مقدمة
وفَدَ محمد علي على مصر ضابطًا صغيرًا من ضباط الحملة التُّركية الإنجليزيَّة التي أتتْ في مارس سنة ١٨٠١ لإخراج الفرنسيين من مصر، واشترك محمد علي في معارك كثيرة مع جيوش دول ثلاث: إحداها دولة شرقية متحطمة تسير نحو الفناء، فجيوشُها خليط من شعوب كثيرة متنافرة يعوزها التآلفُ والانسجام والنُّظُم الحديثة وحسن القيادة، والثانية والثالثة دولتان غربيتان ناهضتان تُنافس كلٌّ منهما الأخرى في سبيل الاستيلاء على هذه الكنانة لما تتمتَّع به من ميزات جمَّة، ولأنَّها مفتاح الشَّرق، مطمح أنظارهما، ولموقعها الجغرافي الممتاز، وجيوش هاتين الدولتين تمتاز بنُظُم حديثة، وأسلحة جديدة، وخُطط محكمة، وقيادة قديرة، فكان لهذا اللقاء الأول أثرٌ جدُّ قوي في نفس محمد علي وتفكيره.
فلما جلا الفرنسيون عن مصر، واستقرَّ محمد علي فيها ضابطًا من ضباط الفرقة الألبانية، ظلَّ يرقب عن كثَب الصراعَ الذي قام من جديد بين القوى الثلاث: المماليك والأتراك والإنجليز، وقدر محمد علي كلَّ قوة قدرَها، وأيقن أنَّ كل واحدة منها تُناضل الأخرى في سبيل أن تفوز هي وتغنم دون أن تُعير هذا البلد وهذا الشعب اهتمامًا، ورأَى بثاقب نظره أنَّ هناك — وراء الستار — قوةً ظلَّت كامنة قرابة ثلاثة قرون، وقد أيقظتْها هذه الحملةُ الفرنسية، وأنَّ المستقبل لهذه القوة إذا وَجدتْ من يأخذ بيدها، ويقودها إلى الخير.
بدأ محمد علي في مصر عهدًا جديدًا؛ فقد كانت العلاقات بينه وبين السلطان غيرَ مستقرة، وكان الجيش الذي وجده في مصر — إن صح أن يُسمَّى جيشًا — خليطًا عجيبًا من شرازم مملوكية، وفِرَق ألبانية، وشركسية، إلخ … إلخ، وكانت له أطماعٌ سياسية تتجه إلى إحياء العالم العثماني، وكان يرى أنَّ هذا الإحياء لا يمكن أن يتمَّ إلا إذا اتخذ لنفسه جيشًا وأسطولًا عظيمَين قويَّين ينهج في تكوينهما نهْج دول أوروبا في تكوين جيوشها وأساطيلها.
ورأى محمد علي بعد هذا أنَّ السياسة الاقتصادية في مصر سياسة خرِبة يعوزها الإصلاحُ الشامل في شتى نواحيها، وكان مذهبُه في الإصلاح — مُصيبًا في ذلك أم مُخطئًا — أن تضع الحكومة يدَها على فروع الإنتاج الاقتصادي المختلفة، من زراعة وتجارة وصناعة، لتتمكن من إدخال الإصلاح الذي تُريد.
وكان محمد علي أخيرًا في حاجة إلى موظفين إداريين حازمين يفهمون عنه رغبتَه في الإصلاح، ويُقدِّرون حالة البلد، وحاجتها، ويُلمُّون إلمامًا تامًّا بنواحي الإصلاح الغربي المراد اقتباسُه.
وكانت مصر خلوًا من هذا الصنف من الرجال، فاتَّجه محمد علي أوَّل الأمر إلى استخدام الأجانب، ولكنَّه كان يُدرك منذ اللحظة الأولى «أنَّ الإكثار من الأجانب في خدمة الحكومة ليس من الصواب في شيء، فكثيرٌ منهم — على كفايتهم في النُّظم الحربيَّة والاقتصادية كما عرفتْها بلادهم في ذلك الوقت — يجهلون أغراض الحكومة، وقد يُعرقلون أعمالها، عن قصْد أو غير قصْد، وقد يجهلون أيضًا ما تحتاجه بلادٌ ناشئة كمصر من تلك النظم الحربية والاقتصادية، وقد يرجع هذا إلى جهلهم بلغة البلاد، وعادات أهلها، وطِباعهم، وكان محمد علي لا يثقُ في كثير منهم، ويرى أنَّهم إنَّما يعملون لمصلحتهم الذاتية قبل أن يعملوا لمصلحة الدولة التي تُنفق عليهم، وأنهم يروج بعضهم لبعض.
