النقد الدِّيني
كان الهجوم على الاستشراق من الزاوية الدينية، كما قلت، هو الأسبق. وكان النُّقَّاد الذين يتَّخِذون وجهة النظر الدينية ينسِبون إلى المُستشرِقين في مُعالجتهم لموضوع بحثهم، أي الإسلام، صفةَ التَّحامُل، ولكن في أغلب الأحيان كانت اللهجة تشتدُّ فتُستخدَم أوصاف مثل الكذِب والافتراء … إلخ. وفي حالاتٍ مُعيَّنة كان سُوء الفَهم المنسوب إلى الغربيين يُوصَف بأنه ناجِم عن تأثير تاريخٍ طويل من تَشويهٍ للعقيدة الإسلامية في الغرب المسيحي، بدأ منذ العصور الوسطى وظلَّتْ آثارٌ منه باقية، بدَرَجات متفاوتة، حتى اليوم. ومثل هذا التفسير يَتضمَّن، على الأقل، قدْرًا من التِماسِ العُذر للخطأ الغربي المُعاصِر بإرجاعه إلى أصولٍ تاريخية قديمًا. غير أنَّ الاتِّجاه الأغلب، بين ناقدي الاستشراق على أساسٍ ديني، هو اتجاه التفسير التآمُري؛ أي القول بوجود نِيَّة مُبيَّتة لدى المُستشرِقين لتشويه تعاليم الإسلام. والرأي الشائع هو أن هذا التشويه يتمُّ عند بعض المُستشرِقين بصورةٍ صريحة تتضمَّن هجماتٍ مُباشِرةً وتفسيراتٍ باطلةً لحقائق أساسية في الإسلام، وعند البعض الآخر بصورةٍ غير مُباشِرة، ربما اقترنَت أحيانًا بشيءٍ من المدح أو الدَّعوة إلى التفاهُم، ولكن الهدف — الذي يتمُّ التوصُّل إليه بطريقةٍ أذكى في هذه الحالة — يظلُّ هو «الدسُّ» للإسلام وتشويه صورته، مع تقديم بعض الأحكام الإيجابية من أجل «تمرير» الأحكام الباطِلة في إطار يُفترَض أنه موضوعي.
والذي كان يحدُث في هذا الهجوم من المُنطلَق الدِّيني على الاستشراق هو أن المُهاجِم كان في واقِع الأمر مُدافعًا؛ فهو يدخُل في مُبارَزة مع «عدوٍّ للإسلام»، مُحاولًا أن يُثبِت له أنه وقَع في أخطاء أساسية، مقصودة أو غير مقصودة، وساعِيًا إلى أن يُعيد إلى الإسلام صورته النَّقِيَّة عند المُسلِم المؤمن، وناظرًا إلى كلِّ خروجٍ عن هذه الصورة عند المُستشرِق على أنه جُزء من «المؤامرة».
وبطبيعة الحال، فإن مَجال «المُبارَزة» يَغدو واسِعًا حين تدُور المعركة على أرضيَّةٍ دِينية بين مُدافِعٍ مُتحمِّس من جهة، وبين باحثٍ ينتمي — رسميًّا على الأقل — إلى عقيدةٍ أخرى، ولا يُلزِم نفسه بتعاليم الإسلام من جهةٍ أخرى. إذ يُصبِح ميدان الهجوم في هذه الحالة هو نظرة المُستشرِقين إلى معنى الألوهية في الإسلام، وإلى شخصية الرسول وسُلوكه وتاريخه، وإلى القرآن في ذاته وفي علاقته بالكُتُب المُقدَّسة الأخرى، وإلى طبيعة الوحي في الإسلام، ثم يمتدُّ من هذه الأصول إلى الشخصيات الإسلامية الرئيسية، كآل البيت والصَّحابة والخُلَفاء الراشدين، وربما امتدَّ بعد ذلك إلى شخصياتٍ فرعية، فضلًا عن أنه يشمَل مَسار التاريخ الإسلامي وتفسيرات المُستشرِقين له، وإسهامات الحضارة الإسلامية وأحكامهم عليها. هذه بعض من الميادين التي يَدور فيها الجَدَل الساخِن بين المُدافِعين عن الإسلام وبين المُستشرِقين، وهي ساحاتٌ لهجومٍ ظلَّ مُمتدًّا منذ أن اطَّلع المُفكِّرون العرب على كتابات الغربِيِّين عن الإسلام من فجر النهضة العربية الحديثة حتى اليوم.
والمعيار الأساسي، والأوحَدُ في أغلب الأحيان، الذي تُقاس به قِيمةُ المُستشرِق عند هذه الفئة التي تنقُد الاستشراق من منظورٍ ديني، هو مدى اقتِراب المُستشرِق أو ابتِعاده عن تعاليم الإسلام، ومدى تمجيده للعرَب أو تنديده بهم. وفي مُعظَم الحالات تُنسى القيمة الذاتية، والعلمية، لأبحاث المُستشرِق إذا كان ما يكتُب يبتعِد كثيرًا عن أصول العقيدة، ويتمُّ الحُكم عليه من المنظور الدِّيني وحده. وهكذا ينطوي هذا النَّقْد على مبدأ لا يُصرَّح به، بطبيعة الحال، ولكنه يكاد يقفِز إلى العِيان في كافة كتابات هؤلاء النُّقَّاد، هو أن المطلوب من المُستشرِق أن يكون مُشاركًا للمُسلِمين في عقيدتهم، وفي هذه الحالة يُعدُّ مُنصِفًا، أمَّا إذا ابتعدَ عنها فإنه يغدو مُفترِيًا مُتآمِرًا. وأفضل الحالات، بالطبع، هي تلك التي ينطِق فيها المُستشرِق بالشهادَتَين، ويُشهِر إسلامه، إذ يُصبِح في نظر هؤلاء النُّقَّاد مُستشرِقًا نموذجيًّا، أمينًا، مُنصفًا، أمَّا القيمة الكامنة لأعماله، ومدى الجُهد الذي بُذِل فيها أو الدقَّة المنهجية التي رُوعِيَت فيها، فهي في نظر هؤلاء النُّقَّاد آخِر ما يُؤخَذ في الحُسبان، بل إنَّ الخلط بين الأمرَين شائع إلى أبعَدِ حد، إذ يُوصَف المُستشرِق الذي يتعاطف مع تعاليم الإسلام بأنه هو الأدق، والأعمق، أمَّا الذي يتباعَدُ عنها فلا بدَّ أن يكون بعيدًا عن رُوح العِلم ومنهجه.
