النقد السياسي الحضاري

كان الجديد في موقف الباحثين العرب من الاستشراق، هو ظهور نوعٍ آخر من النقد لم تكن دوافعه دينيةً على الإطلاق، وإنما كانت سياسيةً حضارية في المحلِّ الأوَّل. وعلى حين أنَّ أصحاب النقد الديني كانوا يهدفون إلى الدفاع عن العقيدة الإسلامية ضِدَّ «التشويهات» أو «الانحرافات» التي تتميَّز بها نظرة كثيرٍ من المُستشرِقين إلى الإسلام، فإن أصحاب النقد السياسي الحضاري يهدفون قبل كلِّ شيء، إلى فضح الأهداف السياسية والتشويهات الثقافية للاستشراق من حيث هو أداة لهَيْمنة الغرب على الشرق في المَيدان الفكري.

ومن الجدير بالذِّكر أنَّ هاتَين الفئتَين من النُّقَّاد، الدينية والسياسية الحضارية، لا تعترِف بالأُخرى، ولا تعتمِد عليها أو حتى تُشير إليها في نقدِها للاستشراق؛ فالإسلاميون لا يُشيرون من قريبٍ أو بعيد إلى نُقَّاد الاستشراق من المنظور السياسي الحضاري، ولا يَقبلون أن يَستعينوا بحُجَجِهم، حتى ولو كان ذلك صورة ثانوية أو تكميلية. والسبب في ذلك واضح، هو أنهم يُدافِعون عن الإسلام كعقيدة، على حين أنَّ الآخرين يتحدَّثون في كثيرٍ من الأحيان عن «الشرق» بوجهٍ عام، وإذا تَحدَّثوا عن الإسلام فإنما يقصِدون به الإسلام السياسي أو الإسلام كحضارة، ولا شأن لهم بتفنيد «افتراءات» المُستشرِقين على العقيدة.

ويُمكِننا أن نعُدَّ ظهور هذا النوع — الجديد نسبيًّا — من نقد الاستشراق مظهرًا من مظاهر النُّضج العقلي للثقافة العربية الحديثة. فهو يؤكِّد أنَّ عهد الانبِهار بالثقافة الغربية قد انتهى، بل إنه يؤذِن ببَدْء العهد الذي تظهر فيه ردود فعلٍ قوية مُتماسِكة لدى المُثقَّفين العرَب على الثقافة الغربية التي تُكوِّن الجزء الأكبر من حصيلتهم. ولكن يظلُّ هذا النقد برغم كلِّ شيء «ردَّ فعل»، وليس فعلًا أصيلًا؛ لأنَّ الفعل الأصيل في الحالة التي نحن بصدَدِها ليس نقد الاستشراق وإنما الاستِغناء عنه ببديلٍ تُعاد فيه دراسة الثقافة العربية على نحوٍ يتمُّ فيه التخلُّص من أخطاء المُستشرِقين وتجاوُز تَحيُّزاتهم. وهذا الفعل الأصيل، كما نعلم جميعًا، لم يحدُث بعد.

بل إنَّ هذا النقد للاستشراق، حتى من حيث هو مُجرَّد ردِّ فعل، يُثير تساؤلاتٍ أساسية سنطرَحُها فيما بعد بمَزيدٍ من التفصيل، ولكن تكفينا الإشارة إليها في سياقنا الحالي. فإلى أيِّ مدًى تجاوَز نُقَّاد الاستشراق هؤلاء، المنظور الغربي الذي ينتقدونه؟ وهل يُعَدُّ النقد الذي يقومون به نقدًا جِذريًّا بحق، إذا كانت جميع المفاهيم التي يَستخدمونها، وجمع المناهج التي يُطبِّقونها، مُستمدَّةً من الثقافة الغربية التي نبع منها الاستشراق، هل نستطيع أن نواجِهَ الغرب حقًّا بذلك النقد الذي يظلُّ في مُجملِه وتفصيلاته دائرًا — من الناحية الفكرية — في فلك الثقافة الغربية؟ هل تستطيع حركة نقد الاستشراق من المنظور السياسي الحضاري، كما نجِدُها لدى المُثقَّفين العرب الذين تُحدِّد الثقافة الغربية أفقَهم العقلي، أن تدفَع عن نفسها تُهمة كونها شكلًا من أشكال النقد الذاتي للحضارة الغربية نفسها؟

هذه أسئلة نكتفي بطرحِها الآن، بهدف إيضاح الاختلاف الكبير بين المُنطلَق الإسلامي والمُنطلَق السياسي الحضاري في نقد الاستشراق. أمَّا المُعالَجة التفصيلية لها، فلا بدَّ أن تنتظِر حتى يقطع هذا البحث مراحله الهامَّة.

•••

يُلخِّص إدوارد سعيد مَوقفه من الاستشراق، الذي يُقدِّم أساسًا لنقده السياسي الحضاري له، بقوله: «وعلى ذلك فالاستشراق ليس مُجرَّد موضوعٍ سياسي للبحث، أو مَيدان تعكسه الثقافة أو الدراسة أو المؤسَّسات الأكاديمية بطريقةٍ سلبية، كما أنَّهُ ليس مجموعة النصوص الضخمة أو المُتنوِّعة عن الشرق، ولا هو يُمثِّل أو يُعبِّر عن مؤامرة إمبريالية «غربية» لعينة من أجل إخضاع العالم «الشرقي». بل إنه توزيع للوَعي الجيوبوليتيكي على نصوصٍ جمالية وأكاديمية واقتصادية وسوسيولوجية وتاريخية وفيلولوجية، وهو توسيع لتمييز جُغرافي أساسي (هو تقسيم العالم إلى جزأين غير مُتساوِيَين، الشرق والغرب) ولسلسلةٍ كاملة من المصالح يخلُقها الاستشراق ويُحافِظ عليها من خلال الكشف العلمي والتحقيق الفيلولوجي والتحليل النفساني والوصف الجغرافي والاجتماعي … والواقع أنَّ الفكرة الحقيقية التي أدافِع عنها هي أن الاستشراق هو ذاته بُعدٌ هامٌّ من أبعاد الثقافة الحديثة السياسية والعقلية، وليس مُجرَّد مُمثِّل لهذه الثقافة، ومِنْ ثَمَّ فإنه يَتعلَّق «بعالمنا» أكثر مما يَتعلَّق بالشرق.»١ وهو يزيد هذه الفكرة الأخيرة إيضاحًا فيقول في موضع آخَر إن الاستشراق يرتبِط بمصدره، أي الغرب، أكثر ممَّا يرتبط بموضوعه، أي الشرق، فللاستشراق صِلة وثيقة بالحضارة المُسيطِرة التي أنتجَته.٢
في هذا الإطار العام يُمكن القول إن إ. سعيد قد جمع حول آرائه مدرسةً كاملة في نقد الاستشراق، تطرَح مجموعةً من القضايا وتُوجِّه إليها انتقاداتها لكونِها مُسلَّماتٍ لا تتمُّ مُناقشتها، أو مُغالطات صريحة، أو تعبيرًا عن تَحيُّزات ظاهرة، أو عن افتقار إلى شروط الموضوعية العلمية:
  • (١)

    فالاستشراق تأثَّر بتراثٍ قديم انحدَر إليه من تَحيُّزات العصور الوسطى الأوروبية ضِدَّ الإسلام (وبخاصَّة نتيجة للعداء الدَّعوي بين الإسلام والمسيحية في الحروب الصليبية)، وهذا التُّراث كامِن في كتابات المُستشرِقين بحيث يكون من الصَّعب عليهم إن لم يكن من المُستحيل التخلُّص منه.

  • (٢)

    وهو قد تأثر بالاعتبارات السياسية والنُّزوع إلى السيطرة، بحيث أصبح يعكِس نظرة الغرب «القوي» إلى الشرق الضعيف. وهكذا كانت المقولات التي يَستخدِمها الاستشراق مقولاتٍ تتَّسِم أساسًا بالمركزية الأوروبية، وكانت نظرةً إلى الشرق تُستمَدُّ كلها من علاقة مُفترضَة بين هذا الشرق والغرب، ولا تتناوَل الشرق بوصفِه كيانًا مُستقلًّا له تطوُّره الخاص.

  • (٣)

    وهو يَتحدَّث عن كِيانٍ ثابتٍ باسم «الشرق»، أو «الإسلام»، ويُضفي على هذا الكِيان صفاتٍ مُتحجِّرة. أي إنه يُنكر الشرق كدِينامِيَّةٍ وتاريخ، ويُنكر ما فيه من تَعدُّدٍ وتنوع، وإنما يجعل منه «جوهرًا» غير قابل للنموِّ أو التغيير.

هذه الانتقادات، كما هو واضح، تُثير مشكلات مُتعلِّقة بالمنهج، وبالأبستمولوجيا أو علم المعرفة من جهة، وبمَضمون العِلم الاستشراقي من جهة أخرى. وعلينا أن نسير في بحثنا للموضوع وفقًا لهذا التقسيم، لا لكي نبحث في مدى صِحَّة الاتهامات التي تُوجَّه إلى الاستشراق فحسْب، بل لكي نَختبِر — وهو الأهم — موقف ناقدي الاستشراق أنفسهم، ونرى إلى أيِّ حدٍّ كانت انتقاداتُهم مُتَّسِقة مع ذاتها.

