الفصل الأول

المدارس

متى بدأ محمد علي سياستَه الإصلاحية؟ (١) المدارس الطبية: مدرسة الطب البشري، حاجة الجيش إلى أطباء، كلوت بك يُنشئ المدرسة، صعوبة اللغة، كيف تغلَّب عليها، الاستعانة بالمترجمين، عيوب هذه الطريقة، طرُق علاجها، مدرسة الصيدلة، مدرسة الولادة، مدرسة الطب البيطري، جهودها في الترجمة. (٢) المدارس الفنية: المدارس الزراعية، المدارس الهندسية، جهودها في الترجمة، وأثر هذه الجهود. (٣) المدارس الصناعية: مدرسة الكيمياء، مدرسة المعادن، مدرسة العمليات. (٤) المدارس الحربية والبحرية: مدرسة أسوان، مدرسة أركان الحرب، مدرسة البيادة، مدرسة السواري، مدرسة الطوبجية، المدارس البحرية، جهودها في الترجمة.

***

يصح أن نعتبر سنة ١٨١١، وهي السنة التي قضى فيها محمد علي على المماليك، بدْءًا للسياسة الإصلاحية المحمدية العلوية، ففي عقبها أنشأ المدرسة الحربيَّة الأولى لتعليم أولاد المماليك وغلمانهم بالقلعة، وكانت اللغة الإيطالية هي اللغة الغربية التي تُدرَّس في هذه المدرسة، كما كان المدربون الأجانب من الإيطاليين، وقبيل هذه السنة أيضًا بدأ محمد علي التفكيرَ في الناحية الأخرى من الإصلاح، فأرسل في المدة ما بين سنة ١٨٠٩، و١٨١٦ بعثاتٍ مختلفة إلى إيطاليا، فرُكْنَا الإصلاح الجديد، وهما: المدارس الحديثة والبعثات، بُدئ في تشييدهما في حدود هذه السنة وبعدها، وسيستمر هذا التشييد حتى نهاية عهد محمد علي؛ فالمدارس تُنشأ الواحدة بعد الأخرى حسب حاجة البلاد، وتنفيذًا لرغبة محمد علي، والبعثات تُرسَل لبلدان أوروبا المختلفة البعثة بعد البعثة تحقيقًا لسياسة وليِّ النعم التي ترمي إلى إحلال المصريين محلَّ الأجانب.

وسنحاول أن نتتبَّع في الصفحات التالية خطواتِ التشييد لهذين الركنين: المدارس والبعثات: وسوف نُعنَى في هذا الموجز بالنواحي التي تُعيننا على دراسة تاريخ الترجمة في ذلك العصر؛ كتحديد اللغات الأجنبية التي كانت تُدرس في كل مدرسة، والإشارة إلى مَن تولَّى إدارة المدارس والتعليم فيها من الأجانب، وإلى جهود كلِّ مدرسة في الترجمة، أما التاريخ التفصيلي للمدارس في هذا العهد فسنغضي عنه عامدين؛ لأنَّنا لا نؤرخ للتعليم بوجه عام، بل للترجمة بوجه خاص.

(١) المدارس الطبية

(١-١) مدرسة الطب البشري

بدأ محمد علي بإنشاء جيشه الجديد بعد سنة ١٨١٥، وكان من الضروري — اقتداءً بالجيوش الأوروبية التي ينقل عنها — أن يُلحِق عددًا من الأطباء بكل فرقة من فرق الجيش، وأن تُنشأَ لهذه الفِرق المستشفيات الثابتة والمتنقلة.

figure
كلوت بك ناظر المدرسة الطبية ومفتش عموم الصحة.
واستعان محمد علي — أوَّل الأمر — بطائفة من أدعياء الطب١ والحلَّاقين، لعدم وجود غيرهم، وقد رأينا في الفصل السابق كيف وصف «إدوار جوان» الأطباء المصاحبين للحملة المصرية في السودان بأنَّهم «من أفاقي اليونان والطليان»، ونقلنا عن «مسيو هامون» ما لاحظه من أنَّ الأطباء الأجانب في العهد الأول كان من بينهم «ندل في مقهى بالقاهرة وصانع أحذية في مرسيليا وعامل تلغراف» وأن ثلثي هؤلاء الأطباء كانوا بلا «دبلومات»، وفي سنة ١٨٢٥ استدعى محمد علي الدكتور «كلوت بك» ليكون طبيبًا ورئيسًا لجرَّاحي الجيش المصري، وقد سعى هذا الرجل سعيًا متواصلًا — منذ التحق بخدمة محمد علي — للقضاء على سيطرة الإيطاليين، وإحلال الفرنسيين محلَّهم، وما زال بمحمد علي يحرضه على إنشاء مدرسة للطب لتعليم أبناء البلد، حتى وافقه على ذلك، وأُنشئت المدرسة في سنة ١٢٤٢ / ١٨٢٧ إلى جانب مستشفى الجيش بأبي زعبل؛ ليسهل على الطلاب الدراسة العملية إلى جانب الدراسة العلمية.
وقد اعترضتْ «كلوت بك» صعوباتٌ كثيرة في أول الأمر، أهمها: صعوبة٢ التشريح، وقد تغلَّب عليها، وصعوبة اللغة التي يدرس بها، وكانت هذه أخطرَ الصعوبات، غير أنَّ «كلوت بك» بذل كلَّ جهدَه حتى استطاع التغلُّبَ عليها.
كانت هيئةُ التدريس عندما أُنشئت المدرسة تتكوَّن من أساتذة فرنسيين٣ وإيطاليين، كما كان من بينهم واحدٌ إسباني، وقد كانوا جميعًا لا يعرفون غير الفرنسية أو الإيطالية، والطلبة الجدد لا يعرفون غير العربيَّة؛ لذلك لجأ «كلوت بك» إلى تعيين عدد من المترجمين لينقلوا الدروس عن الأساتذة إلى الطلاب، وكانت الخطة التي وضعها «كلوت بك» تتلخص فيما يأتي:
  • (١)

    كان المترجمون ينقلون الدروس إلى اللغة العربية في حضرة الأستاذ، وكان الأستاذ يمدُّ المترجم بالشروح والتفسيرات اللازمة ليسهل عليه مهمَّته؛ لأنَّ هؤلاء المترجمين لم يكونوا على علْم بالمواد التي يترجمونها في أوَّل الأمر.

