الفصل الأول

مدرسة الألسن وقلم الترجمة

الخطوات التمهيدية: مدرسة الإدارة الملكية، مدرسة التاريخ والجغرافيا، مدرسة الألسن، سبب إنشائها، تلاميذها، مدة الدراسة، برنامجها، اللغات التي كانت تُدرس بها، مدرِّسو المدرسة، مديرها، مدرِّسو اللغتين العربية والفرنسية، أقسام المدرسة ونموها، قلم الترجمة، أقسامه، إلغاء المدرسة في أوائل عهد عباس، قلم الترجمة في عهد إبراهيم، تشتُّت رجاله بعد إلغاء المدرسة.

***

(١) مدرسة الألسن: الخطوات التمهيدية

(١-١) مدرسة الإدارة الملكية

كان محمد علي في حاجة إلى عدد كبير من الموظفين المثقفين ثقافة جديدة لمساعدته في إدارة ما أنشأت حكومته من «دواوين» ومصالح وأقلام؛ ولذلك بادر فحاول المحاولة الأولى فأنشأ في جمادى الأولى سنة ١٢٥٠ / ١٨٤٣ مدرسةَ الإدارة الملكية، واختير لها ثلاثون تلميذًا من تلاميذ الدرسخانة الملكية وعُيِّن للتدريس بها أرتين شكري أفندي، واسطفان رسمي أفندي عضوَا البعثة إلى فرنسا اللذان تخصَّصَا في دراسة الإدارة الملكية.

وكان على هؤلاء التلاميذ أن يدرسوا في الدرسخانة الملكية من الصباح إلى الظهر ثم يتوفرون — من الظهر إلى ما قبل غروب الشمس — على دراسة المواد الإعدادية لدراسة الأمور الملكية، وأهمها اللغة الفرنسية، والمحاسبة، ومبادئ الهندسة، والجغرافية.

وكان على هذين المدرسَين — إلى جانب قيامهما بالتدريس — أن يبذلَا جهودًا أخرى في الترجمة في هذا الفن — فن الإدارة الملكية — فنصَّت لائحة المدرسة على:

  • (١)

    أن يُعهَد إليهما في الصباح بترجمة ما يحال إليهما ترجمته.

  • (٢)

    أن يقوما بترجمة دروس في الإدارة المدنية وإعدادها.

كذلك نصَّت اللائحة على أن تُدرس مادة الترجمة دراسة عملية لتلاميذ المدرسة، فإنه «لما كان من أغراض المدرسة تخريجُ مترجمين وموظفين لفروع الإدارة المصرية، فقد أشارت اللائحةُ بأن يُقدَّمَ للتلاميذ — بعد تقدُّمِهم في اللغة الفرنسية — كتبٌ في التاريخ سهلة، وتُترجم لهم درسًا درسًا، حتى إذا تمَّتْ ترجمةُ الكتاب وإصلاحه قامت المطبعةُ على طبعه، «وأنه لأجل حصول ائتلاف التلامذة بالمصالح المصرية» تُقدَّم للمدرسة نسختان من الوقائع المصرية، وتُترجم لتلاميذها المواد «المشتملة على عمارية الملك بجرنالات أوروبا».»١

غير أن هذه المدرسة لم تُعمِّرْ طويلًا فقد أُلغيت بعد قليل، ونُقل تلاميذها إلى مدرسة الألسن في آخر سنة ١٢٥١ / ١٨٣٦.

(١-٢) مدرسة التاريخ والجغرافيا

أُنشئت في حدود سنة ١٢٥٠ وألحقت بمدرسة المدفعية، وكان ناظرها الوحيد هو رفاعة رافع الطهطاوي، وكان القصدُ من إنشائها تخريجَ مدرِّسين للجغرافيا في المدارس الحربية المختلفة، وقد أُلغيت هذه المدرسة عند إنشاء مدرسة الألسن، وقد فصَّلنا الكلام عليها عند كلامنا عن رفاعة في فصل المترجمين.