المشكلات المنهجية والأبستمولوجية

يُثير النقد السياسي والحضاري للاستشراق مشكلة الموضوعية في العلوم الإنسانية من خلال البحث في مدى نزاهة البحث الاستشراقي وحريته. فالبحث في الشرق، كما يرى أ. سعيد، لا يُمكن أن يكون موضوعيًّا أو حرًّا؛ لأنه خاضع دائمًا لاعتباراتٍ تُبعِده عن النزاهة، كالاستِعلاء أو الرغبة في السيطرة أو التمركز الأوروبي حول الذات، فضلًا عن تداخل الخيال والصُّوَر النَّمطية والاتِّجاهات النفسية المَوروثة منذ العصور الوسطى الأوروبية. فهُناك إذن تشويه أساسي في الاستشراق، بحيث إنه في حقيقته أقرَب إلى أن يكون مظهرًا للقوَّة التي تُمارِسها أوروبا والأطلسي على الشرق، منه إلى أن يكون وَصفًا صادِقًا لأحوال الشرق.٣ فهو مُحاولة من عُلماء ينتمون إلى قوى كبرى ذات مصالح ضخمة، من أجل فَهم عالم مُغايِر لهم، تَوطئةً للسيطرة عليه. ومن هنا كانت العوامل السياسية فيه مُتداخِلة مع العوامل الثقافية، وكانت المؤسَّسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي التي تضمَن استمراريته، وإحكام الروابط بين حلقاته.
ولكن هذا النقد يَفترِض مجموعةً من المُسلَّمات التي لا تَصمُد كثيرًا أمام الاختبار العقلي الدقيق:
  • (١)

    أولى هذه المُسلَّمات هي إمكان قيام موضوعية خالِصة في ميدان العلوم الإنسانية. والواقِع أنَّ أبحاث عالم اجتماع المعرفة، والتاريخ الاجتماعي للعلم، تتَّجِه إلى تأكيد وجود طابع أيديولوجي تخضَع له كلُّ معرفةٍ بشرية بدرجة أو بأخرى، وتُعمِّم هذا الحُكم بحيث يسري حتى على تلك العلوم التي نفترِض فيها أكبر قدرٍ من الحِياد والموضوعية، كالعلوم الطبيعية. وإذا كانت هذه الحالة الأخيرة المُتطرِّفة تقبَل النقاش، فمِن المؤكد أنَّ العلوم الإنسانية تكشِف عن هذا الطابع الأيديولوجي بوضوح أكبر. ومِنْ ثَمَّ كان من حقِّنا أن نَطلب إلى من ينقُدون الاستشراق بسبب افتِقاره إلى الموضوعية، أن يُحدِّدوا لنا ذلك المعنى المجهول «للموضوعية» الذي يُطالِبون به، لكي نرى إن كانت هذه مُمكِنة أصلًا في أيِّ علمٍ إنساني. إن المُؤرِّخين على سبيل المِثال قد اعترفوا منذ وقتٍ طويل بأنَّ المؤرِّخ لا يستطيع أن يكون على الدَّوام مُشاهدًا مُحايدًا لا يتدخَّل في تفسير الأحداث من منظوره الخاص، وأنَّ كل تأريخ هو «رؤية» وليس رواية تامَّة النزاهة، مُتحرِّرة من كافة التحيُّزات. وهكذا يبدو أن نُقَّاد الاستشراق يتوقَّعون منه المُستحيل، أو ينتقدونه لأسبابٍ يشترِك فيها مع كلِّ أنواع المَعرفة التي تتَّخِذ لها موضوعًا من الإنسان — أعني — إذا كان إنسانًا ينتمي إلى حضارة مُعيَّنة.

    وبطبيعة الحال فإن من حقِّ القارئ أن يطلُب إلى ناقد الاستشراق أن يُقدِّم إليه البديل المنهجيَّ الذي يُريده. ففي وُسعِنا أن نوافِق هذا الناقد — جدَلًا — على أن الاستشراق يُقدِّم للشرق صورةً شوَّهَها التحامُل والرغبة في السيطرة، ولكن من الواجِب عندئذٍ أن نسأله: كيف كنتَ تُريد منه أن يُصوِّر الشرق؟ فإذا بحثنا عن ردٍّ على هذا السؤال، واجهَتْنا إجابات أقلُّ ما تُوصَف به هو أنها غير مُقنِعة.

    ولنأخُذ موضعًا من المواضِع التي نستطيع أن نَستنتِج منها البديل المطلوب، فسعيد يَضرِب مثلًا بكتاب «وصف مصر» الذي ألَّفه العُلماء المُصاحِبون لنابوليون في الحملة الفرنسية، فيقول إنه نموذج لكُتُب الاستشراق الأخرى، إذ كان هدَفُه هو أن يجعل الشرق مفهومًا، ويجعل الإسلام مأمونًا، بالنسبة إلى الغرب. ويُعلق على ذلك بقوله: «ذلك لأنَّ الشرق الإسلامي سيظهر من الآن فصاعدًا على أنه مقولة تُعبِّر عن قوَّة المُستشرِقين، لا عن الشعب الإسلامي كبشر، ولا عن تاريخهم كتاريخ.»٤ من هذا التعليق نستطيع أن نَستنتِج أنَّ البديل الذي يُراد أن يَحلَّ مَحلَّ المنهج الاستشراقي، هو أن يَنسلِخ الباحث الغربي عن ماضيه وثقافته لكي يُعايِشَ شعبًا آخَرَ وينظُر إليه من منظورٍ خاصٍّ بهذا الشعب وحده، وهو مَطلبٌ مُستحيل. بل إن الأمر يَصِل إلى حدِّ وَصف المناهج العلمية الأوروبية التي استُخدِمت في الكتاب بأنها تعبير عن السيطرة الأوروبية،٥ وكأن المطلوب هو التخلِّي عن مُستوًى مُعيَّن بلَغَتْه طرُقُ البحث العلمي — وهو مستوًى يستحيل التراجُع فيه أو التنازُل عنه — من أجل إبعاد شُبهة السَّيطرة.
    وربما كان في وُسعنا أن نَستنتِج البديل المطلوب بصورةٍ أوضَحَ من ذلك النصِّ الذي يقول فيه مُؤلِّفُنا إنَّ المُستشرِق يقدِّم في تصويره دائمًا «معرفة لا تتَّصِف أبدًا بأنها خام، أو مُباشِرة بلا توسُّط، أو موضوعية فحسْب Never raw, unmediated or simply objective»،٦ وهكذا يبدو أنَّ المطلوب من المُستشرِق، لكي يتخلَّص من الاتِّهام بالتشويه، هو أن يُقدِّم المَعرفة في صُورتِها الخام، بلا توسُّط، وفي موضوعِيَّتها المُجرَّدة. فهل هناك باحِث يستطيع أن يُقدِّم معرفةً كهذه في مواجهته لحضارة أخرى؟ وهل مثل هذه المعرفة أصلًا مُمكِنة في مَيدان بحث الإنسان للإنسان؟ وهل سيكون هذا الشيء الهُلامي الغامِض مُفيدًا، حتى لو أمكن تقديمه في صورته الخام، بلا تفسير أو «توسُّط»؟
    على أيَّةِ حال، فمن المُلفِت للنَّظر أنَّ الكاتِب نفسه يُؤكِّد استحالة الوصول إلى هذا الغرَض الحيادي المُطلَق في مَيدان المعرفة الإنسانية بوجهٍ عام. فبعدَ أن يؤكِّد أن الغرب أساء تصوير الإسلام بصورةٍ أساسية، يتساءل إنْ كان من المُمكن قيام تصوير Representation صحيح لأيِّ شيء، ويرى أنَّ أيَّ تصوير يخضَع للغة القائم به وثقافته ومُؤسَّساتِه وَجَوِّه السياسي، ويتمُّ في مَيدان يتحكم فيه تُراثٌ وتاريخٌ وجوٌّ عقلي لا يستطيع الباحث المُنفرِد أن يستقلَّ عنه، وإن كان يُسهِم بالجديد فيه. وهكذا فإن أيَّ بحثٍ جديد يُحدِث قدرًا من التغيير في مَيدانه، ولكنه يُساعد في الوقت نفسه على تثبيت هذا المَيدان.٧
    هذا الإدراك لفكرةٍ مألوفة هي النسبية العقلية والثقافية، وتطبيقه على جميع الحالات التي يقوم فيها باحِث ينتمي إلى ثقافةٍ مُعيَّنة بتصوير ثقافة أخرى، كفيل بأن يُخفِّف إلى حدٍّ بعيد من غَلواء الأحكام التي أُطلِقت من قَبْل على الاستشراق. فالمُستشرِق وفقًا لهذا الرأي يخضع لنفس القيود التي يَخضَع لها عالِم الاجتماع والناقد الأدبي والمُؤرِّخ. ومن هنا كان «العظم» على حقٍّ حين أشار إلى فكرة النسبية هذه قائلًا إنها تُعفي الباحِث الغربي من أية مسئولية عن التشويه المُتعمَّد لصورة الشرق؛ لأنه بذلك إنما يَستجيب لصفةٍ تنتمي إلى طبيعة العقل نفسه، وهي أنه يُحيل كلَّ شيءٍ يُكوِّن لنفسه تصورًا عنه، إلى شيءٍ ملائم له.٨

    والفكرة التي نَودُّ أن نُدافِع عنها هي أنَّ رؤية المُثقَّف الذي ينتمي إلى حضارة معينة، لحضارة أخرى، هي رؤية تتمُّ في ظروفٍ بالغة التعقيد، ولا يُمكِن إخضاعُها لذلك النَّمَط الواحد الذي حاول «سعيد» أن يُخضِع لها الرؤية الاستشراقية، أعني نَمط التشويه الذي يَتمُّ بدافِعِ القوة والسيطرة والحماس بالتفوُّق. وسوف تتكشَّف لنا هذه الحقيقة خلال هذا البحث بالتدريج.

  • (٢)
    يقَع مؤلِّف كتاب «الاستشراق» في خطأ الانتِقائية. فهو منذُ مُستهلِّ كتابه يعترِف بوضوحٍ بأن قضيَّته الأساسية في الرَّبط بين الاستشراق والإمبرالية تنصَبُّ على الاستشراق الفرنسي والإنجليزي، ثم الأمريكي في العهد القريب. وهو يعترِف بأهمية الاستشراق الألماني والإيطالي والهولندي والسويسري (ونستطيع أن نُضيف: الرُّوسي والمَجَري والإسباني والفنلندي، … إلخ)، ولكنه يرى أنَّ أحكامه لا تنطبِق على هذا النوع الأخير، الذي يستحقُّ أن يُكتَب عنه بطريقةٍ مُستقلَّة. وهو في موضع آخر يُؤكد أن النوع الأوَّل، أي الإنجليزي والفرنسي، هو الأساس، وهو الذي يجمَع بين الجوانب الثقافية والتجارية والاستِعمارية والخيالية في مركبٍ واحد. «إنَّ وجهة نظري هي أنَّ الاستشراق مُستمَدٌّ من تلك الصِّلة الوثيقة الخاصَّة التي تربِط بين إنجلترا وفرنسا وبين الشرق، الذي كان يعني حتى نهاية القرن التاسِع عشر الهند وأرض الكتاب المُقدَّس فقط.»٩

    وربما اعترَض بعض الباحثين على الحُكم القائل إن الاستشراق الإنجليزي والفرنسي أهمُّ من الألماني والإيطالي والروسي، ولكن المسألة الهامَّة في نظرِنا لا تكمُن في مثل هذا الاختِلاف في التقويم، ففي استطاعتِنا أن نقبل هذا الحكم على علَّاته، ولكن يظلُّ السؤال الأهمُّ هو: كيف استطاعَتِ الحضارة الأوروبيَّة أن تُنتِج نوعًا آخر من الاستشراق، لا تختلِط فيه الأطماع التوسُّعية بالاعتِبارات العلمية؟ إن معنى ذلك هو أنَّنا نستطيع أن نتصوَّر استشراقًا بدون هَيمنة، أو بدون مَضامين سياسية. ووجود هذا النوع معناه أنَّ الحضارة الغربية استطاعَت أن تُنتِج دراسة للشرق لا تَخضَع — أو لا تخضع في المحلِّ الأوَّل — لمَطالِب مجتمع مُتفوِّقٍ يسعى إلى السيطرة. وهذه الظاهرة ذاتها يُمكن أن تُلقِي ظلًّا من الشكِّ على قضية سعيد بأكملها، إذ لا يعود الخضوع للإمبريالية هنا سِمةً مُميزة للاستشراق من حيث هو مؤسَّسة عِلمية، بل يُصبِح سِمةً تُميِّز مُجتمعات مُعيَّنة، أبدَتِ اهتمامًا خاصًّا بالاستشراق تحقيقًا لأطماعها الخاصَّة، وإن لم يكن مُنتمِيًا إلى «جوهر» الاستشراق في ذاته. ويترتَّب على ذلك أنَّ التركيز على الاستشراق الفرنسي والإنجليزي، والأمريكي فيما بعد، معناه انتِقاء العَيِّنة التي تخدُم استِنتاجًا وُضِع مُقدَّمًا، وتمَّت البرهَنَةُ عليه من خلال النماذج المؤيِّدة له وحدَها.