  • (٢)

    وليتأكد الأستاذ من حُسْن فهْم المترجم لما قال، كان يطلب إليه أن يُعيد ما ترجم باللغة الفرنسية أو الإيطالية.

  • (٣)

    كانت هذه الدروس المترجمة تُملَى على الطلاب بعد ذلك فيسجلونها في دفاترهم الخاصة.

  • (٤)

    كان المدرِّس يقوم بعد ذلك بشرح الدرس الذي أُمليَ على الطلاب، ويُجيب على أسئلتهم إذا أشكل عليهم فهْمُ بعض عناصر الدرس، وذلك عن طريق المترجم أيضًا.

  • (٥)
    كان الطلبةُ يُمتحنون آخرَ كلِّ شهر فيما درسوه، وكان الاختيار لرياسة الأقسام على أساس التفوق في الامتحانات.٤
كانت هذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة للتدريس في مدرسة الطب أوَّل إنشائها، وطبيعيٌّ أن تظهر لهذه الطريقة عيوبٌ، وأن يُوجَّهَ إليها النقدُ المُر، وقد أحسَّت هذه العيوبَ هيئةُ التدريس قبل غيرها، فاعترفتْ في خطابها إلى ديوان المدارس بأنَّ «الدروس التي يُدرسها المدرسون الأجانب الذين لا يُلمُّون باللغة العربية أو باللغة التركية كان ينقلها للطلبة مترجمون لا يعلمون شيئًا عن معناها، كما أنَّه لا يمكن شرحُها لهم لعدم إلمامهم بهذا العلم، وهذا هو السبب الوحيد في تأخُّر الطلبة»،٥ وكان ذلك في مجال التعليل لسوء النتيجة في مدرسة الطب.

هذا ما اعترفتْ به هيئةُ المدرسة في خطاب خاص لديوان المدارس، ولكن هذه الهيئة نفسها لم تكن لتقبل أيَّ نقْد علني يُوجَّه لطريقتها هذه في التدريس؛ فقد حدث أن كتبتْ جريدة «أزمير» في أحد أعداد سنة ١٨٣٨ نقدًا لاذعًا لمدرسة الطب، وطريقة التدريس بها بوساطة المترجمين، فانبرتْ لها هيئةُ التدريس في المدرسة، وأرسلتْ لها ردًّا مطولًا على هذا النقد جاء فيه خاصًّا بطريقة النقل ما يلي:

نحن لا نشاركُكم فيما ذهبتم إليه من ضرورة تمكُّن الشخص المنوط به أمرُ الوساطة بين الأستاذ والتلاميذ من العلم الذي يُلقيه الأستاذ، ويقوم هو بنقله إلى اللغة العربية، فإنه يكفي — فيما نراه — أن يكون هذا الناقلُ حسنَ الإلمام باللغتين، ومن الكفاءة بحيث يفهم الدروس التي يُفسِّرها الأستاذُ له، ومن الميسور للأستاذ متى تمَّ النقلُ على الصفة المتقدمة؛ أي بطريق الرواية عن الأستاذ، أن يُراقب صحة ما ألقاه الوسيطُ في حضرته بتكليفه إياه أن يترجم إلى الفرنسية ما كان قد عرَّبه عنها، ومثل هذا التمرين المضاعف ينتهي بالمترجم إلى الاطلاع بنصوص الدرس، والإحاطة بأطرافه، فيكون مما لا شك فيه أنَّ الدرس الذي حضر على هذا المثال قد نُقل نقلًا دقيقًا، ورُوعيت فيه الأمانة التامَّة.٦
ومهما يكن من شيء فقد أحسَّ «كلوت بك» نفسه ما يشوب هذه الطريقة من فساد واتخذ وسائل مختلفة٧ لعلاج هذا الفساد والقضاء عليه، منها:
  • أولًا: بدأ يكلف هيئة المترجمين في المدرسة بترجمة الكتب الطبيَّة إلى اللغة العربية، واشترك المترجمون في هذا العمل، وكان أوَّل كتاب طبي تُرجم في هذه المدرسة هو كتاب «القول الصريح في علم التشريح»، وهو من تأليف «بايل Bayle» وبه زياداتٌ للدكتور «كلوت بك»، وقد ترجمه يوحنا عنحوري، وطُبع في مطبعة المدرسة بأبي زعبل سنة ١٢٤٨ / ١٨٣٢، وإذ كان هؤلاء المترجمون لا يُتقنون اللغة العربية فقد عُيِّنت في مدرسة الطب طائفةٌ من المحررين والمصححين من شيوخ الأزهر، وقد استطاع هؤلاء المشايخُ بما لهم من معرفة بكتب الطب العربية القديمة أن يُمدُّوا المترجمين بالمصطلحات الطبية الصحيحة، كما كان لهم فضلٌ كبير في تقويم أسلوب الترجمة العربي وتصحيحِه والبُعد به — على قدر استطاعتهم وعِلمهم — عما يشوبه من لُكنة وعُجمة وركاكة، أما المصطلحات الطبية الجديدة فقد اجتهدت الهيئتان معًا في ترجمتها أو وضْع مصطلحات جديدة تؤدي معناها، «ومن هؤلاء الرجالِ مجتمعين تكوَّنت «أكاديمية» تكفل أمانةَ الترجمة وصحَّتَها، وأصبح للطب في خمس سنين قاموس Vocabulaire تزيد كلماتُه على ستة آلاف كلمة».٨
  • ثانيًا: ألحق المترجمين تلاميذ بالمدرسة؛ ليتلقوا العلوم الطبيَّة فيسهل عليهم بعد ذلك معرفةُ المصطلحات، وتفهُّم المواد التي ينقلونها عن الأساتذة للتلاميذ، والكتب التي يترجمونها، وقد أثنى كلوت بك — في تقاريره — عليهم وعلى نشاطهم ثناءً جمًّا.
  • ثالثًا: ورأى «كلوت بك» أيضًا أن يُشجِّع تلاميذ المدرسة على تعلُّم اللغة الفرنسيَّة، فأنشأ لهم مدرسةً لتعليمهم هذه اللغة، وألحقها بمدرسة الطِّب، «وقد عمل الشيخ رفاعة رافع في هذه المدرسة مدرِّسًا للترجمة لعشرين تلميذًا بعد عودته من فرنسا».٩
  • رابعًا: ومن الوسائل التي اتُّبِعت للإقلال من عيوب طريقة الترجمة أن عُهد لتلاميذ الفِرَق المتقدمة بتدريس بعض علوم الطب للتلاميذ المبتدئين، وأن يشرحوا لهم ما صعب عليهم فهمُه.
  • خامسًا: اختار «كلوك بك»، بعد مُضِيِّ خمس سنوات على إنشاء المدرسة، اثنَي عشر تلميذًا من أوائل الخريجين ونوابغهم، وسعى حتى أرسِلوا في أول بعثة طبية إلى فرنسا (في سنة ١٨٣٢)، وسيكون لأعضاء هذه البعثة بعد عودتهم شأنٌ خطير في التدريس بمدرسة الطب وإدارة شئونها، وفي الترجمة والتأليف؛ فقد أصدر مجلس إدارة المدرسة — بعد عودة هؤلاء المبعوثين — لائحةً تُعيِّن الأعمال التي يُناط بهم القيام بها، كان منها — إلى جانب اشتغالهم كمعيدين ومساعدين للأساتذة الأجانب — أن يقوموا بترجمة الكتب التي يختارها لهم أعضاءُ مجلس المدرسة، وأن تُعرَض هذه الكتب قبل ترجمتها على شورى المدارس، ثم تُدفع إليهم، وبعد الفراغ من ترجمتها، ومنعًا للشك في صحتها «يجب ألا يُطبعَ كتابٌ ما بعد الانتهاء من ترجمته قبل أن يُعرضَ على مترجمي المدرسة ومصححيها أجمعين».١٠
figure
الدكتور كلوت بك ناظر مدرسة الطب يحقن نفسَه بميكروب الطاعون أمام تلاميذه المصريين (عن لوحة محفوظة بكلية الطب بقصر العيني بالقاهرة).
كذلك نصَّ في لوائح سنة ١٨٢٦ التي أصدرها ديوانُ المدارس لتنظيم التعليم في مصر على أن يجتمع مدرسو مدرسة الطب المصريون في غرفة الترجمة بالمدرسة؛ ليشتغلوا بالترجمة ساعتين قبل الظهر، وساعتين بعد الظهر.١١

