مقدمة

وفَدَ محمد علي على مصر ضابطًا صغيرًا من ضباط الحملة التُّركية الإنجليزيَّة التي أتتْ في مارس سنة ١٨٠١ لإخراج الفرنسيين من مصر، واشترك محمد علي في معارك كثيرة مع جيوش دول ثلاث: إحداها دولة شرقية متحطمة تسير نحو الفناء، فجيوشُها خليط من شعوب كثيرة متنافرة يعوزها التآلفُ والانسجام والنُّظُم الحديثة وحسن القيادة، والثانية والثالثة دولتان غربيتان ناهضتان تُنافس كلٌّ منهما الأخرى في سبيل الاستيلاء على هذه الكنانة لما تتمتَّع به من ميزات جمَّة، ولأنَّها مفتاح الشَّرق، مطمح أنظارهما، ولموقعها الجغرافي الممتاز، وجيوش هاتين الدولتين تمتاز بنُظُم حديثة، وأسلحة جديدة، وخُطط محكمة، وقيادة قديرة، فكان لهذا اللقاء الأول أثرٌ جدُّ قوي في نفس محمد علي وتفكيره.

فلما جلا الفرنسيون عن مصر، واستقرَّ محمد علي فيها ضابطًا من ضباط الفرقة الألبانية، ظلَّ يرقب عن كثَب الصراعَ الذي قام من جديد بين القوى الثلاث: المماليك والأتراك والإنجليز، وقدر محمد علي كلَّ قوة قدرَها، وأيقن أنَّ كل واحدة منها تُناضل الأخرى في سبيل أن تفوز هي وتغنم دون أن تُعير هذا البلد وهذا الشعب اهتمامًا، ورأَى بثاقب نظره أنَّ هناك — وراء الستار — قوةً ظلَّت كامنة قرابة ثلاثة قرون، وقد أيقظتْها هذه الحملةُ الفرنسية، وأنَّ المستقبل لهذه القوة إذا وَجدتْ من يأخذ بيدها، ويقودها إلى الخير.