وبهذا كانت هاتان المدرستان الخطوتَين التمهيديتين لإنشاء مدرسة الألسن.

(١-٣) مدرسة الألسن

أُنشئت في أوائل سنة ١٢٥١ / ١٨٣٥ باسم مدرسة الترجمة، ثم غُيِّر اسمُها فأصبح «مدرسة الألسن»، وجُعل مقرُّها السراي المعروفة ببيت الدفتردار بحيِّ الأزبكية حيث فندق شبرد الآن.٢
وقد أُنشئت هذه المدرسة تحقيقًا لاقتراحٍ تقدَّم به رفاعة لمحمد علي باشا، يقول علي مبارك: «ثم عرض (أيْ رفاعة) للجناب العالي أن في إمكانه أن يُؤسِّس مدرسة ألسن يمكن أن ينتفعَ بها الوطن، ويستغني عن الدخيل، فأجابه إلى ذلك، ووجَّه به إلى مكاتب الأقاليم؛ لينتخبَ منها من التلامذة ما يتمُّ به المشروع، فأسَّس المدرسة».٢
وكان تلاميذُ المدرسة في أول عهدها ثمانين تلميذًا، اختار رفاعة معظمَهم من مكاتب الأقاليم، وضمَّ إليهم تلاميذَ مدرسة الإدارة الملكية بعد إلغائها، ولكن هذا العدد زاد بعد ذلك حتى أصبح مائة وخمسين، وكانوا ينقسمون إلى قسمين، ويرأس كلَّ قسم أستاذٌ ويساعده بعضُ التلاميذ المتقدمين.٣
وكانت مدة الدراسة بالمدرسة ٥ سنوات قد تزداد إلى ست، كما أنه كان لشورى المدرسة الداخلي — أي مجلس إدارتها — الحقُّ في تعديل منهاج الدراسة بها، وكان هذا المنهاج ينصُّ على أن تُدرس بها اللغات العربية والتركية والفرنسية،٤ والحساب، والجغرافيا، ثم أُضيفت بعد ذلك دراسة التاريخ، وأُرسلت المدرسة «إلى أوروبا لشراء كتب فرنسية في الأدب والقصص والتاريخ».٥
وفي سنة ١٢٥٥ / ١٨٣٩ اكتملت المدرسةُ، وأصبح بها ٥ فِرَق، وخرَّجت أول فريق من تلامذتها، وكان تلاميذ الفرقة الأولى (أي الأخيرة) «يُترجمون كتبًا في التاريخ والأدب، ويقوم على إصلاحها أستاذُهم ومديرُ مدرستهم «رفاعة رافع»، ثم تُقدَّم إلى المطبعة فتطبع وتنشر كتبًا يقرؤها المدرسون والتلاميذ».٦

غير أن العناية بتدريس اللغات في مدرسة الألسن لم تكن في درجة واحدة؛ فقد كانت العنايةُ كبيرةً بتدريس اللغتين العربية والفرنسية؛ وذلك لأسباب واضحة، منها أن كل التلاميذ كانوا من المصريين الذين يعرفون العربية ولا يعرفون التركية، ومنها أن ناظر المدرسة وأستاذها رفاعة كان يُتقن هاتين اللغتين.

ومع هذا فقد «دُرِّست اللغة الإنجليزية وقتًا ما بمدرسة الألسن، وقام على تدريسها مدرِّسٌ إنجليزي، وقرأ التلاميذُ قصصًا وكتبًا في قواعد اللغة الإنجليزية»،٧ وقد ذكر صالح مجدي في كتابه «حلية الزمن» عند كلامه عن تلاميذ رفاعة أن من بين مَن نبغ في اللغة الإنجليزية من خريجي الألسن «محمد أفندي سليمان مدرس اللغة الإنجليزية بالمدارس الحربية وأول من برع في الترجمة من الإنجليزية».
أما اللغة التركية فكانت العنايةُ بها ضعيفة للأسباب السابقة، ولأنه «كان من الصعوبة بمكان أن تجد الحكومةُ مترجمًا يَحذَق اللغاتِ العربية والتركية والفرنسية جميعًا».٧

مدرسو المدرسة

ذُكر في لائحة المدرسة أن هيئة التدريس بها تتكوَّن من:

  • (١)

    مديرها.