وقد ظلت إدارةُ المدرسة يتولَّاها الأجانبُ منذ أُنشئت حتى سنة ١٢٩١ / ١٨٤٥، أي حتى أواخر عهد محمد علي تقريبًا؛ فقد تولَّى إدارتَها بالتتابع: الدكتور «كلوت بك»، ثم الدكتور «دفينو»، ثم الدكتور «برون»، وأخيرًا عُهِد بإدارتها إلى أحد أعضاء البعثة المصرية وهو الدكتور إبراهيم النبراوي، ثم تولَّاها من بعده عضوٌ آخر هو الدكتور محمد الشافعي.

(١-٢) مدرسة الصيدلة

أُنشئت بعدَ إنشاء مدرسة الطب البشري بثلاث سنين، أي سنة ١٢٤٥ / ١٨٣٠، وكان مكانها الأول في القلعة، ثم أُلحقت في نفس السنة بمدرسة الطب بأبي زعبل إجابةً لرغبة «كلوت بك»، وكان المشرفُ عليها الدكتور «لويس ألساندري Alessandri»، وكان كلُّ طلبتها من المصريين، ولسنا نجد جديدًا نذكره عن طريقة التعليم والترجمة فيها؛ إذ ما ينطبق على مدرسة الطب ينطبق عليها؛ لأنَّها فرعٌ منها.

(١-٣) مدرسة الولادة

أُنشئت سنة ١٢٤٧ / ١٨٣٢، وأُلحقت بمدرسة الطب البشري، وكانت تلميذاتها — في السنوات الأولى من حياتها — من الجواري السودانيات والحبشيات، ثم أصبحْن — بالتدريج — جميعًا من المصريات، كما كان يلحق بالمدرسة في أوَّل عهدها عددٌ من الأغوات.

وكانت التلميذاتُ يُدرِّسْن اللغة العربية إلى جانب المواد الطبية، وكان «كلوت بك» مديرًا للمدرسة بحكم مركزه كمدير لمدرسة الطب، وكذلك كان خلفه الدكتور «برون»، ولكن كان ينوب عنه في الإشراف على المدرسة أحد مدرسي مدرسة الطب، وقد تَولَّى هذا المنصبَ من المصريين علي هيبة أفندي، ثم عيسوي النحراوي أفندي ثم أحمد الرشيدي أفندي، وهم جميعًا من أعضاء البعثة الطبيَّة الأولى إلى فرنسا.

وكان يشترك في التدريس طبيبةٌ فرنسية اسمها «الآنسة جولييت»، وهي إحدى خريجات مدرسة المولدات بباريس، وقد لاحظت هذه الآنسةُ أن تلميذاتِها في المدرسة يتمتَّعْنَ بقدر كبير من الذكاء، فأحبَّت أن تُعلِّمهن اللغة الفرنسية «من غير أن تضرَّ بدراستهن الأولى»، وقد قطع التلميذاتُ في هذا السبيل شوطًا كبيرًا، «وكفاءتهن فيها تستدعي الدهشة»،١٢ وقد خلفت هذه الآنسة في مركزها فرنسية أخرى اسمها الآنسة «غو» وذلك في أبريل سنة ١٨٣٦.
وكان تلميذاتُ المدرسة يدرُسْنَ الموادَّ المختلفة في كتُبٍ تُرجمت في مدرسة الطب، وأهمُّها رسالةٌ مؤلَّفة في فنِّ التوليد تُرجمت إلى اللغة العربية.١٢

(١-٤) مدرسة الطب البيطري

بدأتْ في رشيد سنة ١٢٤٣ / ١٨٢٨، ثم نُقلت إلى أبي زعبل لتلحق بمدرسة الطب البشري في سنة ١٢٤٦ / ١٨٣١، وبدأت في هذه السنة تُدرَّس فيها اللغةُ الفرنسية، وكان يُدرِّسها مدرسٌ خاص لجميع تلاميذ المدرسة، ثم قُصر تدريسُها على نفرٍ منهم فقط في سنة ١٨٣٦، وكان مديرَ المدرسة طبيبٌ فرنسي اسمه المسيو «هامون Hamont»، وكان المدرسون هم مدرِّسو مدرسة الطب البشري يُضاف إليهم خمسةٌ من الأساتذة والمدرِّسين، ومُعيدان، كما عُيِّن لها مترجمان ومصحِّحان.

