بيير لوتي

لمناسبة وفاته

متى؟

نعاه البرق منذ أيام، فنعى كبيرًا من كتَّاب فرنسا المعدودين وأحد محبي الإنسانية الذين امتازوا بالعطف على الشرق وعلى مصر عطفًا خالصًا من كل شائبة؛ فقد ظل لوتي، رغم أحداث السياسة في هذه الأيام الأخيرة، شديد العطف على تركيا، شديد التعلق بها، شديد الأمل في ألا يقع بينها وبين فرنسا ما يدفع الألم إلى قلبه الذي جمع بين محبة وطنه وإعزاز تركيا.

ولو لم يكن من آثار لوتي الأدبية إلا كتابه (موت أنس الوجود) الذي كتبه عن مصر، وأهداه إلى المرحوم مصطفى كامل باشا، لحقَّ على المصريين أن يشاركوا فرنسا في الأسف على موته، وأن يقيموا له بينهم ما يخلد ذكره ويديم أثره. ولو لم يكن إلا هذا الكتاب لوجب عليهم أن يعنوا بدراسة كاتبه، وبمعرفة ما انطوت عليه روحه من عبقرية، وما اشتمل عليه قلبه من عواطف دائمة التجدد، ولكان أول واجب عليهم في هذا السبيل أن ينقلوا الكتاب إلى اللغة العربية؛ ليقف بنو مصر جميعًا على ما انطوى عليه من قوة عبارة، وسحر أسلوب، وجمال وصف، وسلطان عاطفة.

على أن (موت أنس الوجود) ليس إلا جزءًا من عشرات الأجزاء التي وضعها لوتي، والتي أحدثت في الأدب الفرنسي نوعًا طريفًا جمع بين بساطة القديم وجمال الحديث، وكان ولا يزال له أثر على قارئيه إذا هم قرأوه في سن معينة، واستمعوا فيه إلى نغمات أسلوبه المتجاوب البديع الذي يحرك في النفس الشابة كل أنغام حياة الشباب، والذي يبعث إلى النفس التي تعدت الشباب صورًا من الشباب تحييها فتلذ لذكرى ماضٍ كان لذيذًا حين عاشته، ثم لم يزده تدثره في طيات الماضي إلا جمالًا وروعة.

وليس يسعنا، نحن أبناء الشرق، إذا قرأنا كتب لوتي إلا أن نشعر بشيء من التجاوب بين نفوسنا الممتلئة بالخيال، وبين ما في هذه الكتب من صور العالم وخيالاته. ويصل هذا التجاوب إلى حد التمازج أحيانًا ثم ينقضي التمازج ويضعف التجاوب، وتحتاج النفس إلى غذاء عقلي أكثر دسمًا مما يجود به الخيال.

ونحن أبناء الشرق في أشد الحاجة إلى المتاع بهذا التجاوب، ثم التمازج ثم الانفصال؛ فإن أدبنا القديم غني ولكنه قديم، فيه العواطف الرقيقة القوية، وفيه نزعات النفس للفضيلة ونزغها للهوى، وفيه المعاني الكثيرة، لكن لكل عصر ميولًا خاصة، ومهما يعترف الأوروبي بأن أدب القرن السابع عشر الفرنسي بالغ غاية الإبداع، فإنه يعترف بأنه لا يتجاوب مع نفس رجل القرن العشرين؛ ولذلك يحب الرجل منا بعد إذ يعيش عصور امرئ القيس وحسان وجرير وأبي نواس والمتنبي أن يعيش العصور الحديثة. والأدب العربي في العصور الحديثة متهم بالضعف، وهو من غير شك قليل في كمِّه، لا يروي ظمأ النفس في هذا العصر الذي فتح من كنوز مخبآت العالم ما لا تقنع النفس أمامه بوشلٍ من خيال فجٍّ أو ذهن محصور أو عقل ضيق الأفق.

