تقدير عام للترجمة في ذلك العصر
-
(١)
أغراض الترجمة.
-
(٢)
عن أيِّ اللغات وإلى أيِّ اللغات.
-
(٣)
طريقة الترجمة.
-
(٤)
المصطلحات.
-
(٥)
أسلوب الترجمة.
-
(٦)
أثر الترجمة في اللغة العربية.
-
(٧)
أثرها في المجتمع المصري.
***
والآن، وقد انتهينا من التأريخ للترجمة، وأدواتها، وما يتصل بها، يحقُّ لنا أن نُلقيَ على هذه الحركة المباركة نظرةً عامة شاملة؛ لنُقدِّرَها حقَّ قدرِها ونتعرف على أغراضها المختلفة، وننتقد طريقتها وأسلوبها ونُبين أثرها في تاريخ اللغة العربية، والمجتمع المصري.
(١) أغراض الترجمة
-
(أ)
ظهر لنا من الفصول السابقة أن محمد علي كان يتجه في سياسته الإصلاحية إلى النقل عن الغرب؛ ولهذا يمكن أن نقولَ إن الغرض الأول والأساسي للترجمة في ذلك العصر كان يرمي إلى نقْل ما عند الغرب والغربيين من علم جديد، ومن نُظُم وقوانين جديدة في الجيش والأسطول، والمدارس، والمستشفيات والإدارة الحكومية … إلخ.
-
(ب)
أما الغرض الثاني فهو نقْل العلوم الحديثة المختلفة إلى اللغتين العربية والتركية؛ ليسهلَ على الطلاب والمدرِّسين استعمالُها ودرسُها، وتدريسها في المدارس الحديثة.
-
(جـ)
وهناك كتبٌ كثيرة تُرجمت تحقيقًا لرغبة محمد علي باشا، أو لرغبة ابنِه إبراهيم باشا في بعض الأحيان، وهذه في الغالب إما كتُب تبحث في فنِّ الحكم، ونُظُمه، وسياسته؛ ككتاب الأمير لمكيافلِّي أو مقدمة ابن خلدون، وإما كتب في التاريخ، وخاصة ما تناول منها سيَر وتراجم العظماء والمصلحين؛ كالسيرة النبوية، وتاريخ الإسكندر ونابليون، وكاترين، وبطرس الأكبر، وإما كتُب فيها تعريفٌ بالدول الأوروبية الكبيرة؛ كتاريخ إيطاليا، ورحلة رفاعة، وتاريخ فرنسا، إلخ. أما الكتب التي كان يُشير بترجمتها إبراهيم باشا، فكانت في الغالب كتُبًا حربية؛ كوصايا فريدريك الأكبر لضباطه، أو الكتب التعليمية لفريق الجيش المختلفة.
-
(د)
وكانت بعضُ الكتب تُترجم خصيصًا للمكتب العالي، حيث تُستعمل لتعليم أولاد محمد علي وأحفاده؛ فقد ذكر مثلًا في مقدمة كتاب «إفاضة الأذهان في رياضة الصبيان» أنه ترجم «برسم حضرة أنجال الخديو الأعظم، وحفدة الداوري الأكرم، وليشتغل به تلاميذُ المكتب العالي».
-
(هـ)
ولم نلاحظ أن هناك كتبًا تُرجمت لتحقيق المثل الأعلى لمِثل هذه الحركة — وهو نشرُ الثقافة العامة بين الشعب — وإن كنَّا لا نُنكر أن محمد علي خطَا مرة خطوةً نحو تحقيق هذا الغرض؛ فأمر بتأليف وترجمة كتابَين لنشْر الثقافة الطبية بين عامة الشعب، وهما: «كنوز الصحة ويواقيت المنحة» و«الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال»، غير أنه لم يتبع هذه الخطوة بخطوات أُخَر، أما المعهد الذي سعى لتحقيق هذا الغرض وكان يُقدَّر له النجاح لو طال به العمر، فهو مدرسة الألسن، وسنفصل الكلام عن جهد هذه المدرسة في هذه الناحية عند كلامنا عن أثر الترجمة في المجتمع المصري.
(٢) عن أيِّ اللغات وإلى أيِّ اللغات
وتُرجمت كتُب عن العربية إلى التركية، أو عن التركية إلى العربية.
(٣) طريقة الترجمة
شهد العالمُ الإسلامي، منذ بدء الإسلام حتى الآن، حركتَين للترجمة: كانت الأولى في عهد الدولة العباسية، وخاصة في عصرَي الرشيد والمأمون، وبدأت الثانية في عصر محمد علي، وقد عانى المترجمون في العهدَين كثيرًا من صعوبات الترجمة وخاصة عند نقل المصطلحات العلمية التي لا مرادفَ لها في اللغة العربية.
أما المترجمون في العصر العباسي، فقد كان لهم في النقل — كما يقول الصلاح الصفدي — طريقان: «أحدهما هو أن ينظر إلى كلمة مفردة من الكلمات الأعجمية، وما تدل عليه من المعنى فيُثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك، حتى يأتيَ على جملةِ ما يريد تعريبَه. وهذه الطريقة رديئة لوجهين: أحدهما أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلماتٌ تقابل جميع الكلمات الأعجمية؛ ولهذا يقع في خلال هذا النقل كثيرٌ من الألفاظ الأعجمية على حالها، والثاني أن خواص هذا التركيب والنسب الإسنادية لا تُطابق نظيرَها من لغة لأخرى دائمًا، وأيضًا يقع الخللُ من جهة استعمال المجازات، وهي كثيرةٌ في جميع اللغات.
هاتان هما الطريقتان اللتان اتبعتَا في العصر العباسي، وهما طريقتان اجتهاديتان كان الباعث عليهما أن الترجمة في ذلك العصر كانت ترجمةً فردية، حقيقةً إن الترجمة في العصر العباسي — كانت مثلها في عصر محمد علي — ترجمة رسمية، يُوعز بها، ويرعاها ويُشجعها الحكومة والحكَّام، غير أن الخليفة في العصر الأول كان يوعز إلى المترجمين بالترجمة، فيبذل كلٌّ منهم جهدَه وحده، ويتصرَّف في النقل حسب اجتهاده.
أما الترجمة في عصر محمد علي فكانت تقوم بها هيئاتٌ متعددة؛ ولهذا نراها أُحيطت بالضمانات الكافية والممكنة لتخرج سليمة، دقيقة متقنة بقدر الإمكان.
بدأ الترجمةَ في عصر محمد علي جماعةُ السوريين، وكان أولهم الأب رفائيل، وقد تُرك وشأنه في الترجمة؛ فقد كانت الحركة في أول خطواتها؛ ولهذا خرجت ترجماتُه رديئة ضعيفة الأسلوب، غير واضحة ولا مفهومة، فلما أُلحق نفرٌ آخرون من السوريين بمدرسة الطب، أحسَّت الحكومة فيهم هذا الضعفَ في اللغة العربية؛ فبدأت بوضْع تقليد جديد، وهو إشراك جماعة من شيوخ الأزهر معهم في النقل لتخيُّر الألفاظ والمصطلحات العلمية العربية، أو لاشتقاق ونحْت ألفاظ ومصطلحات جديدة، ثم لتصحيح الأسلوب وصياغته صياغة عربية صحيحة.