ولما نُقلت مدرسةُ الطب البشري إلى قصر العيني في أوائل سنة ١٨٣٧، نُقلت مدرسة الطب البشري إلى شبرا، وأُلحقت هناك بإصطبلات الحكومة.

وقد تُرجمت في هذه المدرسة كتبٌ كثيرة في الطب البيطري كانت عُدَّةَ تلاميذ المدرسة ومرجعَهم في دراستهم، وسنتحدث عنها بالتفصيل في الفصل الخاص بالمترجمين.

وقد رحل المسيو «هامون» عن مصر سنة ١٨٤٢، وخلفه في إدارة المدرسة المسيو «برنس Prince» ولم يمكث طويلًا، فعُيِّن بعده لإدارة المدرسة «أمين بك»، وخلفه بعد عامين «أحمد أفندي»، وبعد عامين آخرين رقيَ محمد أفندي العشماوي المدرِّس بالمدرسة إلى وظيفة «ريس عملية» مدرسة الطب البيطري.١٣

(٢) المدارس الفنية

(٢-١) المدارس الزراعية

أُنشئت في عصر محمد علي مدارس زراعية مختلفة، كانت أولاها «الدرسخانة الملكية» التي أُنشئت في سنة ١٢٤٥ / ١٨٣٠، وكان ناظرُها محمد أفندي الأدرنة لي ملمًّا باللغات الثلاث العربية والفارسية والتركية، كما كان تلاميذها يَدرُسون — إلى جانب المواد الزراعية — اللغتَين العربية والفارسية، وقد أُلغيت هذه المدرسةُ بعد إنشاء ديوان المدارس.

وكانت ثانيتها مدرسة الزراعة بشبرا الخيمة، وقد أنشئت في سنة ١٢٤٨ / ١٨٣٣، وكان يقوم بالتدريس فيها أعضاءُ البعثة الزراعية الذين عادوا من أوروبا، غير أنَّ هذه المدرسة لم تُعمِّر — كسابقتها — طويلًا.

وكانت ثالثتها مدرسة الزراعة بنبروه، وقد أُنشئت في أواخر سنة ١٢٥١ / ١٨٣٦، وكان ناظرها الأول يوسف أفندي الأرمني الأصل، وكان قد تلقَّى علومَه في مدينة «روفيل Roville» بفرنسا، وكان أساتذتها من أعضاء البعثة الزراعية، واختير طلابُها من بين تلاميذ قصر العيني، ورأى محمد علي أن يكونوا جميعًا من المصريين «لعدم ميل أبناء الترك لفنِّ الزراعة».١٤
وقد نصَّت لائحةُ تنظيم أوقات الدراسة لهذه المدرسة على أن يقوم «الباشخوجة»، أي المدرس الأول للزراعة بتدريس هذه المادة للتلاميذ، ثم «يقضي بقيةَ ساعات اليوم في ترجمة دروس النبات والموضوعات الأخرى التي يُحيل الناظرُ إليه ترجمتَها من الفرنسية إلى العربية».١٥
وقد تعثَّرت هذه المدرسةُ كثيرًا في نظامها وتجاريبها وسيرها إلى أن نُقلت في سنة ١٢٥٥ / ١٨٣٩ إلى شبرا لتكون قريبة من مدرسة الطب البيطري، وفي أوائل سنة ١٢٦٠ / ١٨٤٤ صدَر الأمرُ بنقلها ثانيةً إلى مدينة المنصورة، غير أنها لم تلبث أن أُلغيت بعد شهور قليلة، ووُزِّع تلاميذُها — وكانوا أحد عشر تلميذًا — «على الجفالك حتى لا ينسوا ما تعلَّموه».١٦
ويقول الدكتور عزت عبد الكريم: «على أن تدريس الزراعة لم يُهمل في مصر بعد ذلك؛ فقد أنشئت في نحو سنة ١٨٤٦ / ١٢٦٢ مدرسةُ إدارة الزراعة كقسم من أقسام مدرسة الألسن، ويتعلم فيها التلاميذُ الإدارةَ الزراعية الخصوصية؛ على أنَّا لا نعلم شيئًا عن هذه المدرسة التي أُنشئت قبل نهاية عصر محمد علي بنحو عامين.»١٦

وقد ذُكر عن هذه المدرسة أنه كان بها مصحِّح هو الشيخ نصر أبو الوفا الهوريني، وهذا يوحي أن يكون بها مترجمون كما كان متبعًا في المدارس الخصوصية الأخرى، غير أنا لم نعثر على أسماء هؤلاء المترجمين، إلا أن يكونوا هم مدرِّسي المدرسة، والذي لا شكَّ فيه أن هناك كتبًا في علمي النبات والزراعة تُرجمت في هذا العهد، وفي المدارس الزراعية كما نُرجِّح.

(٢-٢) المدارس الهندسية

كما تعدَّدت المدارسُ الزراعية في عصر محمد علي، كذلك تعدَّدت المدارسُ الهندسية؛ وذلك أن محمد علي كان وهو في دور «تنظيم البيت» في حاجة إلى تجديد كلِّ شيء واستثمار كلِّ شيء، وكان في حاجة أيضًا — وهو يُجدِّد ويُنظِّم — إلى الأعوان العالمين أو المتعلمين، وخاصة إلى المهندسين الذين يمسحون له الأرض، ويحفرون التُّرَع ويقيمون الجسور والقناطر، وينشئون المصانع، ويُشرفون على إدارتها، ويدرسون طبقات الأرض، ويبحثون عن معادنها، ويتصلون بالجيش، ويبنون له ثكناتِه وطوابيَه واستحكاماته، ويضعون له خُطَطه … إلخ … إلخ؛ ولهذا كلِّه نرى أن محمد علي كان يُرَحِّب بكل عالم بالهندسة ويُسرع فيُلحق به عددًا من الطلاب يتلقَّون عنه، فإذا انتهت الحاجةُ إلى هذه المدرسة التي خلقتْها الحاجةُ والظروف، أُلغيت، ثم لا يلبث أن يُنشئَ غيرها، وهكذا، حتى بلغ عددُ المدارس الهندسية التي أُنشئت في عصر محمد علي خمسَ مدارس.