وإذا كان هذا الناقِد قد هاجَم بعض المُستشرِقين الذين قدَّموا أحكامًا إيجابية عن الإسلام، على أساس أنهم حاوَلوا مُهاجَمة الإسلام من الأبواب الخلفية، واتَّخَذوا من مَدحِهم وسيلةً لتسريب تفسيراتٍ علمانيةٍ لموضوعات العقيدة الإسلامية، فإنَّ هناك ناقدًا آخَر يسير في الاتِّجاه العكسي، ولكنَّه يُعبِّر عن المَوقِف الأساسي نفسه. ففي كتاب «المُستشرِقون والإسلام» يرى المُؤلِّف «زكريا هاشم» أنَّ هناك أقليَّة من «المُنصِفين» بين المُستشرِقين، على حين أن غالبِيَّتهم «يَكيدون» للإسلام بوحي من الاستِعمار والتَّبشير (لاحِظ المَزْج بين العامل الدِّيني والسياسي). ثم يَضَعُ المُؤلِّف، ضمن المنصِفين الذين يَستحقون المدْح، المُستشرِق الإنجليزي المعروف «جون فيلبي» لأنه أشهَرَ إسلامه.
هنا يظهر التشويه الفكري بأجلى صُورِه؛ فالمِعيار الأوحد الذي تُطبِّقه هذه الفئة من ناقدي الاستشراق هو، كما قُلنا، مَوقف المُستشرِق من الإسلام كعقيدة. وهكذا يكون أفضل المُستشرِقين، بالطبع، هم الذين يدخلون في دِين الإسلام. ولكن هذا المِعيار يُنظَر إليه مُنفصلًا عن جميع المعايير الأخرى؛ مثل مدى تَعمُّق المُستشرِق أو نوع مَنهجيته أو أهمية إنتاجه. بل إنَّ الكاتب الذي نتحدَّث عنه يُؤكِّد أنَّ الاستِعمار يكيد للإسلام، ولا يَتورَّع بعد قليلٍ عن امتِداح واحدٍ من أعمِدة الاستِعمار البريطاني، وهو الجاسوس المشهور جون فيلبي، الذي يُرجَّح أنه اعتنق الإسلام لكي ينال قَبولًا أفضل لدى المُسلمين؛ أي لكي يؤدِّي مُهِمَّته الأصلية بمزيدٍ من الفعالية. فالدفاع عن الإسلام، واعتِناقه أحيانًا، قد يكون في بعض الأحيان أكثرَ فائدة للاستِعمار من مُهاجَمته (هل تذكر «إسلام» نابوليون؟) وليس هذا إلَّا مثلًا واحدًا يكشِف عن السَّذاجة الفكرية الشديدة لأولئك الذين يَقِيسون عملَ أيِّ مُستشرِق بمدى «دفاعه» عن الإسلام.
- (١) الحقيقة الأولى هي أنَّ التفسير التآمُري مُتبادَل بين الطرفَين؛ فالغرب في العصور الوسطى كان يرى في الإسلام «مؤامَرة» على المسيحية، وأدَّى ذلك إلى تشويه معرفته بالإسلام، أو على الأصحِّ إلى العَجْز عن التمييز بين هدَف المعرفة وهدَف الدفاع عن الذات. ولكن الباحِثين ذَوي النزعة الإسلامية يَرَون بدَورهم أنَّ الاستشراق ذاته مُؤامَرة حاكَها باحثون مَسيحيُّون أو يهود من أجل هدْم العقيدة الإسلامية وزعزعة إيمان المُسلمين. وهكذا فإنَّ فكرة المُؤامَرة تسود وِجهتَي نظر الطرفَين، وليس من حقِّ أحدِهما أن يُدين بها الآخر وحدَه. وليس من الصعب أن نُعلِّل هذا الارتِياب المُتبادَل بين الطرَفَين:
- (أ)
فهو يزداد حِدَّة في الأوقات التي تسُود فيها النظرة الدِّينية إلى العالم؛ حيث يؤمِن أصحاب أيَّةِ عقيدة بأنَّهم يملِكون الحقيقة المُطلَقة، ومِنْ ثَمَّ فلا بد أن يكون الآخَرون مُخادِعين مُتآمِرين. وعلى هذا الأساس نجِد هذا التفسير يزداد ظهورًا لدى أوروبا في العصور الوسطى، كما تقوى شوكتُه في العالم الإسلامي كلَّما مرَّ بفترةٍ من فترات «الصَّحوَة الدينية».