  • (٢)

    مراقبين للدراسة.

  • (٣)

    أستاذين للغة العربية من الدرجة الأولى.

  • (٤)

    أستاذ للغة التركية من الدرجة الأولى.

  • (٥)
    ثلاثة أساتذة لتدريس اللغة الفرنسية والرياضة والتاريخ والجغرافيا.٨
أما مدير المدرسة فهو زعيم النهضة العلمية في عصر محمد علي، العالم الكبير رفاعة رافع الطهطاوي، وسنُترجم له ترجمة واسعة في الفصل الخاص بالمترجمين، ويكفي أن نعرف هنا:
  • (١)
    أنه كان يُشرف على المدرسة من الناحيتين الفنية والإدارية.٩
  • (٢)

    كان يُدرِّس للتلاميذ الأدبَ والشرائع الإسلامية والغربية.

  • (٣)

    كان يختارُ الكتبَ التي يرى ضرورةَ ترجمتِها ويُوزِّعُها على المترجمين من تلاميذ المدرسة وخرِّيجيها الملتحقين بقلم الترجمة، ويُشرف على توجيههم أثناءَ قيامهم بالترجمة، ويقوم بمراجعة الكتب وتهذيبها بعد ترجمتِها. يقول حسن قاسم أحدُ خريجي مدرسة الألسن في مقدمة كتاب «تاريخ ملوك فرنسا»: «ولما تمَّ هذا التعريبُ لحظَه بنظر التصحيح والتهذيب حضرةُ رفاعة بك ناظر مدرسة الألسن وقلم الترجمة، فشيَّد مبنى ألفاظه وأحكامه.»

  • (٤)

    وكان رفاعة يرأس كلَّ عام لجنةَ امتحان تلاميذ مكاتب المبتديان بالأقاليم؛ فيسافر إليها في النيل، ويمتحن تلاميذها، ويصطحب المتفوقين منهم ليُلحقَهم بالمدرسة التجهيزية الملحقة بمدرسة الألسن.

وكان إخلاصُ رفاعة لمهنته يدفعه إلى عدم التقيُّد بأوقات محددة للدراسة؛ فكان يستمر في الدرس ثلاث أو أربع ساعات ما دام يجد في نفسه رغبةً وفي تلاميذه قبولًا، يقول علي مبارك باشا: «كان دأبه في مدرسة الألسن وفيما اختاره للتلاميذ من الكتب التي أراد ترجمتَها منهم، وفي تأليفاته وتراجمه خصوصًا أنه لا يقف في ذلك اليوم أو الليلة على وقت محدود، فكان ربما عقَد الدرس للتلامذة بعد العشاء، أو عند ثلث الليل الأخير، ومكَث نحو ثلاث أو أربع ساعات على قدميه في درس اللغة، أو فنون الإدارة، أو الشرائع الإسلامية، والقوانين الأجنبية، وله في الأولى مجاميعُ لم تُطبَع، وكذلك كان دأبه معهم في تدريس كتُب فنون الأدب العالية، بحيث أمسى جميعُهم في الإنشاءات نظمًا ونثرًا أطروفةَ مصرِهم، وتحفةَ عصرِهم، ومع ذلك كان هو بشخصه لا يفترُ عن الاشتغال بالترجمة والتأليف وكانت مجامعُ الامتحانات لا تزهو إلا به.»١٠
وقد أرهقت هذه الأعمالُ الكثيرة رفاعةَ فعيَّن له ديوانُ المدارس مدرِّسًا فرنسيًّا؛ ليقوم بمساعدته في إدارة المدرسة والتفتيش على الدروس وأمانة المكتبة.١١
أما مدرسو اللغة العربية فكانوا نخبةً من مشايخ الأزهر الممتازين في معرفتهم وحُبِّهم القراءة والبحث والتحقيق، ذكر منهم علي مبارك:١٠
  • (١)

    الشيخ الدمنهوري.