كانت أولاها «مكتب المهندسخانة» بالقلعة، وقد أنشأه محمد علي في سنة ١٢٣١ / ١٨١٥ استجابةً لما لاحظه في أبناء مصر من «نجابة وقابلية للمعارف»؛ فقد روى الجبرتي أنه «اتفق أن شخصًا من أبناء البلد يُسمَّى حسين جلبي عجوة ابتكر بفكره صورة دائرة وهي التي يدقون بها الأرز، وعَمِل لها مثالًا من الصفيح، تدور بأسهل طريقة، بحيث إن الآلة المعتادة إذا كانت تدور بأربعة أثوار، فيُدير هذه ثوران، وقدَّم ذلك المثال إلى الباشا، فأعجبه وأنعم عليه بدراهم، وأمره بالمسير إلى دمياط، ويبني بها دائرة، ويُهندسها برأيه ومعرفته، وأعطاه مرسومًا بما يحتاجه من الأخشاب والحديد والمصروف، ففعل وصحَّ قولُه، ثم فعل أخرى برشيد، وراج أمرُه بسبب ذلك.»١٧
ويُعقِّب الجبرتي على هذا الحادث بقوله: «ثم إنَّ الباشا لمَّا رأى هذه النكتة من حسين جلبي هذا، قال إن في أولاد مصر نجابةً وقابلية للمعارف، فأمر ببناء مكتب بحوش السراية، ويرتب فيه جملةً من أولاد البلد ومماليك الباشا، وجعل معلِّمهم حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي يُقرِّر لهم قواعدَ الحساب والهندسة وعلم المقادير والقياسات والارتفاعات واستخراج المحصولات.»١٧

وكان عددُ تلاميذ هذه المدرسة ٨٠ تلميذًا، وقد رتَّب لهم محمد علي الكسى والمرتبات الشهرية، والحمير «مساعدة لطلوعهم ونزولهم إلى القلعة»، وسُمي هذا المكتب «بالمهندس خانة»، وأُحضر لهم مدرِّس ثانٍ من الآستانة اسمه «روح الدين أفندي» لتعليم من لا يعرف العربية من التلاميذ، وقد تولَّى نظارةَ هذه المدرسة بعد وفاة حسن أفندي.

ويهمُّنا أن نذكر هنا أن التعليم في هذه المدرسة كان باللغتين العربية والتركية؛ فقد كان تلاميذُها من أبناء البلد، ومن أبناء مماليك الباشا، وهؤلاء لا يعرفون العربية، وأنهم كانوا جميعًا يتعلَّمون اللغة الإيطالية، وأن من نوابغ مَن تعلَّموا في هذه المدرسة المهندسَ الكبير ثاقب باشا الذي اشترك فيما بعد في إنشاء ترعة المحمودية وغيرها، ثم كان مفتشًا لعموم ري الوجه البحري، ومنهم أيضًا أحمد أفندي الأزهري الذي يقول عنه علي مبارك باشا إنه «كان من طلبة الأزهر، ثم دخل مدرسة المهندسخانة بالقلعة، وتعلَّم اللغة التليانية، وأخذ رتبةَ قائمقام، واستمر في خدمة الميري إلى سنة ١٢٦٥.»١٨
وبعد نحو أربع سنوات، أي في أواخر سنة ١٢٣٥ / ١٨١٩ «صدر أمرُ محمد علي إلى كتخدا بك بتعيين الخواجة قسطي مدرسًا بمدرسة تُسمَّى «المهندسخانة» وبأن ينتخب له خمسة أو ستة من التلامذة المتفوقين في الرياضة والرسم من مدرسة القلعة ليقوم بتدريس تلك المواد لهم»،١٩ ولم نصِل إلى معرفة جنسية «الخواجة قسطي»، أو معرفة اللغة التي كان يُدرِّس بها لهؤلاء التلاميذ.

أما ثالثُ مدرسةٍ للهندسة؛ فقد كانت كما يرى أمين سامي باشا تتكوَّن من بعض طلبة الأزهر الذين كانوا يدرسون الحساب والهندسة باللغتين العربية والإيطالية في قصر العيني على يد مدرِّس أجنبي اسمه «الخواجة رسام التودري»، وقد تخرَّج فيها اثنا عشر طالبًا في جمادى الآخرة سنة ١٢٤٢ / ١٨٢٦، وعُيِّنوا للقيام بالأعمال الهندسية في الوجه القبلي، وأشرَف على تمرينهم بعد تخرُّجِهم الشيخُ عبد الفتاح (؟) والخواجة يوسف بيروني.

أما رابعُ مدرسةٍ للهندسة فقد بدأت في شهر ربيع الثاني سنة ١٢٤٧ / ١٨٣١ عندما استدعى محمد علي مهندسًا من إنجلترا، وألحق به عشرة من تلاميذ قصر العيني ليتلقَّوا عنه هذا الفن، وقد نُقلت هذه المدرسة بعد سنتين إلى القناطر الخيرية ليسهل على التلامذة مشاهدةُ الأعمال الهندسية عن كثَب، وقد أُلحق بهذه المدرسة بيومي أفندي ليكون مدرِّسًا بها، ومساعدًا لباشمهندس القناطر، وذلك بعد عودته من فرنسا ونبوغه في دراسة العلوم الهندسية.

وهنا ظاهرة جديدة وهي أن تلاميذ هذه المدرسة كانوا يتلقَّون علومَهم بالإنجليزية أو مترجمة عنها ثم بالفرنسية عندما عُيِّن بها بيومي أفندي.