- (ب)
كذلك فإن فِكرة المؤامرة تفرِض نفسها، دائمًا، على الجانب الأضعف، الذي يتَّخِذ من تشويهه لمَوقِف الجانب الأقوى وسيلةً من وسائل الدِّفاع عن النفس. وهكذا سادت فكرة المُؤامَرة لدى أوروبا عندما كانت هي الأضعف أمام مَوجة الإسلام الظافِرة في العصور الوسطى، وسادت لدى المسلمين المُعاصِرين؛ لأنهم هم الأضعف، حضاريًّا واقتصاديًّا، بالقِياس إلى المَوجة الغربية الطاغِية.
- (أ)
- (٢)
أمَّا الحقيقة الثانية، التي تترتَّب مُباشَرة على الأولى، فهي أنَّ تشويه الصورة مُتبادَل أيضًا بين الطرفَين. فكما أنَّ الغرب المسيحي في أوروبا الوسيطة قد قدَّم صورًا مُشوَّهة إلى حدٍّ بعيد عن الإسلام، فإنَّ في استطاعة كثيرٍ من المَسيحيين المُتدَيِّنين أن يُشيروا إلى ما يَعُدُّونه، من وجهة نظرِهم الخاصَّة، «تشويهات» مُوازِية في تَصوُّر المُسلِمين لحقائقَ أساسية في المَسيحية: كاعتِقاد كثيرٍ من المُسلِمين أنَّ المسيح — في نظر أبناء عقيدته — ابن الله بالمعنى المادِّي، وفَهْم العَلاقة بين مريم العذراء والألوهية فهمًا لا يَخلو من مَضمونٍ بَشريٍّ فيه مَسْحَةٌ من الإشارة الجنسية، والقول بأن الأناجيل الحالية مُحرَّفة وبأنَّ هناك إنجيلًا أصليًّا تمَّ إخفاؤه لأنَّ فيه تَنبُّؤًا بظهور مُحمَّد. وهكذا يستطيع كلٌّ من الطرَفَين أن يُشير إلى ما يعتقد، من وجهة نظره الخاصَّة، أنه «تشويهات» لصُورتِه في نظر الطرَف الآخَر.
فإذا اتَّضح لنا ذلك أصبَحَ من واجبِنا أن نتأمَّل مسألة سُوء الفَهم هذه من منظورٍ أوْسَعَ من منظور نُقَّاد الاستشراق الذين يَرَونه تَشويهًا سائرًا في اتِّجاهٍ واحد. فلا بد أن تكون لسوء الفَهم هذا أبعاد عميقة حتَّى يسير في الاتِّجاهَين على هذا النحو، ولا بد أنَّ للمسألة كلِّها حُدودًا أوسَعَ من مُجرَّد ضِيق الأفُق الغربي في نظرته إلى الشرق، سواء كان ضِيق الأفُق هذا ناتجًا عن جهلٍ وافتِقارٍ إلى المعلومات الصحيحة، أم ناتجًا عن خَوفٍ أو كراهيةٍ أو احتِقارٍ أو رغبة في السَّيطرة.
الأخطاء المَنهجيَّة في النقد الدِّيني
وإذا كان هذا المَنظور الأوسع الذي نَدْعُو إلى تأمُّل المشكلة كلِّها من خلاله، سيَتَّضِح تدريجًا خلال الأجزاء المُتبقِّية من هذا البحث، فإننا نودُّ أن نُنبِّه إلى مجموعةٍ من الأخطاء المنهجية الأساسية التي يرتَكِبُها نُقَّاد الاستشراق من وجهة النظر الدِّينية، وهي أخطاء لا يُشير إليها الباحِثون في هذا الموضوع عادة، إمَّا بدافِع الشُّعور بالحرَج، أو خَوفًا من أن تُوجَّه إليهم تُهمة الدِّفاع عن الاستشراق. ولمَّا كان هدفُنا يتَجاوَز هذَين الاعتِبارَين، فإنَّنا سنعرِض لهذه الأخطاء إيمانًا مِنَّا بأن الحقيقة العِلمية تتخطَّى نِطاق الحساسِيَّات الضَّيِّقة، والمُجامَلات المُزيَّفة.