وانتهت هذه المعركةُ الثلاثية بخروج الإنجليز من مصر أولًا، ثم بضعف المماليك والأتراك ثانيًا، وهنا ظهَر محمد علي في صفِّ الشَّعب، ولحَظ الناسُ — خاصتهم وعامتهم — مواهبَ هذا الرجل الممتازة «فرأوا في رجل الحرب الزعيم المفطور على الخير، ولما اشتدَّ الأمرُ بينهم وبين الباشا العثماني قالوا له: إنا لا نريد هذا الباشا حاكمًا علينا، ولا بد من عزْله من الولاية، فقال: ومَن تريدونه يكون واليًا؟ قالوا له: لا نرضى إلا بك، وتكون واليًا علينا بشروطنا لمَا نتوسمه فيك من العدالة والخير، فامتنع أولًا، ثم رضيَ، وأحضروا له «كركًا» وعليه قفطان، وقام إليه السيد عمر والشيخ الشرقاوي فألبساه له، وذلك وقت العصر، ونادوا بذلك في تلك الليلة في المدينة.»١
وانتهى النزاعُ أخيرًا، واضطر السلطانُ اضطرارًا أن يقرَّ محمد علي واليًا على مصر، ومنذ ذلك الحين بدأ هذا الرجل العظيم يُطهِّر الجو أولًا، ثم أخذ يضع الخطط لإصلاحاته المختلفة، التي تعتبر — إلى حدٍّ ما — استمرارًا لما بدأه الفرنسيون في مصر، والتي التزم فيها سبيلًا وسطًا، فلم يلجأ إلى القديم ويتعصب له؛ لأنه آمن منذ اللقاء الأول بأن الإصلاح إنما يكون بالنقل عن الغرب، ولكنه في نفس الوقت لم يأخذ عن الغرب كلَّ شيء، ولم يعتمد عليه كلَّ الاعتماد، بل «اتخذ بين المستشرقين والمستغربين خطةً وسطًا، يدلُّكَ على ذلك أن «ماكولي» استشهد بما عمله محمد علي في مصر لتأييد ما ذهب إليه من ضرورة تعليم العلوم الحديثة، كما أنَّ خصوم «ماكولي» من أنصار الثقافة الشرقية استشهدوا أيضًا بمحمد علي لتأييد ما ذهبوا إليه من ضرورة وصْل حاضر الأمة بغابرها، فقالوا — وكان حقًّا قولهم: إنَّ مُصلح مصر يُعلِّم العلوم الحديثة، ولكنَّه يُعلِّمها باللغة العربية …»٢
تولَّى محمد علي عرشَ مصر والعلم فيها قد انزوى في أروقة الأزهر، وصحون بعض المساجد، وقاعات المكاتب في المراكز والقرى، وكان لعلماء الأزهر — كما يقول رفاعة — «اليدُ البيضاء في إتقان الأحكام الشرعية، العملية والاعتقادية، وما يجب من العلوم الآلية كعلوم العربية الاثني عشر، وكالمنطق، والوضع، وآداب البحث، والمقولات، وعلم الأصول المعتبر …»٣ وكان الأزهر كما يقول: «جنة علم دانية الثمار، وروضة فهْم يانعة الأزهار»،٤ وإن كان أستاذه الشيخ العطار قد فقد ثقتَه بهذه العلوم، مذ بهرتْه علومُ الفرنسيين، وراح يطلب غيرَها لنفسه، ويقرأ لتلاميذه كتبًا غيرَ كتب الأزهر، وعلومًا غير علوم الأزهر، وكان يقول: «إنَّ بلادنا لا بد أن تتغيَّر أحوالُها، ويتجدَّد بها من المعارف ما ليس فيها.»٥
وآمن محمد علي بهذا الرأي، وبدأ يعدُّ العُدَّة لإنشاء المدارس الجديدة، ولكنَّه تخيَّر تلاميذَها ومُعلِّميها من المعهد القديم — الأزهر — واحتفظ لمدارسه الجديدة بالطابع الإسلامي الشَّرقي، فكان في نظَر أهل عصره من المصريين «مُجددًا لدروس العلم بعد اندراسها، آتيًا في ذلك بما لم تستطعْه الأوائل»،٦ كما كان يُلقِّبه الأوروبيون «بمعيد تمدُّن الإسلام، ومبيد تمكُّن الأوهام».٧

بدأ محمد علي في مصر عهدًا جديدًا؛ فقد كانت العلاقات بينه وبين السلطان غيرَ مستقرة، وكان الجيش الذي وجده في مصر — إن صح أن يُسمَّى جيشًا — خليطًا عجيبًا من شرازم مملوكية، وفِرَق ألبانية، وشركسية، إلخ … إلخ، وكانت له أطماعٌ سياسية تتجه إلى إحياء العالم العثماني، وكان يرى أنَّ هذا الإحياء لا يمكن أن يتمَّ إلا إذا اتخذ لنفسه جيشًا وأسطولًا عظيمَين قويَّين ينهج في تكوينهما نهْج دول أوروبا في تكوين جيوشها وأساطيلها.

ورأى محمد علي بعد هذا أنَّ السياسة الاقتصادية في مصر سياسة خرِبة يعوزها الإصلاحُ الشامل في شتى نواحيها، وكان مذهبُه في الإصلاح — مُصيبًا في ذلك أم مُخطئًا — أن تضع الحكومة يدَها على فروع الإنتاج الاقتصادي المختلفة، من زراعة وتجارة وصناعة، لتتمكن من إدخال الإصلاح الذي تُريد.

وكان محمد علي أخيرًا في حاجة إلى موظفين إداريين حازمين يفهمون عنه رغبتَه في الإصلاح، ويُقدِّرون حالة البلد، وحاجتها، ويُلمُّون إلمامًا تامًّا بنواحي الإصلاح الغربي المراد اقتباسُه.