أما خامس هذه المدارس، وهي مسك الختام في هذه المحاولات، وأطول هذه المدارس عمرًا، وأبقاها أثرًا، فقد افتتحت في ١٥ المحرم سنة ١٢٥٠ / ١٨٣٤ في بولاق، «وفي شوال سنة ١٢٥١ ضُمَّت لها مدرسة المهندسين بالقناطر الخيرية، وكان بها ثلاثون تلميذًا، ومدرسة المعدنين بمصر القديمة».٢٠

وقد نُظمت مدرسة بولاق على مثال مدرسة الهندسة بباريس، وكانت تُدرَّس بها اللغات الثلاث العربية والتركية والفارسية إلى جانب المواد الرياضية المختلفة.

وفي سنة ١٨٣٧ قرَّر الاستغناء عن المدرسين الأجانب وعيَّن بها من المدرسين المصريين محمد بيومي أفندي ومظهر أفندي وبهجت أفندي، وألحق بهم أربعة من أعضاء البعثة الذين عادوا من فرنسا قبل إتمام تعليمهم، وكان يُدرِّس لهؤلاء الأربعة أيضًا مسيو لامبير Lambért ناظر المدرسة.

وفي أواخر عهد محمد علي أصبحت هيئةُ المدرسين كلها من المصريين الذين تلقَّوا علومَهم الهندسية في فرنسا أو النمسا أو إنجلترا، ويذكر أسماءَهم تلميذُهم علي مبارك ويُثني عليهم ثناءً جمًّا.

وقد نجحت المدرسةُ نجاحًا كبيرًا فخرَّجت أجيالًا من المدرِّسين بها وبالمدرسة التجهيزية كما قام هؤلاء المدرسون والخريجون بترجمة كثير من الكتب الرياضية.

وقد اعترفت بهذه الجهودِ اللجنةُ التي كُوِّنت لتنظيم المدارس في سنة ١٨٤١؛ فقد قالت بأنه «لا ريب في أن المهندسخانة مدينة بكل تقدُّمها هذا إلى دقة ناظرها وهمة أساتذتها، غير أن معظم الفضل إنما يرجع إلى ترجمة المدرسين للدروس، وإلى الإسراع في طبْع التراجم بمطبعة الحجر (وكانت ملحقةً بالمدرسة) ثم جمعها في كرَّاسات وكُتُب، لقد كانت كتب العلوم الرياضية التي في متناول اليد من القلة والندرة، وكانت ترجمتُها من الإشكال والصعوبة بحيث لم يتيسَّر قبل اليوم تنشئةُ المهندسين الفحول على الوجه الصحيح الموافق لأسلوب فرنسا، ولكن ها هو البكباشي محمد بيومي أفندي، واليوزباشية أحمد طائل أفندي، وإبراهيم رمضان أفندي، وأحمد دوقلي أفندي، وأحمد فائد أفندي يتولون بفضل بركات الخديوي ترجمةَ الدروس التي وُكل إليهم تعليمها، ثم لا يقفون عند حدِّ الترجمة بل يطبعونها على الحجر، ويجعلون منها كتُبًا وأسفارًا، والواقع أن الامتحان الأخير كان مشهدًا لما جمعتْه هذه الكتب بين دفاتها من شتى العلوم،٢١ ويؤيد هذه الأقوال علي مبارك باشا فيما كتبه عن ذكرياته في هذه المدرسة.٢٢
وكان المصحِّحُ لهذه الكتب بعد ترجمتها هو الشيخ إبراهيم عبد الغفار الدسوقي يساعده مبيضون لنسْخ الكتب بعد تحريرها، وقد استلزم قيامُ المدرسة على تعريب دروسها وكثير من الكتب الرياضية تعيينَ مدرِّسين مصريين بها من خريجي مدرسة الألسن لتدريس الفرنسية لتلامذتها، وترجمة دروسها، ووضْع قاموس أزمعت المدرسةُ وضْعَه في العلوم الرياضية»،٢٣ وكان من أبرز هؤلاء المدرِّسين السيد صالح مجدي، وعبد الله أبو السعود، وهما من أنبغ تلاميذ رفاعة، ومن أنبغ خرِّيجي الألسن، ولهما جهدٌ مشكور في ترجمة الكتب في مختلف الفنون والعلوم في عصر محمد علي وما تلاه.

وفي السنوات الأخيرة من عهد محمد علي أُلغيت اللغتان الفارسية والتركية، وحلَّت محلَّهما اللغةُ الفرنسية، وكانت تُدرَّس لجميع التلاميذ في كل الفِرَق.

ولم يكن للمدرسة مديرٌ في السنة الأولى من حياتها، بل كان يُديرها وكيلُها أرتين بك، ثم خلفه في هذا المركز بعد ستة أشهر حكاكيان أفندي، ثم اشترك معه في إدارة المدرسة بعد قليل المسيو شارل لامبير Charles Lambért، فلما نُقل حكاكيان بك بعد ثلاث سنوات ناظرًا لمدرسة العمليات استقلَّ مسيو لامبير بإدارة المدرسة وظلَّ يشغل هذا المركز حتى نهاية عصر محمد علي.

وفي سنة ١٨٤٩ / ١٢٦٦، أي في أوائل عهد عباس الأول عُيِّن علي مبارك (بك) ناظرًا للمدرسة، وأُلحقت بها مدرستَا التجهيزية والمبتديان، ثُم أُلغيت المدرسة أخيرًا في سبتمبر سنة ١٨٤٥ بعد عشرين عامًا، وبعد حياةٍ حافلة بالجهاد الدائب المتصل في سبيل النهضة بالحياة العلمية الرياضية في مصر.