-
(١)
مما يدعو إلى الأسَفِ حقًّا أنَّ عددًا غير قليلٍ من نُقَّاد الاستشراق الذين يَتبنَّون وجهةَ نظرٍ دينية، يكشِفون في كتاباتِهم عن افتِقارٍ إلى معرفة أبسط قواعِد المنهج العلمي؛ ممَّا يُضفي على انتِقاداتهم طابعًا هشًّا يجعلها عاجِزةً عن إقناع أيِّ ذِهنٍ يتمسَّك بأوَّليَّات المَنطِق السليم. وسأضرِب لذلك مثلًا صارخًا:
ففي كتاب «شُبهات التغريب»٦ يُهاجِم المؤلِّف الاستشراق بمنهجٍ غريب؛ إذ لا تُوجَد طوال الكِتاب إشاراتٌ إلى المراجِع إلَّا في حالاتٍ تُعَدُّ على الأصابع، وحتى في هذه الحالات لا تُذكَر أرقام الصفحات أو دُور النشر أو سنوات الطبع. وليس هذا مُجرَّد نقدٍ أكاديمي، بل إنه يَمَسُّ صميم القضايا التي يُدافِع عنها المُؤلِّف، إذ إنَّ الاقتباسات الكثيرة التي تَرِدُ دون إشارةٍ إلى مصدرها، أو التي تتصدَّرُها عبارة «يقول فلان» … دون أيِّ تحديدٍ للمَوضِع الذي قال فيه ذلك، لا بد أن تُثيرَ عند القارئ الواعي إحساسًا بعدَم التصديق أو بأنه يَقرأ أحكامًا غير مُوثَّقة، لا يُستبعَد أن تكون مُلفَّقة.٧ وعلى سبيل المِثال ففي صفحتي ٢٠٧ و٢٠٨ يُشير المُؤلِّف إلى «واحدة من الوثائق الكُبرى التي تكشِف هدَف الحملة على الإسلام»، وهذه الوثيقة هي مَقال لجريدة التَّيمس الإنجليزية. وبغضِّ النظر عن السَّذاجة الفكرية التي تتَّضِح في إعطاء صِفَةِ «الوثيقة الكبرى» لمقالٍ في جريدة يَومِيَّة، فإن المُؤلِّف لا يذكُر اسم كاتِب المقال ولا رقْم العدَدِ ولا تاريخ اليوم أو السنة، فضلًا عن أنَّ نِصف الاقتِباس إضافات وشروح من عِنده لِما هو مكتوب. فكيف نَتوقَّع من القارئ الواعي أن يُصدِّق إشارةً كهذه وما الذي يمنعُه من الاعتِقاد بأنها من تأليف الكاتب نفسه؟ولكن، لنتأمَّل مثلًا أخطر، جاء في الفقرة الأخيرة من الكِتاب المذكور (ص٤٢٦)، وفيها يقول:ونحن نعرِف أنَّ مؤتمرًا خطيرًا عُقِد في إنجلترا في أوائل القرن التاسِع عشر، وخرج بمُقرَّراتٍ مَفادُها أنَّ الحضارة الغربية مُنهارة، فلكي يُطيلوا أمَدَ انهيارها (هكذا في الأصل) يَجِب القضاء على الوريث، وهو الأُمَّة الإسلامية بدِينها وتُراثِها وموقفِها (يقصِد: موقعها) الإستراتيجي، وقد عملوا على تَفتيت هذه الأمة لكي يُطيلوا في أمَدِ انهيارهم (!) ويُؤخِّروا سُقوط حضارتهم وأَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.أودُّ من القارئ أن يَتأمَّل هذا الاقتِباس لكي يُدرِك بعضَ ما فيه من عناصر التَّشويه الفِكري والافتِقار إلى أبسط مُقوِّمات المَنهج، بل وأوَّلِيَّات الثقافة العامة.
إنه يقول: «نحن نعرف.» فمن أين عرف، ومن أيِّ مصدر؟ ألا يَستطيع أيُّ كاتب، بمِثل هذه البداية، أن يُمرِّر على قُرَّائه أيَّ خَبرٍ مُلفَّق؟
ويقول: «مؤتمرًا خطيرًا.» ما اسم هذا المؤتمر؟ ومن الذي نَظَّمه؟ ومن الذين حضروه؟ وإذا كان قد عُقِدَ في «إنجلترا» ففي أيِّ مدينة؟
ويقول: «في أوائل القرن التاسِع عشر.» أليس للمُؤتَمرات تاريخ يُحدَّد بالسنة والشهر واليوم؟
هذه كلها أسئلة لا يُجابُ عنها بكلمةٍ واحدة. ولكنَّ الأخطر من ذلك هو «مضمون» الخبر نفسه. فإنجلترا، في أوائل القرن التاسع عشر، كانت في أوجِ طموحها الاقتصادي والسياسي، فكيف ينتهي مُؤتمَرٌ يُعقَد بعد بداية العصر الصناعي بقليل، ذلك العصر الذي غَزَت فيه مصنوعات إنجلترا العالم وأصبَحَت فيه جيوشُها وأساطيلها سيدة البر والبحر، كيف يَنتهي مؤتمر يُعقَد في هذه المرحلة بالذات إلى أنَّ الحضارة الغربية مُنهارة؟ وببساطةٍ شديدةٍ ينتهي المؤتمر نفسه، حسْب قول المؤلِّف، إلى أنَّ الأمة الإسلامية هي الوريث. ومتى؟ في الوقت الذي كانت فيه الأُمَّة الإسلامية مَنسِيَّة تمامًا، وفي الوقت الذي كانت تُعاني فيه من أشدِّ حالات التَّخلُّف؛ أي أنَّ الغَرب الفَتِيَّ الصاعِد كان يخاف من منطقةٍ كانت عندئذٍ تَعيش في ظُلمات الجهل، بلا موارد ولا طُموح ولا إمكاناتٍ بشرية أو مادية، فيعمل على تأخير انهياره (أو يُطيل أمدَ انهياره، حسب التعبير المُخطئ الذي كرَّره المؤلِّف مرَّتَين) عن طريق تَفتيتها. وهكذا اجتمع المؤتمر، في مكانٍ مجهول وزمانٍ غير معقول، لكي يَحيك مؤامَرةً ويُصدِر «مقرَّرات» ضِدَّ أُمَّةٍ لم يكن يَشعُر بها في ذلك الحِين أحد، يُفترَض أنها تُهدِّد الحضارة الغربية التي كانت عندئذٍ تقِف وحدَها بلا مُنافِس!