  • (٣)
    وهناك نُقطة ضَعفٍ ثالثة تُميِّز مَوقف عددٍ كبير من نُقَّاد الاستشراق في العالم العربي المُعاصِر، هي وقوعُهم في شكلٍ من أشكال المُغالَطة المَنشئيَّة Genetic Fallacy، فمن الخطأ كما يَعرِف كلُّ دارسٍ للمَنطِق أن نَخلِط بين مَنشأ الشيء أو أصله وبين حالته الراهنة. ومن المُمكِن جِدًّا أن يكون الاستشراق، في بلادٍ مُعينة، قد نشأ تلبيةً لحاجات استِعمارية، ولكن هذا الأصل لا يَتعيَّن أن يُلازِمه، ويؤثِّر في حُكمنا عليه، طوال مَساره اللاحِق؛ ذلك لأنَّ العِلم يكتسِب بمضيِّ الزَّمن قُدرةً على التطوُّر المُستقلِّ عن الأصل الذي نشأ منه، ومن المُمكن أن يتباعَدَ بالتدريج عن هذا الأصل إلى حدِّ السَّير في اتِّجاهٍ مُضادٍّ له. ومن طبيعة العِلم أن تُصبِح له، بحُكم المُمارسة المُستمرَّة، حياته الخاصة، ونموه الخاص، بغضِّ النظر عن الظروف التي نشأ فيها والدَّوافع التي أدَّتْ إلى ظهوره.

    ونستطيع أن نضرِب لذلك أمثلةً لا حصر لها، تنتمي إلى ميادين العلوم الطبيعية والإنسانية معًا. فعلم الفلك ظلَّ طوال الجُزء الأكبر من تاريخه مُرتبطًا بالتَّنجيم وقراءة الطالع، وحتى عندما أصبَحَ علمًا دقيقًا في مَطلَع العصر الحديث، ظلَّ لفترةٍ غير قصيرة مُحتفِظًا بآثارٍ من هذا الأصل الأوَّل. ولكن مِمَّا يدعو إلى السُّخرية بطبيعة الحال أن نَحكم على إنجازات عِلم الفلك المُعاصِر من خلال الأصل الذي نشأ منه. ومثل هذا يُقال عن الكيمياء، التي ترجِع جُذورها إلى أوهام السيمياء وخُرافاتها. وكلُّنا نعلَم أنَّ علوم الفضاء قد نشأت في ظروف الحرب الباردة وارتبَطَت بأهدافٍ عسكرية عُدوانية أو دفاعية، ولكن هل يستطيع أحدٌ أن يُنكِر أن كثيرًا من إنجازات هذه العلوم قد استقلَّت عن الأصل الذي نشأت منه، وأن قِيمتَها في الحاضر والمُستقبَل تتجاوَزُ بكثيرٍ نطاق الأغراض العسكرية؟ وأخيرًا، فإن الأنثروبولوجيا كانت مُرتبِطة بالاستِعمار بصورةٍ صريحة لم يُنكِرها مؤسِّسو العِلم ذاته، فالغرب المُتفوِّق كان يسعى إلى فَهم الشعوب البدائية والقديمة «من الداخل» كيما يَستطيع أن يُحكم سيطرته عليها (وهو في هذه الناحية يسير في خَطٍّ مُتوازٍ، بصورةٍ مُلفِتة للنظر، مع الأصول الأولى للاستشراق). ولكن هل يعني ذلك أن نُنكِر القِيمة التي اكتسبَها هذا العلم بعد أن أصبح له مساره الخاص، واكتسب صفاتٍ جديدة تختلِف عن الأصل الذي بدأ به؟ هل ينبغي أن تظلَّ الأنثروبولوجيا علمًا «استعماريًّا» إلى الأبد، لمُجرَّد أنَّ نشأتها كانت كذلك؟

  • (٤)

    أمَّا المُلاحَظة الأخيرة على النقد السياسي للاستشراق، فتُشير إلى تناقُضٍ كامِنٍ في صميم هذا النقد؛ ذلك لأنَّ الِاستشراق وفقًا لأصحاب هذا النقد هو من جهةٍ أحد الأسلحة التي يَستخدِمها الغرب المُتفوِّق من أجل السيطرة على الشرق؛ وهو لهذا السبب ليس عِلمًا خالصًا، أو موضوعيًّا، أو حرًّا، وإنما هو عِلم مُشوَّه. وفي رأينا أن هاتَين القضيَّتَين مُتناقِضتان، فإذا سلَّمْنا بالقضية الأولى، كان من الضروري أن نرفُض الثانية أو نحصُرَها على الأقلِّ في أضيقِ نطاق.

وفي هذا الصَّدد، نودُّ أن نقتبِس نصًّا من مَقالٍ حديث العهد، يظهر فيه هذا التناقُض بوضوحٍ تام:

– لماذا يُريد الغربيُّون مَعرفة كلِّ شيءٍ عن الشرقيِّين وعن المُسلمين؟

– الإجابة في نظرِنا تتلخَّص في أمرَين: الأمر الأوَّل: أنَّ المعرفة الكاملة عن «الآخر» تُسهِّل للشخصِ المعنيِّ طريقة وكيفية التعامُل مع هذا الآخر، وعلى كلِّ الأصعدة الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية. الأمر الثاني: أنَّ دراسة الحضارة الإسلامية داخل إطار المشروع الثقافي الغربي، وبالمناهج والمفاهيم والمقولات والأفكار المُسبَقة، والنوايا غير الخالِصة للغرب الاستِعماري، كلُّ ذلك يُمكِّنه من تقديم هذه الحضارة لأصحابها كما يُريد لها هو أن تكون.١٠
هناك إذن — وفقًا لهذا الرأي — هدفان للاستشراق: التَّعامُل الناجِح مع الآخَر الذي يصِل إلى حد «المعرفة الكاملة»، ثُمَّ عرض الحضارة الإسلامية للمُسلمين كما يُريد الغرب لهم أن يرَوها، أي عرضها عرضًا مُشوَّهًا ومُزيَّفًا ومَشوبًا بالخِداع. فكيف يَستطيع الاستشراق تحقيق هذَين الهدفَين معًا؟ إنَّ الهدف الأوَّل يقتضي فَهم «الآخر» فهمًا صحيحًا؛ لأنَّ التعامُل الناجِح يُصبِح مُستحيلًا إذا كان المُستشرِقون يغشُّون أنفسهم ويغشُّون جمهورهم، كما هو وارِدٌ في الهدف الثاني. فإذا كان الاستشراق هو الأداة الثقافية المُسيطرة الاستعمارية، فلا بد أن يكون فيه على الأقلِّ قدْرٌ كبير من الحقائق، بدليل أنه يُمهِّد لهذه السيطرة بالفعل. ولو كان التشويه والتزييف هو الغالِب عليه لكان معنى ذلك أنَّ الاستشراق مُعوِّق للاستعمار وليس مُساعدًا له. وقد أدرك هذه الحقيقة أحد الباحثين العرَب حين أشار إلى أنَّ دراسات المُستشرِقين لم تكن جميعها مُتعلقة بشرقٍ وَهْمي، ولو كانت كذلك لما فهمونا وسيطروا علينا.١١
لنُسلِّم بأنَّ الاستشراق معرفة من أجل القُدرة والسيطرة Savoir Pour Pouvoir، ولنتساءل: ألم يَكُن هذا هو شِعار العلم الغربي، سواء منه الطبيعي والإنساني، منذ عهد بيكن حتى اليوم؟ ألم يُطالِب ديكارت بمعرفةٍ تجعلنا «سادة الطبيعة ومالِكيها» Maîtres et Possesseurs de la Nature؟ إن الاستشراق في بعض جوانبه يُمكِن أن يكون بدَوره معرفةً تجعل الغربيين «سادة الشرق ومالكيه Maîtres et Possesseurs de l’Orient»، ولكن هل كانت المَعرفة المُسيطرة التي دعا إليها بيكن وديكارت معرفةً مُزيَّفة أو مُشوَّهة لأنها لم ترفَع شعار العِلم الخالص؟ الواقع أنَّ شِعار المَعرفة النظرية الخالِصة المقصودة لذاتِها فحسْب، هو الذي كان يُؤدِّي إلى تزييف العِلم وتشويهه في العصور القديمة والوسطى، وأنَّ اتِّخاذ السيطرة والقُدرَة على امتلاك الواقِع هدفًا للعِلم هو الذي جعَلَه ينتقِل من كشْفٍ إلى كشف، ومن نجاحٍ إلى نجاح. ولا بد لنا في هذا الصَّدَد أن نُميِّز بين هدَف العِلم ومُحتواه، فقد لا يكون الهدَف موضوعيًّا، ومع ذلك يظلُّ المحتوى أو المضمون صحيحًا. وكل محتوى صحيح يُمكن توظيفه لأهدافٍ مُغرِضة، كالسيطرة والاستِعمار، كما يُمكِن توظيفه لأهداف الفَهم والمعرفة وتوسيع قُدرَة العقل البشري. وهنا نعود مرَّةً أخرى إلى ضرب مِثالٍ لعلوم الفضاء، فصحيح أنَّ هذه العلوم لا تَستهدِف في مُعظَم الأحيان غاياتٍ معرفيةً خالِصة، وإنما تَستهدِف السيطرة وقَهْر الخصوم، وتُكوِّن جزءًا من الصراع الاستراتيجي بين المُعسكرين الكبيرَين، ولكن هل يَنفي هذا أنَّ هذه العلوم قد وصلَتْ إلى مجموعةٍ هائلة من الحقائق من الطبيعة والفضاء الخارجي، وأضافت رصيدًا ضخمًا إلى المعرفة الموضوعية، ولولا ذلك لما تَمكَّنَت من تحقيق هدف القوة والسيطرة الذي تسعى إليه؟

والنتيجة التي نخلُص إليها من ذلك هي أنه، حتى لو كانت هناك أهداف «غير موضوعية» لنوع مُعيَّن من المعرفة، فإن هذا لا يسلُب هذه المعرفة صِفة الحقيقة بالضرورة، بل إن حقيقتها — وليس زَيفها وتشويهها — هي التي تُساعدها على تحقيق أهدافها «غير الموضوعية».

