وجوب مراقبة الدولة للأطفال

ولكن الحق شيء والقدرة على الاستمتاع به شيء آخر، فمن حق الناس جميعًا أن يأكلوا ما يتاح لهم من الطعام، ولكن من الناس من لا يستطيع أن يستمتع بهذا الحق استمتاعًا مطلقًا؛ لأنه لا يجد من صحته ولا من قوته ما يمكنه أن يستمرئ هذا اللون أو ذاك، ومن حق الأطفال المصريين جميعًا أن يُقبلوا في مدارس التعليم العام، ولكن من هؤلاء الأطفال من لا تمكنه قوته من المضي في هذا التعليم؛ لأنه لم يخلق للثقافة الراقية، ولا للحياة التي تقتضيها هذه الثقافة، وإنما خُلق للونٍ آخر من الثقافة اليسيرة وللونٍ آخر من الحياة، لا يأتيه ذلك من فقر أسرته، ولا يأتيه ذلك من مولده ولا من طبقته، وإنما يأتيه ذلك من فطرته ومن طبيعته التي جُبل عليها، وإذا كان من الحق على الدولة الديمقراطية أن تبيح التعليم العام للناس جميعًا فإن من الحق عليها أيضًا أن تنصح لهؤلاء الناس، وأن تراقب أبناءهم الذين تقبلهم في مدارس التعليم العام مراقبةً دقيقة متصلة متنوعة؛ تراقب أجسامهم، وتراقب عقولهم، وتراقب قلوبهم وأخلاقهم، وتراقب ما ينتج عن هذا كله من الاستعداد لأنواع الثقافة وألوان العلم.

تراقب هذا كله في أثناء التعليم الأولي، وفي أول التعليم الثانوي، وتستخلص نتائجه، وتبلغها للأسر، فمن رأت فيه الاستعداد الحسن للمضي في هذا التعليم العام إلى غايته استبقته وشجعته، وشملته بما هو أهل له من العناية والرعاية، ومن رأت فيه قصورًا عن هذا التعليم وفتورًا عن المضي فيه، واستعدادًا آخر لنوع ٍمن أنواع التعليم الصناعي أو التجاري أو الزراعي، نصحت لأهله، وأخلصت لهم النصح، في توجيهه إلى ما هو مُيسَّر له.

من الحق على الدولة أن تنهض بهذه المراقبة، حازمة عازمة، ومرشدة ناصحة مخلصة في النصح، دون أن تضار بذلك حرية الأسرة، أو تكرهها على ما لا تحب.

وهي إن فعلت ذلك أدت ما عليها للمواطنين من حق وشاركت الأسرة في تربية أبنائها، وبذلت لها النصح والإرشاد، وكانت حَرِيَّة أن تستبقي للتعليم العام أحق الصبية به، وأصلحهم له، وأقدرهم عليه، وهي بهذه المراقبة نفسها تجعل المدرسة معملًا تجريبيًّا للتربية، وترد إلى كلمة التربية معناها الصحيح، وتبرئ المعلم من أن يكون أداة لإفراغ العلم في عقل التلميذ، وتجعله مربيًا للصبي، ومرشدًا لأسرته، وصلة بين الشعب والدولة بأدق ما لهذه الكلمات من معاني.

وقد أخذت وزارة التربية الوطنية في فرنسا تسلك هذه الطريق منذ حين، والظاهر أن التجربة قد نجحت نجاحًا مُرضيًا، فأخذت فرنسا في وضع ما ينظمها من القوانين، فما يمنعنا أن نسلك هذه الطريق، فقد يكون في سلوكها، بل سيكون في سلوكها ترفيه على التعليم العام من جهةٍ، وترفيه على المتعلمين من جهةٍ أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