  • (٢)

    الشيخ علي الفرغلي الأنصاري (ابن خال رفاعة).

  • (٣)

    الشيخ حسنين حريز الغمراوي.

  • (٤)

    الشيخ محمد قطة العدوي.

  • (٥)

    الشيخ أحمد عبد الرحيم الطهطاوي.

  • (٦)

    الشيخ عبد المنعم الجرجاوي.

  • (٧)

    حسن أفندي (باشخوجة المدرسة).

أما مدرسو اللغة الفرنسية فهم:

  • (١)

    مسيو «كوت»، وقد خلفه بعد وفاته «إسكندر دوده».

  • (٢)

    مسيو «بتيبر».

  • (٣)

    مسيو «ديزون» وهو الذي اختير لمساعدة رفاعة ولأمانة المكتبة.

وقد حقَّق خريجو مدرسة الألسن الغرضَ من إنشاء المدرسة، فعيَّن المتقدمون من أول فريق تخرَّج في سنة ١٨٢٩ مدرِّسَين للغتين العربية والفرنسية في نفس المدرسة، وفي مدرسة «المهندسخانة».

ولما أُنشئ قلم الترجمة في أوائل سنة ١٢٥٨ / ١٨٤١ أُلحق به كلُّ خريجي المدرسة، غير أن الواحد منهم لم يكن يُمنح الرتبة حتى يُترجم كتابًا «يحوز الرضا السامي»١٢ وقد أَلحق كثيرون منهم مدرِّسين بالمدارس الأخرى أو موظفين بالمصالح المختلفة.

نموُّ المدرسة واتساعُها

وظهر للباشا ما للمدرسة من فوائد جليلة، وأدرك ما بلغتْه من نجاح فظلَّ يعمل على تنميتها:
  • (١)

    ففي سنة ١٨٤١ ألحقت بها المدرسة التجهيزية التي كانت قبلًا في أبي زعبل.

  • (٢)
    وفي سنة ١٢٦٠ / ١٨٤٥ أُنشئ بالمدرسة قسمٌ لدراسة «الإدارة الملكية العمومية» لتخريج الموظفين الإداريين؛ للعمل «في المديريات والمصالح والضابط خانة».١٢
  • (٣)

    وفي نحو سنة ١٢٦٢ أُنشئ بها قسم ثانٍ لدراسة «الإدارة الزراعية الخصوصية».

  • (٤)
    وفي أواخر سنة ١٢٦٣ أنشئ بها قسم ثانٍ لدراسة العلوم الفقهية، «وكان عددُ تلامذته أربعين تلميذًا، ويتلقَّون دروسًا في اللغة على المذهب الحنفي، حتى إذا أتموا دراستهم عُيِّنوا قضاة بالأقاليم «حيث إن أكثر القضاة ليسوا علماء».»١٢
وقد أدى هذا النموُّ إلى ازدحام المدرسة بالطلاب حتى كان التلاميذُ من فِرَق مختلفة يجلسون في حجرة واحدة لتلقِّي علومٍ متباينة على أساتذة متباينين، فعمِل رفاعةُ على تنظيم بناء المدرسة، حتى صار «لكل درس محلٌّ مخصوص بباب مخصوص».١٢

(١-٤) قلمُ الترجمة

أُنشئت هذه الفروعُ جميعًا لتخريج الموظفين الإداريين والقُضاة غيرَ أنَّ طلبتَها تعلَّموا اللغاتِ الأجنبية، وتلقَّوا علومًا جديدة حديثة إلى جانب العلوم العربية القديمة، وشاركوا — إلى حدٍّ ما — في حركة الترجمة، ولكن يَهُمُّنا أن نعرفَ شيئًا عن فرع المدرسة الذي يتصل اتصالًا وثيقًا بموضوعنا، وهو قلم الترجمة.

