مذاهبنا القديمة في التعليم وأخذ الأوروبيين عنها

وقد جاء هذا العصر الحديث، وكان الاتصال بين مصر وأوروبا، أو قل: كان الاتصال بين أجزاء الأرض جميعًا، وقد قوي هذا الاتصال حتى أصبح المقوم الأول، والأساس لحياة الأفراد والجماعات، فقد أُلغيت مسافات الزمان والمكان بين الأمم والشعوب، وأصبح المصريون يعرفون في اليوم نفسه، بل في اللحظة نفسها، أحداث العالمين، كما يعرف العالمان في اليوم نفسه، بل في اللحظة نفسها، أحداث مصر. ونهضت مصر منذ أول القرن الماضي نهضتها صريحة قوية، بَيِّنة الأعلام واضحة الاتجاه، وهي نهضة مهما يختلف فيها الناس فلن يستطيعوا أن يختلفوا في أنها تأخذ بأسباب الحياة الحديثة على نحو ما يأخذ بها الأوروبيون في غير ترددٍ ولا اضطراب.

حياتنا المادية أوروبية خالصة في الطبقات الراقية، وهي في الطبقات الأخرى تختلف قربًا وبُعدًا من الحياة الأوروبية باختلاف قدرة الأفراد والجماعات، وحظوظهم من الثروة وسعة ذات اليد، ومعنى هذا أن المثل الأعلى للمصري في حياته المادية إنما هو المثل الأعلى للأوروبي في حياته المادية، نتخذ من مرافق الحياة وأدواتها ما يتخذون، ونتخذ من زينة الحياة ومظاهرها ما يتخذون، نفعل ذلك عن علمٍ به وتعمُّدٍ له، أو نفعل ذلك عن غير علمٍ وعلى غير عمد، ولكننا ماضون فيه على كل حال، وليس في الأرض قوة تستطيع أن تردنا عن أن نستمتع بالحياة على النحو الذي يستمتع بها عليه الأوروبيون.

مدت أوروبا الطرق الحديدية، وأسلاك التلغراف والتليفون، فمددناها، وجلست أوروبا إلى الموائد، واتخذت ما اتخذت من آنية الطعام وأدواته وألوانه، فصنعنا صنيعها، ثم تجاوزنا ذلك إلى ما اصطنع الأوروبيون لأنفسهم من لباس، ثم تجاوزنا ذلك إلى جميع الأنحاء التي يحيا عليها الأوروبيون فاصطنعناها لأنفسنا، غير متخيرين ولا محتاطين، ولا مميزين بين ما يَحسُن منها وما لا يَحسُن، وما يلائم منها وما لا يلائم.

ونستطيع أن نقول: إن مقياس رقي الأفراد والجماعات في الحياة المادية مهما تختلف الطبقات عندنا إنما هو حظنا من الأخذ بأسباب الحياة المادية الأوروبية.

وحياتنا المعنوية على اختلاف مظاهرها وألوانها أوروبية خالصة، نظام الحكم عندنا أوروبي خالص، نقلناه عن الأوروبيين نقلًا في غير تحرجٍ ولا تردد، وإذا عبنا أنفسنا بشيءٍ من هذه الناحية فإنما نعيبها بالإبطاء في نقل ما عند الأوروبيين من نُظُم الحكم وأشكال الحياة السياسية، وقد اضطربت حياتنا السياسية في هذا العصر الحديث، ولا سيما في هذا القرن، بين الحكم المطلق والحكم المقيد، فلم يكن اضطرابها بين هذين النوعين كما أَلِفهما الشرق في القرون الوسطى، بمعنى أن نظام الحكم المطلق عندنا في العصر الحديث كان متأثرًا بنظام الحكم المطلق في أوروبا قبل انتشار النظام الديمقراطي، وأن نظام الحكم المقيد عندنا كان متأثرًا بنظم الحكم المقيد في أوروبا أيضًا.

فالذين أرادوا أن يستبدوا بأمور مصر في العصر الحديث كانوا يذهبون مذهب لويس الرابع عشر وأشباهه أكثر مما كانوا يذهبون مذهب عبد الحميد وأمثاله.

والذين أرادوا أن يحكموا مصر حكمًا مقيدًا بالعدل دون أن يشركوا الشعب معهم في الحكم كانوا يتخذون لحكمهم قيودًا أوروبية لا شرقية؛ فهم قد أنشَئُوا المحاكم الأهلية، وشرعوا القوانين المدنية، واستَقَوْا ذلك من النظم الأوروبية لا من النظم الإسلامية، وهم قد وضعوا النظم الإدارية والمالية والاقتصادية، وذهبوا في ذلك مذهب الأوروبيين، بل نقلوا ذلك نقلًا عن الأوروبيين، ولم يستمدوه مما كان مألوفًا عند ملوك المسلمين وخلفائهم في القرون الوسطى.