قد يرى القارئ أنَّني أطلْتُ في الحديث عن نصٍّ لم يكن يَستحقُّ أصلًا مثل هذا الاهتِمام، ولكنَّني أودُّ أن أؤكد أنَّ لهذه الطريقة المُشوَّهة في الكتابة أهمية عُظمَى في وقتنا الحاضر. فهي تُشكِّل وسيلةً أساسية لنقْل المعلومات ونَشر الثقافة لدى كثيرٍ من الجماعات الإسلامية المُعاصِرة، التي يقرأ أنصارها كُتبًا أو يَسمعون خُطبًا تحفل بأحكامٍ غير مُحقَّقة، وسُرعان ما تَتحوَّل تلك الأحكام إلى قوالب محفوظة يُردِّدها شباب مُغرَّر به عقليًّا على يد مُعلِّمين رُوحيِّين يتلاعَبون بعقول أتباعِهم كما يشاءون. والكتابات التي تتَّبِع منهج «نحن نعلم» هذا، تُباع على أوسَعِ نطاق، والمُؤلِّفون الذين يؤثِّرون على قُرَّائهم عن طريق ابتِكار أيِّ خبرٍ مُثير كهذا، هم، في ثقافتنا المعاصرة، ناجِحون إلى أقصى حدٍّ مع الأغلبية الجماهيرية غير الواعية، وليرجِع من يشكُّ في ذلك إلى إحصاءات مَعارِض الكُتب لكي يُدرِك خطورة تأثير هذا المنهج وسَعَةَ انتشاره.
-
(٢)
ولكن، لنسألْ أنفسنا: كيف يُحرِز منهجٌ واضحُ البُطلان كهذا نجاحًا واسِعًا إلى هذا الحد؟ وما هي الأسباب التي تجعل وصول مثل هذه الروايات المُلفَّقة إلى عقول الجماهير أيْسَرَ من وصول الرأي المُوثَّق، المُدعَم بالمصادر، والمُؤيَّد بالبراهين؟ إن التعليل، في رأيي، واضِح، يَكْمُن في طبيعة الجماعات التي يُحرِز هذا المنهج بينها نجاحًا هائلًا. فالجماعات الدينية ترتكِز في تفكيرها على مبدأ الإيمان الذي يُولِّد مَيلًا قويًّا إلى التصديق. وكما أنَّ المُوجِّهين الرُّوحِيِّين لهذه الجماعات يعملون على الإفادة من هذا المَيل إلى التصديق لدى أتْباعِهم، فإنهم في الوقت ذاته يَحرِصون على تَقويتِه وتأكيد اتِّجاههم إلى «الطاعة» ووأْد أيِّ نزوعٍ إلى النَّقد أو التساؤل في عقولهم. وهكذا فإن الأخْذَ بهذا المنهج في التأليف يخدُم غرَضًا مُزدوجًا، فهو يُساعد من جهةٍ على تمرير أية قصَّةٍ مُلفَّقة تخدُم أهداف المُؤلِّف دون الحاجة إلى بذْلِ الجُهد والعَناء الذي يقتضيه المنهج العلمي في الكتابة، وهو يدعم من جهةٍ أخرى رُوح التصديق والتَّبعِية والطاعة لدى القارئ، مما يَزيد من استعداده لقَبول هذا المنهج، ويجعل العلاقة الثقافية بين الكاتب وقارئه علاقة إرسال واستقبال فحسْب، لا نقدَ فيها ولا شكَّ ولا تساؤل.
وحصيلة هذا كلِّه هي ما نَشهدُه جميعًا من ترديد النُّقَّاد الذين يتَّخِذون المنظور الدِّيني لعباراتٍ محفوظةٍ عن الاستشراق، دون أية مُحاولةٍ لاستِقصاء أصل هذه الأحكام والتأكُّد من صحَّتها. والأمر الذي لا شكَّ فيه أن تَنشِئتَهم على قَبول فكرة السُّلطة، ومبدأ السمع والطاعة، يُسَهِّل قَبولَهم للأفكار الوارِدة في أيِّ مقالٍ تافِهٍ أو زعمٍ غير مُدعَمٍ في كتاب، عن «مؤامرات» المُستشرِقين التي يُفترَض وجودها في كلِّ سطرٍ من كتاباتهم، أو عن تَحيُّزات الفكر الغربي وعُيوبه وعَجزه بالقِياس إلى الفكر البديل الذي يُقدِّمونه. وما دام الأسلوب الذي يُنَشَّأ عليه العقل هو الاكتفاء باقتِباس النصوص والاستشهاد بها والاكتفاء بشهادتها على أنها أعظم حُجَّة وأبلغ دليل، فليس من المُستغرَب عندئذٍ أن يتحوَّل أيُّ نصٍّ يُعرَض عليهم إلى سُلطة فكرية لا تُناقَش.