ولهذا لم يكن المترجمُ ينفردُ بالترجمة وحده، ثم يقدِّم الترجمة للشيخ المصحح ليقوم بتصحيحها وحدَه، بل كان الرجلان يجلسان معًا، فيُمسك المترجم بكتابه، والشيخ بدفتره، ويبدأ الأول في الترجمة جملة جملة، ثم يُمليها على رفيقه، وهما في أثناء ذلك يتشاوران، ويراجعان الأصل، أو الكتب العربية القديمة، أو ما بين أيديهما من قواميس ومعاجم، إلى أن يتَّفقَا على الصورة النهائية، يشير إلى هذا التعاون والاشتراك في العمل الشيوخ المصححون في مقدمات الكتب المترجمة؛ فهذا الشيخ مصطفى كساب يقول في مقدمة كتاب «نزهة الأنام في التشريح العام»، و«ترجمه من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية المترجم الحاذق الخواجة يوسف فرعون، مع مصحح مسائله، ومنقح دلائله مصطفى حسن كساب»، ويقول أيضًا في مقدمة كتاب «منتهى البراح في علم الجراح»: «ترجمه يوسف فرعون مع مرتِّب مبانيه، ومهذِّب معانيه مصطفى كساب»، وقال الشيخ محمد الهراوي في مقدمة كتاب «منتهى الأغراض في علم الأمراض» الذي ترجمَه يوحنا عنحوري: «وكان ممن استملى منه نحو نصف هذا الكتاب أخي ووحيدي أحمد صويبع الرشيدي، ولكون الكتاب المذكور نُقل للطليانية، وكان يفسر بها حين قراءة المعلم للدرس، وخفتُ من أن يكون قد وقع في شيء منه اللبس، تصفَّحتُه ثانية مع علي أفندي هيبة على أصله المطبوع بالفرنساوية.» ثم يقول في خاتمة الكتاب: «لذا تعبتُ في تحريره عند الجمع والطبع غاية التعب، واستهونتُ ما حلَّ بي حينذاك من دوام السهر والوصَب، حتى صغتُه صياغةَ التآليف العربية في انسجام المعاني، وتناسب الكلمات، بعد أن بذلتُ الجهد في تهذيب المباني وتناسق العبارات، حتى صار لا يُرى عليه غبار الترجمة، ولا ما تعرف به من غبار اللعثمة.»
وقال نفس الشيخ في مقدمته لكتاب «المنحة في سياسة حفظ الصحة»: «فجمع الخواجا برنار هذا الكتاب من مجلدات كبار، وترجمه من الفرنساوي للعربي بالكتابة والمقال المترجم الحلبي جورجي فيدال، وكنت مقيدًا لتصليح ما ترجم ترجمة لفظية، وتوقيعه مواقع عبارات عربية، مع إبقاء أسلوبه لمساق الكلام على ما هو عليه، واصطلاحهم في كثرة التقسيمات وتطويل العبارات على ما مالوا إليه، غير أني بذلتُ في أن تستفاد المعاني من المباني غاية الجهد، وحفظتُ ألَّا أكتبَ شيئًا إلا بعد معرفتي إياه.» ثم قال في خاتمته إنه روجع «على يد مصحح كلمِه عند الترجمة، محرِّر جملِه لدى القراءة والمقابلة، مؤاخيه حال القراءة والجمع، موافيه عند التمثيل والطبع، محمد الهراوي.»
وضع هذا التقليد خصيصًا للمترجمين من السوريين، فلما خرجت المدارس والبعثات خريجيها من المصريين، وبدءوا يشاركون في حركة الترجمة، لم يُلغَ هذا التقليد، بل أُبقيَ عليه؛ فقد كانت حكومة محمد علي — وهذه الكتب المترجمة جهدٌ من جهودها — حريصةً على أن تُظهرَ للقارئين أقرب ما تكون إلى الصحة موضوعًا وأسلوبًا، وكان معظم خريجي المدارس والبعثات من خريجي مدرستَي بولاق وقصر العيني، أو من تلاميذ المكاتب الإقليمية؛ ولهذا كانت ثقافتهم في اللغة العربية ضعيفةً محدودة، فكان من الضروري أن يُعينَهم شيوخُ الأزهر على أداء مهمتهم، وقد فعلوا؛ جاء في مقدمة كتاب «إسعاف المرضى من علم منافع الأعضاء» أن مترجمَه علي أفندي هيبة «كان يُمليه على الشيخ محمد محرم أحد المصححين بمدرسة أبي زعبل»، وذكر في مقدمة «نُبَذ كلوت بك» أنه قام بترجمتها إبراهيم النبراوي حكيم أول ابن عرب بإملائه للشيخ محمد محرم أحد المصححين قبل الطبع، وقال الشيخ مصطفى كساب في مقدمة كتاب «الطب العملي»: «وترجمَه … محمد أفندي عبد الفتاح … وقد استمليتُ منه هذا الكتاب، وصححتُه بأعذب خطاب.» وقد اتبع الشيخ محمد عمر التونسي نفسَ الطريقة مع الدكتور «برون» أثناء ترجمته لكتابه الجواهر السنية؛ فقد قال في مقدمته: «على أن جلَّ هذا الكتاب كان أُمليَ عليَّ من قبل ذلك، وصححتُ أكثره بلا مشارك (يقصد من المصححين)، وساعدني في ذلك معرفةُ مؤلفه باللغة العربية؛ لأني قابلتُ كلَّ مشكلة معه على أصوله الفرنساوية …»
غير أنَّا نلاحظ أن هذا التقليد لم يكن عامًّا، بل لقد أُعفيَ منه خريجو المدارس والبعثات من الأزهريين؛ أُعفيَ منه الشيخ رفاعة، وأعفيَ منه الشيخان (ثم الدكتوران) أحمد حسن الرشيدي، وحسين غانم الرشيدي؛ فقد كانَا ممتازَين في معرفتهما للغة العربية، بل لقد كانَا مصححَين في مدرسة الطب قبل إيفادهما إلى فرنسا ضمن بعثة ١٨٣٢ الطبية.
وحدث هذا الإجراء أيضًا في بعض كتب الطب البيطري، والكتب الرياضية؛ فقد ترجم فرعون كتاب «التوضيع لألفاظ التشريح»، وصحَّحه الشيخ مصطفى كساب، ثم صدَر أمرٌ من ديوان الجهادية بأن تُكوَّن لجنة ثانية من رفاعة أفندي والبكباشي هرقل لمراجعته، «فبادرَا بالامتثال، وقابلاه مقابلةً ليس لها مثالٌ، مع إمعان النظر، وإيضاح ما خفيَ واستتر» وكذلك كتاب «اللآلئ البهية في الهندسة الوصفية»، ترجمه إبراهيم رمضان أفندي، ثم عهد به إلى حسن الجبيلي أفندي، «فقابله على أصله الفرنساوي، وأطلق عنانَ قلمه فيه وصحَّحه، وأمعن نظرَه في ترجمته وأصلحه»، ثم أعطاه للشيخ إبراهيم الدسوقي فحرَّره وصحَّحه تصحيحًا ثانيًا … إلخ … إلخ.
كذلك نلاحظ أن المبدأ العام لم يتَّجه في هذه الحركة إلى التخصص في الترجمة؛ فقد رأينا طبيبًا يترجم في الجغرافيا، ومبعوثًا للتخصص في صناعة الحرير يُترجم كتابًا في التاريخ، ورأينا رفاعة يُترجم في كل علم وفن؛ ولهذا نلاحظ أنه أخذ تلاميذُه في مدرسة الألسن بنفس الطريقة، فكان المترجم ينتهي من ترجمة كتاب في التاريخ أو الجغرافيا، فيعهد إليه بترجمة كتاب آخر في الكيمياء أو النبات، أو الهندسة، أو الرحلات … إلخ.
غير أنا نلاحظ أن الحركة كانت تتَّجه في أواخر العهد نحو التخصص؛ فالذين عُيِّنوا في مدرسة الطب من خريجي البعثات تخصصوا في ترجمة العلوم الطبية دون غيرها، والذين عُيِّنوا في مدرسة المهندسخانة تخصَّصوا في ترجمة العلوم الرياضية، بل إنَّا لنلاحظ أن خريجي الألسن كانوا في طريقهم إلى انتهاج هذا النهج؛ فأبو السعود وخليفة محمود كادَا — في آخر العهد — يتخصَّصان في ترجمة الكتب التاريخية، وصالح مجدي في ترجمة الكتب الهندسية والحربية، ومحمد الشيمي في ترجمة الكتب الرياضية … وهكذا، وفي رأْيي أنه لو كان قد امتدَّ بالمدرسة العمرُ لانتهتْ إلى التخصص التام.