أنت بحاجة إذن أن تقرأ لوتي، وأنت تحس بنفسك تتحادث مع نفسه، وخيالك في حاجة إلى السبح مع خياله. وأنت تتركه بعد ذلك متطلعًا إلى غذاء أدسم، فإذا وقفت عليه وانقضت سنون ورجعت إلى لوتي شعرت بلذة الماضي، ورأيت في هذه الكتب صديقًا قديمًا كان معك زمنًا ثم تخطيته، وقد يتعذر أن تعود فتبقى طويلًا معه.

ولا عجب، فليس لوتي بالرجل الذي حبس نفسه في غرفة جعل فيها يستقصي تاريخ الأمم، ويرد فيها الوقائع إلى أصولها ويحلل هذه الوقائع، ثم يضع قصة تاريخية أو تحليلية أو يقيم نظرية خاصة تؤيدها قصته، بل هو رجل نشأ ضابطًا في البحرية الفرنسية، فجاب أقطار العالم وتخطى البحار فوق ظهر الموج المضطرب فعرف الوحدة اللذيذة المتشابهة، وعرف الانكماش فوق سطح المركب الساعات الطوال يناجي الطبيعة الهادئة أحيانًا، والمضطربة أخرى، والمتجددة دائمًا في صور متشابهة متعاقبة لا يمل تشابهها ولا يؤيس تعاقبها. وهو في انكماشه لا يفتأ يستعرض أمام خياله ما قد يكون وراء الحجب التي يحيطه بها الأفق من كل جانب من ذلك الغيب المريب الذي بدأ منذ الأزل ولزم العالم وما زال ملازمًا له برغم جهود الأجيال المتعاقبة لكشف مستوره. ولم يكشف له خياله من ذلك الغيب إلا عن مخاوف تلخصت عنده في ذلك الشبح المفزع الذي أفسد عليه نسمات الحياة، شبح العدم المتجدد في صور الموت الذي يحصد كل صور الحياة والتجدد. كشف له خياله عن ذلك الشبح فرآه في كل قوته وكل سلطانه لا يغالب ولا يقهر، فاستسلم له وأنكر كل ما سواه، وأقر له بالقدرة وجعل منه الغاية الأخيرة للحياة، فرتب حياته وفاق هذه الغاية.

كثيرون غير لوتي يرون فيما رأى هو من صور الطبيعة ومظاهر الوجود دليلًا على الخالق، ووسيلة إلى الإيمان، ودافعًا للإمعان في تقديس الله والتسبيح بحمده. أما هو فقد أثقلت هذه المظاهر كاهله بفكرة العدم والموت، فكان عبوسًا، لكنه استسلم لفكرته فكان عبوسه في غير ثورة ولا قطوب، بل كان عبوس أبيقوري مستسلم لفكرة الحياة استسلامه لفكرة العدم، مندفع في سبيل المتاع بالحياة حتى ينسى نفسه في الحياة قبل أن يدركه العدم.

وهذه الفكرة البسيطة العظيمة، وهذه الطبيعة المترامية الأطراف التي يظل يجوبها من طرف إلى طرف طول شبابه، وهذا الاستسلام للطبيعة وللفكرة التي ألهمتها الطبيعة إياه – ذلك كله هو ما تراه واضحًا جليًّا في كتبه، ظاهر الأثر في أسلوبه.