•••

هكذا ينكشِف لنا، من خلال هذه المُعالَجة المنهجية للنقد السياسي للاستشراق، أنَّ هذا النقد يرتكِز على مجموعةٍ من المُسلَّمات التي تقبل قدرًا كبيرًا من المُناقشة والجدل. وليس الهدف من المُناقشة التي أجريْناها هنا بالطبع هو تَنزيه الاستشراق من العيوب — كما قد يُفهَم من النظرة السطحية إلى البحث — بل إنَّ الهدف الحقيقي هو أن نكون مُتَّسِقين مع أنفسنا عندما نُريد أن نُوجِّه نقدًا جذريًّا إلى مبحثٍ هامٍّ كالاستشراق، وأن نتجنَّب التناقُض حتى لا يبدو النقد الذي يُوجِّهه مُثقَّفونا في نظر الغربيين تمرُّدًا مُتسرِّعًا على ثقافةٍ راسِخة من أصحاب ثقافةٍ أخرى لم تبلُغ بعد مرحلة النُّضوج.

الاستشراق ومشكلة حدود الاتِّصال بين الثقافات

في اعتقادي أنَّ المشكلة الحقيقية التي يُثيرها نقد المُثقَّفِين العرب للاستشراق على أسُسٍ سياسية حضارية، هي مشكلة حدود الاتِّصال بين الثقافات. فالاستشراق نموذج لعِلم يرتكز كله على فكرة الاتِّصال هذه؛ إذ يقوم فيه باحِثون ينتمون إلى ثقافة مُعيَّنة بدراسةٍ مُتعمِّقة، ربما استغرقَتْ منهم حياتَهم كلها، لثقافةٍ أخرى أجنبية بالنسبة إليهم. فما هي حدود الفَهم الذي يستطيع هؤلاء بلوغَها؟ وهل يؤدِّي التفرُّغ والتَّخصُّص التامُّ إلى اندِماجٍ كاملٍ في الثقافة الأخرى، أم أنَّ الانتماء الأصلي للمُستشرِق إلى نَمَطٍ آخر في التفكير وفي النظرة إلى الحياة يُحتِّم وجود حدودٍ مُعيَّنة لاتِّصاله بالثقافة الأخرى، مهما حاول أن يندمج فيها؟

إنَّ القضية التي أُدافِع عنها هي أنَّ هذه هي المُشكلة الكبرى والأساسية في موضوع الاستشراق. وكما يظهر بوضوح، فإنَّ هذه المشكلة أوسع بكثيرٍ من مسألة الهيمَنة التي تُمارِسها مجتمعات تتَّخِذ من دراستها لمُجتمعات أخرى وسيلةً للسيطرة عليها، ومن الإحساس بالتفوُّق الذي يتملَّك الغرب إزاء الشرق. ففي ضوء القضية التي نطرحُها، لا يعود التشويه والتجويف عمليةً تَتمُّ من طرفٍ واحدٍ قوي أو مُسيطِرٍ إزاء طرفٍ آخَر ضعيف أو خاضع، وإنما يُصبِح عملية مُتبادَلة يشترِك فيها الطرَفان معًا. وترجِع قبل كلِّ شيءٍ إلى تلك الحدود التي لا يستطيع أن يتخطَّاها أيُّ اتِّصالٍ بين ثقافتَين مُتباينتَين.

وسوف نركِّز بحثْنَا في الجُزء القادِم على ذلك الطابع المُتبادَل للتَّشويه وسُوء الفَهْم بين الثقافات، لكي نُثبِتَ أنَّ النظرة الأحادية الجانب للاستشراق ما هي إلا جُزء من كلٍّ أوسَعَ منها بكثير، وأنَّ كل ثقافة لا تُدرِك الثقافة الأخرى إلَّا من خلال مَنطِقِها الخاص، وتَعجِز عن الاندماج في منطق الثقافة الأخرى ورؤية الأمور من منظورها هي بطريقة كاملة.

ومن المُلاحَظ أن إ. سعيد يرفُض هذا المنظور بأكمله، ويردُّ عليه مُقدَّمًا، وذلك في قوله: «إن العُيوب المنهجية للاستشراق لا يُمكن تفسيرُها بالقول إن الشَّرق الحقيقي يختلِف عن الصورة التي يقدِّمُها المُستشرِق له، أو بالقول إنَّهُ لا يُتوقَّع من المُستشرِقين الذين هم غربيُّون في مُعظَم الأحيان أن يكون لدَيهم حِسٌّ داخلي بحقيقة الشرق، فهاتان القضيَّتان باطِلتان معًا؛ ذلك لأنَّ هذا الكتاب لا يَتَّخِذ الموقِفَ الذي يُوحي بأنَّ هناك شيئًا اسمُه الشرق الحقيقي أو الصحيح (إسلاميًّا كان أم عربيًّا أم أيَّ شيءٍ آخر)، كما أنه لا يؤكِّد أنَّ المنظور «الداخلي» مُتميِّز بالضرورة عن المنظور «الخارجي» … بل إنَّ ما أدافع عنه على عكس ذلك هو أن «الشرق» ذاته كِيان مصنوع، وأن الفكرة القائلة بوجود أماكن جُغرافية لها سُكَّان أصليُّون «مُختلفون» جِذريًّا يمكن تعريفهم على أساس عقيدةٍ أو ثقافة أو جَوهر عِرقي خاصٍّ بذلك المكان الجغرافي هي بِدَورها فكرة مَشكوك فيها إلى حدٍّ بعيد.»١٢

وبطبيعة الحال، فإن القضية حين تُختزَل إلى أماكن جُغرافية يُصبِح نقدُها أمرًا يسيرًا. غير أن التَّقابُل الحقيقي إنما هو تقابُل بين ثقافات ومُجتمعات يحمِل كلٌّ منها تاريخًا كاملًا. ومُحاولة طمس الاختلاف بينها وإنكاره على هذا النحو المُطلَق أمر يدعو إلى الاستِغراب بحق. صحيح أنَّ هذا الاختلاف يُمكِن أن يُشوَّه، ويُمكن أن يُعلَّل بأسباب باطلة، ولكن وجوده هو ذاته أمر لا يُمكن إنكاره بهذه السهولة، لأنه ببساطة حقيقة من حقائق الحياة في الحاضر وخلال التاريخ.

ومن هنا فإننا سنتجاوَزُ عن هذا الاعتِراض ونمضي في عرض أبعاد المُشكِلة من منظورها الأوسع؛ منظور حدود الإدراك المُتبادَل بين الثقافات، لكي نُثبِت أنَّ صعوبات الاستشراق تُفسَّر على نحوٍ أفضل من خلال هذا المنظور.

  • (١)
    إن نُقَّاد الاستشراق يَجِدون غرابةً في التقسيم الجغرافي الذي يُقتطَع فيه نصف العالم ليُصبِح كتلةً واحدة مُتجانِسة هي «الشرق»، ويؤكِّدون الطابع التَّعسُّفي لهذا التقسيم الذي يضع فيه البعض سورًا حول أنفسهم ويُسمُّون كل من يخرج عن حدودهم «غرباء» أو «برابرة»، وتُصبِح أرض الغُرَباء مَقرًّا لأناسٍ لهم سِماتٌ تُميِّزُهم ثقافيًّا، لا مكانيًّا فقط، عمَّن يسكنون «أرضنا».١٣
    والآن، هل هذه حالة تقتصِر على موقف المُستشرِقين من الشرق؟ ماذا نقول إذن عن وصف اليونانيِّين لكلِّ من هو غير يوناني بأنه من «البرابرة»، وعن وصف اليهودية للشُّعوب الأخرى بأنهم هم «الأغيار» (جوييم)؟ وماذا نقول في وصف المسيحية لهم بلفظ Gentiles؟ أمَّا فيما يتعلَّق بالإسلام، فإن المَوقف يُصبِح أشدَّ وضوحًا؛ ففي الإسلام تَمييز واضح مُحدَّد المَعالِم بين «دار الإسلام» و«دار الحرب». وهنا لا يكون الأمر مُجرَّد تمييز جغرافي أو ثقافي، وإنما تَصطبِغ العلاقة منذ البدء بصبغة العَداء، فكلُّ من يخرُج عن حدودنا العقيدية والثقافية والمكانية يُعرَّف بأنه موضوع للحرب. ولعلَّ هذا أن يكون أقوى تأكيد لتلك القِسمة الثنائية التي لا يُعدُّ التقسيم إلى غرب وشرق إلا مظهرًا واحدًا من مظاهرها، والتي ترجِع إلى أسبابٍ تتعلَّق بحدود الاتصال بين الثقافات، لا بالاستِعلاء الغربي أو المركزية الأوروبية وحدَها، بدليل أن مظاهرها خارج النطاق الأوروبي، والغربي عامَّة، واضحة كلَّ الوضوح.
  • (٢)
    ومِثل هذا يُقال عن التشويه التاريخي لصُورة الشرق في أوروبا، الذي يَتتبَّعه مُؤلِّف كتاب «الاستشراق» حتى عهد هوميروس ويوريبيدس وغيرهم من الشُّعراء والأُدَباء في العصور القديمة. فالصورة ليست أُحادية البُعد إلى هذا الحد؛ ذلك لأننا نجِد في صميم العصر الأوروبي الكلاسيكي ذاته تَمجيدًا هائلًا للشَّرق وانبهارًا به. وحسْبُنا أن نُنبِّه إلى إشارة أفلاطون المشهورة إلى الشرق، في مُحاوَرة طيماوس، على أنه مَنبَع الحكمة، وسُخريَّته من اليونانيين بوصفِهم أطفالًا بالقِياس إليه، وهي الإشارة التي يُعلِّق عليها مُؤرِّخ العِلم الكبير «سارتون» بقوله إن أفلاطون قد تحدَّث عن اليونانيين كما يتحدَّث الأوروبي المُعاصِر عن الأمريكيِّين، بوصفِهم «مُحدَثي» ثقافة، ومثل هذا يُقال عن إشارات الكُتُب المُختلِفة عن «حياة الفلاسفة» في العالَم القديم إلى تلك الرحلة التقليدية إلى الشرق، التي قامَتْ بها أهمُّ الشخصيات الفلسفية اليونانية وعادت بعدَها ناضِجةً مُهيَّأة للحياة الفلسفية. وهذا ما دعا الباحِثين العرَب الآخَرين إلى أن يُصدِروا على هذا الموضوع أحكامًا مُختلِفةً كلَّ الاختلاف. ويكفي في هذا الصَّدَد أن نُقارِن بين رأي إ. سعيد والرأي الآتي لسهيل فرح: «مع بروز الحضارة اليونانية التي شكَّلت الامتِداد الطبيعي للحضارات الشرق-أوسطية، التي تأثَّر بها أرسطو كثيرًا، كان يَعتبِر الفيلسوف الإغريقي بأنَّ أوروبا البارِدة، باستثناء اليونان، بحُكم طبيعتها الخارجية، غير قادِرة على التطوُّر، ذلك حسْب رأيه؛ لأنَّ العقل الأوروبي خامِل غير كفءٍ لبناء مجتمع مُتحضِّر. وكان يرى المِقياس والقُدرة لشعوب الشرق الأوسط التي أنتجَت حضارات عريقة. فالصِّراع الذي حدَّده المُفكِّرون آنذاك هو صراع جُغرافي بين الشَّرق المُتنوِّر الديناميكي والغرب البارد الجاحد.»١٤ ومن هذا كله يتَّضِح أنَّ مسألة تحامُل اليونانيِّين، ثقافيًّا، على الشرق القديم ليست بالبساطة التي يعرِضُها بها إ. سعيد كيما تدخل في القالب العام الذي حدَّدَه لصورة الشرق لدى الغرب، فالصُّورة ليست تَشويهًا خالِصًا، وإنما يُوجَد إلى جانب هذا التشويه تمجيد واضِح.
  • (٣)
    أمَّا فكرة «الشرق المُختلِف» أو «الشرق المُتشابِه» فهي أيضًا من الأفكار التي يحرِص الاستشراق على إبرازها، ولكنَّها بدَورها جُزء كبير من ظاهرةٍ أوسعَ بكثير. إنَّ الشرق يُفهم، في كتابات كثيرٍ من المُستشرِقين، على أنه هو «المُختلِف» عن الغرب أو نقيضه. ولكن الشرق هو أيضًا المُشابِه للغرب، الذي يُعاد تحويله بحيث يُدرَك من خلال مفاهيم غربية، ويُعاد تَمثُّله بطريقة تُقرِّبه إلى الغرب.١٥