- (١) رأى أولًا أن علوم الغرب، وحكمته، وخُططه، ونُظُمه، قد سُطِّرت جلُّها أو كلُّها في كتبه التي وضعها علماؤه، ومؤلِّفوه، فكانت خطتُه الأولى أن يُمهِّد السبل لترجمة كثير من هذه الكتب إلى العربية أو التُّركية؛ ليسهل على أبناء البلاد الاطلاعُ عليها، والإفادة منها، وقد عهد فعلًا لكثير من الأجانب في مصر — شرقيين وغربيين — بترجمة بعض الكتب، غير أنَّهم كانوا يتلكَّئون، أو يُهملون في عملهم حتى «لَيتم أحدُهم عملَ ستة أشهر في خمس سنوات»،١١ ومع هذا فقد تُرجمت كتبٌ كثيرة في مختلف الفنون، ولكن هل يستطيع هذا النفرُ من المترجمين أن يُحولوا ماء البحر بكوب؟! كلَّا ولو جاء لهم محمد علي بأضعاف أضعافهم عونًا ومددًا؛ ولهذا أدرك ما يَشين هذه الطريقة من بطء، وما قد يشوبها من أخطاء ترجع إلى اختيار الكتب أو المترجمين، أو كفاية هؤلاء المترجمين، ومبلغ معرفتهم بالعلوم التي يترجمون فيها، أو باللغات التي ينقلون عنها وإليها.
- (٢) راح محمد علي بعد ذلك يتلمَّس طريقةً أخرى فرأى أن ينقل نفرًا من أهل البلد إلى أوروبا — موطن هذه العلوم والنظم — ليَدرسُوا هذا الذي يريد نقلَه هناك، وبلُغة القوم، حتى إذا عادوا لمصر كانوا عدَّتَها في المستقبل، وحلوا محلَّ الأجانب في الوظائف المختلفة، وفي تعليم ما درسوا لأبناء أمتهم، وفي ترجمة الكتب الغربية؛ ولهذا أرسل محمد علي البعوث إلى أوروبا الواحدة بعد الأخرى، وعاد الكثيرون من أعضائها وقد أفادوا الفائدة الكبرى، وحقَّقوا أغراض محمد علي، وحملوا العبء عن الأجانب، وأدَّوا واجبَهم بإخلاص وأمانة، وكان محمد علي مع هذا لا يُوليهم — بعد عودتهم — الأعمال المختلفة إلا إذا استوثق من مهارتهم، وكان مقياسه في ذلك أن يقوم كلٌّ منهم بترجمة كتابٍ في الفن الذي اختصَّ فيه، أمَّا الذين درسوا الصناعة منهم، فكان يُجرِّبهم فيما درسوه، «حتى إذا أظهروا مهارة وكفاية استغنى عن خدمات الأجانب، وأحلَّ محلَّهم أهل البلاد في وظائفهم»؛١٢ لأنَّه كان يرى في صرْف الأجانب عن المنشآت الجديدة، وإحلال المصريين محلَّهم «صيانة لأموال الحكومة وفخرًا لها»،١٢ وكان يفرح الفرحَ كلَّه كلما سمع عن نبوغ بعض الضباط المصريين، ويَعُدُّ ذلك «فألًا حسنًا للمستقبل؛ إذ يعفي الحكومة من استخدام الأجانب».١٢
- (٣)
كان لهذه الطريقة فائدتُها وجدواها؛ فقد عاد الكثيرون من أعضاء البعثات، وتولَّوا الكثيرَ من الأعمال والوظائف، وترجموا الكثير من الكتب، ولكن جيوش محمد علي وأساطيله تحتاج لمئات الضباط، والمصانع المتعددة تحتاج لآلاف العمَّال، والإصلاح الزراعي، ومنشآت الري والهندسة تحتاج لعشرات الخبيرين بهذه الفنون والعلوم الجديدة، والمدارس تحتاج لمئات المدرِّسين المختصين في مختلف العلوم، والإصلاح الطبي يحتاج لجيش كبير من الأطباء … وهكذا … وهكذا … فهل يستطيع محمد علي، أو هل تُمكِّنه ميزانيةُ الدولة أن يبعث هذه الآلاف من المصريين ليتلقَّوا العلم في أوروبا …؟!
