الفصل الثاني

البعثات

أهم أغراضها: تكوين جيل من الأساتذة والعلماء مثقفين ثقافة أوروبية، إعداد المترجمين لترجمة الكتب في مختلف العلوم والفنون، أول عمل كان يُعهَد به إلى المبعوثين هو الترجمة، تكليفهم بالترجمة وهم في المحجر الصحي، عثمان نور الدين يبدأ حركة الترجمة، ترجمة لوائح البحرية الإنجليزية لاستعمالها في البحرية المصرية، بعض المبعوثين يترجمون كتبًا في الفنون التي تخصصوا فيها، عضو واحد تخصَّص في الترجمة، الباقون أعدوا لإتقان اللغات الأجنبية ليشاركوا في حركة الترجمة.

***

كان الغرض الأول الذي دفَع محمد علي إلى إرسال البعثات المختلفة إلى ممالك أوروبا أن يكوِّن في مصر جيلًا من الأساتذة والعلماء تلقَّوا العلم الأوروبي في أوروبا وبلغات أوروبا ليحلُّوا بعد عودتهم محلَّ الأساتذة والأطباء والمهندسين والضباط والصنَّاع من الأجانب، وقد نجَح محمد علي في تحقيق غرضِه هذا إلى حدٍّ كبير.

أما غرضه الثاني، وهو الذي يعنينا هنا، فهو أن يكون أعضاءُ هذه البعثات أداةً صالحة لنقل علوم الغرب وفنونه، وترجمتها إلى اللغة العربية؛ لأن محمد علي لم يكن — كما ذكرنا آنفًا — متطرفًا في النقل عن الغرب، وإلا لأبقَى أساتذةَ الغرب، وجعل التعليم في مدارسه بلغات الغرب، ولكنه كان رجلًا حصيفَ الرأي بعيدَ النظر، فاحتفظ لمصر بقوميتها١ ولغتها، ونقَل إليها علومَ الغرب رغم ما كلَّفته هذه الغاية الحميدة من مشاق وتكاليف.
ولذلك كان أول عمل يُسنده محمد علي إلى أعضاء البعثات «إمدادهم بالكتب، والتنبيه عليهم بسرعة ترجمتها»، وقد بلغ من حرْص الحكومة على أن يكون لديها أكبر قدْر من الكتب المترجمة في أقصر وقت أن كانت تُقدِّم لهم الكتب وهم ما يزالون مقيمين في المحجر الصحي، ثم كانت تحتجزهم في مكان خاص، ولا تدعهم يخرجون إلى أهلهم حتى يُتِمُّوا ترجمةَ ما عندهم من الكتب، وكثيرٌ منهم كانت الترجمةُ تشغله عن واجبات وظيفته التي يتقلَّدُها، والبعض منهم لم يكن له من حِذْق اللغات الأجنبية والعربية، والقدرة على التحرير والكتابة ما يُمكِّنه من ترجمة ما عُهد إليه ترجمةً صحيحة، فلما أُنشئت مدرسة الألسن، وكُوِّن قلمُ الترجمة من خريجيها رُفع عن أعضاء البعثات عبءٌ لا شك كان ثقيلًا على أكثرهم.٢
وهناك عوامل مختلفة كانت تَدفع محمد علي إلى العناية الفائقة بالبعثات، والإكثار منها — كمًّا وكيفًا — أول هذه العوامل رغبتُه الملحَّة في النهضة بمصر والمصريين في أسرع وقت ممكن، وثانيها أن هؤلاء الأجانب الذين استعان بهم أول الأمر لتعليم المصريين لم يكونوا جميعًا «أكفأ مَن أنجبتْ بلادهم، بل إن منهم كثيرين كانوا جوابين يضربون في الأرض»،٣ وثالثها أن حرْص هؤلاء الأجانب على إطالة مدة خدمتهم وارتزاقهم «لم يكن مما يجعلهم يتحمسون كثيرًا لتلقين المصريين فنونَهم».٣
وفي الحديث الذي أدلى به محمد علي للدكتور «بورنج Bowring» مندوب الحكومة الإنجليزية إيضاحٌ كامل للبرنامج العظيم الذين وضعه نَصْبَ عينيه ليتحقَّقَ على أيدي أعضاء البعثات، وفيه أيضًا دليلٌ قوي على عبقرية محمد علي، ذلك الرجل الأُمِّي الذي ساقته العنايةُ الإلهية لتعليم شعْبٍ بأسْره. قال محمد علي لبورنج: «إن أمامي الشيء الكثير لأتعلَّمه أنا وشعبي، فأنا الآن مُرسِل إلى بلادكم أدهم بك، ومعه خمسة عشر شابًّا مصريًّا ليتعلَّموا ما يمكن لبلادكم أن تعلمَه، فعليهم أن ينظروا إلى الأشياء بأعينهم، وأن يتمرَّنوا على العمل بأيديهم، وعليهم أن يختبروا مصنوعاتِكم جيدًا، وأن يكشفوا كيف ولمَ تفوقتُم علينا، حتى إذا ما قضَوا وقتًا كافيًا بين شعبكم عادوا إلى وطنهم، وعلَّموا شعبي …»٤
figure
المدرسة المصرية التي أنشأها محمد علي في باريس لإقامة أعضاء البعثات.