    وفي وُسع المرء أن يَعترِض على هذا النوع من النقد اعتراضًا شكليًّا، فكيف يُنقَد الاستشراق إذا صَوَّر الشرق بأنه هو «الآخر» أو «المختلف» أو «المُضاد»، ثم يُنقَد أيضًا إذا صوَّرَه بأنه «المُشابه» الذي لا يُفهَم إلَّا بمقولات الغرب؟ ما هي الصورة التي تُريحنا، كشرقِيِّين، ونقبلها من الدَّارسين الغربيين، إذا كانت صورة الاختلاف تُثير اعتراضَنا، وصورة التَّشابُه لا تُعجِبنا؟ ومتى يكون المُستشرِقون في نظرِنا مُنصِفين؛ إذا صوَّرونا بأنَّنا مُختلفون عنهم ومُضادُّون لهم، أم بأنَّنا مُشابِهون لهم؟

    ولكن هذا الاعتِراض الشكلي يُمكن أن يُجاب عنه بالقول إن التَّشابُه والاختلاف معًا يُمكن أن يُنظَر إليهما على أنهما وَجهان لعُملةٍ واحدة، هي التركُّز حول الذات لدى الباحثين الغربيين. فمن مظاهر هذا التركُّز حول الذات أن يُفهَم الشرق بمقولات غربية، ويُنظَر إليه على أنه «غرب ناقِصٌ أو غير مُكتمِل»، كما أنَّ من مَظاهِرِه أن يُصوَّر الشرق بما ليس في الغرب، فيُقال إنه هو السِّحري أو اللاعقلاني أو العاطفي في مُقابِل عقلانية الغرب، ويُقال إنه هو المُتحجِّر، في مُقابِل ديناميكية الغرب، … إلخ.

    وفي هذه الحالة سنجِد أنَّ الماركسية ذاتها لم تَخلُ من هذا النوع من المركزية الأوروبية، ففيها افتِراض ضِمني هو أنَّ هناك خطًّا واحدًا لتطوُّر المُجتمعات، هو الخطُّ الذي سار عليه التاريخ الأوروبي من العبودية إلى الإقطاع إلى الرأسمالية. وإذا كان هذا الخطُّ مُفتَقدًا في المُجتمعات الشرقية، فإنها تُشكِّل نموًّا ناقصًا لم يكتمِل لكي يصِل إلى المجتمع الصناعي الديمقراطي الذي وَصل إليه الغرب. ولقد حدثت مُحاوَلة لتعويض هذه المركزية الأوروبية في إشارات ماركس إلى «نمط الإنتاج الآسيوي»، ولكنه لم يُحاوِل أن يتوسَّع في الفكرة إلى الحدِّ الذي تُكوِّن معه نظرية تقِف إلى جانب النظرية الخاصَّة بالتطوُّر الاجتماعي الأوروبي. وهكذا يظلُّ هناك افتراض ضِمني هو أن المقاييس الغربية هي الوحيدة التي يُمكن الاعتراف بها، وأن تاريخ الشرق ليس إلا سلسلةً من النواقِص أو السلبِيَّات، مثل عدَم وجود طبقةٍ وُسطى فعَّالة يُبنَى على أكتافِها نظام رأسمالي، وعدَم وجود حقوق سياسية، وعدم وجود ثَورات اجتماعية بالمعنى الصحيح.١٦

    وهكذا يختلِف الموقِف الماركسي جُزئيًّا عن المَوقف الاستشراقي التقليدي الذي يُرجِع تَخلُّف المجتمعات الشرقية إلى سِماتٍ سلبية كامنة في هذه المجتمعات، بينما تُرجِع الماركسية هذا التخلُّف إلى طبيعة العلاقات الاقتصادية وتقسيم العمل العالمي، الذي يجعل المجتمعات الرأسمالية المُتقدِّمة في حاجةٍ إلى مجتمعات هامشِيَّة ذات إنتاجٍ مُبعثَر قِوامه المواد الخام التي يقوم الغرب بتصنيعها. ولكن المَوقِفَين يشترِكان معًا في أن مركز الإشارة يظلُّ هو الغرب، ولا تُفهَم المجتمعات الشرقية إلَّا في علاقتها بهذا المركز، سواء أكانت علاقة تَضادٍّ أم علاقة نُموٍّ ناقص مُتخلِّفٍ عاجِزٍ عن اللَّحاق بالأصل.

    هذا التحليل الذي يُقدِّمه نُقَّاد الاستشراق العرَب هو إذن صحيح في جوهره، ولكنَّه تحليلٌ ناقِص؛ ففي مُواجَهة اتهام الغربيِّين للشرق بأنه غرب مُضادٌّ أو غرْبٌ لم يكتمِل، يتَّهِم العرب هؤلاء الغربيين بأنَّهم مُتمركِزون حول ذاتهم وعاجِزون عن الخروج عن إطار مقولاتهم. وكِلا الصُّورَتَين يُمكِن أن تكون صحيحةً في ذاتها، ولكنَّهُما معًا مظهران لحقيقةٍ أعمق، هي الحدود التي لا يُمكِن أن يَتعدَّاها التفاعُل بين الحضارات. وأبسط دليل على ذلك هو أن الشرق، في نظرته إلى الغرب، يقع في أخطاء منهجية مُشابِهة إلى حدٍّ بعيد لتلك التي نُلاحِظها لدى بعض المُستشرِقين.

    فلدى الكثير من أصحاب الاتجاهات الإسلامية تَصوُّر للمسيحية على أنها نَوع من الإسلام الناقِص. وقد أشرْنا من قبل إلى الفكرة الإسلامية الواسعة الانتشار التي تقول بوجود إنجيل حقيقي غير الأناجيل المعروفة، كان يَتنبَّأ بظهور نَبيٍّ اسمه محمد، ثم أُخفيَ عمدًا وحلَّتْ مَحلَّه الأناجيل الحالية «المُحرَّفة». هنا يُعدُّ الإسلام هو الأصل، وتُقاس المسيحية كلها على أساس مدى اقترابها منه. كذلك فإننا أشرْنا عند الحديث عن النقد الديني للاستشراق إلى ذلك المِقياس الأساسي الذي يَضعه كثير من الباحثين الإسلاميين عندما يُصدِرون حكمًا تقويميًّا على مُستشرِق، وهو مدى اقتِرابه من الاعتراف بحقائق العقيدة الإسلامية، بغض النظر عن مدى الجُهد والإسهام العلمي الذي قام به ذلك المُستشرِق. وفي هاتَين الحالتَين يُوجَد أيضًا نوع من «المركزية الإسلامية»، تُقاس على أساسها أفكار الحضارة الأخرى.

  • (٤)

    ولنتأمَّل صُورةً أخرى للشرق في كتابات المُستشرِقين، هي صورة الشَّرق المُغرِق في المَلذَّات المادية، تلك الصورة التي ضرب لها إ. سعيد مثلًا بشخصية «كوتشوك هانم» عند الأديب الفرنسي فلوبير. فهي نموذج للمرأة الحِسِّية الشهوانية التي لا تَشبَع ولا ترفُض، … إلخ. وهذا النموذج يَتكرَّر كثيرًا لدى المُستشرِقين بوصفِه تعبيرًا عن الطبيعة الشرقية بِوجهٍ عام.

    ومع ذلك، فإنَّ ما لم يُشِر إليه سعيد هو أنَّ النموذج المُضاد، أعني النموذج الروحاني، يكوِّن بدَوره صورةً تتردَّد كثيرًا لدى المُستشرِقين. فهناك دائمًا حديث عن الشرق المُتصوِّف، المُتمسِّك بالقِيَم العريقة والأصيلة، وهناك افتِتان بهذا الشرق الذي يُقدِّم للحياة الإنسانية وجهًا آخر يُكمِّل الوجه المُفرِط في عقلانيته لدى الغرب. هذه الصورة الأخرى تحتشِد بها كتابات الغربيِّين منذ جوته حتى جاك بيرك (فضلًا عن أنها نغمة مُفضَّلة لدى الأُدَباء الشرقِيِّين من أمثال طاغور وإقبال وتوفيق الحكيم وحسين هيكل ومحمد كامل حسين).