وفي هذا الصَّدَد يَتبيَّن لنا بوضوحٍ أنَّ الحملة التي شنَّها الأزهر ضِدَّ طه حسين «ومنهجه الدِّيكارتي» بحُجَّةِ أنها نماذج «للتغريب» الفكري — وهي الحملة التي بعثَتْها بعض التيارات الإسلامية المُعاصِرة إلى الحياة من جديد — لم تكن في واقِع الأمر إلا دِفاعًا عن منهج «السُّلطة» والإيمان المُطلَق الذي يقوم عليه نَوع كامِل من التعليم. فالمنهج الدِّيكارتي لم يكن يُهاجَم لأنه غَربي المَنشأ، بقدْرِ ما كان يُهاجَم لأنه يدعو إلى الشكِّ والنَّقد واختِبار صحَّةِ المُسلَّمات واستدعائها أمام مَحكمة العقل. وتلك قِيَم فكرية تتجاوَزُ ديكارت، بل تتجاوَز الحضارة الغربية ذاتها، رغم أنها نِتاج مُؤكَّد لمرحلةٍ من مراحلها، فهي قواعد يُفيد منها الفكر الإنساني غربيًّا كان أم شرقيًّا. ومن هنا فإنَّ مُهاجَمة الأزهر لها كانت في واقِع الأمر دِفاعًا عن منهج التسليم والتصديق والإذعان ضِدَّ خطرٍ ساحِقٍ يُبدِّده. وهجومه على كِتاب «الشعر الجاهلي» و«الإسلام وأصول الحكم» كان في حقيقته هُجومًا على الجُذور المنهجية التي بُنيَت عليها هذه المُؤلَّفات، والتي يُمكن أن يؤدِّي تطبيقُها على مَيادين أخرى إلى نتائجَ أشدَّ خطورة. إنها هي ذاتها مَعركة ديكارت مع رجال الدِّين المَسيحيين، الذين لم يُهاجِموه من أجل مضمون فلسفته بقدْر ما هاجَموه من أجل منهجه الذي يُهدِّد بالامتِداد إلى أخطر المناطق وأشدِّها حساسيةً في ميدان الإيمان.٨ -
(٣)
أمَّا الخطأ المنهجي الثالث، الذي يَقَع فيه نُقَّاد الاستشراق من مُنطلَقٍ إسلامي، فهو ازدواجية المعايير؛ فهم في جميع الأحوال يُطبِّقون على الحضارة الإسلامية معيارًا، وعلى الحضارة الغربية معيارًا آخَر، دون أن يَنتبِهوا إلى التناقُض الذي يقَعُون فيه. ونستطيع في هذا الصَّدَد أن نُقدِّم أمثلةً لثلاثة أنواعٍ من ازدواجية المعايير هذه:
- (أ)
يرى مُؤلِّف كِتاب «المُستشرِقون والإسلام» في مُستَهلِّ الفصل الأوَّل من كتابه، أنَّ تأثُّر الغرب بالإسلام وتَشَبُّه أوروبا بالعرَب أيام ازدِهارهم، وخاصَّة في الأندلُس، هو أمرٌ جدير بالثَّناء. وهو ينقِل عن «دوزي» وصفًا لموقِف المُثقَّفين الإسبان الذين «سَحَرَهُم رنينُ الأدب العربي فاحتَقَروا اللاتينية وجعلوا يكتُبون بلُغةِ قاهِريهم دُون غيرها.» ويُعلِّق على ذلك بقوله: «نعم، لقد كانت الحضارة الغربية كلُّها قبَسًا من حضارة العرَب، لا سيَّما في أيام ازدِهار الأندلُس.» (ص١٧)، وفي الصفحة التالية يصِف المُتأثِّرين بالحضارة العربية والمُعجَبين بها بأنهم «عُقلاء الإسبان».
إنَّ من المُستحيل من الناحية المنهجية، أن نضَع مِعيارَين مُتناقِضَين في حالة تأثُّر حضارةٍ بحضارة أخرى مُتفوِّقة. فمن حقِّنا أن نَعتبِر هذا التأثُّر خيرًا، أو أن نعتبِرَه شرًّا. ولكن ليس من حقِّنا أن نعتبِره خيرًا في حالةٍ وشرًّا في حالة أخرى. فأيُّ منهج هذا الذي يَسمَح لنا بأن نفخَر بتأثُّر الغرب بالثقافة العربية، ونراه خيرًا على أوروبا، وننقُد في الوقت ذاته تأثير الأفكار الغربية في أبحاث العرب المُعاصِرين وننظُر إلى الاستشراق على أنه مُؤامَرة استِعمارية؟ ألم يكن في استِطاعة راهبٍ إسبانيٍّ من الأندلُس أن يصِف التأثير الفكري للعرَب بأنه غزوٌ ثقافي، ويتَّهِم «عقلاء الإسبان» بأنهم عُمَلاء وقَعُوا في فخِّ «الاستِعمار العربي» وفَقدوا هُويَّتهم وانسحَقَتْ شخصيتُهم في الحضارة العربية المُتفوِّقة؟ إنَّني لا أقول بالطبع بأنَّ هذا هو ما كان ينبغي أن يحدُث، وإنما أقول فقط إن من التناقُضِ أن نَكيل في موضوع التأثُّر الثقافي بكَيْلَين، فيُصبِح التأثير خيرًا وبركةً حين يأتي من العرَب، ويُصبِح مُؤامرةً وفخًّا حين يأتي من الغرب. والمنهج السليم — بغضِّ النَّظر عن مُيولِنا الذاتِيَّة — يُحتِّم علينا أن نأخُذ بمِعيارٍ واحدٍ في كلتا الحالتَين.
- (ب)
وإذا كان هؤلاء النُّقَّاد الإسلامِيُّون يَجعلون من اقتِراب المُستشرِق من احتِرام تعاليم الإسلام مِعيارًا لمكانة هذا المُستشرِق، فلا بد أن نَذكُر أنَّ هذا المِعيار ذاته يَنطوي على تَناقُضٍ واضح؛ إذ إنه يدعونا ضِمنًا إلى خروج الباحث عن عقيدته الخاصَّة لكي يُصبِح باحِثًا أفضل. وهكذا فإن المؤمن المُدافِع عن عقيدته يدعو الآخَرين إلى مُهاجَمةِ عقائدهم كيما يُصبِحوا مَقبولين. والمَثَل الصارِخ على ذلك نَجِدُه في كتاب «أضواء على الاستشراق»: فالمُؤلِّف يَمتدِح مُستشرِقًا اعتنق الإسلام، اسمه «إسحق رينيه»؛ لأنه تشكَّكَ في مسائل مُعيَّنة في العقيدة المَسيحية، مثل عِصمة البابا، وبُنوَّة المَسيح لله، وصَلْب المسيح، كما وجَدَ في الإنجيل «أشياء لا تَتَّفِق مع العقل في شيء» (ص٧٦). ولكنَّنا لو أجَزْنا لأنفُسنا أن نَنظُر إلى المَسيحي الذي يَتخلَّى عن دِينِهِ ويَجِدُه غير متفقٍ مع العقل على أنه «مُنصِف»، لكان من الواجِب لكي نكون مُتَّسِقين مَنهجيًّا أن ننظُر بصدرٍ رَحبٍ إلى المَسيحي الذي يبحَث في عقيدتِنا نحن بنفس الطريقة العقلانية النقدية، ولا نراه مُتآمِرًا دسَّاسًا مُفتريًا على الإسلام. هذا ما يقضي به المنطق السليم، ولكنَّنا نرفُض الاتِّساق ونُطبِّق معايير مُزدوَجة، فنؤكِّد بذلك الطابع الذاتي المَحْضَ لنَقْد الاستشراق من مُنطلقٍ إسلامي.