فمجلس النظار أو مجلس الوزراء، ونظارات الحكومة أو وزاراتها والمصالح المتصلة بهذه النظارات والوزارات، كل ذلك أوروبي المصدر، أوروبي الجوهر، أوروبي الشكل، لم يعرف منه المسلمون شيئًا في القرون الوسطى وقبل هذا العصر الحديث، وقد استُبقِيت أشياء من النظم الإسلامية القديمة لم يكن بد من استبقائها؛ لأنها تتصل بالدين من قريبٍ أو بعيد، ولكن كثيرًا من التغيير والتبديل قد مسها حتى أصبحت شديدة التأثر بالنظم الأوروبية في شكلها على أقل تقدير. وقد يكون من النافع، ومن الظريف أيضًا، أن يُقارَن بين محاكمنا الشرعية الآن بعد أن تأثرت بالإصلاح الحديث وبين محاكمنا قبل ذلك، حين لم تكن إلا استمرارًا للنظام الإسلامي القضائي القديم.

وأكبر الظن أن قضاة المسلمين القدماء لو أُنشِروا في هذه الأيام لأنكروا من نظام المحاكم الشرعية شيئًا كثيرًا، ولعلهم أن ينكروا أكثر مما يعرفون! وقد استبقينا نظام الوقف ولكننا لم نلبث أن أنشأنا له وزارة وأن أدرناه على نحوٍ ما أظن أن القدماء يعرفونه أو يرضون عنه لو رُدُّوا إلى الحياة. ونحن مع ذلك ننكر وزارة الأوقاف ونراها مسرفة في التأخُّر مبطئة في التطور، بل منا من ينكر شيئًا غير قليل من نظام الوقف نفسه فيريد إلغاءه أو تغييره ليلائم بين حياة الأُسر وحاجات الاقتصاد الحديث.

وقد استبقينا الأزهر الشريف نفسه، ولكن أزمة الأزهر الشريف متصلة منذ عهد إسماعيل أو قبله ولم تنتهِ بعد، وما أظنها ستنتهي اليوم أو غدًا، ولكنها ستستمر صراعًا بين القديم والحديث حتى تنتهي إلى مستقرٍ لها في يومٍ من الأيام.

وكل شيء يدل، بل كل شيء يصيح بأن الأزهر مسرف في الإسراع نحو الحديث، يريد أن يتخفف من القديم ما وجد إلى ذلك سبيلًا.

ولو أن الله أنشر علماء الأزهر الشريف الذين كانوا يعيشون في أول هذا العصر الحديث، وأراهم ما انتهى إليه الأزهر من التطور لرغبوا إلى الله مخلصين في أن يردهم إلى أجداثهم حتى لا يروا هذه الأحداث العظام!

كل هذا يدل على أننا في هذا العصر الحديث نريد أن نتصل بأوروبا اتصالًا يزداد قوةً بعد قوة من يومٍ إلى يوم حتى نصبح جزءًا منها لفظًا ومعنى وحقيقةً وشكلًا، وعلى أننا لا نجد في ذلك من المشقة والجهد ما كنا نجده لو أن العقل المصري مخالف في جوهره وطبيعته للعقل الأوروبي.

ثم لم يقف أمرنا عند هذا الحد، فقد خطونا بعد الحرب الكبرى خطوات حاسمة ليس لنا من أمل في أن نرجع عنها، ولا من سبيلٍ إلى هذا الرجوع، وما أشك في أن كثرة المصريين مستعدة لأن تبذل المُهَج والنفوس وتضحي بالحياة والأموال في سبيل المحافظة على هذه الخطوات التي خطوناها وعلى هذه الحقوق التي كسبناها.

وأين المصري الذي يرضى بأن ترجع مصر عن هذه الخطوات التي خطتها في سبيل النظام الديمقراطي؟ وأين المصري الذي يطمئن إلى أن تعود مصر إلى نظام للحكم يقوم على غير الحياة الدستورية النيابية.

وهل الحياة الدستورية النيابية إلا شيء أخذناه من أوروبا أخذًا ونقلناه عنها نقلًا؟ فلم نكد نستمتع به حتى اتصل بحياتنا وامتزج بدمائنا، وأصبح حبه غذاء لنفوسنا، وقوامًا لعقولنا، وعنصرًا من عناصر ضمائرنا. وإني لأتخيل داعيًا يدعو المصريين إلى أن يعودوا إلى حياتهم القديمة التي ورثوها عن آبائهم في عصر الفراعنة أو في عصر اليونان والرومان أو في عصرها الإسلامي، أتخيل هذا الداعي وأسأل نفسي: أتراه يجد من يسمع له ويسرع إلى إجابته أو يبطئ في هذه الإجابة، ولكنه يجيب على كل حال؟ فلا أرى إلا جوابًا واحدًا يتمثل أمامي، بل يصدر من أعماق نفسي، وهو أن هذا الداعي إن وُجِد لم يلقَ بين المصريين إلا من يسخر منه ويهزأ به.