وكانت مصر خلوًا من هذا الصنف من الرجال، فاتَّجه محمد علي أوَّل الأمر إلى استخدام الأجانب، ولكنَّه كان يُدرك منذ اللحظة الأولى «أنَّ الإكثار من الأجانب في خدمة الحكومة ليس من الصواب في شيء، فكثيرٌ منهم — على كفايتهم في النُّظم الحربيَّة والاقتصادية كما عرفتْها بلادهم في ذلك الوقت — يجهلون أغراض الحكومة، وقد يُعرقلون أعمالها، عن قصْد أو غير قصْد، وقد يجهلون أيضًا ما تحتاجه بلادٌ ناشئة كمصر من تلك النظم الحربية والاقتصادية، وقد يرجع هذا إلى جهلهم بلغة البلاد، وعادات أهلها، وطِباعهم، وكان محمد علي لا يثقُ في كثير منهم، ويرى أنَّهم إنَّما يعملون لمصلحتهم الذاتية قبل أن يعملوا لمصلحة الدولة التي تُنفق عليهم، وأنهم يروج بعضهم لبعض.

هذا إلى النفقات الطائلة التي تُنفَق عليهم؛ فهم يتقاضون مرتباتٍ باهظة، وكثيرٌ منهم يجهلون اللغة العربيَّة، فيُعيَّن لهم مترجمون ليكونوا عونًا لهم في عملهم، وفي الصلة بينهم وبين الحكومة».٨
هذه هي الأسباب التي كانت تعدل بمحمد علي عن الاعتماد على الأجانب أو الإكثار منهم في وظائف الحكومة، وتدفعه إلى التفكير الجدي السريع في إيجاد حلٍّ للإقلال منهم، ثم لإحلال المصريين محلَّهم، ويضاف إلى الأسباب السابقة ما كان يمتاز به كثيرون من هؤلاء من جهل وادِّعاء واستغلال، يؤيد دعوانا هذه ما يقوله «إدوار جوان» عن الأطباء المرافقين للحملة المصرية على السودان، قال: «كان يوجد لفيفٌ من أفاقي اليونان والطليان يرافقون الجيش في تنقُّلاته من مكان إلى مكان منتحلين العلم بالطب، والحقيقةُ أنهم كانوا لا يدرون من بسائطه شيئًا، وإنَّما كانوا من النصَّابين البارعين في الشعوذة، ولقد كان ستة من أولئك الأطباء المزعومين في مقدمة الذين لقُوا حتفَهم بتلك الأمراض المهلكة، فكان موتهم بها دليلًا على عجزهم وجهلهم، وشعوذتهم»،٩ وذكر أيضًا «مسيو هامون» ناظر مدرسة الطب البيطري في مصر في عهد محمد علي عند كلامه عن الأطباء والصيادلة الأجانب الذين ألحقوا بالإدارة الصحية أول إنشائها، أن ثلثيهم كانوا لا يحملون دبلومات أو مؤهلات عملية طبية، بل إن منهم من كان ممرضًا أو مدير مكتب تلغرافي أو صانع أحذية أو ندلًا في مقهى بالقاهرة، ثم قال: «إن أيَّ أجنبي كان ينزل بأرض مصر وليس له مهنة يمتهنها كان يُعيَّن صيدليًّا أو طبيبًا.»١٠
أدرك محمد علي إذن كل هذه الأسباب، وكانت له بصيرة مستشفة، وعين نفاذة، وبدأ يفكر كما قلنا في الوسائل التي تُمكِّنه سريعًا من الاستغناء عن هؤلاء الأجانب — أو على الأقل — عن المدعين منهم، ثم إحلال المصريين محلَّهم، وقد اتَّبع لتنفيذ هذا الرأي سُبلًا كثيرة:
  • (١)
    رأى أولًا أن علوم الغرب، وحكمته، وخُططه، ونُظُمه، قد سُطِّرت جلُّها أو كلُّها في كتبه التي وضعها علماؤه، ومؤلِّفوه، فكانت خطتُه الأولى أن يُمهِّد السبل لترجمة كثير من هذه الكتب إلى العربية أو التُّركية؛ ليسهل على أبناء البلاد الاطلاعُ عليها، والإفادة منها، وقد عهد فعلًا لكثير من الأجانب في مصر — شرقيين وغربيين — بترجمة بعض الكتب، غير أنَّهم كانوا يتلكَّئون، أو يُهملون في عملهم حتى «لَيتم أحدُهم عملَ ستة أشهر في خمس سنوات»،١١ ومع هذا فقد تُرجمت كتبٌ كثيرة في مختلف الفنون، ولكن هل يستطيع هذا النفرُ من المترجمين أن يُحولوا ماء البحر بكوب؟! كلَّا ولو جاء لهم محمد علي بأضعاف أضعافهم عونًا ومددًا؛ ولهذا أدرك ما يَشين هذه الطريقة من بطء، وما قد يشوبها من أخطاء ترجع إلى اختيار الكتب أو المترجمين، أو كفاية هؤلاء المترجمين، ومبلغ معرفتهم بالعلوم التي يترجمون فيها، أو باللغات التي ينقلون عنها وإليها.
  • (٢)
    راح محمد علي بعد ذلك يتلمَّس طريقةً أخرى فرأى أن ينقل نفرًا من أهل البلد إلى أوروبا — موطن هذه العلوم والنظم — ليَدرسُوا هذا الذي يريد نقلَه هناك، وبلُغة القوم، حتى إذا عادوا لمصر كانوا عدَّتَها في المستقبل، وحلوا محلَّ الأجانب في الوظائف المختلفة، وفي تعليم ما درسوا لأبناء أمتهم، وفي ترجمة الكتب الغربية؛ ولهذا أرسل محمد علي البعوث إلى أوروبا الواحدة بعد الأخرى، وعاد الكثيرون من أعضائها وقد أفادوا الفائدة الكبرى، وحقَّقوا أغراض محمد علي، وحملوا العبء عن الأجانب، وأدَّوا واجبَهم بإخلاص وأمانة، وكان محمد علي مع هذا لا يُوليهم — بعد عودتهم — الأعمال المختلفة إلا إذا استوثق من مهارتهم، وكان مقياسه في ذلك أن يقوم كلٌّ منهم بترجمة كتابٍ في الفن الذي اختصَّ فيه، أمَّا الذين درسوا الصناعة منهم، فكان يُجرِّبهم فيما درسوه، «حتى إذا أظهروا مهارة وكفاية استغنى عن خدمات الأجانب، وأحلَّ محلَّهم أهل البلاد في وظائفهم»؛١٢ لأنَّه كان يرى في صرْف الأجانب عن المنشآت الجديدة، وإحلال المصريين محلَّهم «صيانة لأموال الحكومة وفخرًا لها»،١٢ وكان يفرح الفرحَ كلَّه كلما سمع عن نبوغ بعض الضباط المصريين، ويَعُدُّ ذلك «فألًا حسنًا للمستقبل؛ إذ يعفي الحكومة من استخدام الأجانب».١٢
  • (٣)