- (أ)
فقد عهِد إلى الأجانب أن يقوموا — إلى جانب أعمالهم — بتعليم بعض المصريين علومَهم وفنونهم حتى إذا أَتمَّ هؤلاء تعليمَهم خلفوا أساتذتَهم في مراكزهم، «فالضباط الأجانب ينظمون فِرَق الجيش، ويُعلِّمون الضباط والجند المصريين أو الأتراك، والأطباء الأجانب يعملون في المستشفيات، ويعلِّمون التلاميذ ليكونوا أطباء، ورجال الصناعة الأجانب يعملون في المصانع، ويعلِّمون فنَّهم للصنَّاع المصريين».
- (ب)
ثُم رأى محمد علي أخيرًا أن يُنشئ المدارس المختلفة لتعليم أبناء البلاد تعليمًا رتيبًا مُنظَّمًا؛ فأنشأ مدارسَ الطب والهندسة والزراعة والحربية ومدرسة الألسن، ثم رأى أن لا بد من وجود مدارس أخرى لإعداد الملتحقين بهذه المدارس «الخصوصية»؛ ففتح مدارس «المبتديان»، والمدارس «التجهيزية».
بهذه الوسائل جميعًا حاول محمد علي أن ينقلَ الغرب إلى مصر ليُحقِّق مُثُلَه العليا في الإصلاح، ولكنَّه لم يحاول البتة أن ينقلَ مصر إلى الغرب بل احتفظ لها بروحها وتقاليدها، بل لقد حاول في كثير من الأحيان أن يمزجَ بين الخير في العالَمين — الشرقي والغربي — فأقام النهضةَ المصرية الحديثة على أُسُس متينة صحيحة، ووجَّهها — منذ عصره حتى الآن — الوجهةَ الطيبة التي أفادت منها، والتي لا نزال نعمل للإفادة منها.

استعان محمد علي — كما ذكرنا — بالأجانب أول الأمر، وهنا نتساءل: بأيِّ الأجانب استعان؟ لما لذلك من أثر واضح سيصبغ ثقافة مصر بصبغة خاصة طوال القرن التاسع عشر.
كانت دول أوروبا صاحبة الصدارة في العصور الوسطى المتأخرة ومطلع العصر الحديث هي: إنجلترا وفرنسا، وجمهوريات إيطاليا.
وأحسَّتْ فرنسا في نفس الوقت أهميةَ مصرَ في هذه الناحية، وبدأت المنافساتُ التحتية مع مولد القرن التاسع عشر بين هاتين الدولتين لاحتلال مصر، وظهرتْ أروعُ صور هذه المنافسة في النضال الذي انتهى بإخراج الفرنسيين من مصر سنة ١٨٠١، وتلكَّأت الجنودُ الإنجليزية في مصر بعد خروج الفرنسيين حتى اضطرت إلى الجلاء بعد قليل، ثم عاودتْ محاولتَها مرة أخرى سنة ١٨٠٧ فمُنيَت هذه المحاولةُ بالفشل.
فهل نستطيع أن نقول: إنَّ محمد علي يتَّجه في محاولاته للإصلاح إلى إنجلترا، أو أن يستعين بالإنجليز، ولم يكن في مصر منهم جالياتٌ كبيرة!
فإذا تركنا إنجلترا إلى فرنسا لاحظْنا أنَّ محمد علي قد اشترك في المعارك التي انتهت بإخراجهم من مصر، وقد خلصتْ له مصر بعد عهدهم مباشرة، فهو يحسُّ تمامًا ما تركوا في مصر من آثار، ولكن لعله كان لا يزال يتخوَّف منهم، ثم إنَّ عدد الجالية الفرنسية في مصر قد نقص نقصًا كبيرًا بعد خروج الحملة، فلم يكن من الطبيعي أيضًا أن يتجه محمد علي أول ما يتجه إلى فرنسا، وإن كان سيتجه إليها بعد قليل لعوامل أخرى.