وقد أُرسلت في عهد محمد علي سبعُ بعثات، كانت أولاها في سنة ١٨٠٩ إلى إيطاليا، ثم تعدَّدت البعثاتُ إلى إيطاليا وفرنسا وإنجلترا والنمسا لدراسة الطب والهندسة والفنون الحربية والبحرية والترجمة والحقوق والإدارة والكيمياء والتاريخ والعلوم الرياضية والزراعة والطباعة وصناعة السفن والنسج بأنواعه والسباكة، إلخ … إلخ، وكانت آخرُ هذه البعثاتِ إلى إنجلترا في أوائل سنة ١٨٤٨، أي قبل أن ينتقل محمد علي إلى الرفيق الأعلى بسنة واحدة.

وليس يعنينا هنا أن ندرسَ تاريخَ هذه البعثات وأعدادَها والعلومَ التي أُرسلت لدراستها، وأعمارَ المبعوثين، ومبلغ ثقافتهم، ومدى نجاح كلٍّ منهم … إلخ؛ ففي كتب: التعليم في عصر محمد علي للدكتور أحمد عزت عبد الكريم ص٤٢٢–٤٥٣، والبعثات العلمية في عهد محمد علي للأمير عمر طوسون، ص٥–٤١٤، وعصر محمد علي للأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك، ص٤٥١–٤٦٩، وغيرها كثير؛ غناءٌ لمن يريد العلم بأخبار هذه البعثات، ولكن يعنينا هنا أن نذكر أن هذه البعثاتِ كانت أداةً صالحة جدًّا لنقْل علوم الغرب وفنونه وصناعاته إلى مصر علمًا وعملًا، وسنترجم لمن اشتغل بالترجمة من أعضاء البعثات في الفصل الخاص بالمترجمين، ثم نذكر في قائمة الكتب المترجمة أسماءَ الكتب التي ترجمها هؤلاء المبعوثون في مختلف العلوم والفنون.

