مرحبًا بزافاتيني، ولكن …

السبت

لم يُسعِدني كثيرًا خبر اتفاق المنتج رمسيس نجيب مع الكاتب الإيطالي زافاتيني لكتابة سيناريو لفيلم عن السد العالي، لا لشيء إلا لأن هذا الاتفاق إن هو إلا استمرارٌ لسياسة ترقيع قِربة السينما المصرية المقطوعة، تلك التي ترى أن عيوب أفلامنا سببها ضعف «صنعة» السيناريو، وضعف التكنيك السينمائي بها، في حين أن مشكلة السينما عندنا هي «الموضوع»، الموضوع كفكرة، والموضوع كعلاج وإخراج.

الموضوع لدينا هو المشكلة؛ إذ مع احترامي لكل ما قام به السينمائيون من جهود فإني أعترف أني لم أشهد موضوعًا سينمائيًّا مصريًّا منذ فيلم العزيمة؛ فالسينما ليست فقط صنعة ولكنها أولًا فن، والفن إحساس، والإحساس ليس أبدًا إحساسًا مُطلَقًا مُعلَّقًا في الهواء ولكنه إحساس كائناتٍ بشريةٍ مُعيَّنة تحيا في وطنٍ مُعيَّن وتعاني من مشاكلَ وتناقضاتٍ معينة. الفن السينمائي إذن لا يمكن أن يُوجد هكذا لقيطًا إذ لا بد له من نسَب، لا بد للفيلم المصري لكي يكون فنًّا ولكي يكون حقيقيًّا وعالميًّا وممتازًا أن ينبع من احتياجات وخَلجَات ومَشاعرِ الشعب المصري. والأفلام التي تُخرجها السينما المصرية مُصيبتُها الكبرى أنها ليست بعيدةً فقط عن حياتنا ولكنها بعيدة أيضًا عن حياة أي شعبٍ آخر، ومعظمها لا يمكن أن يحدث أو يؤمن الإنسان بإمكانية حدوثه لأي ساكنٍ من سُكَّان كرتنا الأرضية. السينما عندنا «تختلق» المواضيع اختلاقًا و«تصنعها» و«تحبكها» وتعتمد على حِرفيَّة الصناعة وإعطاء الممثلين أسماءً وملامحَ حقيقية لكي يُصدِّقها الناس فلا يصدقها أحد. هذا الاختلاق سببه أن معظم مُخرجينا ومُنتجينا ينظرون إلى الفن السينمائي وكأنه لعبة حاوي المهم فيها هو البَراعة في أدائها، المهم أن تُثير الجمهور وتربطه بلا حَراكٍ فوق الكراسي، حتى المشاكل الاجتماعية تُختار أو تُصطنع بحيث تدخُل في قالب اللُّعبة والحبكة.

وعلى نفس هذه الخطوط يجري تفكير معظمهم لمحاولة الارتقاء بالصناعة؛ إذ يفهمونه على أنه ارتقاءٌ بالتكنيك أيضًا في حين أن صناعة السينما عندنا لن ترتقي ولن تتقدم إلا بتغيير «الموضوع»، إلا بطرح الصَّنعة والصِّناعة جانبًا وفهم السينما على أنها فنٌّ مصري لا بد أن يُفرِزه فنانون مصريون؛ كُتاب ومُخرجون، وبالطريقة التي يختارونها هم حتى لو تعارضت مع كل مفاهيمهم الهتشكوكية والصراعية والتلفيقية، وكأن رمسيس نجيب لم يتعظ بدرس «وا إسلاماه» الذي أحضر كاتبًا هوليوديًّا عظيمًا ليكتب سيناريو فكانت النتيجة أنه لا أحس الموضوع ولا تجاوب معه؛ إذ حقيقة، كيف لكاتب من هوليود أن يُحِس ويُجسِّد ويُعبِّر عن صرخة الإسلام في «وا إسلاماه»؟

وكيف لِكاتبٍ من إيطاليا، أَنحنِي لعبقريته في مواضيعه الإيطالية لفهمه العميق الواعي للإنسان الإيطالي، أن يُحِسَّ ويُعبِّر ويُجسِّد السد العالي، مأساتنا وبطولتنا، محاولتنا الكبرى وانتصارنا الأعظم. ليس هناك مانعٌ طبعًا أن يكتب الكُتاب الأجانب عنها ولكنهم أبدًا لن يصلوا إلى شعورنا الداخلي ولن يُدركوا أبعاده. وأيُّ عاملٍ عاديٍّ ينقل التراب في السد باستطاعته أن يُعبِّر عن هذا المشروع بالنسبة للإنسان المصري بأَروعَ مما يستطيعه شكسبير وزافاتيني؛ فنحن في عصر لم يعُد الفن فيه أكاذيبَ وخيالات، الفن في عصرنا أصبح هو والصدق وجهَين لعملةٍ واحدة اسمها الحياة. وحَسبُنا أن نرى «مُذكِّرات مهندس» ذلك الفيلم التسجيلي القصير الصادق الذي أنتجه المخرج صلاح التهامي حتى دون الاستعانة بكاتب، لكي نُدرك أن السد العالي ليس سدًّا صناعيًّا في أسوان ولكنه أولًا حُلمٌ رائع يحيا داخلنا ونبنيه بِصبرٍ وطوبةً طوبة.

إني مرةً أخرى أَضرَع للقائمِين على صناعة السينما عندنا أن يدركوا أن عليهم أولًا أن يفهموا أن ألف باء السينما فن، وأن الفن إحساس، والإحساس لكي يكون صادقًا وعميقًا وعالميًّا لا يمكن أن يُختلَق أو يُقتبَس أو يُستورَد ولا بد أن ينبع من قلبٍ مصريٍّ صادق، لِيتجاوب معه شعبنا هنا ولِتتجاوب معه الشعوب في كل مكان.

الأحد

لم أكن من هُواة الكرة، ولكن ماذا أفعل والتليفزيون قد حبَّب إليَّ مُشاهدتَها ومتابعة مبارياتها. ولقد ظلَلتُ طويلًا وأنا أرى الناس من حولي إمَّا أهلاوية أو زملكاوية حائرًا أتردَّد أيهما أختار، وكانت النتيجة أني لم أَختَرْ ناديًا بِعينِه. كل ما في الأمر أني أتحمس للمغلوب ويُصبح كل همي أن يخرج من المباراة وهو فائزٌ أو على الأقل متعادل. ويبدو أني وحدي الذي أقف هذا الموقف؛ فطَوالَ يومَين بأكملهما وأنا أرى المُظاهراتِ تمر من تحت بيتنا في الدقي تَشمَت في الزمالك وتَسُب — بروحٍ غيرِ رياضيةٍ أبدًا — لاعبِيه.

المُهم أن حكاية الزمالك والأهلي هذه تستولي عليَّ كلما فكَّرتُ فيها، لا للكرة ولاعبِيها وإنما لِفكرة الصراع نفسها؛ فلولا هذا الاختلاف الشديد في الرأي، ولولا التحزُّب مع هذا النادي أو ضده لما وُجد هذا التعلُّق الساحق باللعبة، وكأنَّ من شِيَم الطبيعة الإنسانية ألَّا تُحب إلا إذا كان لها الحق أن تَكره، وألَّا تلتقي على الحب أو الكره إلا إذا كان لها الحق أن تختلف.

تُرى، لو لم يكن هناك أهلي وزمالك أكانت تحظى الكرة كلُعبةٍ بكل هذا التعلُّق والاهتمام؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