خاتمة

هكذا يبدو أنه، إذا كان الاستشراق قد اتَّهَمَ ثقافتنا بأنها حالة من حالات النمو الموقوف Arrested Development فإن هذه الثقافة، رغبةً منها في الردِّ على هذا الاتهام، قد سارت في طريق النُّموِّ المُتسارِع Accelerated Development الذي يَحرِق كثيرًا من المراحل قبل أن يَمُرَّ بها.

هذا التَّسارُع يسير في اتِّجاهَين، ينبغي أن نكون على وَعيٍ بهما حتى نُحقِّق لأنفسنا استقلال الناضجِين، لا استقلال المُراهقِين المُتعجِّلين:

الأوَّل معرفي، نَنسِب فيه إلى الغرب وَحدَه تطوير المناهج العقلانية والتجريبية الحديثة، وندعو إلى تَجاوُزها، فتكون النتيجة الفعلية هي أننا نُعطي الغرب أكثرَ ممَّا يَستحق؛ لأن الغرب ليس إلا حلقةً مُتأخِّرة — لن تكون الأخيرة قطعًا — في سلسلةٍ طويلة من الثقافات التي أسهَمَتْ كلها فيما وصلتْ إليه المَعرفة البشرية. ومن جهةٍ أخرى فإنَّنا حين نُبالِغُ في ربط أيِّ نظامٍ معرفي (كالاستشراق) بالجُذور التي نشأ منها (نزعة السيطرة الأوروبية) ننسى قُدرَة المعرفة على أن تستقلَّ عن أصلها وتُكوِّن لنفسها بمُضيِّ الزمن مسارها الخاص، بغضِّ النظر عن جُذورها الأولى.

أمَّا الاتجاه الثاني، والأخطر، فهو اجتماعي، نعمل فيه على تبرئة أنفُسنا من العيوب لمُجرَّد أنَّ خصومنا يؤكدون هذه العيوب، ونخلُق لأنفسنا صورةً مُشوَّهةً لا تقلُّ عن تلك التي يَخلُقها الاستشراق؛ إذ نؤكد أنَّنا مُجتمَع تَسودُه الديناميكية والتغيُّر والتعدُّد، ونجعل من الثَّبات والتَّحجُّر والطابع الأسطوري مُجرَّد وهمٍ خلقَهُ المُستشرِقون، وبذلك نتِّخذ من الاستشراق سُلَّمًا يُوَصِّلنا إلى أخطر أنواع الخِداع الذاتي.

إنَّ هذا البحث يبدو في ظاهِرِه مُنصَبًّا على موضوعٍ مُتخصِّصٍ مَحدود النطاق، هو تقييم حركة نقد الاستشراق بين العرب المُعاصِرين، ولكنه في حقيقته بحثٌ يَمَسُّ أهم جوانب الأزمة التي تَمرُّ بها الثقافة العربية في علاقتها بالغرب. والواقع أنَّ اتِّجاه البحث ذاته يؤدِّي إلى هذا الانتقال من الخاصِّ والجُزئي إلى العام والكلي؛ إذ كان من أهمِّ النتائج التي حاولتُ أن أُثبِتها، تأكيد أن الاستشراق لا ينبغي أن يُبحَث من حيث هو ظاهرة مُنعزلة، تسير في اتجاهٍ واحد (رؤية الغرب للشرق)، بل يجِب النظر إليه في إطار أوسعَ بكثير، هو الإدراك المُتبادَل بين الثقافات في ظروفٍ تاريخية مُتباينة ومُعقدة، قد تَتَّخِذ أحيانًا طابع السيطرة، أو طابع الضعف، أو الخَوف والحذر … إلخ.

والفِكرة التي أودُّ أن أؤكدها، في خِتام هذا البحث، هي أننا قد سِرنا في مُهاجمة تشويهات الاستشراق إلى حدِّ خَلْق تشويهاتِنا الخاصَّة عن أنفسنا وعن علاقَتنا بالآخرين. وكلُّ من عايَش العقل العربي في النصف الثاني من القرن العشرين يعلم جَيِّدًا أنَّ هذا العقل ما زال في أكثر تيَّاراته فاعليَّةً وشعبية، يبحَث عن ذلك الجوهر المُطلَق الذي لم يُغيِّره التاريخ، ويرى فيه خَلاصَهُ الأوحد.

وكلُّ من عايَشَ هذا العقل يعلم أنه ما زال مُتعلقًا بالنظرة الأسطورية إلى حدِّ أنَّ المَحاكم الرسمية تُصدِر فيه — خلال السَّنتَين الأخيرتين — حُكمَين قضائِيَّين بإمكان زَواج رجلٍ من جِنِّية … وهو ما زال مُتعلقًا بالخُرافة إلى حدِّ أنَّ نسبةً كبيرة من طُلَّاب الجامعة — أعلى شريحة تعليمية — تُقاوِم بشدَّة من يدعوها إلى التخلِّي عن الاعتقاد بالسِّحر والحَسَد … وهو ما زال مُرتبِطًا بماضٍ مفقود الصِّلة بالعصر إلى حدِّ أنَّ مَعارِض الكُتُب في البلاد العربية ما زالت تَضُمُّ نسبةً طاغية من كتابات تُكرِّر نفسها وتُعيد ما قِيل من قَبلِها مئات المرَّات منذ مئات السنين.

وهو ما زال بعيدًا عن العِلم إلى حدِّ أنَّ كاتب هذا البحث نفسه تعرَّض لأوسع هُجومٍ من الصُّحف والمجلات وخُطباء المساجد، لمجرَّد أنه تجاسَرَ على القول إنَّ الذين حقَّقوا العُبور في حرب ١٩٧٣م لم يكونوا هُم الملائكة، وإنما كانوا جُنودًا مُدرَّبين تدريبًا عصريًّا.١

إن آخِر ما أفكِّر فيه هو تَثبيط الهِمَم؛ فإلى جانب هذه الصُّور القاتِمة هناك صُور مُضيئة لا شكَّ فيها، وهناك تنوير يَسير في طريقِه بجدِّيَّة، حتى ولو كان مَحدودَ النِّطاق. ولكن ما أودُّ أن أُحذِّر منه هو ألا نخدَع أنفُسَنا لمُجرَّد إثبات أنَّ الآخَرين يَتجنَّون علينا أو لا ينظرون إلينا بإنصاف.

إنَّ الاستشراق ليس بالقَطع معرفةً بَريئة من الشوائب، ولكن الخطر الأكبر يَكْمُن في أن نُنكِر عيوبنا لمُجرَّد أنَّ غَيرَنا يقول بها لأهدافٍ غير موضوعية. إن دَورنا الثقافي في المرحلة الراهِنة هو أن نُمسِك ثَورَ التَّخلُّف من قَرنَيه، وأن ننقُد أنفسنا قبل أن نَنقُدَ الصُّورة التي يُكوِّنها الآخرون عَنَّا، حتى لو كانت هذه صورةً لا تَستهدِف إلا التَّشوِيه.

١  انظر لكاتِب هذا البحث مقال: معركتنا والتفكير اللاعقلي. الأهرام، ١٩ / ١١/ ١٩٧٣م. وانظر أيضًا ردود الفعل عليه في الصُّحف والمجلات المصرية في الأيام التالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