هذا ولم يكن النصُّ يُترجَم كاملًا في كل الأحيان، بل كان يخضع للأغراض العامة والخاصة للترجمة في ذلك العصر، فهناك كتُب جُمعت أجزاؤها من كتُب كثيرة مختلفة، وكتُب تُركت بعض فصولها، وكتُب أُضيفت إليها أجزاء وفصول عن كتب إفرنجية، وأحيانًا من كتُب عربية، والأمثلة الآتية توضح ما تقول:
فالدكتور «برنار» المدرِّس بمدرسة الطب جمَع كتاب «المنحة في سياسة حفظ الصحة» «من مجلدات كبار».
وعندما ترجم الدكتور أحمد حسن الرشيدي كتابَ «ضياء النيرين في مداواة العينين»، قال في مقدمته: «وقد أضفتُ إليه نُبذةً من كتاب الحكيم «والير» النمساوي في كيفية تحضير أدوية العين، واستعمالها في التداوي، وزدتُ على ذلك جملة مستحضرات تُستعمل هنا ومركبات من نحو أكحال ومراهم، وبرودات وقطرات التقطتُها من المؤلفات الجليلة، ليكون المرتاد جامعًا لكل فضيلة.»
وقال الدكتور «برون» في مقدمة كتابه «الأزهار البديعة في علم الطبيعة»: «واقتطفتُ من روضة كتُب هذا الفن كلَّ زهرة بديعة، وجمعتُ هذا الكتاب من أحاسن الفن المذكور.»
وذكر الشيخ الهراوي في مقدمة كتاب «القول الصريح في علم التشريح» تأليف «بايل» وترجمة عنحوري، أنه «ترجم مع ما ضمَّه إليه كلوت بك في أثناء التعليم من زيادات احتاج المقامُ إليها، وذيَّل بكراسة في تعليم صناعة التشريح، وتصبير الأجسام.»
أما كتاب «منتهى الأغراض في علم الأمراض» تأليف «بروسيه وسانسون» وترجمة عنحوري؛ فقد نسخه الدكتور «ديفينو» بخطِّه، ولم يتصرَّف فيه كما قال: «بغير التقديم والتأخير في مباحث بعض الأبواب، وحذف بعض عبارات من الأصل وقَع بها في الإسهاب، وأضاف له مبحث مشاهدات الأمراض، وقاعدة الاستقصا من فتح الموتى ليعلم ما حلَّ بها من الأعراض، وذيَّله بمبحث الديدان المتولدة في باطن الأعضاء حتى لا يبقَى محتاجًا إلى ما تتشوف إليه النفس، أو يوجبها للإغضاء.»
وهكذا فعل رفاعة ببعض كتبه، فقد جمع فصول كتابه «التعريفات الشافية لمريدي الجغرافيا» من كتب فرنسية مختلفة، فخرج بعد ترجمته «متضمنًا لخلاصة كتب «هذا العلم» المطولة».
وعندما ترجم كتابه «قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر» وهو يطلب العلم في باريس، قال في مقدمته: «ولما كان هذا الكتاب المذكور غير مقصور على مجرد نقل العوائد، بل هو مشتمل على استحسان واستقباح بعضها أشار على مدير التعليم المذكور (مسيو جومار) أن أحذفَ ما يذكره مؤلفُ الكتاب من الحط والتشنيع على بعض العوائد الإسلامية، أو مما لا ثمرةَ لذكره في هذا الكتاب.»
وعندما بدأ جهودَه في مدرسة الألسن أراد أن يُخرج مكتبةً تاريخية تتحدَّث عن تاريخ العالم منذ أقدم عصورِه إلى أحدثها، وكان أول كتاب تُرجم من هذه المجموعة كتاب «بداية القدماء وهداية الحكماء»، وهو كتاب شامل لتاريخ الشعوب المختلفة في العصور القديمة؛ كاليونان والسودان، والبابليين والفرس، وغيرهم، وقد اشترك جماعةٌ من تلاميذ الألسن في ترجمته، وقال رفاعة في مقدمته: «ولما كان المؤلف ناقصًا تاريخ الخليقة والعرب، وكان في كتاب عماد الدين أبي الفداء سلطان حماة ما يفي بالأرب، أضفتُه إلى الترجمة لكمال المطلوب وبلوغ المرغوب.»
(٤) المصطلحات
كان أمر هذه المصطلحات في الترجمة عن بعض اللغات الشرقية إلى البعض الآخر سهلًا هيِّنًا؛ فقد كان عصرُ أخْذِ كل لغة من اللغات الثلاث عن مصطلحات اللغتين الأخريَين قد انتهى منذ أمدٍ طويل، وكانت كلُّ لغة منها قد هضمت ما اقتبستْه من اللغتين الشقيقتين، فأصبح مفهوم المعنى والمدلول كأنه من ألفاظها.
أما المشكلة كل المشكلة عند المترجمين في عصر محمد علي فقد كانت في محاولاتهم نقل الألفاظ والمصطلحات العلمية الأوروبية إلى اللغة العربية أو التركية.
ولو أن اللغة العربية كانت تُكتب بحروف لاتينية، أو لو أن اللغات الأوروبية كانت تُكتب بحروف عربية لسهل العملُ على المترجمين قليلًا؛ فإن رسم اللفظ — الذي تصعب ترجمتُه من لغة إلى لغة أخرى تشبهها في رسم الحروف — يُسهِّل على القارئ قراءَته قراءة صحيحة، وقد يُعينه على فهْم معناه إذا كانت اللغتان متشابهتَين أو متقاربتَين، أو منحدرتَين من أصل واحد، ذكر هذه الحقيقة خليفة محمود في مقدمة كتابه «إتحاف الملوك الألبا بتقدم الجمعيات في بلاد أوروبا»؛ فقد ألَّف هذا الكتابَ في الأصل المؤرخُ الإنجليزي «روبرستون»، ثم ترجمه خليفة أفندي عن ترجمة فرنسية، ووصف في أوله ما يُلاقيه هو وغيره من المترجمين من صعابٍ أثناء الترجمة، ثم شرح الفكرة السابقة بقوله: «إنَّ فنَّ الترجمة جبلٌ صعب المرتقى … وتاريخ الإمبراطور شارلكان من أصعب ما نظم في السلوك من تواريخ الدول والملوك … لأن مَن ترجموه إلى اللغات المختلفة كانوا أبطالًا شهد لهم بالذكاء والألمعية … ومع ذلك فقد استصعبوه، وبالدقة وصفوه، مع أن لغاتِهم مشابهةٌ لبعضها، والحروف واحدة، فإذا عثَر مَن يترجم من الإنجليزية مثلًا إلى الفرنساوية على كلمة لم يجد لها مقابلًا في لغته، يكتبها على أصلها في ترجمته، وتُقرأ وتفهم من غير صعوبة …»
أدرك المترجمون هذ الصعوبة الناتجة عن اختلاف اللغة العربية عن اللغات الأوروبية في أصول الكلمات واشتقاقاتها، وفي رسْم الحروف، وكانوا يستطيعون أن يتغلَّبوا عليها لو أنهم رسموا الألفاظ الجديدة بالحروف العربية وأثبتوها كما هي بحروفها اللاتينية إلى جانب الرسم العربي، كما نفعل نحن الآن في كثير من الأحيان، ولكنهم لم يفعلوا، ولستُ أدري السرَّ في إحجامهم عن استعمال هذه الطريقة مع أن مطبعة بولاق منذ أُنشئت، بل ومعظم المطابع الأخرى — وخاصة مطبعة سراي رأس التين بالإسكندرية — كانت بها مجموعاتٌ للحروف اللاتينية، بأشكال وأحجام مختلفة.