    ومن جهة أخرى، فمِن المُؤكد أنَّ لدَينا في الشرق مَيلًا أقوى إلى وصفِ الغرب بالإفراط في المادية والنَّزعة الحِسِّية. فمُعظَم كتاباتِنا الصحفية الراهِنة، وخُطَبنا في المنابر والمساجد، تُحذِّر الشباب من فساد الغرب وانحِلاله الخُلُقي وإغراقه في الجِنس، وكلُّ شابٍّ عربي يُسافِر إلى الغرب يعود مُحمَّلًا بقِصَصٍ (حقيقية أو مُختلَقة) عن مُغامَراته مع النِّساء الغربيات اللاتي لا يرفُضنَ طلبًا للشرقيِّ الأسمر. وكُلنا نُشاهِد نظرة النَّهَم التي ينظُر بها الرجل الشرقي إلى أية امرأةٍ تُصادِفُه في الطريق بِمُجرَّد نزوله من مطار لندن أو باريس، مُتصوِّرًا أنها ستستجيب له وتعجِز عن مقاومة إغرائه. بل إنَّ الحياة الغربية بأسرِها أصبحت تُوصَف في كتاباتنا بأنها «مادية»، سواء في ذلك الحياة اليومية أم حياة العلم والمَعرِفة. وقد أصبح تعبير «العِلم المادي الغربي» جارِيًا على الألسُن في مجتمعاتنا إلى حدِّ أن الجميع يُردِّدونه دون أدنى تفكيرٍ فيما ينطوي عليه من مُغالَطة وتضليل.

    وهكذا فإن الصُّورة المُشوَّهة في هذا المجال أيضًا مُتبادَلة، بل إنَّنا في كثيرٍ من الأحيان نُشوِّه الغرب بأكثر مِمَّا يُشوِّهنا، لا سيَّما وأن مصادر مَعرفَتِنا ومَظاهر احتكاكنا واتِّصالنا به أكبر وأوسَع بطبيعتها من مصادر مَعرفِتِه بنا، ومِنْ ثَمَّ فإن عُذرَنا في هذا التشويه أقل.

  • (٥)
    ومن أهم الانتِقادات التي تُوجَّه إلى التَّصوُّر الاستشراقي للعالَم الشرقي بوجهٍ عام، والعالم الإسلامي بوجهٍ خاص، فكرة «الثبات» كما تُطبَّق على المجتمعات الشرقية. فالمُستشرِقون يَنسِبون إلى العالَم الشرقي صِفةَ التَّجمُّد عند عصرٍ قديم، وعدَم الاستعداد لقَبول الجديد، وعدَم الثقة في التغيير، والعجز عن فَهم طبيعة الزَّمن. وهم يَحكمون على الإسلام المُعاصر من خلال الإشارة إلى القرآن أو إسلام القرن السابع، مع تَجاهُل كلِّ التغييرات المُعاصِرة والتَّطوُّرات السياسية وتأثير الاستِعمار.١٧ فهم لا يعترِفون بوجود حاضرٍ مُتميِّزٍ للشرق، ويردُّون كلَّ ما هو شرقي مُعاصِر إلى النَّمَط الشرقي التقليدي، وذلك كجُزء من نزعتِهم إلى التَّعميم وإرجاع الجُزئي أو الخاصِّ إلى أنماطٍ عامَّةٍ من أمثال: الشرقي، والإسلامي، والعربي، … إلخ، بحيث إن الحكم على الإنسان الشرقي هو حُكم عليه بأنه «شرقي» قبل أن يكون إنسانًا. «فليس من المُمكِن أن نرى الحاضر والأصل معًا في أيِّ شعبٍ أكثر ممَّا نرى في السامِيِّين الشرقيين.» والأصول القديمة للشرقيِّين هي التي تُفسِّر حاضرهم وتجعله مفهومًا. وقد لخَّصَ رينان المَوقف الاستشراقي حين وصف حالة الساميِّين بأنها من حالات «التَّطوُّر المَوقوف Development Arrêté»، أي التطوُّر الذي لا يَتقدَّم في الزمان ولا يتجاوَز العصر الكلاسيكي.١٨

هكذا يُوجَّه اللوم إلى المُستشرِقين لأنهم عَجزوا عن النظر إلى الشرق من حيث هو حاضر مُتطوِّر له مُشكلاته وصراعاته وأمانيه، واكتفَوا باختزال تاريخ الشرق كلِّه إلى تلك اللحظة الثابتة الماضية التي يقِف عندها التطوُّر، وتعمَّم هذه اللحظة على التاريخ كله، فتُصبِح تجريدًا شاملًا هو «الشرق» أو «الإسلام» … إلخ.

ولكن، هل كان المُستشرِقون مُخطئين بالفعل في نظرتِهم هذه إلى العالم الإسلامي؟ وهل كان هذا التثبيت للتاريخ الشرقي أو الإسلامي وَهْمًا من أوهام العقلية التي يَخلُقها خيال المُستشرِقين أو شعورهم بالقوَّة والاستِعلاء إزاء الشرق؟ الواقِع أننا لو تأمَّلنا مَوقِف التيارات الإسلامية السلفية، بمُختلِف أشكالها، لما وجدناه يختلِف في شيء عن تلك الصورة التي رسَمَها الاستشراق. فكيف نلوم الاستشراق على أفكارٍ وتصوُّرات تتضمَّنُها دعوة المَودودي وحسن البنا وسيِّد قُطب وكبار أقطاب الحركات الإسلامية؟ أليس المَثَل الأعلى لهؤلاء جميعًا هو إسلام القرن السادس أو السابع على الأكثر؟ ألم يتوقَّف التاريخ بالفعل عند هذه «القمة»، بحيث تكاد تُمحى منه كل التطوُّرات الواقعة بين «العصر الذهبي» والعصر الحاضر؟ ألا تؤكد دعوتهم إمكان تِكرار الحلول التي أدَّت إلى ازدِهار مَجْد الإسلام في عصره الأوَّل؟ أليست هذه هي القضية الأساسية في برنامجهم كله، لا يَصلُح آخِر الإسلام إلا بما صَلَحَ به أوله؟

فلنتأمَّل مبدأً أساسيًّا من مبادئ الدَّعوة الإسلامية، وهو «صلاحية الإسلام لكلِّ زمانٍ ومكان»، ولنرَ كيف يُطبَّق هذا المبدأ، لا على القواعد العامة للدِّين فحسب، بل على تفاصيل الحياة اليومية، بحيث تقوم المُظاهرات الحاشِدة لو حدَث أدنى تغيير فرعي في أحد بنود قانون الأحوال الشخصية مثلًا، أو شيء من التقييد للطلاق أو تعدُّد الزَّوجات، ما معنى هذا؟ هل يُمكن بعدَ هذا أن يُقال إن فكرة «التطوُّر الموقوف» قد نَسبَت إلى هذه التيارات شيئًا مُختلَقًا، أو أنَّ هناك فرقًا كبيرًا بين مفهوم «التطوُّر الموقوف» ومفهوم «الصلاحية لكلِّ زمانٍ ومكان» كما يُنادي بها المسلمون أنفسهم؟

في هذه الحالة نستطيع أن نقول إنَّ الصُّورة الاستشراقية تعكِس شيئًا موجودًا بالفعل. وقد لا يكون هذا الشيء تعبيرًا عن الواقِع الكامل للعالَم الإسلامي، ولكنَّه على الأقلِّ تعبير عن تيَّارٍ هامٍّ له ثِقَله في حياتنا المُعاصِرة بوجهٍ خاص، وتزداد أهميَّتَه مع نموِّ ما يُسَمَّى «بالصَّحوة الإسلامية». فهذه الصُّورة تُقدِّم من خلال إطارها الفكري الخاصِّ تبريرًا قويًّا لتلك النظرة الاستشراقية إلى الإسلام بوصفِهِ «عقيدة أثرية» تتحكَّم في كافَّة جوانب تفكير الناس وسُلوكهم في تلك المنطقة المُسمَّاة بالعالَم الإسلامي. وعندما يُطبِّق أصحاب هذه الاتجاهات المُعاصِرة مبدأ «الإسلام دِين ودُنيا» بحيث يَجعَلون العقيدة تحكُم جميع تفاصيل سلوك الفرد، حتى في نوع مَلبِسِه وطريقة حديثه وشكل وجهه، فعندئذٍ يَحقُّ لنا أن نَجِد مُبرِّرًا لأولئك الذين يجعلون من الإسلام جَوهرًا ثابتًا يَحكم كافة جوانب سلوك الإنسان المُسلِم.

فلنتأمَّل حادِث مقتل الرئيس السادات، بوصفِه نموذجًا صارخًا «للتطوُّر الموقوف». إنَّ الذين قتلوه قد اعترَفوا في محاضِر التحقيق أنه كان يَستحقُّ القتلَ لأنَّهُ سخِر من ملابِس المُحجَّبات، ولأنه وَعَدَ بتطبيق الشريعة الإسلامية ولم يَفِ بوعده، ولأنه خرج من نصوص الشريعة في قانون الأحوال الشخصية الذي قام بتعديله. وقرار القتل قد اتُّخذ بناء على فتوى عاد فيها مُفكِّرُهم وفيلسوفُهم إلى كتابات ابن تيمية وعصر التتار، وأقام نوعًا من التَّوازي بين ذلك العصر وعصر السادات.