والذين نراهم في مصر محافظين ومسرفين في المحافظة، ومبغضين أشد البغض للتفريط في التراث القديم، هؤلاء أنفسهم لن يرضوا بالرجوع إلى العصور الأولى، ولن يستجيبوا لمن يدعوهم إلى النظم العتيقة إن دعاهم إليها.

ولم يقف أمرنا عند هذا الحد، بل نحن قد خطونا خطوات أبعد جدًّا مما ذكرت، فالتزمنا أمام أوروبا أن نذهب مذهبها في الحكم، ونسير سيرتها في الإدارة، ونسلك طريقها في التشريع، التزمنا هذا كله أمام أوروبا. وهل كان إمضاء معاهدة الاستقلال ومعاهدة إلغاء الامتيازات إلا التزامًا صريحًا قاطعًا أمام العالم المتحضر بأننا سنسير سيرة الأوروبيين في الحكم والإدارة والتشريع؟

فلو أننا هممنا الآن أن نعود أدراجنا وأن نحيي النُّظُم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلًا، ولوجدنا أمامنا عقابًا لا تُجتاز ولا تُذلل، عقابًا نقيمها نحن لأننا حراص على التقدم والرقي، وعقابًا تقيمها أوروبا لأننا عاهدناها على أن نسايرها ونجاريها في طريق الحضارة الحديثة.

نحن إذَنْ مدفوعون إلى الحياة الحديثة دفعًا عنيفًا، تدفعنا إليها عقولنا وطبائعنا وأمزجتنا التي لا تختلف في جوهرها قليلًا ولا كثيرًا منذ العهود القديمة جدًّا عن عقول الأوروبيين وطبائعهم وأمزجتهم، وتدفعنا إليها المعاهدات التي أمضيناها وأبرمناها، والالتزامات التي قبلناها راضين، بل بذلنا في سبيلها جهودًا لا تحصى، وضحينا في سبيلها بالأنفس الذكية والدماء الطاهرة، وأنفقنا في سبيلها كرائم الأموال، واحتملنا في سبيلها ضروب المحن والآلام.

والتعليم عندنا، على أي نحوٍ قد أقمنا صروحه ووضعنا مناهجه وبرامجه منذ القرن الماضي؟ على النحو الأوروبي الخالص ما في ذلك شك ولا نزاع، نحن نكوِّن أبناءنا في مدارسنا الأولية والثانوية والعالية تكوينًا أوروبيًّا لا تشوبه شائبة، فلو أن عقول آبائنا وأجدادنا كانت شرقية مخالفة في جوهرها وطبيعتها للعقل الأوروبي فقد وضعنا في رءوس أبنائنا عقولًا أوروبية في جوهرها وطبيعتها وفي مذاهب تفكيرها وأنحاء حكمها على الأشياء، ولعمري إني لأتخيل داعيًا يدعونا إلى أن نعدل بمدارسنا ومعاهدنا عن الطريق الأوروبية التي سلكناها إلى الطريق القديمة التي كان يسلكها آباؤنا وأجدادنا.

إني أتخيل داعيًا يدعونا إلى هذا، فما أرى إلا أنا سنلقاه ضاحكين منه مستهزئين به! وما أرى إلا أن الأزهريين — وهم مستقر المحافظة — سيكونون أكثرنا منه ضحكًا وأعظمنا به استهزاءً! على أن مذاهبنا القديمة في التعليم قد كانت هي المذاهب التي كان يذهبها الأوروبيون ويتخذونها أصولًا لحياتهم العقلية في القرون الوسطى. وأكبر الظن، بل الحق الذي لا شك فيه، أنهم قد أخذوا عنا هذه المذاهب كما نأخذ نحن عنهم اليوم، وساروا سيرتنا كما نسير نحن سيرتهم اليوم، فالفرق بيننا وبينهم في حقيقة الأمر لا يتصل بطبائع الأشياء وجواهرها، وإنما يتصل بالزمان ليس غير. بدءوا حياتهم الحديثة في القرن الخامس عشر، وأخَّرنا الترك العثمانيون فبدأنا حياتنا في القرن التاسع عشر، ولو أن الله عصمنا من الفتح العثماني لاستمر اتصالنا بأوروبا، ولشاركناها في نهضتها، ولسلكنا معها إلى الحياة الحديثة نفس الطريق التي سلكتها، ولتغير وجه العالم، ولكان للحضارة الحديثة شأن غير شأنها الآن.

على أن الله قد أراد بنا خيرًا برغم الأحداث والخطوب؛ فقد بلغ العالم من الرقي طورًا يمكِّننا من أن نبلغ في عصرٍ قصير ما أنفق الأوروبيون في سبيله عشرات السنين بل مئاتها، فويلٌ لنا إذا لم ننتهز هذه الفرصة ولم ننتفع بهذا التوفيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