أهمل المترجمون إذن الحروف اللاتينية تمامًا، ثم حاولوا مستعينين بما وصلت إليه أيديهم من قواميس ومعاجم، وبجهود المحررين والمصححين من المشايخ، البحثَ في كتب الطب، والكيمياء، والنبات العربية القديمة على ألفاظ ومصطلحات تُقابل ما يعثرون عليه من ألفاظ ومصطلحات في المؤلفات الأوروبية، واستطاعوا بهذه الطريقة أن يُحيوا ألفاظًا علمية عربية كثيرة، غير أن العالم الأوروبي في أوائل القرن التاسع عشر كان قد أوجد علومًا جديدة، وأحدَث اختراعات، وعرف نُظُمًا وأوضاعًا سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة لم يكن للعرب القدامى بها عهْد.
وهذا العالم الأوروبي قد اتصلت الأسبابُ بينه وبين مصر والمصريين بعد قطيعة طالت أمدها؛ ولهذا العالم الأوروبي تاريخٌ وجغرافيا مفعمتان بالأسماء التي لم تعرفْها ولم تذكرْها الكتب العربية القديمة، بل هناك عالمٌ جديد قد اكتُشف وعالم قديم كان في سبيله إلى الاكتشاف، وعلماء أوروبا قد وضعوا التصانيف الكثيرة في دراسة هذه العوالم جميعًا، وبرنامج الترجمة في عصر محمد علي كان يرمي إلى نقْل كتبٍ كثيرة للتعريف بهذه العوالم، فكيف إذن يستطيع المترجمون التغلُّبَ على هذه الصعوبة؟
لقد حاولوا، وبذلوا الجهد، وبدءوا يصطنعون طرُقًا تمهِّد لهم السبل، واللغةُ كما نعرف كائنٌ حي، ينمو ويتطور، فإذا كنا قد انتهينا إلى صياغة ألفاظ ومصطلحات علمية كثيرة تُقابل الألفاظ والمصطلحات العلمية الأوروبية الحديثة، فالفضلُ الأكبر يرجع لجهود هؤلاء الرواد، ولنتتبع الآن الطرقَ التي اصطنعوها لأنفسهم.
لقد حاولوا أولًا إيجادَ ألفاظ ومصطلحات عربية تُقابل الألفاظ والمصطلحات الأوروبية، بل إنَّا لنلاحظ أن هؤلاء المترجمين لم يكونوا جامدين ولا متزمتين، ولم يُقيِّدوا أنفسَهم بالألفاظ العربية دائمًا، فكانوا إذا وجدوا أن اللفظ العربي قد أهمله المتكلمون بالعربية أنفسهم، وبدءوا يستعملون اللفظ الأوروبي، أو لفظًا قريبًا منه، فضَّلوا اللفظ الجديد على اللفظ القديم. يقول رفاعة في مقدمة «التعريبات الشافية»: «واعلم أنه قد تمرُّ عليك أسماءُ بلدان أبقيناها على أسمائها الفرنساوية؛ إما لاشتهارها في هذا العهد بتلك الأسماء، كجزيرة «سرنديب» فإنها الآن تسمَّى جزيرة «سيلان»، واشتهرت عند عامة الناس بهذا الاسم، وجزيرة «صقلية» فإنها اشتهرت الآن باسم جزيرة «سيسيليا»، وجزيرة «أقرطيش» فإنها يقال لها الآن جزيرة «كريد»، وإما لعدم الوقوف على الاسم العربي، ولعل هذا السبب الأخير هو الموجب لما فعله المرحوم الحاج خليفة أفندي صاحب كتاب الجغرافيا المطبوع في مدينة إسلامبول من إبقائه أسماء أماكن على لفظها الفرنساوي، لعدم اطلاعه على أسمائها العربية والتركية.»
هذه كانت خطوتهم الأولى، وكانوا إذا عجزوا عن العثور على لفظ عربي يؤدي المعنى المطلوب، أو يُقابل اللفظَ الأوروبي، نقلوا اللفظ أو المصطلح الجديد كما هو، ورسموه بحروف عربية، وإذ كانت الحروفُ العربية في مطابع ذلك العصر خاليةً من الشكل تمامًا، فقد لجئوا للطريقة القديمة، فبيَّنوا بالكلمات طريقةَ نُطْق هذه الألفاظ، ثم أشفعوا هذا كله بتفسير للمصطلح الجديد، أو تعريف له، في جملة أو جمل كثيرة، يقول رفاعة في مقدمة كتاب «المعادن النافعة»: «وقد فسرتُ مفرداته على حسب ما ظهر لي بالفحص التام، وما تعاصى منها حفظتُ لفظَه، ورسمتُه كما يمكن كتابته به، وربما أدخلتُه بعض تفسيرات لطيفة.» ونستطيع بحقٍّ أن نقول إن رفاعة هو مبتدع هذه الطريقة وصاحبها، فقد اتبعَها في معظم كتبه التي ترجمها، وعنه أيضًا أخذَها تلاميذُه في مدرسة الألسن؛ فهذا خليفة أفندي محمود يقول في مقدمة كتاب «إتحاف الملوك الألبا»: «… إن اللغة العربية بمعزل عن اللغات الإفرنجية، فلزم لي معاناة أين، ومكابدة مشاق بين حين إلى حين، لأجل أن آتيَ بمقابل ألفاظ يصعب وجودُ مقابلٍ لها في العربية، يكون مطابقًا لمعناها، ومؤدِّيًا لجميع مفادها وفحواها، حتى إنه ربما ورَد عليَّ بعضُ ألفاظ لم أجد لها مقابلًا بالكلية، فبلفظها الأصليِّ ذكرتُها، وبجملة اعتراضية فسَّرتُها.» ولنأتِ الآن ببعض الأمثلة التي تُوضح هذه الطريقة نقلناها عن بعض الكتب التي ترجمها رفاعة وتلاميذه.
-
(١)
الأنستتوت — بفتح الهمزة وسكون النون وكسر السين — أي مشورة العلوم وأكابرهم.
-
(٢)
الإكتريستة، بكسر الهمزة، وسكون الكاف وكسر التاء والراء، وكسر السين وفتح التاء — المسماة الرسيس، بفتح الراء المشددة وكسر السين، التي هي خاصة الكهربا عند حكِّها.
-
(٣)
شمبر دوبير، بفتح الشين وسكون الميم — يعني ديوان «البير» بفتح الموحدة؛ أي أهل المشورة الأولى.
-
(٤)
ديوان رسل العمالات، وهذه هي ترجمة رفاعة للاصطلاح الفرنسي Chmbre des députés. ولهذا الاصطلاح عندنا في مصر منذ عهد محمد علي حتى اليوم تاريخ طويل؛ فقد سُمي هذه التسمية، ثم أُطلق عليه «مجلس شورى القوانين»، ثم «الجمعية العمومية» ثم «الجمعية التشريعية» إلخ إلى أن سمَّيناه أخيرًا بمجلس النواب، كما سمَّينا الشمبر دوبير بمجلس الشيوخ.
-
(٥)
الجرنالات، جمع جرنال، وهو يُجمع في اللغة الفرنساوية على «جورنو» وهي ورقات تُطبع كلَّ يوم، وتذكر كل ما وصل إليهم علمُه في ذلك اليوم، وتنتشر في المدينة، وتُباع لسائر الناس، وسائرُ أكابر باريس يرتبونها كل يوم، وكذلك سائر القهاوي، وهذه الجرنالات مأذونٌ فيها لسائر أهل فرنسا أن تقول ما يخطر لها، وأن تستحسن وتستقبح ما تراه حسنًا أو قبيحًا، وأن تقول رأيها في تدبير الدولة فلها حرية تامة ما لم تضرَّ في ذلك، فإنه يُحكم عليها وتُطلب قدام القاضي، «والجورنو» عصب، فكل جماعة لها في مذهبها مذهب كل يوم يقويه ويحاميه ويؤيده، ولا يوجد في الدنيا أكذب من الجرنالات أبدًا خصوصًا عند الفرنسيس.
-
(٦)
التلغراف — يعني إشارة الأخبار … إلخ … إلخ.