    كان لهذه الطريقة فائدتُها وجدواها؛ فقد عاد الكثيرون من أعضاء البعثات، وتولَّوا الكثيرَ من الأعمال والوظائف، وترجموا الكثير من الكتب، ولكن جيوش محمد علي وأساطيله تحتاج لمئات الضباط، والمصانع المتعددة تحتاج لآلاف العمَّال، والإصلاح الزراعي، ومنشآت الري والهندسة تحتاج لعشرات الخبيرين بهذه الفنون والعلوم الجديدة، والمدارس تحتاج لمئات المدرِّسين المختصين في مختلف العلوم، والإصلاح الطبي يحتاج لجيش كبير من الأطباء … وهكذا … وهكذا … فهل يستطيع محمد علي، أو هل تُمكِّنه ميزانيةُ الدولة أن يبعث هذه الآلاف من المصريين ليتلقَّوا العلم في أوروبا …؟!

وجد محمد علي أنَّ هذه أيضًا طريقة غير عملية، أو — على الأقل — غير سريعة الإنتاج؛ لأنَّه لو اكتفى بها لاحتاج إلى سنوات وسنوات، وهو حريص على أن يشمل إصلاحُه كلَّ ناحية من نواحي الحياة المصريَّة، وفي أسرع وقت ممكن؛ لهذا لجأ إلى تجربة رابعة ذات شعبتين:
  • (أ)

    فقد عهِد إلى الأجانب أن يقوموا — إلى جانب أعمالهم — بتعليم بعض المصريين علومَهم وفنونهم حتى إذا أَتمَّ هؤلاء تعليمَهم خلفوا أساتذتَهم في مراكزهم، «فالضباط الأجانب ينظمون فِرَق الجيش، ويُعلِّمون الضباط والجند المصريين أو الأتراك، والأطباء الأجانب يعملون في المستشفيات، ويعلِّمون التلاميذ ليكونوا أطباء، ورجال الصناعة الأجانب يعملون في المصانع، ويعلِّمون فنَّهم للصنَّاع المصريين».