انحرف محمد علي عن الاتجاه إلى هاتين الدولتين، والاستعانة برجالهما أول الأمر — رغم ما كان لهما من زعامة على دول الغرب وقتذاك — واتجه أول ما اتجه إلى إيطاليا والإيطاليين؛ ولذلك أسباب:
فلما انتهتْ مذبحةُ القلعة، وأصبح أولادُ المماليك وغلمانهم ملكًا لمحمد علي، بدأ الخطوة الأولى لإصلاح الجيش، فأنشأ لهؤلاء الغلمان مدرسةً في القلعة على نمط مدارس المماليك القديمة، غير أنَّه كان يُدرِّس فيها إلى جانب الفنون الحربية اللغاتِ العربية والتركية والإيطالية؛ فاللغة الإيطالية هي أول لغة أوروبية قرَّر تدريسَها في مدارس محمد علي.
وسنجد فيما بعدُ أيضًا أنَّ اللغة الإيطالية ستُدرَّس في مدرستي بولاق وقصر العيني ثم في مدرسة المهندسخانة ببولاق، وفي بعض المدارس الحربية في سنيها الأولى.
وعندما فكَّر محمد علي في إرسال البعوث إلى أوروبا، كانت أول بعثاته في سنة ١٨٠٩، وثانيتها في سنة ١٨١٣ إلى مدن إيطاليا المختلفة: ليفورن، وميلانو، وفلورنسا، وروما، وذلك لدراسة فنِّ سبْك الحروف، والطباعة، وبعض الفنون العسكرية وبناء السفن، ونُظُم الحكم.
ومن الفقرة الأخيرة من هذا الاقتباس نعلم مبلغ المرارة التي كان يحسُّها الفرنسيون من تفوُّق الإيطاليين ولغتهم في حكومة وإدارة ومدارس وجيش محمد علي؛ ولهذا نلاحظ أنَّ الفرنسيين سيبذلون كلَّ الجهود للقضاء على هذا النفوذ لكي تكون لهم وللغتهم الصدارةُ بين الأجانب واللغات الأجنبية في مصر، وقد ساعدهم على ذلك أنَّ الطوائف الأولى من الإيطاليين لم تكن من العنصر الممتاز، بل كان معظمهم يُشبهون ذلك اللفيفَ من الأطباء الذين وصفَهم «إدوار جوان» بأنَّهم كانوا: «من أفاقي اليونان والطليان»، وذلك في الوقت الذي ترَك فيه الفرنسيون القلائل الذين التحقوا بخدمة محمد علي، وخاصة «الكولونيل سيف» و«كلوت بك» أطيبَ الأثر وأجمله.
وأخيرًا لقد كان لمركز فرنسا الدولي الممتاز حينذاك — كدولة من دول البحر الأبيض المتوسط — أثرٌ كبير في إشاحة محمد علي وجهَه عن إيطاليا والإيطاليين، واتجاهه في سياسته الإصلاحية نحو فرنسا والفرنسيين.
نجحتْ فرنسا في حلبة هذه المنافسة، وأُلغيت اللغة الإيطالية شيئًا فشيئًا من المدارس المصرية، واستُغني عن الضبَّاط والمدرِّسين الإيطاليين واستعيض عنهم بضباط ومدرسين فرنسيين، وعُدل عن ترجمة الكتب الإيطالية، وأُلغيت البعوث الإيطالية فغدتْ تُرسَل — في معظمها — إلى فرنسا، وفي كلمة واحدة لقد تحولت مصر عن النقل عن الثقافة الإيطالية إلى النقل عن الثقافة الفرنسية، وسيكون لهذا أثرُه الملحوظ كما ذكرنا، فستظل مصر طول القرن التَّاسع عشر مصطبغةً بالصبغة الفرنسية في شتى نواحيها التفكيرية، غير أنَّه لزامٌ علينا أن نُشير في ختام هذا الموضوع إلى أنَّ محمد علي لم يكن أسيرًا لحُبِّه لفرنسا وللثقافة الفرنسية وحدها، بل كان يحب دائمًا أن يستعين برجال كلِّ دولة امتازتْ في ناحية من نواحي العلم والعرفان، فكانت من بعثاته بعثاتٌ أُرسلت للنمسا وإنجلترا، كما كان يُدير بعضَ مدارسه ويعلِّم فيها أفرادٌ من الإسبانيين والإنجليز وغيرهم.