(٥) أسلوب الترجمة
أخص ما يمتاز به أسلوب الكتب المترجمة أنه أسلوب علمي خاص؛ لأن الكتب التي تُرجمت في عصر محمد علي كانت كلُّها — إذا استثنينا كلستان سعدي — كتبًا علمية، غير أنا نلاحظ أن المترجمين قد ساروا — رغم ما في ترجماتهم من عيوب — باللغة العربية خطوةً إلى الأمام؛ فقد تخلَّصوا في كتبهم المترجمة من قيود المحسنات البديعية — وخاصةً السجع — التي ظلَّت مسيطرة على الكتب العربية قرونًا طويلة، وكان هذا التخلص شيئًا طبيعيًّا؛ إذ لم يكن من الممكن البتة أن يلتزم أيُّ مترجم السجعَ في كتاب بأكمله، يُقيِّده فيه النص الأجنبي الذي ينقل عنه، أو المصطلحات والتعريفات العلمية التي يترجمها، والتي كثيرًا ما يحار في ترجمتها؛ ولهذا لاحظنا أن معظم المترجمين في ذلك العصر، إن لم يكن كلهم، قد قيَّدوا أنفسهم بالنص تقييدًا أضرَّ بالأسلوب وبالمعنى في كثير من الأحيان، ومع هذا فإن الأساليب الأوروبية لم تَخلُ تمامًا من بعض المحسنات؛ كالاستعارة أو التورية، أو التشبيه، فلكلِّ لغة محسِّناتُها، وهنا أباح المترجمون لأنفسهم في بعض الأحيان التصرفَ في نقْل هذه المحسنات، وكثيرًا ما كانوا يُعربونها؛ أي يضعون مكانَها استعاراتٍ وتشبيهات تتفق والذوق العربي، وذلك إذا أيقنوا أن المحسنات الأوروبية مما لا يفهمه، أو يعقله، أو يهضمه القارئُ العربي.
هذه هي المبادئ التي التزمها خليفة محمود في ترجمته لهذا الكتاب، غير أنه لم يلتزمْها وحده، بل يمكننا أن نعتبرها مبادئَ عامة تنطبق على معظم ما ترجم المترجمون في عصر محمد علي، وقد رأيتُ أن أتخيَّر بعض أمثلة من الكتب التي تُرجمت في ذلك العصر لمقارنتها بالأصل المنقول عنه، ونقدها والحكم عليها تحت ضوء هذه المبادئ العامة.
وقد راعيتُ أن تكون هذه الأمثلة مختلفٌ كلٌّ منها على الآخر في كل شيء؛ في اللغة التي تُرجم عنها، وفي المترجم الذي ترجمه وفي الموضوع الذي تُرجم فيه؛ فالمثال الأول قطعة من كتاب الأمير لمكيافلِّي الذي ترجمه عن الإيطالية إلى العربية الأب رفاييل زاخور، وهو واحد من المترجمين السوريين، والثاني قطعة من كتب الجغرافيا العمومية لمالطبرون الذي ترجمه عن الفرنسية إلى العربية رفاعة الطهطاوي، وهو واحد من خريجي البعثات، والثالث قطعة من كتاب إتحاف الملوك الألبا في تقدم الجمعيات في أوروبا للمؤرخ الإنجليزي «روبرتسون»، وقد ترجمه عن ترجمة فرنسية للكتاب خليفة محمود وهو مترجم من خريجي الألسن.
هذا ولم أُوفَّق للعثور على النص الفرنسي للكتاب الأخير، وهو الذي نقل عنه المترجم وإنما عثرت على النص الإنجليزي الأصلي، فلم أرَ بأسًا في مقارنة الترجمة العربية به.
ترجمة الأب رفائيل
الرأس الأول: في كم هي أنواع الأميريات وبأيِّما طرايق تُحاز؛ أي يُحصل عليها؟
إن كل الأحكام، وكل السيادات تلك التي قد ملكت وتملك سلطة على الناس، كانت ولم تزل إما مشيخات وإما أميريات؛ فالأميريات إما أنها مستورثة، وهذه دم من سادها يكون قد استمر مدة مستطيلة أميرًا، وإما أنها مستجدة، ثم إن المستجدة إما أنها كلها جديدة كما كانت أميرية مديولان (كذا) على الأمير فرنسيس سفورزا، وإما أنها كأعضاء مضافة لحكم الوارث ما للأمير (كذا) الذي يحوزها، كمملكة نابولي لملك إسبانيا؛ فإن هذه سيادات هكذا محافزة (كذا) أو معتادة أن تعيش تحت أحكام أمير، أو أنها أميريات اعتادت أن تكون محررة وتحاز إما بقوة أسلحة آخرين أو بأسلحة ناسها خاصة أو بواسطة السعد أو بواسطة الفضل.
ترجمة محمد لطفي جمعة
كانت الحكومات التي حكمت الأمم في الأزمان الغابرة، إحدى اثنتين: إما جمهوريات عادلة وإما ملكيات معتدلة، وللملكية نوعان: نوع تحكمه أسرةٌ واحدة عريقة في القِدم يرث أفرادها الملك، الواحد بعد الآخر، ونوع حديث التأسيس، وملوكُه حديثو العهد بالسلطان؛ ولذلك النوع الأخير صنفان: صنفٌ تكون الممالك فيه حديثة بالكلية كما كانت إمارة «ميلانو» في عهد «فرنشسكو سفورزا»، وصنفٌ يضمُّه الأمير إلى ما ورثه عن آبائه وأجداده بحق الفتح، مثل إمارة «نابولي» التي ضمَّها ملك إسبانيا إلى أملاكه.
على أن بعض الممالك التي تُقهر ويُغلب أهلها على أمرهم، يكون قبل الفتح متعودًا حكم أمير من الأمراء، ويكون بعضها حرًّا مستقلًّا ووقوع تلك الإمارات في أيدي الفاتح يحدث إما بقوة الحرب، وإما عفوًا صفوًا.
فهل يستطيع القارئ أن يفهم شيئًا من هذا الكلام؟ ثم ما هذه التعابير الأعجمية العجيبة: «من على الشرنق»، و«غامق جدًّا أيضًا وهذا»، و«لا توفق قط مطلقًا» إلخ … إلخ.
ولكن لا يظننَّ أحدٌ أن كل ما ترجم المترجمون السوريون كان بهذه التفاهة والركاكة والغموض، فإن الكتب التي ترجمها عنحوري وفيدال وسكاكيني فيما بعد تختلف كلَّ الاختلاف عما ترجمه رفاييل، والسببُ في هذا الاختلاف واضح؛ وذلك أن رفاييل كان أول من عُهد إليه بالترجمة من السوريين، وقد تُرك وشأنه أثناء الترجمة، فلما أُلحق المترجمون الآخرون بمدرسة الطب رأى القائمون بالأمر أن يتفادوا هذه العيوب، فوضعوا التقليد الصالح الذي ذكرناه من قبل وهو تعيين جماعة من شيوخ الأزهر لمراجعة وتصحيح وتحرير ما يترجم المترجمون السوريون.
فإذا كنا لم نفهم شيئًا مما نقلناه عن ترجمات رفاييل، وإذا كنا نستطيع أن نفهم الكثير مما ترجم خلفه من المترجمين السوريين، بل ومن المترجمين المصريين، فيجب أن نعترف بالفضل لأولئك المشايخ المصححين.
الترجمة العربية
اعلم أن قسم إفريقية منذ عصر «هردوط» هو الذي كشف به الأقدمون أقل مما كشفوا لغيره من البلاد؛ وذلك لأن «هردوط» الذي كان سوَّاحًا ومؤرخًا التقط من مدينة منف ببلاد مصر، ومن مدينة القيروان ببر المغرب جميعَ الأخبار المعلومة لحكماء مصر، ولليونان المقيمين ببلاد إفريقية، وأما معارف القرطاجيين فلم تصله إلا مقطَّعة قطعة بعد قطعة؛ فلهذا لم يمدَّ نظره جهة منابع النيل إلا على بعد، وربما مدَّ نظره كذلك أيضًا جهة نهر النجير (كذا) وجبل الدرن المسمى جبل أطلس، وأما خارج هذه الحدود فإنه كان يقف عقله عن الحكم عليه بشيء.
