًا من أمرها ساعة الوفاة. وكلما استطاعه الزوج أن يجيء بقارئة تقرأ القرآن؛ لتشيع بآيِهِ الطاهرة تلك الروح الشابة في هجرتها إلى السماء.

وقد لزمتها أمها من شهرين تنتظر معها أن يحبوها القدر حفيدًا أو حفيدة تمد من أملها في الحياة، وتحقق لها ما تطمع فيه من خلود. وهي كل تلك المدة تعد الأيام والساعات التي تقرب منها هذا الأمل، وترتب في خيالها القبلات التي تلقى بها المولود المحبوب ساعة تنسمه طيب الحياة. وما كانت تحسب الزمان من الغدر والقدر من القسوة؛ ليقضيا على كل أطماعها ويخيبا كل أملها ثم ليقتطفا من بين أحضانها زهرتها اليانعة وملاك حياتها: ابنتها المحبوبة.

ولكنهما كانا أقسى مما تظن. فقد بقيت حسناء ممتعة بكل صحتها إلى يوم حسبت أمها أن أملها قد تحقق. وفي ذلك اليوم فقط — في تلك الساعة الرهيبة الرغيبة — انتفض الزمن في وجهها كاشرًا عن نابه، فتلوَّتْ فتاتُها أمامها ترسل صيحات الرعب والألم. وبادر الطبيب الفتاة فطمأنها فسكتت واستسلمت له ووقفت أمها إلى جانبه تنظر إلى فتاتها وإلى الحفيد المرغوب نظرات خوف ورجاء، وتشجع بألفاظ مضطربة تلك الزهرة المشرفة على الذبول. لكن هذا الإحساس الإنساني بما سيكون جعل الابنة كلما أرادت أمها تركها لمساعدة الطبيب، تمسك بها منادية نداء الطفل المروع: لا تتركيني يا أماه!

ونزل الطبيب كاسف الظن يتعثَّر في أذياله تاركًا الفتاة ووليدها، وقد كان يود لهما الحياة؛ فأبى القدر إلا إيرادهما موارد الحَتْف. وأسلمت الفتاة الروح قبل أن تدبَّ روح الحياة في جسم الوليد. هنالك شقت الأم جيبها وصاحت: وا بنتاه!! ثم خرت إلى الأرض منهدَّة وقد جمدت الدمعة في عينها. وجاءت قارئة القرآن وبقيت مع الأم ترتل لها آي الذكر ساعة وتجاهد لعزائها ساعة أخرى. فلما أذن نذير الصباح نزلت القارئة، وتركت الأم وحيدة مع جثة ابنتها الهامدة.

في سكون الليل. في ذلك الصمت المطلق المهوب، وفي هذه الوحدة المخوفة المرعبة، بقيت الأم وحيدة في غرفة الموت وأمامها جثة ابنتها هامدة باردة، وقد ملك عليها اليأس السبيل. وكلما أخرجها الحزن عن طوقها نادت: يا حسناء، وكررت النداء. فيموت صوتها مختنقًا في هواء الغرفة المملوء بآي الموت وأعلامه. ثم إذا خانها الصوت رفعت الغطاء عن وجه ابنتها وانحنت فوقه تملأ جوانبه قبلًا. ويغلبها الهم بعد ذلك فتخرُّ إلى جانب الجثة وتضمها إليها، كأنما تريد أن ترسل فيها من حياتها ما يعيدها إلى الحياة.

أذن مؤذن الفجر مناديًا: الله أكبر. ولطالما حنت الأم المفجوعة إلى سماع هذا النداء يحيي من قلبها المملوء بالإيمان والتقوى ما ينطق لسانها. الله أعظم. الله أعظم. لكنها في هذه المرة وجمت لسماعه، واعتراها أمام صيحات المؤذن ذهول ورعشة … الله أكبر … هو هذا الإله الكبير العظيم الذي اختطف ابنتي في أول شبابها وريعان قوتها وما جنت ذنبًا ولا أتت إثمًا … الله أكبر … أكذلك يُنقل بنو آدم من الحياة إلى الموت غدرًا وغِيلَةً؟!. أكذلك تختطف البنت من حضن أمها في ساعة كانت تود البنت أن تكون أمًّا هي الأخرى؟! أين أنت يا عدالة السماء؟ أين أنت يا عدالة الرحمن؟ أين أنت يا حسناء؟ أين أنت يا ابنتي يا حبيبتي؟! ما قيمة الحياة والموت متربص يخطف الناس خطفًا؟!

وفي كل هذه الساعات المؤلمة المفجعة لم تنزل من عيون الأم دمعة تهدِّئ بعض الشيء من حزنها ولوعتها. وكلما خرج بها الحزن عن طوقها أمسكت بيدها يد المائتة، وانحنت فقبَّلت جبينها وصدغها وثغرها.

وأخيرًا، بعد زمن طويل، سويعة مستبشر ودهر محزون، بهت زجاج النافذة وابتدأت أشعة النهار تنسلُّ إلى الغرفة الصامتة؛ فخفت نور المصباح وانتشرت في جو المكان خيوط الضوء، خيوط اليأس والأمل. وتبينت السماء. فلما وقع عليها نظر الأم ردته إلى ابنتها ثم ردته إلى السماء وهمست: ما أقسى الموت! إن هذا حرام، ثم ارتمت إلى الأرض مهدودة، وأسبلت عينها تود لو تختلط روحها بروح ابنتها الذاهبة.

لكنها ما لبثت أن حدقت بنظرها من جديد إلى الوجه الشاحب أذبله الموت، وقد كان من ساعات يتلألأ بنور الحياة. حدقت به حتى لا تترك لحظة من اللحظات الباقية على الفراق الأخير من غير أن تكون مع ابنتها ولابنتها. حدقت بعيون ثابتة جامدة، كأنما امتلأت موتًا هي الأخرى. وفي كل هذه الساعات الطويلة لم تنزل من عينها دمعة واحدة.

وأخيرًا فتح الباب، ودخلت إحدى قريباتها صارخة نادبة، ثم لم تكن إلا لحظة حتى امتلأ المكان وحتى أفرجت الدموع شيئًا من كربة الأم المصابة.

وإلى اليوم لا تزال الأم المملوءة القلب بالإيمان والتقوى جامدة العين ذابلة اللب مشردة الخاطر، تشتملها سحابة من حزن أليم لا تسعده دمعة ولا ينجع فيها عزاء، وكلما أراد أهلها وأصحابها أن يجيئوا لها بمن يرد دينها الذي خرجت منه حين شقت جيبها تتداولها التقوى والذكرى، فتنهزم الأولى أمام الأخرى، وترفض الحزينة ما يريدون.

هل لمثل هذه الأم في الحياة عزاء؟! …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