•••

كان لوتي يجوب البحار مستسلمًا لهواجسه، رازحًا تحت حمل فكرة العدم، «يدس الموت بسمه في حياته فيفسد عليه لذتها وينغص عليه شهوتها.» ولذلك كان إذا رسا به السفين عند الشاطئ يندفع مع زملائه يريد أن ينسى نفسه في لذائذ الحياة وشهواتها تخلصًا من عبء فكرة العدم والموت. وكان بطبعه سريعًا إلى الانخراط في البيئة التي يحل بينها وإلى تقمص روح الطبيعة، والناس الذين يحيطون به، وإلى العيش كما يعيشون، وإلى المتاع بما به يمتعون؛ فكان تركيًّا في تركيا، مصريًّا في مصر، يابانيًّا في اليابان، مستوحشًا في تايتي. وكان يرى في الحب خير متاع ينسى به ألم الحياة، كما كان يرى فيه خير مطية تنقله فوق لجة الحياة إلى ساحة العدم؛ وأنت لذلك لا ترى في كتبه إلا وصفًا للطبيعة المحيطة به يشعرك بمبلغ حبه لها، وبأنه فني فيها فانطبعت بكلها في خياله؛ وتحدُّثًا بعيشه بين أهل البلاد التي نزل فيها على صورة حياة أهلها؛ وقصصًا لحكايات حبه للفتاة التي تمثل في هذا الوسط مجموع جمال الوسط مجسدًا في المرأة. ثم تبدو من خلال ذلك الوصف وهذا الحديث والقصص فكرةُ العدم والموت من حين إلى حين، وتبدو في صورة محزونة تدلك على مبلغ ما وخز الألم لوتي حين مرت هذه الفكرة المخيفة بخياله المستسلم لملذات الحياة.

وأنت ترى كذلك في كتب لوتي ما يجعلها أشبه بالذكريات كتبها صاحبها لنفسه، فوصف فيها ما رأى وما سمع، وما أحسه وما اندفع نحوه، وكأنه يريد بهذه الذكريات أن يزيد في متاعه بالحياة، وأن يجمع حوله في كل لحظة من لحظات الحاضر صورة ذلك الماضي المتعاقب بملاذه وشهواته وآلامه ومخاوفه، حتى يكون متاعه بالحياة مضاعفًا، وحتى ينسى مع هذه الذكريات شبح المستقبل الذي لا يحوي عنه لوتي إلا صورة الفناء الأليمة المحزنة … على أن هذه الذكريات لم تكن لتكفي كاتبها أداة لنسيان فكرته؛ لذلك جمع حوله حين عاد إلى مسقط رأسه تذكارات شتى من البلاد التي مر بها، فكان منزله مجموعة عجيبة مما في الأرض من عجائب. وكان لوتي، وهو في وكره فوق ثرى فرنسا، يشعر وسط هذه المجموعة بالأرض مجتمعة حوله، وبصور صديقه تحيط به، وبالزمن مجتمعة سنوه تحت نظره.

كان لوتي إذن يحب الحياة ويخشى الموت، وكان حبه شديدًا وخشيته شديدة؛ فكان يجمع حوله كل أدوات الحياة يتلهى بها عن شبح الموت، وكان دائم الاشتغال بما يحب وما يخشى، فلم يتسنَّ له أن يبتسم للحياة، ولا أن يسخر من الموت؛ ذلك بأن المحب والخائف لا يعرفان الابتسام، إنما يبتسم من يقف موقف المتفرج. من أجل ذلك كان أسلوبه بين الاستسلام والتهجم، وكان تصويره للأشياء تصوير المعجب بها أو الحذر منها. وكان حبه للمرأة حب امتلاك ليفنى فيها ولتفنى فيه أكثر مما كان حب غزل ليلهو بها وتلهو به، وأكثر مما كان حبًّا نفسانيًّا يتشارك المحبان بسببه في المتاع بدقائق الكون وبدائع الخليقة. كان لوتي لا يتخير لحبه إلا فتاة فجة الذهن والنفس، تفتحت عيونها للحياة كما تتفتح عيون الزهر إن حان موعد إزهاره، وبقي قلبها غضًّا يدفع إلى وجودها شبابًا عذبًا لا يفتر يبتسم؛ لأنه الشباب ولأنه عذب، كما لا تفتر الزهرة تبعث من أريجها ما دامت في شباب أزهارها لم يجئ عليها ذبول ولا أفول. «فأزياديه» «وفاتوجيه» «وجنان» ومدام «كريزنتم»، وغيرهن كن في عذوبة الشباب جمالًا ورقة، وكن في طفولة الإنسانية استسلامًا وطفولة. وهن قد بلغن من ذلك أن كن لا يرين في اتصالهن بلوتي خطيئة ولا إثمًا.