وحتى عندما كان رفاعة يُبيح لنفسه التصرف في أوضاع أجزاء الجملة الواحدة، لم يستطع صياغتَها في أسلوب عربي مقبول؛ فهو مثلًا قد قدَّم بعض ألفاظ الجملة الأولى، وأخَّر البعض الآخر، ثم أخرجها في النهاية هذا الإخراج: «أن قسم إفريقية من منذ عصر هردوط هو الذي كشف به الأقدمون أقل مما كشفوا لغيره من البلاد.» وكان أقرب إلى الصحة أن يقول مثلًا: «لقد كان ما كشفه القدماء من قارة أفريقيا أقل مما كشفوه من أجزاء العالم الأخرى.»
ورفاعة في هذه الترجمة لم يُدقِّق التدقيق الكافي عند تخيُّر الألفاظ العربية الصحيحة؛ فتراه يستعمل كلمةَ «انكشافات» بدل «كشوف»، و«جريان» بدل «مجرى»، و«سواح» بدلًا من «رحالة أو سائح»، و«الأقدمون» مكان «القدماء أو القدامى».
وكان رفاعة يُخطئ أحيانًا في فهْم بعض الجمل، ومثال ذلك أنه في الجملة الآتية:
قد نفَى توجيه النظر إلى منابع النيل، ولكنه أثبته بالنسبة للنيجر وجبل أطلس، فقال «فلهذا لم يمدَّ نظره جهة منابع النيل إلا على بُعد، وربما مدَّ نظره كذلك أيضًا جهة نهر النيجر، وجبل الدرن المسمى جبل أطلس.» والجملة الأصلية تنفي «توجيه النظر» — على حد قوله — عن منابع النيل، والنيجر، وجبل أطلس جميعًا.
هذه أمثلة لما يمكن أن يُوجَّه إلى هذه القطعة من نقد، ونستطيع أن نُوجهه إلى معظم ما ترجم رفاعة، وهو يُثبت إلى حدٍّ كبير أن ممتحنيه في باريس كانوا على حقٍّ حينما أخذوا عليه أنه «قد لا يكون (في بعض الأحيان) في ترجمته مطابقة تامة بين المترجم والمترجم عنه، وأنه ربما كرَّر، وربما ترجم الجملة بجمل، والكلمة بجملة …» ولكنه كان دائمًا — كما قال ممتحنوه أيضًا — محافظًا على روح المعنى الأصلي، وهذا هو الفرق الواضح بينه وبين مترجم كرفاييل، فإن ترجمة رفاعة — رغم ما بها من عيوب — يمكن أن تُقرأ فتُفهم، وكان يمكن أن تخرج ترجمتُه أكثر دقة وإتقانًا لو أنها خضعت لمراجعة غيره، ولكن رفاعة كان الوحيد من بين خريجي البعثات — كما كان رفاييل الوحيد من بين المترجمين السوريين — الذين لم تخضع ترجماتُه لهذه المراجعة، ويمكن أن نلتمس العذر لرفاعة أيضًا عن الأخطاء الواردة في هذا الجزء بالذات؛ لأنه ترجمَه في مدة وجيزة، في نحو سبعة أشهر.
الترجمة العربية
القسم الأول.
«في ذكْر التقدم الذي حصل في أوروبا بالنسبة إلى الحكومة الداخلية، والقوانين والآداب».
اعلم أنه حصل تغيُّران عظيمان في الحالة السياسية وأخلاق الملل الإفرنجية، أحدهما نشأ عن تقدم المملكة الرومانية في الشوكة، والآخر صدر عن خراب هذه المملكة أيضًا؛ وذلك لأن التولع بالفتوحات لما وصل بالجيش الروماني إلى خلف جبال «ألبه» رأى سائر البلاد التي دخلها مسكونة بأمم خشنية متبربرة، وكان الرومانيون يسمونهم أعجامًا، لكنها كانت مستقلة بنفسها، فكانت لإفراطها في الشجاعة تُحامي عن أرضها القديمة بقوة عجيبة، ومقاومة غريبة، لكن حسن تربية الرومانيين في التعليم العسكري كان هو السبب في نصرتهم على هؤلاء الأمم، لا كثرة شجاعتهم، ومع ذلك لم تكن هؤلاء الأمم مثل سكان آسيا الذين هم كالنساء في الارتخاء وفتور الهمة، بحيث إنهم بمجرد غلبتهم في واقعة واحدة سلَّموا أنفسهم ودولتهم لأعدائهم، بل كانوا يأخذون السلاح بهمة وشجاعة خالية عن التعليم العسكري، ولكن لما كانوا أربابَ همَّة عالية حاملة لهم على حب الحرية، والتولع بالاستقلال قامت تلك الهمة عندهم مقام الفنون الحربية، والتدبيرات العسكرية، وفي مدة هذه الحروب الطويلة التي سفكت فيها دماء الأمم كان أحد الجانبين يحارب لأجل الدولة، والجانب الآخر لأجل الحرية، وكانت ولايات أوروبا العظيمة قد تهدَّمت على التعاقب، وهلك من الأهالي قسمٌ عظيم في ميدان الحرب، وقسم عظيم أيضًا وقع أسيرًا في أيدي الرومانيين، ولمَّا لم يمكن لمن بقيَ منهم أن يقاوم العدو دخل تحت طاعة الدولة الرومانية.
قد نُتَّهم في نقدنا لهذا المثال؛ لأننا لا نقارن الترجمة فيه بالأصل الفرنسي الذي نقل عنه المترجم، وإنما نقارنها بالأصل الإنجليزي، ولكننا نرى أن مقارنةً من هذا النوع لها قيمتُها؛ فهي تُبيِّن إلى أيِّ حدٍّ تأثَّر المعنى بعد نقله أكثر من مرة.
(٦) تأثير الترجمة في اللغة العربية
اضمحل شأنُ اللغة العربية في العصر العثماني المملوكي، ولم يعُدْ يهتمُّ بها إلا نفرٌ قليل من علماء الأزهر، وحتى هؤلاء العلماء كانوا قد عُنوا بالقشور دون اللباب، فغدت كتبُهم التي يقرءون شروحًا، أو هوامش أو تعليقات، أما المتون والأصول فقد خلفوها وراء ظهورهم، وأما أسلوب الشروح والهوامش والتعليقات وما أُلِّف عامةً من كتب ورسائل في هذا العصر فقد ضعف وانحطَّ انحطاطًا بالغًا؛ لمَا دخل فيه من ألفاظ عامية، وما أصابه من ركاكة في التعبير.
وفي هذا العصر أيضًا انتشرت اللغة التركية في مصر، وفي تاريخ الجبرتي شواهدُ كثيرة تُشير إلى معرفة الكثيرين من المصريين بهذه اللغة، وانتشرت في دواوين الحكومة، وأصبح لها من الأهمية أضعاف ما كان لها في العصر العثماني ذاته، وهذه حقيقة يُخطئ في تصويرها بعضُ المؤرخين والكتَّاب، فهم يفترضون أن اللغة التركية كانت ذات دولة وشأن كبير في العهد السابق لمحمد علي؛ لأنه كان عهدًا عثمانيًّا، ولأن مصر كانت في أثنائه ولاية عثمانية، ولكن البحث الصحيح يُثبت لنا أن اللغة التركية انتشرت في عصر محمد علي انتشارًا لم تعرفْه في العصر العثماني، وتفسيرُ هذا واضحٌ فيما نرى؛ فإن الحكم في مصر في العصر العثماني لم يكن وقفًا على العثمانيين، بل كان يُشارك فيه المماليك، وهؤلاء وأولئك كانت تعنيهم أمورُ البلد الحربية والمالية، أما الدواوين الحكومة فقد كانت تتولَّاها طوائفُ من الكتَّاب المصريين، وكان كل ما فيها يُكتب ويُسجَّل باللغة العربية، أما في عصر محمد علي فقد أصبح الوالي هو المسيطر على كل شئون الدولة، وهو وحده الذي يُصدر الأوامر، وهو يريد دائمًا أن يطَّلع على كل صغيرة وكبيرة، ولغة هذا الوالي الأصلية التي يفهمها هي اللغة التركية، فلا عجبَ إذن أن انتشرت هذه اللغةُ في عهده وأصبحت اللغة الأولى، يُتقنها ويكتب بها رجالُ الحكومة والجيش، والصفوة من المصريين.