أمَّا الدَّوافع الأخرى، الوطنية والاجتماعية والقومية، التي تَخيَّلها المُفكرون التقدُّمِيُّون وصفَّقوا لها، والتي كانت ترتكِز على الأخطاء الحقيقية الفادِحة لنظام السادات، فلم تكُن في ذِهن قاتِليه على الإطلاق. ومعنى ذلك أنَّ تيَّارًا هامًّا من أكثر التيارات الإسلامية المُعاصِرة فعالية ودينامية، لم يستطِع أن يُفكِّر في الأحداث الهائلة التي تُحيط به في عصره إلَّا من خلال أحداثٍ مُوازِية حدَثَتْ في الماضي البعيد، وعجِز تمامًا عن مُعالَجَة الحاضر بمنطِقِه الخاص، وتوقَّفَت رؤيتُه للعصر الذي يَعيش فيه عند حدود عصرٍ غابر غير قابل للتكرار. وينبغي أن ننتَبِه إلى أنَّ هذا النَّمَط الفكري أوسع انتشارًا بكثيرٍ من هذه الجماعة بعَينِها. فهناك جماعات أكبر منها بكثير، تشاركها هذه الطريقة في التفكير، وإن كانت تختلِف عنها في طريقة ردِّ فعلِها على الأحداث المُعاصِرة، وفي إيثارها الدَّعوةَ السلمية على الجِهاد والعُنف. فإذا لم يكن هذا النَّمَط من التفكير «تطوُّرًا موقوفًا» فماذا يكون؟ وإذا لم يكن نموذجًا صارخًا لإدراج الزَّمنيِّ والمُعاصر في نِطاق «اللاتاريخي واللازَمَني» فماذا يكون؟

فإذا شكا الناقِد الأكبر للاستشراق بين العرَب المُعاصِرين من أنَّ الصورة الغربية للإسلام تخلِط بين العالم الإسلامي وما يُسَمَّى «جوهر الإسلام»، وتتجاهَل الصراعات البشرية الفعلية والمطالب المشروعة للمجتمعات الإسلامية، كما تتجاهَل اضطِهاد الغرب لهذه المجتمعات ووقوفه ضِدَّ رغبتِها في التَّحرُّر والاستقلال، أي — باختصار — تتجاهَل الحقائق المُعاصِرة للعالَم الإسلامي، مُكتَفِيةً بذلك التعميم والتَّجريد المُسَمَّى بالإسلام١٩ فلا بد أن نرُدَّ عليه بأنَّ هذه السِّمة تتكرَّر أيضًا في تيَّارات هامَّة تؤكد أنها هي المُمثِّلة الحقيقية للإسلام، وتفخَر بأنَّ دَعوتها تتَّجِه إلى جعل الإسلام في عصره الذَّهَبي مِعيارًا وحيدًا للتقدُّم، ووسيلةً وحيدةً لمُواجَهة مُشكلات العصر. ولا قِيمة في هذه الحالة للقَول بأن هذه التيَّارات لا تُمثِّل العالَم الإسلامي كله؛ لأنَّ المُهمَّ أنها في دعوتها هذه تؤكد أنها هي التي تُعبِّر عن «جوهر» الإسلام، فضلًا عن أنها هي الأكثر جاذِبيَّة للشباب في العالَم الإسلامي المُعاصِر. وما دام الأمر كذلك، فلا مَفرَّ لنا من أن نَستنتِج أنَّ رؤية نُقَّاد الاستشراق هؤلاء للعالَم الإسلامي ناقِصة، فضلًا عن أنها رؤية خارجية إلى حدٍّ بعيد.
ولقد لاحظ بعضُ الباحِثين العرَب في ردود فِعلِهم على آراء إ. سعيد، أنَّ هناك التقاءً بين موقِف الاستشراق وموقَفِ دُعاة الأصالة الإسلامية، وقام «عزيز العظمة» بتَعداد عناصر الالتقاء هذه.٢٠ غير أنه لم ينتبِه إلى النتيجة الحتمية التي ينبغي أن تُستخلَص من تَعداد نِقاط الالتقاء هذه، وهي أنَّه إذا صَحَّ ذلك لَمَا كان المُستشرِقون قد نَسبوا إلى العالَم الإسلامي سِماتٍ لا تنتمي إليه، كما أنهم لم يَخترعوا شيئًا أو يفرِضوا تَصوُّراتهم الخاصَّة على الإسلام، ولم يُجمِّدوه من أجل السيطرة عليه … إلخ؛ فهم يكشفون عن صفاتٍ موجودة بالفِعل عند دُعاة «الأصالة الإسلامية»، أي أشدُّ الجماعات تَمسُّكًا بأصول الإسلام. ولا عبرةَ في هذه الحالة باختِلاف الدوافع والأهداف بين المُستشرِقين وبين الأصوليِّين. ولا عِبرةَ أيضًا برفْضِ المُثقَّف العربي المُستنير، أو المُتشبِّع بالثقافة الحديثة، أن يحصُر الإسلام في نِطاق هذا «الجوهر» الذي يُراد له أن يتحكَّم في كافة جوانب حياة المسلمين المُعاصِرين، فهذه قضية أخرى. وإنما القضية الأساسية هي أنَّ فكرة وجود جَوهرٍ ثابتٍ للإسلام ينبغي أن يَحكُم كافة جوانب حياة الفرد المُسلِم، هي فكرة واسعة الانتِشار بين المُسلمين المُعاصِرين، يَجدِون فيها مَوضِعَ فخرٍ لهم ولعقيدتهم، حتى ولو كانت في نظر بعض المُثقَّفين تعبيرًا عن أمرٍ واقِعٍ مرفوض.
ومن هنا فإن مَوقِف «العظم» من هذا الموضوع كان أفضل من مَوقف «العظمة»؛ لأن الأوَّل يُلاحِظ عن حقٍّ ذلك التشابه الواضح بين نظرة المُستشرِقين إلى الإسلام بوصفِه كِيانًا فكريًّا وعقيديًّا ثابتًا يُنظِّم كافة جوانب حياة المسلمين، وبين نظرة الجماعات المُعاصِرة التي يُطلق عليها اسم «الإسلامانية». والتي ترى العقيدة الإسلامية كيانًا شاملًا مُتفرِّدًا لا يُفهم إلَّا بذاته. وإذا كان المُستشرِقون قد وَجدوا في هذه الصِّفة سببًا يدفعُهم إلى الإقلال من قدْرِ الإسلام، فإن «الإسلامانيين» قد وَجدوا فيها موضوعًا للفَخْر بعقيدتهم والتَّمجيد الذاتي لتُراثِهم.٢١

ومع اتِّفاقي مع «العظم» في اتِّجاهه العام، فإني أختلِف معه في نُقطَتَين تفصيليَّتَين: الأولى: هي أنه يُسجِّل هذا الالتقاء بين وِجهتي نظَر الاستشراق و«الإسلامانية» المُعاصِرة على أنه مُجرَّد «تشابُه» بين مَوقِفَين يتطرَّف كلٌّ منهما في ناحية، وإن كانا يلتقِيان واقِعيًّا في الأسس التي يرتكِزان عليها. وفي رأيي أنَّ العَلاقة بين الموقِفَين علاقة «سببيَّة» أكثر منها مُجرَّد تَشابُه. وأعني بذلك أنَّ وجود هذه السِّمة في الفكر الإسلامي الأصولي هو الذي جعل المُستشرِقين يؤكِّدونها في كتاباتهم، بغضِّ النظر عن الحُكم التقويمي الذي يُصدِرُه بعضهم عليها بوصفِها مظهرًا من مظاهر التخلُّف. فهم لم يُؤكِّدوا هذه السِّمة لمُجرد إثبات انحِطاط الإسلام وتفوُّق الغرب عليه، بل لأنَّ المُسلمين ذاتهم يَنظرون إلى أنفسهم على هذا النحو، ولا يمنع ذلك بالطبع من أن يكون هناك مُستشرِقون أفرَطوا في تعميم هذه السِّمة إلى حدِّ تجاهُل كلِّ حركةٍ مُغايِرة لها، أو وَجَّهوا النُّصحَ إلى المسلمين، بطريقةٍ مُغرِضة، كيما يُحافِظوا عليها لأنها هي التي تخدُم مَصالِح بلادهم آخِرَ الأمر. أمَّا نقطة الاختلاف الثانية فهي أنه لا يكفي أن ننظر إلى وجود هذه السِّمة في التيارات الإسلامية المُعاصِرة على أنه «استشراق معكوس»، كما فعل العظم (ويَقصِد به التِقاء هذه التَّيَّارات الحالية مع الاستشراق في تأكيد وجود طبيعةٍ ثابِتة غير قابلةٍ للتغيير في الإسلام، مع التفاخُر بهذه الصِّفة بدلًا من التنديد بها كما يفعل المُستشرِقون). ذلك لأنَّ هذه السِّمة لها جُذور قديمة العهد، ظلَّت تتردَّد طوال التاريخ الإسلامي، قديمِه وحديثه، وحسبُنا أن نذكُر هنا أسماء ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب والمَهدي والأفغاني … إلخ؛ فهي تُمثِّل ظاهرةً أقدم بكثيرٍ من الاستشراق، وليسَتْ على الإطلاق الوجه الآخَر لعملية الاستشراق، كما قد يُوحي تعبير «الاستشراق المعكوس». وحقيقة الأمر أن الاستشراق في تأكيده لهذا الجَوهر الثابت للإسلام، هو الذي يعكِس واقعًا فكريًّا اتَّسَم به العالم الإسلامي منذ عهدٍ بعيد (لأسبابٍ اجتماعية وتاريخية مُعقَّدة)، وأنَّ الصورة الاستشراقية المُشوَّهة ما هي إلا تَعبير عن تشويهٍ تاريخيٍّ حدَث بالفعل في العالم الإسلامي. وهكذا فإنَّ الجُمود واللاتاريخية في الفكر الإسلامي ليس «استشراقًا معكوسًا»، وإنما تظلُّ الصورة الاستشراقية انعكاسًا (قد تكون له في بعض الأحيان دوافع مُغرِضة) لهذا الفكر المُتحجِّر الذي يفخَر بأنه خرَج عن نِطاق الزَّمَن.

والآن، لننظُر إلى المسألة من وَجهها العكسي: إنَّ الغرب مُتَّهَم بأنه يُكوِّن عن الشرق صورةً مُتحجِّرة، ويتجاهَل التغييرات التي يَموج بها واقِعُه الحِسِّي (وهي تُهمة يسهُل تفسيرها في ضوء الصورة التي يكوِّنها الشرق عن ذاته، والتي هي في كثيرٍ من الأحيان صورةٌ مُتجمِّدة، وتفخَر بأنها كذلك). ولكن، ما طبيعة الصورة التي يُكوِّنها الشرق عن الغرب؟ ألا تُوجَد فيها أيضًا عناصر هامَّة من ذلك التثبيت النَّمَطي الذي يُشوِّه الواقع؟

يكفينا هنا أن نَختار أمثلةً قليلة تُوَصِّلنا إلى النتيجة المطلوبة؛ فتثبيت صورة الغرب واضِح كلَّ الوضوح لدى أصحاب الفكر الإسلامي المُعاصِر، إذ إنَّ تفكيرهم في الاتِّجاهات الحالية للعالَم الغربي إزاء المُجتمَعات الإسلامية ما زال ينصبُّ في قالب المُؤامَرة الصليبية المَسيحية التي تَستهدِفُ النَّيل من الإسلام. وهو يُجمِّد الغرب في هذا القالب بحيث تغيب عن عينيه أهمُّ مقولات الحياة المُعاصِرة: كالأحلاف العسكرية والتكتُّلات السياسية والمَصالِح الاقتصادية.