وكان لوتي يعرف كيف يصف هذا الحب المتنقل وهاتيك الطفلات المحبوبات وتلك الطبيعة المترامية الأطراف المتنوعة الأرجاء، كان يعرف كيف يصف، وكان يعرف كيف يرى، وكان يرى كل ركن من أركان الأرض بالعين التي يراه بها أهله، وكان قلما يلجأ إلى الكلمات المبهمة المعنى إلا إذا كان المعنى الذي يريد أن يصيغه مبهمًا لذاته. مع ذلك كان عدد كلماته محصورًا حتى لا تكاد تجد كلمة وحشية أو معقدة أو مهجورة. وما للوصف والكلمات المهجورة أو المعقدة أو الوحشية، إنما يصف الكاتب ليرى القارئ من غير حاجة لمنظار معظم، وليس منظار يحتاج إليه القارئ أتعس من القاموس يلتجئ إليه.

على أن لوتي كان كثير التكرار في وصفه، ليس ما يمنعه من أن يصف مغرب شمس اليوم ليعود بعد قليل فيصف لك مشرق شمس غد ثم مغربها، وليس ما يمنعه من أن يصف سفحًا من سفوح الجبل ينتقل منه إلى وصف السفح المجاور له. وقد يجد الناس مثل هذا التكرار مملًّا، لكن للكاتب الوصاف عذره؛ فالشمس تشرق كل يوم وتغرب كل يوم وليس يضعف ذلك من أن كل مشرق شمس جميل. وأنت تتمتع كل يوم بصور متاع متشابهة، فلا يصدك عن المتاع بشيء غدًا أنك مُتِّعت بمثله اليوم، بل لقد يكون في التكرار لذة لذاته، وقد يكون التكرار مضاعفًا للذة؛ لأنه يضاعف قوة الإحساس بها. والصحيفة التي يكتبها الكاتب المجيد كمشرق الشمس أو كسفح الجبل أو كساعة الحب، تود لو تعود إليها، فما بالك لو أنك رأيت مشرق الغد فكان أكثر من مشرق اليوم بهجة، وإن كان أقصر منه حينًا، أو لو أنك رأيت سفح الجبل غدًا فإذا أزهار جديدة تفتح عنها أكمامها فتزداد بشذاها متاعًا والتذاذًا.

فالتكرار لا يمل لذاته، وإنما يمل منه ما زاد عن الحاجة، وليس كاتب مجيد إلا يعرف مقدار هذه الحاجة وإلا تداعت إجادته. وقد ظل لوتي وصَّافًا مجيدًا حتى أتى عليه الموت.

وقد لا يعنيك وأنت بين جنات لوتي أن ترى عقلًا كبيرًا وحكمة كثيرة، إنه ينقلك من وحدة التفكير إلى ساحات العالم الواسع، وهو ينتقل بك من متجمد الشمال حيث تكون بين الصيادين في إسلاندة إلى المحيط الهادي وإلى خط الاستواء، فليس لديك وقت للتفكير. وهو لا يُعنى بأن يحبس عنك صور الوجود المترامي لتحبس نفسك على التفكير في ذرة من ذراته، ولو أيقن أن هذه الذرة أصل الحياة ومصدر الوجود.

•••

تلك بعض خواطر عن لوتي الذي نعاه لنا البرق أخيرًا، وليس يسيرًا أن نكتب عن لوتي فنوفيه حقه، وإنما أردنا أن نقف برهة عنده في ساعة ارتحاله إلى العالم الآخر، أو إن شئت فقل في ساعة دخوله من باب الموت إلى ساحة العدم التي كان يفزع من هولها. وحق علينا أن نقف عنده؛ فقد كان شاعر فرنسا، ولكنه كان نابغة من نوابغ العصر، وكان محبًّا للإنسانية كلها، وكان كلفًا بالشرق معجبًا به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