وفي عصر محمد علي أيضًا اعتنى بعض العناية باللغة الشرقية الثالثة — اللغة الفارسية — فكان يعرفها ويستعملها بعضُ المصريين والأتراك، ولكنها كانت محدودة الاستعمال جدًّا إذا قورنت باللغتين العربية والتركية، وسيزيد انتشارُها كلما تقدَّمت السنون في عصر محمد علي؛ فقد فرض تعليمها على تلاميذ معظم المدارس الجديدة.
أجل اتجه المصريون بنظرهم إلى باريس، والذي وجَّههم هو محمد علي.
وقد بدأت اللغة التركية بدءًا طيبًا لأن التنظيمات العسكرية احتفظ فيها بشيء من الروح والتعليمات، والنداءات، والرُّتب العثمانية؛ ولهذا تُرجمت الكتب الحربية الأولى إلى اللغة التركية، فلما افتتح محمد علي المدارس الأخرى؛ كالطب والهندسة والزراعة والألسن إلخ، وكان جلُّ تلاميذها إن لم يكن كلهم من المصريين، ولغةُ هؤلاء المصريين هي اللغة العربية، ومن هنا بدأت اللغةُ العربية نهضتَها الجديدة.
حقيقةً إن العصر العثماني في مصر كان يشعر في نهايته بنهضة جديدة لهذه اللغة؛ ففي هذه النهاية وضع السيد مرتضى الزبيدي قاموسَه «تاج العروس» في مصر، وفي هذه النهاية عُنيَ بعض شيوخ الأزهر بالأدب — نثره وشعره — كالشيخ الشبراوي والشيخ إسماعيل الخشاب، وفي شعرهما رقةٌ وحلاوة جديدتان لم يعرفْهما شعرُ العصر العثماني، وفيها أيضًا ظهر عالمٌ كالشيخ العطار، ومؤرِّخ كالجبرتي يُعنيان بغير ما كان يُعنى به علماء عصرهما.
غير أن هذه جهود فردية لم تكن لتستطيعَ النهضةَ باللغة العربية كما نهضت بها حركة الترجمة، التي شملت فنونًا وعلومًا كثيرة مختلفة، والتي زودت المكتبة العربية بعشرات الكتب الجديدة، ونقلت إليها ألوف المصطلحات والألفاظ التي لم تكن تعرفها.
وهناك أمرٌ آخر له أهميته؛ ذلك أن حركة الترجمة تبعتْها عنايةٌ كبيرة بالقواميس في مختلف اللغات الشرقية والغربية، فترجمت إلى اللغة العربية قواميس إيطالية وفرنسية وفارسية وتركية، وهذه محاولة قيِّمة جدًّا لها أهميتُها وخطرها في تعريب العلوم الأوروبية الحديثة وتسهيل الصعاب أمام القائمين بالترجمة، وتزويد اللغة بثروة عظيمة من الألفاظ والمصطلحات.
فالترجمة إذن أفادت اللغة العربية فائدتين — مباشرة وغير مباشرة — أما الفائدة المباشرة فكانت بنقل الكتب الكثيرة في العلم والفنون المختلفة إليها، وأما الفائدة غير المباشرة فكانت بالعناية بالقواميس الأجنبية والعربية جميعًا، وضاعف من هاتين الفائدتين وجودُ المطبعة، فإن طبْع آلاف النسخ من هذه الكتب والقواميس ساعد على انتشارها وتداولها بين أكبر عدد ممكن من القراء، وبهذا بدأت اللغة العربية أولى خطواتها في سبيل النهضة الجديدة، فأخذ الأسلوبُ ينطلق شيئًا فشيئًا من قيوده البديعية القديمة، ويصطنع لنفسه طرقًا جديدة يُعنى فيها بالمعنى دون اللفظ، وبالجوهر دون العرض، ومنذ ذلك العصر خطَا المصريون خطواتِهم الموفَّقة في سبيل النهضة باللغة العربية خطوة بعد خطوة إلى أن وصلوا إلى الأَوج في عصرنا هذا، ولولا ذلك البدء ما كانت هذه النهاية.
(٧) تأثير الترجمة في المجتمع المصري
والآن لنستمع إلى ما وصف به مستشرق فرنسي عاش في مصر في عصر محمد علي موقف هذه الغالبية من شيوخ الأزهر من الكتب المترجمة في المدارس الجديدة، هذا المستشرق هو الدكتور «برون»، كتب إلى صديقه «جول مول» سكرتير الجمعية الآسيوية خطابًا عن مدارس محمد علي ومطبعته، قال فيه: «وهل تعتقد يا صديقي أنهم (أي شيوخ الأزهر) يقرءون كتبنا (أي الكتب المترجمة)؟ لا — فإنهم يتحاشونها، ولكن من السهل أن يتَّهم الإنسان قبل أن يستمع، وكتبُنا هذه مثلها كمثل التوراة والإنجيل؛ فالشيوخ يتحدثون دائمًا عنها، وليس بينهم مَن قرأ منها سطرًا واحدًا.»
ثم روى «برون» أنه كان مرة في ضيافة الشيخ الجوهري، وفي صحبته صديقُه وأستاذه الشيخ محمد عمر التونسي، وكانت المائدة تضمُّ عددًا آخرين من شيوخ الأزهر، وفي هذا الاجتماع دارتْ بين «برون» والشيوخ مناقشةٌ طريفة حول رأيهم في الكتب المترجمة ننقلها كما رواها «برون» نفسُه، قال: «وبعد تناول العشاء، وبين القهوة والشبك، تحدثنا عن الدراسة والمدارس، فقال شيخي التونسي بعضَ كلمات عن الكتب التي يُراجعها في مدرسة الطب، فسألني شيخٌ من الحاضرين عن ماهية الكيمياء الحالية في أوروبا؛ لأنهم هنا لا يفهمون من لفظة «كيمياء» إلا فنَّ تحويل المعادن إلى ذهب، وقد حدَّثتُهم عن الكيمياء حديثًا مختصرًا، فانبرى واحدٌ من الشيوخ وقال: وما فائدة هذه العلوم الدنيوية، لتخشَ الله، هذا كلُّ ما يجب على الإنسان، وكأن هذا الشيخ كان يريد بهذه الكلمات أن يزيد في قيمة ورعه، ويبرز شخصيته التقية الدينية، فاتخذتُ لهجة الجد، وقلتُ له وماذا تعني بهذه الكلمات البعيدة عن الدين؟ ولمَ تُهين هؤلاء العلماء الحاضرين بيننا، وكل العلماء الذين يعتزُّ بهم الإسلام منذ ظهر في العالم؟ إنك ترى أن دراسة العلوم غير الدينية جهدٌ لا طائل تحته.
وأخيرًا ذكر «برون»، أن مضيفه الشيخ الجوهري أبدى سروره بهذا الحديث فكان يرمق مناظره في ابتسام، دون أن يقول كلمة واحدة، أما هذا المناظر فلم يُعقِّب على حديث «برون» بكلمة واحدة، بل انتقل إلى آخر المجلس، ثم انسحب دون أن يشعر أحدٌ بانسحابه.