أُنشئ في أوائل سنة ١٢٥٨ / ١٨٤١ تنفيذًا لإشارة لجنة تنظيم التعليم (١٨٤١)؛ فقد رأت اللجنةُ أنه «لما كانت الكتبُ الجاري ترجمتُها معدودةً آثارًا خيرية من مآثر سمو مولانا الخديو الأعظم الذي تخلَّد اسمُه الكريم إلى أبد الآبدين، فلا شك في أن الواجب يقضي بأن تكونَ التراجمُ مضبوطةً مستوفية حقَّها من الصحة سليمة من الخطأ؛ فلهذا ولكون ترجمةِ كتُبِ العلوم والفنون ليست مقصورةً على معرفة اللغة فحسب، بل متوقفة أيضًا على الإلمام بالعلم أو الفنِّ المترجَم كتابُه؛ فقد أنشأت اللجنةُ غرفةَ الترجمة الخاصة بالمترجمين».١٣
وقُسمت هذه الغرفة إلى أربعة أقلام:
  • (١)

    قلم ترجمة الكتب المتعلقة بالعلوم والرياضة، ورئيسه «البكباشي محمد بيومي أفندي» وتحت رئاسته «ملازم» متخرِّج من مدرسة الألسن، وخمسةٌ من تلاميذ فرقتها الأولى.

  • (٢)

    قلم ترجمة كتب العلوم الطبية والطبيعية، ويُشرف عليه «اليوزباشي مصطفى واطي أفندي» أحد مدرِّسي مدرسة الطب البشري، وتحت رئاسته ملازم من مدرسة الألسن وثلاثة من تلاميذها.

  • (٣)

    قلم ترجمة المواد الاجتماعية أو «الأدبيات»؛ كالتاريخ والجغرافيا والمنطق والأدب والقصص والقوانين والفلسفة إلخ، ورئيسه الملازم أول خليفة محمود أفندي أحد مدرِّسي مدرسة الألسن وخريجيها، وأُلحق به ملازم ثانٍ وثلاثة من تلاميذ المدرسة.

  • (٤)

    قلمُ الترجمة التركية، ويُشرف عليه «ميناس أفندي» المترجم بديوان المدارس، وتحت إمرته أربعة من تلاميذ المدرسة.

ثم أُلحق بهذه الأقسام عددٌ من المبيضين لتبييض الكتب بعد ترجمتها، وإرسالها إلى ديوان المدارس للاطلاع عليها، فكان يُشير بطبْع النافع القيِّم منها.

(١-٥) مصير هذه المؤسسة

عاشت مدرسةُ الألسن نحو الخمسة عشر عامًا بدأت فيها تُسيطر على شئون الثقافة العامة في مصر، وأَنتجت في إبَّانها الإنتاجَ العلمي الوفير، فلما وَليَ العرشَ عباس الأول — ولم يكن على انسجام مع رجال جدِّه وعمِّه وخاصة رفاعة — أخذ يسعى سعيَه للقضاء على هذه المدرسة؛ فبدأ بإلغاء قسم الفقه بالمدرسة، ثم ثنَّى بتصفية تلاميذ المدرسة وفصْلِ عدد كبير منهم، «وفي الشهر الأخير من عام ١٢٦٥/أكتوبر ١٨٤٩، صدَر الأمرُ بنقْل مدرسة الألسن إلى مكان مدرسة المبتديان بالناصرية، وبذلك حُرمت المدرسة من مكانها، وضاق بها مكانُها الجديد حتى اضطروا إلى نقل الكتبخانة الأفرنكية والأنتيكات إلى المهندسخانة ببولاق، ولم تمضِ أيام على ذلك حتى أُلغيت مدرسة الألسن في المحرم سنة ١٢٦٦/نوفمبر سنة ١٨٤٩، وضُمَّ تلامذتها إلى التجهيزية قبل إلغائها،١٤ وفي أواخر سنة ١٢٦٦ سافر رفاعة إلى الخرطوم ليكون ناظرًا ومدرِّسًا لمدرسة الخرطوم الابتدائية.