(٣) المدارس الصناعية

أُنشئت في عهد محمد علي مصانعُ كثيرة لصُنْع الأسلحة والذخائر، ونسْج الملابس بمختلف أنواعها، وقد فُتحت في هذا العهد أيضًا مدارسُ صناعية عُهد بتعليم الشبان المصريين فيها إلى معلمين من الأجانب، حتى إذا تلقَّى المصريون أصولَ الصناعة حلُّوا محلَّ الأجانب، كما أُرسلت بعثاتٌ صناعية أيضًا إلى بلاد أوروبا الغربية لتحقيق نفس الغرض، وأهمُّ هذه المدارس:

  • (أ)
    مدرسة الكيمياء: أُنشئت سنة ١٩٤٧ / ١٨٣١ بمصر القديمة، وكان تلاميذُها القلائل يتعلَّمون فيها الصناعاتِ الكيمائية واللغة الفرنسية، وكان مدرِّسُهم يُسمَّى «إيمو Ayme»، وخلفه مسيو «روشيه».
  • (ب)
    مدرسة المعادن: أُنشئت سنة ١٢٥٠ / ١٨٣٤، وكان ناظرُها الأول مصريًّا اسمه «يوسف كاشف»٢٤ وتولَّى إدارتَها وقتًا ما مسيو لامبير.
  • (جـ)

    مدرسة العمليات أو الفنون والصنائع: وقد أُنشئت سنة ١٢٥٢ / ١٨٣٧، وكانت تُعنَى في دراستها بالناحية العملية، وقد حُولت في سنة ١٨٤٤ إلى «ورشة» صناعية، وتولَّى إدارتَها المهندس الإنجليزي «تيلر» ثم خلفه إنجليزي آخر اسمه «مستر جون ماكنتون».

    وقد تُرجمت في هذه المدارس كتبٌ صناعية ولا شك، غير أن النقل فيها عن الغرب كان نقلًا عمليًّا في معظمه لا يعتمد على الكتب كثيرًا.

(٤) المدارس الحربية والبحرية

(٤-١) مدرسة أسوان

بدأ محمد علي — عندما فكر في تكوين جيشه الجديد — بتعليم طائفةٍ من الضباط وكان من حسن حظِّه أن استعان بمجهود ضابطٍ من ضباط نابليون القدامى، وهو «الكولونيل سيف»، وأُنشئت المدرسةُ الأولى في أسوان، وأُلحق بها ألفٌ من مماليك محمد علي وكبار الموظفين والضباط، وكان يساعد سيف في تعليمهم نفرٌ من الضباط الإيطاليين، كما عاونه — وقتًا ما — عثمان نور الدين.

وبعد قليل انتقلت المدرسةُ إلى إسنا، وكان من بين موظفيها وقتذاك مَن يُدعى «أحمد أفندي»،٢٥ وهو من الرجال الفنيين، وإن بذل ما في قدرته لترجمة بعض الكتب المتعلقة بالفنون الحربية، فإن ذلك يكون موجبًا لسرورنا.٢٦

وقد نُقلت هذه المدرسة بعد ذلك شمالًا إلى إخميم ثم إلى النخيلة (بمديرية أسيوط)، وانتهى بها المطافُ أخيرًا إلى الخانقاه بالقرب من القاهرة.

ويبدو أن لجنة تنظيم التعليم التي كُوِّنت سنة ١٨٣٦-١٨٣٧ قرَّرت إلغاءَ هذه المدرسة مكتفيةً بالمدارس الحربية الأخرى: المشاة والفرسان والمدفعية.

(٤-٢) مدرسة أركان الحرب

أُنشئت في أكتوبر سنة ١٨٢٥ بقرية «جهاد آباد»٢٧ بالقرب من القاهرة، وتولَّى إدارتَها وتنظيمها الضابطُ الفرنسي «بلانات Planat»، وكان يشترك معه في التعليم بعضُ المدرسين الشرقيين والغربيين وخاصة الفرنسيين، وكان تلاميذ هذه المدرسة يدرسون اللغات الفرنسية والتركية والفارسية إلى جانب المواد الحربية والرياضية ورسم الخرائط … إلخ.

(٤-٣) مدرسة البيادة

أُنشئت في الخانقاه في سبتمبر سنة ١٨٣٢، ثم نُقلت في مايو سنة ١٨٣٤ إلى دمياط، وفي سنة ١٨٤١ إلى أبي زعبل، وظلَّت قائمة هناك إلى نهاية عصر محمد علي.

figure
الجنرال سليمان باشا (الكولونيل سيف).
وكانت تُدرَّس في هذه المدرسة اللغات الثلاث، ثم زيدت عليها اللغة الفرنسية بعد نقلها إلى أبي زعبل، وكان يقوم بتدريسها مصريٌّ من خريجي الألسن، وكان يُدير هذه المؤسسة في وقت ما ضابط بيدمونتي يدعى بولونيني Bolonini من ضباط جيش نابليون.٢٨

وقد أُلغيت هذه المدرسةُ في عهد عباس الأول، وسُرِّح تلاميذُها.

(٤-٤) مدرسة السواري

أُنشئت في الجيزة في ذي القعدة سنة ١٢٤٦ / ١٨٣٠، ونُظمت على مثال مدرسة «سومور» الحربية بفرنسا، وكانت تُدرَّس بها اللغاتُ الثلاث كما كانت تُدرَّس الفرنسيةُ لضباطها ولفريق من تلاميذها.

وقد كان تلاميذُ المدرسة — وقت إنشائها — من المماليك والأتراك، ثم أخذ العنصر المصري يزداد شيئًا فشيئًا حتى أصبحت المدرسة بعد سنوات كغيرها من المدارس وجلُّ تلاميذِها إن لم يكن كلهم من المصريين.

وكان مديرُ المدرسة الأول الضابط الفرنسي فارن Varin، فنظمها على مثال المدارس الحربية الفرنسية، ثم خلفه فرنسيٌّ آخر يُدعى واسيل بك، وقد أُلغيت هذه المدرسة كسابقتها في عهْد عباس الأول.

(٤-٥) مدرسة الطوبجية

أُنشئت في طرة في سنة ١٢٤٧ / ١٨٣١، وقام على إدارتها وتنظيمها ضابطٌ إسباني اسمه الدون أنطونيو دي سيجويرا، وكان معظم تلاميذها عند إنشائها من المصريين والأتراك كما كان بها عددٌ من التلاميذ من جزيرة كريت.

وكانت مواد الدراسة تشمل — غير المواد الحربية والرياضية — لغة أجنبية، فالذين يُعَدُّون للخدمة في الأسطول يتعلَّمون الإنجليزية، والذين يُعَدُّون للجيش يتعلَّمون الفرنسية أو الإيطالية، أما اللغة التركية، فكان يتعلَّمها جميعُ التلاميذ على السواء.٢٩

وكان في المدرسة مطبعةٌ خاصة بها تقوم بطبْع الكتب المؤلفة أو المترجمة التي يدرسها التلاميذ، وقد عُيِّن رفاعة الطهطاوي مترجمًا بهذه المدرسة بعد عودته من فرنسا، وظلَّ يشغل هذا المنصب نحو السنتين.