وهذه مبالغة من «برون»، يُنكرها الواقع نفسه، فهو عندما وفَد على مصر تتلمذ على شيخَين جليلين من شيوخ الأزهر، هما الشيخ محمد عياد الطنطاوي، والشيخ محمد عمر التونسي، وبفضلهما تقدَّمت معرفتُه في اللغة العربية، وعندما فكَّر في طبع القاموس كان كلُّ اعتماده في المراجعة على الشيخ التونسي، وعندما فكَّر المستشرق الإنجليزي «لين» في ترجمة القاموس للإنجليزية، لم يجد مَن يُعينه على فَهمه ومراجعته على القواميس والمعاجم الأخرى غير شيخ من شيوخ الأزهر، هو الشيخ إبراهيم الدسوقي، وهذا هو الشيخ العطار وتلاميذه كانوا من المعجبين بالحركة، القارئين لكتبها، بل لقد كان أنبغ مَن ظهر من تلاميذ المدارس والبعثات هم من أخذوا من تلاميذ الأزهر وشيوخه. وطائفةُ المحررين والمصححين للكتب المترجمة كانت كلها من شيوخ الأزهر، ولم يكن انحراف المشايخ عن المدارس الحديثة تامًّا كما وصفه «برون»، بل لقد ابتعد بعضُ الشيوخ بأولادهم عن الأزهر، وأدخلوهم المدارس، فأدخل الشيخ سالم عوض القنياتي ابنَه سالم سالم (الدكتور سالم باشا سالم فيما بعد) مدرسة الطب، وصحِب الشيخُ نصر الهوريني ابنَه سعيدًا (الدكتور سعيد باشا نصر فيما بعد) معه في بعثة سنة ١٨٤٤ إلى فرنسا.
هذه أمثلة مختلفة لا تنفي اتهام «برون»، ولكنها تُخفِّف من حدَّته، ونستطيع أن نستخلص مما سبق أن الدائرة العلمية القديمة، ونعني بها الأزهر وشيوخه، لم تُقبِل على الكتب المترجمة الإقبالَ الكافي، بل لقد أقبلت فئةٌ قليلة من الشيوخ على قراءة بعض هذه الكتب وتفهُّمِها، وأعرضت الفئةُ الكثيرة عنها إما حذرًا، وإما كرهًا — شأن الإنسان في كل مجتمع، ونظرته إلى كل جديد واعتداده بكل قديم — بل لعلنا نستطيع أن نتلمس لهؤلاء المعرضين العذرَ من أن العدد الأكبر من الكتب المترجمة كان كتُبًا علمية بحتة، تبحث فنَّ التشريح، أو الأمراض وعلاجها، أو الهندسة الوصفية، أو الكيمياء الحديثة … إلخ. وفهْم هذه العلوم كان يحتاج إلى أُسُس من المبادئ الأولية لم تُتَح الفرصة لشيوخ الأزهر لتلقِّيها.
وهنا قد يدفعنا البحثُ إلى التساؤل: هل كان محمد علي محقًّا عندما ترك معاهد العلم القديمة كما هي، وأنشأ إلى جانبها المدارس الحديثة إنشاءً جديدًا؟ وإذا كان محقًّا في تصرُّفه هذا، فهل كان محقًّا أيضًا عندما ترك التعليم القديم على قِدَمه، أم كان من الأفضل أن يُحاول تطعيمه بشيء من البرامج والدراسات الجديدة حتى تستطيع هذه المعاهدُ القديمة أن تقترب — مع مضي الزمن — شيئًا فشيئًا من المعاهد الجديدة، وحتى يأتيَ يوم يتقابل فيه القديم والحديث؟
وأخيرًا هل كان ينجح محمد علي لو حاول واحدة من هاتين المحاولتين؟
هذه ألوان من الأسئلة يُثيرها البحث، ولكنَّا نجد الإجابة عليها عسيرة؛ لأن هذه الإجابة تتطلب البحث فيما يجب أن يكون، لا فيما كان.
مهَّدت إذن المدارس الجديدة — وحركة الترجمة بوجه خاص — السبيلَ «للأفندية» كي يخلفوا «المشايخ» في الزعامة الفكرية في مصر، فماذا فعل «الأفندية» لنشر الثقافة بين الشعب؟
عاشت حركةُ الترجمة في عصر محمد علي نحو العشرين عامًا، كان الجهدُ في خلالها متجهًا كله إلى الترجمة فقط، ولم يجد تلاميذُ المدارس ومدرِّسوها، وخرِّيجوها الفراغَ الكافي ليستجيبوا للثقافات التي تلقَّوها، فيؤلفون، كذلك كانت ترجمتُهم تصطبغ بالصبغة الرسمية، فهم — إن صحَّ التعبير — كانوا مترجمين محترفين لا هاوين، يترجمون ما يؤمرون بترجمته، لا ما يريدون ترجمتَه، وما يؤمرون بترجمته كان علمًا خالصًا، لا يستطيع القرَّاء العاديون — على ندرتهم — أن يقرءوه، أو يتذوقوه، وهم إن فكَّروا في قراءته لا يستطيعون فهمَه.
كان الواجب إذن أن يُؤلِّف «الأفندية» للشعب، أو يترجموا له، ولكنهم لم يفعلوا للأسباب السابق ذكرُها؛ ولهذا كان تأثيرُ الترجمة — في عصر محمد علي — في المجتمع المصري ضئيلًا جدًّا إن لم يكن منعدمًا حقيقة لقد خطَا محمد علي خطوةً واحدة في هذا السبيل عندما أشار بتأليف وترجمة كتابَي «كنوز الصحة ويواقيت المنحة» و«الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال» لتثقيف الشعب ثقافةً طبية، وقد رأينا كيف أقبل المصريون على قراءة هذين الكتابَين حتى أُعيد طبعُهما مرات، ولكنه لم يتبع هذه المحاولة بمحاولة أخرى، وعندما أُنشئت مدرسة الألسن، كانت كتبُها التي ترجمت في العلوم الاجتماعية المختلفة من تاريخ ورحلات، وجغرافيا وأدب أقربَ إلى ذهن القارئ العادي وفهمه، وكان من الممكن أن تؤثِّر هذه المدرسة وخريجوها التأثير الطيب في ثقافة الشعب المصري لو امتدَّ بها العمر، ولكنها ألغيت بُعيد موت محمد علي، وتشتَّت خريجوها موظفين في المصالح والدواوين المختلفة، وكانت نكسة شملت عصرَي عباس وسعيد، ولكن الأثر الأول للمدرسة لم يخمد، ولم يمُتْ، بل كان مستقرًّا مستجمًّا في نفوس تلاميذها، فلما استؤنفت النهضة في عهد إسماعيل كان هؤلاء التلاميذ هم عُدَّتَها وعمدَها، فانطلقوا يترجمون من جديد، بل لقد خطوا الخطوة الثانية الطبيعية، فانطلقوا يؤلفون، وعاد إليهم أستاذُهم رفاعة فانضووا تحت لوائه يعمل ويعملون من جديد؛ فترجموا معًا «قانون نابليون»، وترجم وألَّف أبو السعود، وخليفة محمود، وصالح مجدي في التاريخ والجغرافيا، وترجم عثمان جلال في الأدب، وألَّف قدري باشا كتُبَه الخالدة في القانون، وأنشأ أبو السعود أول صحيفة مصرية أهلية، وهي «وادي النيل».
وفي عهد إسماعيل أيضًا وضَع رفاعةُ كلَّ مؤلفاته؛ «كمناهج الألباب العصرية في مباهج الآداب المصرية»، و«المرشد الأمين في تربية البنات والبنين»، و«أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل»، و«التحفة المكتبة لتقريب اللغة العربية …» إلخ … إلخ.
التاريخ، الأدب، القانون، الصحافة، هذه هي الطرق التي يستطيع قادة الفكر دائمًا أن ينفذوا من خلالها إلى نفوس الشعب وعقوله، فينشرون فيها الثقافة العامة، ويخلقون فيها الروح القوية، وقد قام بهذا الواجب تلاميذُ الألسن القدماء ولكن في عصر إسماعيل — لا في عصر محمد علي — فهذا الأثر في الواقع — وإن تأخر به الزمن — هو أثر الترجمة في عصر محمد علي، بل لعله أقوى آثارها.
Perrou, Lettre sur les écoles et l’imprimerie du Pacha d’Egypte. Journal Asiatique, 1843, pp. 9–12.
Artin Pacha; Lettres du Dr. Perron, 29, 90–92, etc.