  • (ب)

    ثُم رأى محمد علي أخيرًا أن يُنشئ المدارس المختلفة لتعليم أبناء البلاد تعليمًا رتيبًا مُنظَّمًا؛ فأنشأ مدارسَ الطب والهندسة والزراعة والحربية ومدرسة الألسن، ثم رأى أن لا بد من وجود مدارس أخرى لإعداد الملتحقين بهذه المدارس «الخصوصية»؛ ففتح مدارس «المبتديان»، والمدارس «التجهيزية».

بهذه الوسائل جميعًا حاول محمد علي أن ينقلَ الغرب إلى مصر ليُحقِّق مُثُلَه العليا في الإصلاح، ولكنَّه لم يحاول البتة أن ينقلَ مصر إلى الغرب بل احتفظ لها بروحها وتقاليدها، بل لقد حاول في كثير من الأحيان أن يمزجَ بين الخير في العالَمين — الشرقي والغربي — فأقام النهضةَ المصرية الحديثة على أُسُس متينة صحيحة، ووجَّهها — منذ عصره حتى الآن — الوجهةَ الطيبة التي أفادت منها، والتي لا نزال نعمل للإفادة منها.

figure
ختم محمد علي باشا.

استعان محمد علي — كما ذكرنا — بالأجانب أول الأمر، وهنا نتساءل: بأيِّ الأجانب استعان؟ لما لذلك من أثر واضح سيصبغ ثقافة مصر بصبغة خاصة طوال القرن التاسع عشر.

كانت دول أوروبا صاحبة الصدارة في العصور الوسطى المتأخرة ومطلع العصر الحديث هي: إنجلترا وفرنسا، وجمهوريات إيطاليا.

أما إنجلترا فلم تفكر يومًا — حتى أواخر القرن الثامن عشر — في أن تكون لها بمصر علاقةٌ ما، وخاصةً من الناحية السياسية، وذلك إذا استثنينا الدَّورَ الذي لعِبه الملكُ «ريتشارد» (قلب الأسد) في الحروب الصليبية، وما كان بينه وبين سلطان مصر وقتذاك صلاح الدين الأيوبي وأخيه الملك العادل أبي بكر من علاقات١٣ صداقة كانت تُوحي بها روحُ العصر والمُثُل العليا لنظام الفروسية السائد في تلك الأيام، وما كان يتمتع به كلٌّ من صلاح الدين، و«ريكاردوس» من صفات البطولة الصادقة.
وبانتهاء تلك الحملةِ الصليبية انقطعتِ العلاقاتُ بين مصر وإنجلترا، حتى إذا كان النصفُ الثاني من القرن الثامن عشر سمعْنا عن مساعٍ كثيرة يبذلها الإنجليزُ في مصر للعودة إلى استعمال الطريق البري القديم عبرَ مصر والبحر الأحمر للوصول إلى الهند؛١٤ لما يمتاز به هذا الطريقُ من قصرٍ وسرعة تتناسب ومبشرات الرغبة في هذه السرعة التي ستكون أهمَّ مميزات القرن التاسع عشر وخاصة بعد الانقلاب الصناعي.

وأحسَّتْ فرنسا في نفس الوقت أهميةَ مصرَ في هذه الناحية، وبدأت المنافساتُ التحتية مع مولد القرن التاسع عشر بين هاتين الدولتين لاحتلال مصر، وظهرتْ أروعُ صور هذه المنافسة في النضال الذي انتهى بإخراج الفرنسيين من مصر سنة ١٨٠١، وتلكَّأت الجنودُ الإنجليزية في مصر بعد خروج الفرنسيين حتى اضطرت إلى الجلاء بعد قليل، ثم عاودتْ محاولتَها مرة أخرى سنة ١٨٠٧ فمُنيَت هذه المحاولةُ بالفشل.

