المشكلة النظرية في بولندا

المُثقَّفون في البلاد الاشتراكية، يكونون دائمًا النقطة المضيئة، وفي نفس الوقت يكونون إحدى مشاكل هذا المجتمع؛ وذلك أن المجتمع الاشتراكي لم يستطع إلى الآن أن يحُل وَضعَ المُثقفِين حلًّا جذريًّا، وفي أي بلدٍ اشتراكي زرتُه كان هناك دائمًا تملمُلٌ من نوعٍ ما، تَملمُلُ المسئولين من المثقفِين، وتملمُل المُثقفِين من المسئولِين. في بولندا الوضع مختلفٌ بعض الشيء؛ فالمثقَّفون فئةٌ ضخمة جدًّا من فئات المجتمع «ويكفي للدلالة على هذا أن نعرف أن كل أفراد الشعب البولندي أصبحوا ومنذ بضع سنواتٍ يجيدون القراءة والكتابة» ولهذا فلِلمُثقَّفِين أيضًا نفوذٌ ضخم بين جماهير الشعب، وربما لهذا لم أشهد مُثقفًا يشكو من وضعه أبدًا. كل مُثقَّفٍ موضوعٌ في مكانه بالضبط، ولا فضل لأحد على أحد حتى لو كان المُثقَّف من أعضاء الحزب وزميله ليس عضوًا. لم أشهد كاتبًا أو فنانًا موهوبًا يشكو من أزمة نشرٍ أو تقديرٍ حتى الناشئِين ففي مجلة Polish Perspectives وهي وجه بولندا الأدبي والثقافي إلى العالم الخارجي، تجد أشعارًا لشبان لا يتجاوزون العِشرِين مترجمةً إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، وموروجيك الكاتب المسرحي الكبير بلغ مكانتَه هذه في بضع سنواتٍ قليلة، سبع أو ثماني سنوات، ولم يُنكِرْ أحدٌ عليه مكانته تلك، رغم أنه لم يبلغ الأربعين، ولم يُطالِبه أحد بأن يقف في آخر الطابور احترامًا للسن وللعمر الأدبي، بل هم يحملونه كالراية الخفَّاقة فوق رءوسهم ويعُدُّونه كأحد مفاخرِ بلادهم.

مشاكل المُثقَّفِين في بولندا إذن ليست مشاكلَ شخصيةً تتعلق بذواتهم أو أعمالهم، ولكن مشكلتهم كما استخلصتُها من عشرات المناقشات والأحاديث هي الاشتراكية، أو بالأصح مشاكل الاشتراكية. وأولها مشكلة الديمقراطية، أو بمعنًى أدقَّ مشكلة الديمقراطية الاشتراكية. في منزل الصديق الكاتب ميجانوفسكي قابلتُ أحد الخُلاصات الفكرية للمجتمع البولندي ممثلًا في كاتبٍ كبير ورئيس تحرير إحدى المجلات الكبرى، والحقيقة أنه كان مثالًا للذكاء والفهم الاشتراكي العميق. ومُلخَّص ما قاله لي خلال سهرةٍ بأكملها أن مشكلة الاشتراكية في العالم أجمع الآن هي أن تجد لنفسها، بعد أن أَرسَت دعائم التطبيق الاقتصادي، النظامَ الديمقراطيَّ الخاص بها، ليس البرلمانية الغربية الرأسمالية فهذه نظمٌ خاصة لا يمكن أن تتكرر في البلاد الاشتراكية، ولكنها نظمٌ ديمقراطية نابعة من صميم النظام الاشتراكي ومُعَدَّة بحيث تضمن التطبيق الديمقراطي الحقيقي؛ أي اشتراك جماهير الشعب اشتراكًا فعليًّا في الحكم لا يَحدُّه حَدٌّ من خوفٍ أو سلبية. لقد أدَّت الاشتراكية دَورًا معجزًا في النهوض باقتصاديات البلاد التي طُبِّقَت فيها، وبقي أن تُؤدِّي مهمتها الحقيقية ألا وهي إشراك الناس في حُكم أنفسهم بأنفسهم وما يعقُب هذا ويَسبقُه من لامركزية الأجهزة الاقتصادية.

والمُؤسَّسات العامة. إن هذه المشكلة في رأيه تضع الاشتراكية أمام اختبارٍ من المُحتَّم لها إن عاجلًا أو آجلًا أن تجتازه وإلا فَقدَت رُوحها نفسِها واستحالت إلى نظامٍ لا تقبله الجماهير.

وتلك هي بالضبط المشكلة الاشتراكية كما يراها المُثقَّفون الاشتراكيون في كل مكانٍ من العالم. فإذا كان قيام الثورة الاشتراكية مُشكلَة العالم في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، فالسمة الرئيسية لعصرنا الحاضر هي قيام الديمقراطية الاشتراكية، لا كشعارٍ، وإنما كحقيقةٍ واقعة.

وبالطبع ليس هذا سهلًا أبدًا؛ فدونه عقباتٌ كثيرة أولها العقليات التي دَأبَت على التطبيق الاشتراكي في ظل نظمٍ مركزيةٍ صارمة. إن تقبُّل هذه العقليات الأسلوب الديمقراطي الشعبي الاشتراكي قبولًا سليمًا ومن تلقاء نفسها مسألةٌ تبدو بعيدةَ التحقيق، فما الحل؟ وما هي الحلول البولندية للمشكلة؟

أَعتقِد أن الإجابة على هذه الأسئلة والكثير غيرها في حاجةٍ إلى لقاءٍ آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