أما قلمُ الترجمة فقد خضَع لتجربة جديدة في الشهور القليلة التي وَليَ فيها إبراهيم باشا، وصدَر الأمرُ بتقسيمه تقسيمًا جديدًا إلى قلمَين: قلم للترجمة التركية ويُشرف عليه كاني بك، وقلم للترجمة العربية ويُشرف عليه رفاعة بك، وجُعلت الرئاسة العليا لكاني بك؛ فقد نَشرت الوقائع المصرية في العدد ١٢٧ الصادر في ٢٦ ذي القعدة سنة ١٢٦٤: «لما كانت ترجمةُ الكتب المرغوبة التي تشتمل على القوانين والتراتيب والآداب وسائر العلوم والفنون النافعة من اللغة الفرنساوية إلى التركية والعربية، وطبْعُها ونشرُها؛ وسيلةً عظمى لتكثير المعلومات المقتضية، وقضيةً مسلَّمة عند أولي النُّهى، وكان حصولُ ذلك لا يتأتَّى إلا بوجود المترجمين البارعين في ألسنة الإفرنجي والتركي والعربي، واجتماعِهم في محلٍّ واحد، وقسْمِهم إلى قلمَي ترجمة، وضمِّهم إلى نظارة حضرة أمير اللواء كاني بك وكيل ديوان التفتيش الفريد في فنِّ الترجمة، المشهور بالسلاسة والبلاغة حصل فتحُ القلمين كما ذكر، وقد تعيَّن حضرةُ رفاعة بك أمير الآلاي الذي كان ناظرَ مدرسة الألسن التابعة إلى ديوان المدارس؛ ناظرًا على قلم الترجمة العربي في معية حضرة المومى إليه.»

يقول الدكتور عزت عبد الكريم «على أن إلغاء مدرسة الألسن في نوفمبر سنة ١٨٤٩ لا شك قد أثَّر أثرًا بليغًا في قلم الترجمة ورجاله؛ فقد حرَمه الدعامةَ القوية التي كان يرتكن عليها في عمله الفني، وحرم المصدر الذي كان قائمًا على تغذيته بالمترجمين كما حرم ناظرَه رفاعة بك المكانةَ السامية التي كانت له في دوائر التعليم، وبعد أشهر رحَل رفاعة إلى السودان، ولم يستطع القلمُ أن يحيا بعد فقْد مؤسسه ومديره فتشتت رجاله …»١٤
١  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٣٢٨.
٢  الخطط التوفيقية، ج١٣، ص٥٤.
٣  Bowring Op. Cit. p. 134.
٤  ذكر عبد الله أبو السعود أحد خريجي المدرسة في كتابه «منحة أهل العصر بمنتقى تاريخ محبي مصر» ص٥٨ أن اللغة الفارسية كانت تُدرس أيضًا بمدرسة الألسن.
٥  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٣٣٢-٣٣٣.
٦  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٣٣٢-٣٣٣.
٧  المرجع السابق ص٣٣٣ (عن وثائق عابدين).
٨  Bowring. Op. Cit. p. 134.
٩  كان المتَّبع في عصر محمد علي أن يكون لكل مدرسة خصوصية «مدير يُشرف على الشئون الفنية كتوزيع التلاميذ على الفِرق الدراسية، وتوزيع المواد الدراسية، ورياسة المدرسين، وناظر يُشرف على الشئون الإدارية كالضبط ورياسة عمال المدرسة من كتبةٍ وخدَمٍ وغيرهم، وكان ناظرُ الألسن يُدعى حسن كاشف، ثم عُزل بناءً على طلب رفاعة بك»، عزت عبد الكريم، السابق، ص٣٣٤، هامش ١.
١٠  الخطط التوفيقية، ج١٣، ص٥٤.
١١  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٣٣٤، هامش ٢.
١٢  عزت عبد الكريم، المرجع السابق، ص٣٣٦ و٣٣٧.
١٣  المرجع السابق، ص٣٤١ (عن وثائق عابدين).
١٤  عزت عبد الكريم، تاريخ التعليم في عصر عباس وسعيد، ج١، ص٥٨–٦١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