أمَّا أصحاب الثقافة الحديثة في العالم العربي، فإنهم بِدَورهم يُجمِّدون الغرب، ولكن على نحوٍ آخر، يَخلِطون فيه بين غرب العِلم والعقلانية والسيطرة على الطبيعة وكشْفِ أسرارها، أعني غرب ديكارت ونيوتن ودارون وماركوني، وغرب الاستِعمار والسيطرة على البَشَر واستِعبادهم: غرب سيسل رودس وكتشنر ونابوليون وهتلر. صحيح أنَّ الوَجهَين ليسا مُنفصِلين تمام الانفصال، بدليل أنَّ الوجه الأوَّل أدَّى في جانب منه إلى الثاني؛ أعني أن المَعرِفة والسيطرة على الطبيعة هي التي أعطَتِ الغرب ذلك التفوُّقَ الماديَّ والعسكري الذي سيطر به، طوال عدَّةِ قرون، على العالم. ومع ذلك فإنَّ التَّمييز بين هذَين الوَجهين يظلُّ أساسيًّا، كما أن الارتِباط الذي حدَث بينهما ليس ارتباطًا مَنطقيًّا أو ضروريًّا، وإنما هو ارتِباط واقِعي فحسْب (بدليل إمكان استِخدام العِلم والتكنولوجيا في ظلِّ علاقات عقلانية غير استِغلالية).

ومع ذلك فإن المُثقَّفين العلمانيِّين المُعاصِرين في العالم العربي يَجمَعون بين الوَجهَين بصورةٍ مُتعمَّدة، ويَضعون الإيجابيَّ مع السلبيِّ في زكيبة واحِدة، وتَصِل بهم حماستُهم لمُحاربة الاستعمار والتحرُّر من الهيمنة الغربية إلى حدِّ رفض مبدأ العقلانية ذاته، وكأنه حِكْر للغَرْب وحده، وليس نِتاجًا لتطوُّرٍ طويلٍ أسهمَتْ فيه كلُّ حضارات الإنسانية قبل فترة الهيمنة الغربية بألوف السنين.٢٢

وهكذا يكون هناك «جوهر واحد» للغرب، هو جوهر السيطرة والهيمنة، يَسري على كافَّة جوانب النشاط الرُّوحي والمادي للمُجتمعات الغربية، وينبغي التَّعامُل معه بكلِّ الحَذَر والتشكُّك؛ لأنه يَصبِغ حقيقته المسمومة الباطِنة بطِلاءٍ خارجي شديدِ الإغراء.

فهل يختلِف هذا المَوقِف — الذي يَسُود فكرنا الحالي في اتجاهاته المُحافظة والتقدُّمية معًا — اختلافًا حقيقيًّا عن المَوقِف الاستشراقي الذي نُهاجِمه؟ ألا يؤدِّي بنا ذلك إلى الشكِّ في أنَّ المسألة قد لا تكون مسألة سيطرةٍ وهيمنة، بقدْر ما هي مسألة حدود لا يُمكن تَعدِّيها في الإدراك المُتبادَل بين الثقافات؟

هناك إذَنْ تَمركُز أوروبي حول الذات، يُعَدُّ الاستشراق واحدًا من أهمِّ مظاهره. ولكن ما نَودُّ أن نُثبِتَه هو أنَّ هذا التَّمركُز حول الذات أمرٌ لا مَفرَّ منه حين يكون الأمر مُتعلقًا بإدراك ثقافةٍ لثقافة أخرى. صحيح أنَّه قد يَقلُّ أو يزيد، بين هذا الباحث أو ذاك، ولكنَّه هناك دائمًا. وأكبر دليلٍ على استِحالة التخلُّص منه هو وجوده بِصورةٍ واضحة في إدراك الشرق للغرب. فإذا كان من المُستَحيل أن يُصبِح الشرق موضوعًا «حرًّا» للبحث عند المُفكر الغربي، نتيجةً لتدخُّل عوامِل السيطرة السياسية والمصالح الاقتصادية والتُّراث العدائي القديم … إلخ، فإن من المستحيل بنفس المقدار أن يُصبِح «الغرب» موضوعًا حرًّا للبحث عند المُفكر الشرقي، بعد تراكُم عداوات تاريخية كبرى، وبعد اتِّساع الفَجوة الحضارية بين الشرق والغرب، وتراجُع المجتمعات الشرقية أمام التقدُّم السريع للغرب، وخضوعها لسيطرته الاستِعمارية في كثيرٍ من الحالات.

إنَّ هُناك «مركزية إسلامية Islamo-Centrism» تُقابِل المركزية الأوروبية، وتظهَر علاماتُها بوضوحٍ في الصُّورة التي نُكوِّنُها عن الغرب على كافَّة المُستوَيات. فعلى المستوى الدِّيني، نُريد من المُستشرِقين أن يكونوا مُؤمِنين طيِّبين مُصدِّقين بتعاليم دينِنا، ونكاد نطلُب إليهم أن يقرءوا الشَّهادَتَين حتى يُصبِحوا مَقبولين «ومُنصِفين». وعلى المستوى الحضاري، نحكم على مُجتمعاتهم من خلال قِيمِنا الخاصَّة، التي تُعطي دَورًا مُفرطًا، مليئًا بالمُتناقِضات والمُفارَقات، للحياة الجِنسية، فإذا لم تتطابَقْ حَياتهم مع مَعاييرنا نحن أصبحوا «مُنحلِّين». وعلى المستوى التاريخي، يكفي أن نُقارِن بين منظورنا والمنظور الغربي في «فتح الأندلس»، ونظرتِنا إلى نَكبةِ خروج العرب منها، التي هي عند الغربيِّين حركة تَحرُّر تاريخية كبرى.٢٣ ونحن نُهاجِم المعرفة والمناهج الغربية؛ لأنها تجعَلُنا مُمثِّلين للشرق «الثابت» و«المُختلِف»، وننسى أننا نحن الذين ندعو إلى هذا الثَّبات في تَصوُّرنا للتاريخ، فضلًا عن أننا نُعامِل الغرب بدَوره كما لو كان كيانًا واحدًا، يتَّسِم كلُّه بالعُدوانية، ولا يُفهَم إلَّا من حيث هو مُضادٌّ لنا.

إن التَّشويه، إذا جازَ أن نُطلِق عليه هذا الاسم، مُتبادَل بين الطرَفَين. وإذا كان هناك تَشويه تؤدِّي إليه القوة والسيطرة والرَّغبة في التَّعامُل مع الشرق بنجاح، فإن هناك تَشويهًا آخَرَ يؤدِّي إليه الشُّعور بالضَّعْف وبتفوُّق الخَصم والرَّغبة في الانتِقام منه واللَّحاق به. ومُشكلة ناقدي الاستشراق، وعلى رأسِهم إدوارد سعيد، هي أنهم لم يستطيعوا أن يَرَوا إلَّا النوع الأوَّل، مع أنَّ النوع الثاني ربما كان أخطر وأفدَحَ في نتائجه؛ ذلك لأنَّ الرغبة في السَّيطرة والتعامُل الناجِح تَقتضي حدًّا أدنى من الفَهم الصحيح للآخَر حتى يُمكن تحقيق هذا الهدَف بأيْسَر السبل المُمكنة. أمَّا الرغبة في تعويض النَّقص أو الانتِقام من العُدوان فإنَّ التَّشويه فيها يكون أخطر، وغير قابلٍ للإصلاح.

وسوف نُحاوِل في الجُزء الأخير من هذا البحث إلقاء المَزيد من الضوء على هذه النقطة بالذات، أعني مَوقع النظرة النقدية إلى الاستشراق في مجتمع يَحتلُّ مركزًا أضعَف، وذلك إكمالًا للصُّورة الناقِصة التي عرَضَت للجوانب غير الموضوعية في الاستشراق بوصفِه مبحثًا علميًّا يُمارَس من مَوقِع القوة.

١  Edouard Said: Orientalism, Routledge & Kegan Paul, 1978.
٢  المرجع نفسه، ص٢٢.
٣  Ibid, p. 6.
٤  Ibid, p. 87.
٥  Ibid, p. 85-86.
٦  Ibid, p. 273-274.
٧  Ibid, p. 272-3.
٨  صادق جلال العظم: «الاستشراق والاستشراق معكوسًا». مجلة الحياة الجديدة، العدد الثالث، ١٩٨١م، ص١٤-١٥.
٩  Ibid, p. 4.
١٠  حسن عبد الحميد: «الحضارة الإسلامية بين الوَهْم والحقيقة»، جريدة الوطن الكويتية، ١٧/ ١٢/  ١٩٨٤م.
١١  د. غسان سلامة: عصب الاستشراق، المستقبل العربي، يناير ١٩٨١م، ص١٠.
١٢  Said, Ibid, p. 322.
١٣  Ibid, p. 54.
١٤  سهيل فرح: الاستشراق الروسي، نشأتُه ومراحله التاريخية. مقال في عدد مجلة «الفكر العربي» المذكور من قبل، ص٢٢٥.
١٥  المرجِع نفسه، ص٦٧. انظر أيضًا: Anouer Abdel-Malek: Orientalism in Crisis. Diogenes 1963, p. 108-109.
١٦  عولجت هذه المسألة بتوسُّع في كتاب: B. S. Turner: Marx & the End of Orientalism. Allen & Unwin, 1978.
وانظر أيضا مقال ميشال نوفل: المركزية الأوروبية وعلاقة الشرق بالغرب في الفكر الماركسي، مجلة الفكر العربي، عدد٣١، ١٩٨٣م.
١٧  إ. سعيد، ص٣٠١.
١٨  المرجع نفسه، ص٢٣٤.
١٩  تُشكِّل هذه الفكرة أساس الكتاب الثاني لإدوارد سعيد حول الموضوع نفسه، وهو: Couering Islam. Pantheon Books, N. Y, 1981.
٢٠  عزيز العظمة: استشراق الأصالة، مجلة الكرمل، العدد الثاني، ربيع ١٩٨١م.
٢١  صادق جلال العظم: المرجِع المذكور من قبل، ص٣٣ وما بعدَها.
٢٢  انظُر للمؤلِّف بحثًا بعنوان: «العرَب والثقافة والتاريخ في مُناقَشة لفكر عبد الله العروي»، مجلة العلوم الاجتماعية، مُجلَّد ١٢، عدد ٢، ١٩٨٤م، جامعة الكويت.
٢٣  الهدف هنا ليس تفضيل وِجهة نظَر على أخرى، وإنما هو مُجرَّد إشارة إلى تعدُّد المنظورات إلى الحقيقة الواحدة. وحتى لو قال أناتول فرانس إنَّ أكبر كارثةٍ لحِقَت بالغرب هي معركة «بواتييه» التي انهزَم فيها العرب، فإن تَمَسُّكنا بهذا القول وحده، وتجاهُل مئات الأقوال المُضادَّة، يُثبِتُ أننا لا نستطيع أن نخرُج عن منظورنا الخاص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