ولكي تكتمِل الصُّورة، فلا بد أن نُشير إلى أن بعضَ المُستشرِقين من ذوي النَّزَعات الدينية يرتكِبون هذا الخطأ نفسَه في بحثِهم للإسلام، فهم يُطبِّقون على هذا البحث أحدَثَ المعايير العلمية النقدية، ولكنَّهم يَستبعِدون هذه المعايير حين يكون الأمر مُتعلِّقًا بعقيدتِهم الخاصَّة، مَسيحية كانت أم يهودية؛ إنهم في الحالة الأولى عقلانِيُّون ناقِدون، وفي الحالة الثانية إيمانِيُّون مُذعِنون، وهو موقفٌ يَستحقُّ أن يُنقَد بكلِّ قوةٍ بوصفِه مثلًا مُؤسِفًا من أمثلة ازدِواجية المعايير.
- (جـ)
أمَّا المَثَل الثالث لهذه الازدِواجية، فإنه يبدو أشدَّ خفاءً من المَثَلَين السابِقَين، ولكنه في الواقِع لا يقلُّ عنهما خطورة؛ ذلك لأن هؤلاء النُّقَّاد الإسلاميين يَحكمون دائمًا على الحضارة الغربية بالسَّعي إلى السيطرة والتآمُر، فضلًا عن صفات الانحِلال والتمزُّق والاغتِراب والإغراق في المادِّية … إلخ. وفي مُقابِل ذلك فإنهم يَصِفون الحضارة الإسلامية بأنها هي المُتكامِلة وهي التي تجمَع بين الرُّوح والجَسَد في توافُقٍ سليم، وهي التي لا تعرِف أزمات القَلَقِ والتَّمزُّق … إلخ.
فلنسلِّم إذن بأنَّ هذه الصورة صحيحة — وإن كانت في كِلتا الحالتَين تحتاج إلى قدْرٍ كبير من المُناقَشة — ولنتساءل: هل المِعيار المُطبَّق واحدٌ في الحالتَين؟ الواقِع أنَّ هؤلاء النُّقَّاد يُطبِّقون على الحضارة الغربية مِعيار «الواقع»، وعلى الحضارة الإسلامية معيار «المَثَل الأعلى»؛ فالأوصاف التي يَنسبونها إلى الغرب تصِف واقِع هذا الغرب كما يراه هؤلاء، ولكن أوصافَهم للعالم الإسلامي لا تصِف واقِعَه، وإنما تصِف نموذجًا مِثاليًّا هو ذلك الذي يَرسُمه لنا الكِتاب والسُّنة والسَّلَف الصالح في صدْر الإسلام. وهم يَعترفون، بلا تردُّد، بأن هذا المَثَل الأعلى بعيدٌ كلَّ البُعد عن واقِع المسلمين الراهِن، ومع ذلك فإنهم لا يَرَون أيَّ تناقُضٍ في المُقارَنة بين الغرب «الموجود فعلًا» وبين إسلام «المَثَل الأعلى» في الآيات والأحاديث والسُّنَنِ الأولى. وهم لا يُقِيمون أيَّ وَزنٍ لواقِع العالم الإسلامي؛ لأنَّ هذا الواقِع في نظرِهم لا يُمثِّل «الإسلام». ولو اقترَب أحدُهم من الواقِع الفعلي للإسلام — كما يقترِب من الواقِع الفعلي للغرب — لوجدَ فيه أبشعَ صُور المادية والأنانية، وأفدَح الأزمات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وأسوأ أنواع المُمارَسة السياسية. وإذن، فحين نُوَحِّد المعيار، فنجعله هو «الواقع»، سيفقِد العالم الإسلامي تَميُّزَه بغَير شَك. أمَّا لو طبَّقْنا المعيار المِثالي على الحالتَين، فلا جِدال في أنَّنا سنَجِد في كتابات فلاسفة الغرب وشُعرائه وحُكمائه وأعمال فنَّانيه قدْرًا من المِثالِيَّة يَجعَلُه يَصمدُ على الأقلِّ في المُقارَنة مع الإسلام المثالي.
ولكن الذي يحدُث هو أنَّ هؤلاء النُّقَّاد يُطبِّقون المنهج المثالي، الملائم لنا، عند الحديث عن حضارتنا، ويُطبِّقون المنهج الواقِعي، فهو الملائم للغرب (وإن كان مُلائمًا لأوهامنا) عند الحديث عن حضارته.