ويكفي أن نشيرَ هنا إلى بعض الحقائق، ومنها:
  • (١)
    أن عثمان نور الدين (باشا) — وهو أولُ مبعوثٍ مصري إلى أوروبا — كان «ساعِدَ الحكومةِ الأيمن في ترجمة الكتب؛ فقد خصص له قصر إسماعيل بن محمد علي في بولاق، وألحق به بعض المترجمين ليترجموا «كتب الفنون الحربية وسائر الصنائع».»٥
  • (٢)
    وأنَّ أعضاء البعثة البحرية التي أُرسلت إلى إنجلترا سنة ١٨٢٩، قاموا بعد عودتهم — إلى جانب عملهم في الأسطول المصري، بترجمة اللوائح البحرية الإنجليزية لاستعمالها في البحرية المصرية.٦
  • (٣)
    وأنه كان يُعهَد إلى بعض أفراد البعثات بترجمة كتابٍ يتصل بفنِّه الذي يدرسه كما عُهد إلى علي عبد الرحيم أفندي عضو بعثة سنة ١٨٢٩ الصناعية بترجمة كتاب عن معمل القطن، وكما عُهد إلى زميله في نفس البعثة حنفي إسماعيل أفندي بترجمة كتاب في صناعة الآلات.٧
  • (٤)
    لم يعُدْ للتخصص في الترجمة من بين جميع أعضاء البعثات إلا رفاعة رافع الطهطاوي، غير أنه كان يراعي دائمًا في منهاج الدراسة إعدادَ المبعوثين للتخصص في علومهم وفنونهم أولًا، ثم إتقان اللغات الأجنبية ثانيًا ليترجموا كتبًا فيما تخصصوا فيه، فكان أعضاءُ البعثة الصناعية التي أُرسلت إلى فرنسا في أوائل سنة ١٨٣٠ يدرسون علمَ بيان اللغة الفرنسية على أستاذ خاص،٨ وكذلك نص في الأمر الصادر بتكوين البعثة الطبية التي كان مزمعًا إرسالُها إلى فرنسا في أوائل سنة ١٨٤٨ أن «يتعلَّموا جميعًا اللغة الفرنسية والطب، حتى إذا عادوا إلى مصر اشتغلوا بالترجمة …»٩ وأن محبوب الحبشي وهو أحد التلاميذ الأحباش الذين أُرسلوا إلى فرنسا حوالي سنة ١٨٣٢ لتعلُّمَ فنِّ النقش كان يتعلم هناك «اللغة العربية والفرنسية والإيطالية واشتُريت له كتبٌ في علم الجغرافية».١٠
١  والقصةُ التالية خيرُ شاهد على رغبة محمد علي الشديدة في احتفاظ المصريين بقوميتهم: «سافر أدهم بك رئيس المدفعية ومدير ورش المهمات الحربية مع بعثة من أحد عشر من معلِّمي الحرير بمصر إلى إنجلترا، وهناك تزيَّا أدهم بك بزِيِّ الإنجليز، وحاكاهم في أحوالهم وعاداتهم، وعلِم بذلك محمد علي باشا فأرجعه مغضوبًا عليه، وقال: «إنني بعثتُه ليُعاين فابريقاتهم، ويقف على صنائعهم لبثِّها في مصر، لا ليُقلِّدَهم في ملابسهم وعاداتهم.» ثم عفا عنه بعد ذلك بشفاعة حفيدِه عباس باشا، وقد عيَّن أدهم بك مديرًا لديوان المدارس خلفًا لمصطفى مختار بك في ١٧ مايو سنة ١٨٣٩». انظر عمر طوسون، البعثات العلمية في عصر محمد علي، ص١٦٣، هامش ١.
٢  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٤٢٨ (عن وثائق عابدين)، ويؤيد هذا ما ذكره الرافعي، عصر محمد علي، ص٥٣٧؛ فقد قال «ومما يروى عنه في هذا الصدد أنه لما عاد أعضاء البعثة الأولى إلى مصر استقبلهم بديوانه بالقلعة، وسلَّم كلًّا منهم كتابًا بالفرنسية في المادة التي درسها بأوروبا، وطلب إليهم أن يترجموا تلك الكتب إلى العربية، وأمر بإبقائهم في القلعة، وألا يُؤذَنَ لهم بمغادرتها حتى يُتِمُّوا ترجمة ما عُهد به إليهم، فترجموها فعلًا، وأمَر بطبعها في مطبعة بولاق، وتوزيعها على المدارس التي وضعت لها تلك الكتب.»
٣  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٤٢٢.
٤  Bowring Report on Egypt and Candia. p. 147.
٥  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٤٣٥.
٦  انظر عمر طوسون، المرجع السابق، ص١١٣–١١٧.
٧  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٤٤٠.
٨  عمر طوسون، المرجع السابق، ص٧٣.
٩  عبد الكريم، المرجع السابق، ص٤٥١-٤٥٢.
١٠  عمر طوسون، المرجع السابق، ص١٢٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