وقد خلف «سكويرا بك» في إدارة المدرسة مصطفى بهجت أفندي (باشا فيما بعد) يساعده مدربٌ فرنسي اسمه برونو Brunhaut ثم خلفه أحمد أفندي خليل، وأخيرًا أصبح «برونو» وحده مديرًا للمدرسة حتى أواخر عصر محمد علي، وقد أُلغيت هذه المدرسةُ أيضًا في عهد عباس الأول.

(٤-٦) المدارس البحرية

أُنشئت في عصر محمد علي مدرسةٌ بحرية في الإسكندرية لإعداد الجند للأسطول ولكنها أُلغيت بعد سنة ١٨٣٦، ثم كانت هناك مدارس للتدريب العملي على ظهر بعض سفن الأسطول؛ ﮐ «المنصورة» و«عكا» و«جناح البحر»، وقد حلَّ أعضاءُ البعثات المصريون الذين درسوا الفنون البحرية في أوروبا محلَّ الأجانب بعد عودتهم، وتولَّوا قيادة الأسطول المصري، وكان لهم فضلٌ كبير في «ترجمة اللوائح والقوانين البحرية الفرنسية والإنجليزية».٣٠
figure
خريطة القاهرة لبيان المدارس التي أنشأها بها محمد علي.

هذه هي المدارس الحربية والبحرية، وقد تُرجمت لها وفيها كتبٌ حربية كثيرة، تُرجم معظمُها عن الفرنسية أو الإنجليزية إلى التركية، والقليلُ منها تُرجم إلى العربية.

١  كلوت بك، لمحة عامة إلى مصر، ج٢، ص٥٧٩-٥٨٠.
٢  انظر: عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٢٥٤-٢٥٥، وجورجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية ج٤، ص٣٠.
٣  تحدث عن هؤلاء الأساتذة بشيء من التفصيل كلوت بك في كتابه: لمحة عامة إلى مصر، ج٢، ص٦٢٧-٦٢٨، ٦٥٤-٦٥٥، وانظر أيضًا: Bowring. Op. cit p. 140، وعزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٢٥٩.
٤  كلوت بك، المرجع السابق، ج٢، ص٦١٨-٦١٩.
٥  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٣٥٧ (عن وثائق عابدين).
٦  كلوت بك، لمحة عامة إلى مصر، ج٢، ص٦٤٧-٦٤٨.
٧  واتخذ محمد علي في نفس الوقت إجراءً آخر لعلاج الموقف؛ فقد أمر أن يتعلَّم الأطباء اللغة العربية تمهيدًا للاستغناء عن المترجمين، ولكن الأطباء لم يستجيبوا لهذا الإصلاح؛ فقد صدَر أمرٌ من محمد علي إلى وكيل الجهادية في ٢٨ رجب سنة ١٢٥٠: «بأنه اطلع على قرار المجلس الخاص بالتنبيه على شوراي الأطباء الأجانب بالسعي والاجتهاد في تعلُّم اللغة العربية، ورفت التراجمة الموجودين مع من يكون أدَّى الخدمة مدة سنة من الحكماء المذكورين، وحصول الإجابة من شوراي الأطباء بأنه لم يحضروا إلى مصر لتعلم اللغة العربية، وعلى فرض علمهم بها قليل؛ فإنهم لم يقدروا على فهْم ما يعبر عنه المريض من الأمراض، ولكون إن إجابتهم هذه مغايرة للآداب، وأنه ليس من عدم علمهم اللغة العربية، بل يعلم منها أنهم يريدون منفعة الجانب الذين بمعيتهم.» انظر: تقويم النيل، ج٢، ص٤٥٥، وفي ٧ جمادى الأولى من نفس السنة صدَر أمرٌ منه إلى وكيل الجهادية «بتعيين تراجمة إلى معلمي الجهادية الإفرنج الذين يعرفون اللغة العربية لحين تعليمهم إياها»، المرجع السابق، ص٤٢٦.
٨  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٢٥٨.
٩  المرجع السابق ٢٥٩.
١٠  المرجع السابق، ص٢٧٢-٢٧٣ (عن وثائق عابدين).
١١  المرجع السابق، ص٢٨٣ (عن وثائق عابدين).
١٢  كلوت بك، لمحة عامة إلى مصر، ج٢، ص٦٣٧.
١٣  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٣٢٤ (عن وثائق عابدين).
١٤  تقويم النيل، ج٢، ص٤٧٢-٤٧٣.
١٥  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٣٥١.
١٦  المرجع السابق، ص٣٥٨.
١٧  الجبرتي، عجائب الآثار، ج٤، ص٢٧٢، ٢٨٠.
١٨  الخطط التوفيقية، ج١٥، ص٥.
١٩  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٣٦٠-٣٦١.
٢٠  المرجع السابق، ص٣٦٢.
٢١  المرجع السابق، ص٣٦٨ (عن وثائق عابدين).
٢٢  الخطط التوفيقية، ج٩، ص٤١.
٢٣  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٣٦٩ (عن وثائق عابدين).
٢٤  انظر رفاعة، مناهج الألباب، ص٢٥١–٣٦٠.
٢٥  لعله أحمد أفندي خليل الذي تولَّى نظارة مدرسة المدفعية فيما بعد وقام بترجمة كثير من الكتب الحربية. انظر ما ذكرناه عنه عند كلامنا عن المترجمين من الموظفين.
٢٦  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٣٨٨ (عن وثائق عابدين).
٢٧  كانت هذه القرية كما يذكر الأمير عمر طوسون في كتابه عن البعثات، ص٣٠، هامش ١، تتكوَّن من المدرسة نفسها ومن بيوت التلاميذ ومساكن أركان حرب، وهي تبعد أربعمائة متر عن المعسكر العام ومبنية على الطراز الأوروبي.
٢٨  Hamont. Op. Cit, t. ll. p. 165.
٢٩  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٤٠٨.
٣٠  سرهنك باشا، حقائق الأخبار عن دول البحار، ج٢، ص٤٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