- (أ)
-
(٤)
أمَّا الخطأ المنهجي الرابع لنُّقَّاد الاستشراق من المنظور الإسلامي، فهو إصرارهم على رفض كلِّ ما يخرج عن نطاق «الإسلام الرسمي» في مُعالَجة الحضارة الإسلامية. وقد لخَّص أنور الجندي هذا الموقف حين أكَّد أن «الاستشراق، بوصفه أداة التغريب والتبشير، يركز على موضوعَين: (١) التصوُّف ووحدة الوجود. (٢) الثورات المُضادَّة للإسلام، كالقرامِطة والزِّنج، مع وصفها بأنها إسلامية.»٩
وبطبيعة الحال، فإن الاستشراق لم يترُك بقيَّة الموضوعات دون بحث، ولكن مُجرَّد خَوضه في هذه الموضوعات الخارجة عن نطاق الإسلام الرسمي، إسلام الخُلفاء وفقهائهم، يُعرِّضهم لنقدٍ شديد. وواقِع الأمر أنَّ ما يهدف هؤلاء النُّقَّاد إلى تجنُّبه هو تصوير تاريخ الحضارة الإسلامية على أنه تاريخ بشري، له نقاط قوَّتِه ونقاط ضَعفه، أعني تاريخًا تحدُث فيه ثَورات ويتمرَّد فيه الناس على الحُكَّام إذا أحسُّوا أنهم مظلومون، ويرتكِب الحكام أنفسهم، في بعض الأحيان، أخطاء قاتلة. فالتاريخ الذي يُريدونه تاريخ للقداسة، ولأن هذا التاريخ «إسلامي»، فلا بد أن يُصبِح بدَوره فوق مستوى البشر الفانين ولا بد أن تُمحى منه تلك المظالم التي جعلت الناس من آنٍ لآخر يَثورون أو يتمرَّدون. كذلك فإن التصوُّف بدَوره خروج على الخطِّ الرسمي، وفيه تَجاوُز للتفسيرات المُباشرة، ومِنْ ثَمَّ كان من الضروري استبعاده. ولو تُرِك الأمر بيد هؤلاء المُفكِّرين لاستأصلوا من التاريخ بأسرِه كلَّ إشارةٍ إلى ما يخرج عن ذلك التيار الرئيسي الذي تُمثِّله المؤسَّسة الرسمية للخِلافة.
ومن الصَّعب، في هذه الظروف، أن يتعرَّف المرء على هذا التاريخ بوصفِه تاريخًا لأناسٍ عاديِّين لهم أخطاؤهم وعيوبهم؛ فكل ما يخرُج عن إطار المؤسسة ذاتها لا بد أن يكون كُفرًا وزندقةً ومُروقًا. وكل مُحاولةٍ لدراسة الحركات التي تؤكِّد خضوع التاريخ الإسلامي للقوانين التي يخضَع لها أيُّ تاريخ بشرى آخر، تُقابَل بالاستِنكار والتشكُّك والاتِّهام. وبمِثل هذا المنهج يفقِد التاريخ أهم عناصره: عُنصر الصراع بين القوى المُتعارِضة، ويرتدي التاريخ عباءةً مُزيفة بيضاء من غير سوء.
•••
إن نقد الاستشراق من المنظور الإسلامي يَنطوي في نهاية الأمر على مبدأ أساسي لا يُصرِّح به أصحاب هذا المَوقف، ولكنه موجود ضمنًا في كلِّ حرفٍ مما يكتُبون، هو أننا أصحاب حقيقة مُطلَقة، وكلُّ من يؤيِّد حقيقتنا المُطلَقة على صواب، وكلُّ من يُعارِضها على خطأ. وإني لأكاد أوقِنُ بأن ردَّ فعلهم إزاء نقدٍ كازدواجِيَّة المعايير مثلًا هو أنه لا بدَّ أن يكون هناك معيار مُزدَوج؛ لأن الحقَّ لا يُمكن أن يُعامَل كالباطل، ومن المُستحيل وضعهما على قدَم المساواة. فتأثُّر الحضارة الغربية بالحضارة الإسلامية مثلًا شيء لا بد منه؛ لأنَّ إشعاع الحقِّ على الباطل ظاهرة إيجابية دائمًا، أمَّا تأثُّر الحضارة الإسلامية بالغَرْب في الوقت الراهن فهو أمرٌ مذموم؛ لأن الباطل فيه يُلوِّث الحق.
وهكذا تُواجَه جميع الانتقادات بهذا المبدأ الذي يُغلِق الطريق أمام كلِّ مُناقَشة منطقية، مبدأ الحقيقة الواحدة المُطلَقة التي نَمتلِكها «نحن» ولا يَمتلِكها «الآخرون». ولو رددتَ عليهم بأن هؤلاء «الآخرين» لدَيهم بدَورهم حقيقتهم المُطلقة، وأنهم يُسمُّون أنفسهم «نحن»، على حين أنَّنا في نظرِهم «الآخرون»، المحرومون من الحقيقة المُطلَقة — لو قلتَ ذلك لما كانوا على استعدادٍ لسماعك؛ لأن مكانة الحقيقة التي يمتلكونها لا يُمكِن أن تَمسَّها تلك الأفكار المنطقية «السطحية».
ومعنى ذلك، بعبارةٍ أخرى، هو أن النقد الإسلامي للاستشراق يرتكِز أساسًا على موقف إيماني، ولا يُثير مشكلةً حقيقية على المستوى العقلي، ولا يرتكز على حُجَجٍ قابلة للنِّقاش. ومِنْ ثَمَّ كان هذا المنظور الدِّيني في نقد الاستشراق هو أضعف المنظورات وأقلَّها جدارةً بالمُناقَشة.
إنه منهج يؤدِّي إلى طريقٍ مسدود، يغلِق كلَّ ثقافة على نفسها، ويرفُض — من حيث المبدأ — رؤية الغَير.