تقصير مصر في الأخذ بأسباب الحضارة الحديثة

ولست أدري كيف نصور ما نستحقه من اللوم وما نستأهله من المذمة والعيب حين أقارن بين شعبنا المصري وبين شعوبٍ شرقية أخرى كانت لها حياة تخالف الحياة الأوروبية من جميع الوجوه، وعقليات تباين العقلية الأوروبية من جميع الأنحاء، كيف نصور ما نستحقه من اللوم حين نذكر أن الشعب الياباني من شعوب الشرق الأقصى قد كان يخالف في حياته المادية والعقلية أشد المخالفة وأقواها شعوب أوروبا، فما هي إلا أن أحس ألا سبيل له إلى أن يعيش كريمًا حتى يشبه الأوروبيين في كل شيء، ويزاحمهم في ميادينهم، ويجاريهم في سيرتهم، فما هي إلا أن هم حتى فعل، وما هي إلا أن أراد حتى وُفِّق إلى ما أراد؛ وإذا هو شعب مهيب تشفق منه أوروبا أشد الإشفاق، وتصانعه أشد المصانعة، وتمنحه ما هو أهل له من الإكبار والإجلال والاحترام.

فكيف بنا ولم يكن بيننا وبين الأوروبيين من الفروق ما كان بين اليابانيين والأوروبيين؟! وكيف بنا ونحن شركاء الأوروبيين في تراثهم العقلي على اختلاف ألوانه وأشكاله، وفي تراثهم الديني على اختلاف مذاهبه ونِحَله، وفي تراثهم المادي على اختلاف ضروبه وأنحائه؟!

كيف بنا ونحن نشارك الأوروبيين في هذا كله؟ ولم يكن بين اليابانيين وبينهم شركة في شيءٍ منه قليل أو كثير، فإذا اليابانيون قد زاحموا الأوروبيين حتى زحموهم، وإذا نحن ما نزال متخلفين، ومنا من يجادل في أن من الحق أو من الباطل، وفي أن من الخير أو من الشر، وفي أن من النفع أو من الضر أن نأخذ بحظنا من تراثنا القديم! أستغفر الله، بل كنا لهم أساتذة في القرون الوسطى وفي العصر القديم.

هم يعرفون ذلك ولا ينكرونه، وهم يعلنون ذلك ولا يُسِرُّونه، ونحن نجادل في ذلك بغير حق، ونماري في ذلك، لا يدفعنا إلى المراء فيه إلا الكسل وفتور العزيمة وحب الراحة وإيثار العافية وخمود جذوة العقل.

صدقني يا سيدي القارئ، إن الواجب الوطني الصحيح بعد أن حققنا الاستقلال وأقررنا الديمقراطية في مصر إنما هو أن نبذل ما نملك وما لا نملك من القوة والجهد ومن الوقت والمال لنُشعِر المصريين أفرادًا وجماعات أن الله قد خلقهم للعزة لا للذلة، وللقوة لا للضعف، وللسيادة لا للاستكانة، وللنباهة لا للخمول، وأن نمحو من قلوب المصريين أفرادًا وجماعات هذا الوهم الآثم الشنيع الذي يصور لهم أنهم خُلقوا من طينةٍ غير طينة الأوروبي، وفُطِروا على أمزجة غير الأمزجة الأوروبية، ومُنِحوا عقولًا غير العقول الأوروبية.

فهذا كله باطل سخيف لا يثبت أمام أيسر التفكير، ولا يستقيم لأهون نظرة في التاريخ من جهة، وفي طبائع الأشياء من جهةٍ أخرى.

ولنفرض هذا المحال، ولنقرر أن بيننا وبين الأوروبيين هذه الفروق الخطيرة التي تمتلئ بها وتضطرب لها قلوب العاجزين منا، والتي تنتفخ لها أوداج الطامعين والمستعمرين من الأوروبيين.

لنفرضْ هذا المحال ولْنُقررْ أنه صحيح واقع؛ فإن نظرةً يسيرةً إلى حياة الشعب الياباني في القرن الماضي خليقة أن تقنعنا بأن الله قد خلق النوع الإنساني كله مستعدًّا للرقي، قادرًا على التقدم، خليقًا أن يبلغ من الكمال ما يتاح للناس أن يبلغوه، وأن أرسطاطاليس قد أخطأ خطأً شنيعًا حين زعم أن من الناس من يُخلق ليأمر، وأن منهم من يُخلق ليطيع.

كلا! إنما خُلق الناس جميعًا ليكونوا سواء في الحقوق والواجبات واستقبال هذه الحياة، وما أتيح لنا فيها من خيرٍ وما كُتب علينا فيها من مكروه، ولكن الناس يطغى بعضهم على بعض، ويجب أن يُهدم هذا الطغيان وأن نكون نحن هادميه، ولكن الناس يبغي بعضهم على بعض، ويجب أن يزول هذا البغي وأن نكون نحن من مزيله.

وأي شيء أيسر من الاقتناع بهذه الفكرة الهينة السهلة؟ يكفي أن ننظر إلى حياتنا الخاصة، فسنرى بيننا العالم والجاهل، والمثقف والذي لا حظ له من ثقافة، والغني والفقير، والسعيد والشقي. أفتظن أن الله قد خلق فريقًا منا — نحن المصريين — ليكون عالمًا فطنًا وموفورًا سعيدًا، وقضى على فريقٍ آخر منا أن يكون جاهلًا غافلًا ومحرومًا شقيًّا؟

كلا! إن الله قد خلقنا جميعًا لنستوفي حظنا من هذه الحياة سعداء بها ما وجدنا إلى السعادة سبيلًا، أشقياء بأثقالها ما عجزنا عن دفع هذا الشقاء.

ولكن بعضنا يبغي على بعض، ولكن النُّظُم التي تدبِّر أمورنا في حاجةٍ إلى كثير من الإصلاح، ونحن حين نشرع القوانين وننشئ المدارس وننشر العلم وننظم الاقتصاد ونستعير النظم الديمقراطية من أوروبا إنما نسعى إلى شيءٍ واحد هو تحقيق المساواة التي هي حق طبيعي لأبناء الوطن الواحد جميعًا.

فهذه الفكرة التي لا ننكرها ولا نجادل فيها، حين ينظر بعضنا إلى بعض وحين يفكر بعضنا في بعض، هي بعينها الفكرة التي يجب أن نؤمن بها، وألا نجعلها موضوعًا للجدال والنزاع حين نفكر في غيرنا من الشعوب، يجب أن نمحو من أنفسنا أن في الأرض شعوبًا قد خُلقت لتسودنا، ويجب أن نمحو من أنفسنا أن في الأرض شعوبًا قد خُلقت لنسودها، ويجب أن نقر في أنفسنا أن نظام المساواة في الحقوق والواجبات، هذا الذي نريد أن نقره في حياتنا الداخلية، هو بعينه النظام الذي يجب أن نقره في حياتنا الخارجية وفيما بيننا وبين أوروبا من الصلات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