فهل نستطيع أن نقول: إنَّ محمد علي يتَّجه في محاولاته للإصلاح إلى إنجلترا، أو أن يستعين بالإنجليز، ولم يكن في مصر منهم جالياتٌ كبيرة!

فإذا تركنا إنجلترا إلى فرنسا لاحظْنا أنَّ محمد علي قد اشترك في المعارك التي انتهت بإخراجهم من مصر، وقد خلصتْ له مصر بعد عهدهم مباشرة، فهو يحسُّ تمامًا ما تركوا في مصر من آثار، ولكن لعله كان لا يزال يتخوَّف منهم، ثم إنَّ عدد الجالية الفرنسية في مصر قد نقص نقصًا كبيرًا بعد خروج الحملة، فلم يكن من الطبيعي أيضًا أن يتجه محمد علي أول ما يتجه إلى فرنسا، وإن كان سيتجه إليها بعد قليل لعوامل أخرى.

انحرف محمد علي عن الاتجاه إلى هاتين الدولتين، والاستعانة برجالهما أول الأمر — رغم ما كان لهما من زعامة على دول الغرب وقتذاك — واتجه أول ما اتجه إلى إيطاليا والإيطاليين؛ ولذلك أسباب:

فقد ظلَّت العلاقاتُ التجارية بين مصر وجمهوريات إيطاليا متينةً وثيقة طول العصور الوسطى، وكان للإيطاليين حتى أوائل عهد محمد علي جالياتٌ كثيرة في ثغور مصر والشام وموانيهما، كما كانت اللغة الإيطالية هي اللغة الأجنبية الأكثر شيوعًا١٥ وتداولًا، بل لقد كانت لغة المخاطبات الرسمية حتى بين القنصليات غير الإيطالية، وكان هؤلاء الإيطاليون يعرفون العربية، كما كان عامةُ الأهالي في الثغور المصرية، وخاصة الإسكندرية، يتكلمون الإيطالية، يقول رفاعة عند كلامه عن الإسكندرية في «رحلته إلى باريس»: إنَّ أغلب السوقة بهذه المدينة «يتكلم ببعض شيء من اللغة الطليانية».١٦

فلما انتهتْ مذبحةُ القلعة، وأصبح أولادُ المماليك وغلمانهم ملكًا لمحمد علي، بدأ الخطوة الأولى لإصلاح الجيش، فأنشأ لهؤلاء الغلمان مدرسةً في القلعة على نمط مدارس المماليك القديمة، غير أنَّه كان يُدرِّس فيها إلى جانب الفنون الحربية اللغاتِ العربية والتركية والإيطالية؛ فاللغة الإيطالية هي أول لغة أوروبية قرَّر تدريسَها في مدارس محمد علي.

وسنجد فيما بعدُ أيضًا أنَّ اللغة الإيطالية ستُدرَّس في مدرستي بولاق وقصر العيني ثم في مدرسة المهندسخانة ببولاق، وفي بعض المدارس الحربية في سنيها الأولى.

وعندما فكَّر محمد علي في إرسال البعوث إلى أوروبا، كانت أول بعثاته في سنة ١٨٠٩، وثانيتها في سنة ١٨١٣ إلى مدن إيطاليا المختلفة: ليفورن، وميلانو، وفلورنسا، وروما، وذلك لدراسة فنِّ سبْك الحروف، والطباعة، وبعض الفنون العسكرية وبناء السفن، ونُظُم الحكم.

«ومن إيطاليا استدعى محمد علي المعلِّمين للمدارس، والضباط المدرَّبين للجيش، واشترى آلاتِ الطباعة، والكتب التي دفعها إلى المترجمين لينقلوها إلى التركية أو العربية.»١٧
وقد ذكر كلوت بك في تقريره عن الطِّب في مصر الذي قدَّمه في ديسمبر سنة ١٨٣٧ للدكتور «بورنج Bowring» مبعوث الحكومة الإنجليزية في مصر، أنه بدأ عملَه في مصر والإدارة الصحية يُشرف عليها — في معظمها — الإيطاليون، ثم ذكر في إحصائية صغيرة أن مائة وخمسة من الأطباء والصيادلة في الجيش والمستشفيات العسكرية كانوا من الإيطاليين، واثنين وثلاثين من الفرنسيين، وستة من الإنجليز، وخمسة من الألمان، وأربعة من البولنديين، واثنين من الإسبان.١٨
وعندما استقدم محمد علي بعثةً حربية من فرنسا للاشتراك في تنظيم جيشه، كتَب الجنرال «بواييه Boyer» رئيس هذه البعثة إلى صديقه المسيو «جومار Jomard» عضو المجمع العلمي الفرنسي، والمشرف على بعثات محمد علي إلى فرنسا فيما بعد — يقول: «وجدت أنَّ إدارة الشئون كلها في مصر في أيدي الإيطاليين، واللغة الفرنسية في المحل الثاني، ولا يعلمون في المدارس الحربيَّة سوى اللغةِ الإيطالية، ولا يُترجمون سوى الكتب البسيطة التي وضعها مؤلفون من ذلك الشعب، ومدرسو الرياضيات واللغات، والعلوم، والفنون، وغيرها، كلهم إيطاليون، وفي كل عام يرحل إلى أوروبا ثلاثون أو أربعون شابًّا ليتعلموا علومَها وفنونها، وإلى «بيزة» يتَّجهون حتى في دراسة الفنون الحربية، ويُظهر الوالي دهشتَه من هذا التفوق الإيطالي، وإنَّهم ليبثُّون في ذهنه المخاوفَ من ناحية الفرنسيين (الخادعين)، أما من ناحية الإيطاليين فلا يجب أن يخشى شيئًا …»١٩

ومن الفقرة الأخيرة من هذا الاقتباس نعلم مبلغ المرارة التي كان يحسُّها الفرنسيون من تفوُّق الإيطاليين ولغتهم في حكومة وإدارة ومدارس وجيش محمد علي؛ ولهذا نلاحظ أنَّ الفرنسيين سيبذلون كلَّ الجهود للقضاء على هذا النفوذ لكي تكون لهم وللغتهم الصدارةُ بين الأجانب واللغات الأجنبية في مصر، وقد ساعدهم على ذلك أنَّ الطوائف الأولى من الإيطاليين لم تكن من العنصر الممتاز، بل كان معظمهم يُشبهون ذلك اللفيفَ من الأطباء الذين وصفَهم «إدوار جوان» بأنَّهم كانوا: «من أفاقي اليونان والطليان»، وذلك في الوقت الذي ترَك فيه الفرنسيون القلائل الذين التحقوا بخدمة محمد علي، وخاصة «الكولونيل سيف» و«كلوت بك» أطيبَ الأثر وأجمله.

وهناك عاملٌ شخصي قد يكون له بعض الفضل في التمهيد لغلبة الفرنسيين على الإيطاليين، وذلك أنَّ محمد علي كان قد اتصل في شبابه بتاجر فرنسي اسمه «المسيو ليون»،٢٠ وقد أخلص له هذا الرجل الوُدَّ والإخاء، وأفاده كثيرًا بخبرته في شئون التجارة، كذلك قد يرجع بعضُ الفضل إلى أنَّ فرنسا كانت تسعى — برجالها وعلمائها وضباطها — إلى مصر وإلى محمد علي سعيًا؛ فقد كانت تعتبره منفِّذًا ومتمِّمًا لما بدأه علماءُ الحملة من أبحاث، ولما بدأته الحملةُ نفسها من إصلاحات.

وأخيرًا لقد كان لمركز فرنسا الدولي الممتاز حينذاك — كدولة من دول البحر الأبيض المتوسط — أثرٌ كبير في إشاحة محمد علي وجهَه عن إيطاليا والإيطاليين، واتجاهه في سياسته الإصلاحية نحو فرنسا والفرنسيين.

نجحتْ فرنسا في حلبة هذه المنافسة، وأُلغيت اللغة الإيطالية شيئًا فشيئًا من المدارس المصرية، واستُغني عن الضبَّاط والمدرِّسين الإيطاليين واستعيض عنهم بضباط ومدرسين فرنسيين، وعُدل عن ترجمة الكتب الإيطالية، وأُلغيت البعوث الإيطالية فغدتْ تُرسَل — في معظمها — إلى فرنسا، وفي كلمة واحدة لقد تحولت مصر عن النقل عن الثقافة الإيطالية إلى النقل عن الثقافة الفرنسية، وسيكون لهذا أثرُه الملحوظ كما ذكرنا، فستظل مصر طول القرن التَّاسع عشر مصطبغةً بالصبغة الفرنسية في شتى نواحيها التفكيرية، غير أنَّه لزامٌ علينا أن نُشير في ختام هذا الموضوع إلى أنَّ محمد علي لم يكن أسيرًا لحُبِّه لفرنسا وللثقافة الفرنسية وحدها، بل كان يحب دائمًا أن يستعين برجال كلِّ دولة امتازتْ في ناحية من نواحي العلم والعرفان، فكانت من بعثاته بعثاتٌ أُرسلت للنمسا وإنجلترا، كما كان يُدير بعضَ مدارسه ويعلِّم فيها أفرادٌ من الإسبانيين والإنجليز وغيرهم.

١  ص«س» من مقدمة الأستاذ شفيق غربال بك لكتاب: «تاريخ التعليم في عصر محمد علي» للدكتور أحمد عزت عبد الكريم؛ والجبرتي، ج٣، ص٣٥٠.
٢  شفيق غربال، محمد علي الكبير، ص٩٦.
٣  رفاعة، مناهج الألباب، ص٣٧٢.
٤  رفاعة، تخليص الإبريز، ص٣.
٥  علي مبارك، الخطط التوفيقية، ج٤، ص٣٨.
٦  رفاعة، مناهج الألباب، ص٣٧٢.
٧  رفاعة، في مقدمته لبداية القدماء وهداية الحكماء، ص٤.
٨  عزت عبد الكريم، تاريخ التعليم في عصر محمد علي، ص٣١-٣٢.
٩  إدوار جوان، مصر في القرن التاسع عشر، ترجمة محمد مسعود، ص٦٢١-٦٢٢.
١٠  Hamont. l’Egypte sous Mèhémet-Ali, t. II, pp. 108-109.
١١  عزت عبد الكريم، تاريخ التعليم في عصر محمد علي، ص٣٣ (نقلًا عن وثائق عابدين).
١٢  عزت عبد الكريم، المرجع السابق ص٣٣ و٣٤ (عن وثائق عابدين).
١٣  فصَّلتُ هذه العلاقات في بحثٍ لي لم يُنشَر بعدُ، عنوانه: «الصِّلات السلمية بين الإسلام والمسيحية في العصور الوسطى».
١٤  انظر فيما يتعلق بمحاولات إنجلترا في القرن الثامن عشر: Hoskios, The British Routes tolndia، وانظر أيضًا: مقالاتي عن «مصر وطريق الهند في القرن الثامن عشر» المقتطف، سنة ١٩٤٠ و١٩٤١.
١٥  Artin Pacha. l’lnstruction Publique en Egypte, p. 69.
١٦  تخليص الإبريز، ص٢٦.
١٧  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٩٠.
١٨  Bowring. Report on Egypt and Candia. p. 139.
١٩  Douin, une Mission Militaire de Meh. Ali. p. 40 (de Boyer à jormard, 20Msi, 1825)، والترجمة من ألفاظ الدكتور عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٩٠-٩١.
٢٠  لم ينسَ محمد علي جميلَ هذا الفرنسي، وخاصةً عندما وصل إلى قمة مجدِه؛ فقد بحث عنه حتى علم أنه يُقيم في «مرسيليا»، فأرسل يستدعيه إلى فرنسا، ولكن الرجل تُوفي وهو يُعدُّ العُدَّة للسفر، فأرسل محمد علي عشرةَ آلاف فرنك هدية إلى أخته، انظر: الرافعي، تاريخ الحركة القومية، ج٢، ص٣١٢-٣١٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