المحررون والمصححون
بدء تعيين المصححين، كان المصححون يختارون عناوين الكتب المترجمة ويكتبون مقدماتها وخاتماتها، إهمال أسماء المؤلفين، تفريق جورجي زيدان بين المحررين والمصححين، المصححون في مدرسة الطب: الشيخ محمد الهراوي، الشيخ محمد محرم، الشيخان أحمد حسن الرشيدي وحسين غانم الرشيدي، الشيخ سالم عوض القنياتي، الشيخ محمد عمر التونسي، مصحح مدرسة الطب البيطري الشيخ مصطفى كساب، مصحح مدرسة الزراعة الشيخ نصر أبو الوفا الهوريني، مصحح مدرسة الهندسة الشيخ إبراهيم الدسوقي، مصححو مدرسة الألسن، أثر هؤلاء المشايخ في حركة الترجمة، ما أفاده بعضُهم من هذه الحركة.
***
كانت الطائفة الأولى التي تولَّت الترجمة في عصر محمد علي هي طائفة السوريين، ولم يكن أفرادُ هذه الطائفة على علمٍ واسع متين باللغات التي يترجمون عنها أو باللغة العربية؛ وذلك لأن معرفتهم بهذه اللغة كانت معرفةَ ممارسةٍ لا معرفة دراسة، ولأنهم كانوا جميعًا مسيحيين، فلم يُقوِّم القرآن لسانَهم أو أسلوبهم.
ولما كانت حكومة محمد علي ترى أن هذه الكتب المترجمة هي صفحة جديدة في نهضة علمية جديدة سينسبُها التاريخ إلى صاحب هذه النهضة، فقد فكَّرتْ في الطريقة التي تُقوِّم بها ما اعوجَّ من أسلوب هؤلاء السوريين، وهداها تفكيرُها إلى اختيار جماعة من شيوخ الأزهر ليتولوا مراجعة هذه الكتب بعد ترجمتها ويصححوا ما بها من أخطاء، ويقوِّموا ما بأسلوبها من اعوجاج.
وقد كان من تقليد ذلك العصر أن يُترَك للشيخ المحرر أو المصحح كتابةُ مقدمة الكتاب وخاتمته، واختيار عنوان عربي جديد له، واعتاد هؤلاء الشيوخ — متأثرين بالكتب القديمة التي قرءوها — أن يلتزموا السجع في اختيار العنوان وعند كتابة المقدمة والخاتمة، وقد كان لهذه الطريقة في اختيار العنوان عيبُها، وفي كتابة المقدمة والخاتمة فائدتُها؛ وذلك أنهم بعدوا بالعنوان المسجوع عن العنوان الأصلي للكتاب بُعدًا كبيرًا، فلما حاولتُ إرجاع هذه الكتب إلى أصولها لمعرفة أسمائها الأجنبية عزَّ عليَّ ذلك، بل واستحال، فكيف يمكن تحقيق الأسماء الأصلية لكتب هذه عناوينها: «نزهة الأنام في التشريح العام»، أو «منتهى الأغراض في علم الأمراض»، أو «رضاب الغانيات في حساب المثلثات»، أو «منتهى البراح في علم الجراح» … إلخ … إلخ.
فإذا انتهى الشيخ من هذا التقريظ ذكَر اسمَ المترجم مثنيًا على نبوغه ومقدرته، وقد يذكر السبب الدافع لترجمة الكتاب، أو الشخص الموحي بترجمته، وقد يُشير إلى طريقة الترجمة مما سنفصِّل الكلامَ عنه عند تقديرنا العام للترجمة في هذا العصر.
وفي الخاتمة كان يُشير الشيخ إلى أن الكتاب قد «تمَّ على يد مصحِّحِ مسائلِه ومنقِّح دلائله»، أو أنه «كمل حسب الطاقة تصحيحًا، وتمَّ تهذيبًا وتنقيحًا»، أو أنه «هذب عباراته ومبانيه، وحرَّر بعد السؤال معانيه، وبذل فيه غايةَ المجهود، ونظمه نظم اللآلئ في العقود …» أو أنه روجع «على يد مصحح كلِمه عند الترجمة، محرِّر جُملِه لدى القراءة والمقابلة، مفرِّغه في قالب التصانيف الأولية، صائغه على تمثال التآليف العربية، مؤاخيه حال القراءة والجمع، موافيه عند التمثيل والطبع، مغفور المساوي محمد الهراوي» إلخ إلخ.
فإذا انتهى الشيخُ من مدحِ نفسه والثناء على مجهوده، ذكَر اسم الكتاب ونصَّ على أنه هو الذي اختاره، ثم أشار إلى تاريخ الانتهاء من الترجمة، وتاريخ الانتهاء من طبْعه، وكان بعضُ المشايخ يُؤرِّخ لكتابه بأبيات من الشعر — كتقليد العصر — ثم يذكر في هذه الأبيات — أحيانًا عددَ النسخ التي طُبعت من الكتاب وقد كان المعتاد أن يُطبَع من كل كتاب ألفُ نسخة، وفي النهاية كان يشير الشيخ إلى المطبعة التي طُبع بها الكتاب.
من هذا كلِّه يتضح أن هذه المقدمات والخاتمات هي في الواقع وثائقُ هامة جدًّا لتاريخ الحركة الفكرية في ذلك العصر، فمنها استطعتُ أن أعرف الشيء الكثير عن الكتب ومترجميها ومصححيها، وطريقة الترجمة، والمراجعة والتصحيح وعدد الطبعات، وسنة الطبع وأغراض الترجمة، وموجِّهيها.
والشيء الوحيد الذي كان يغفله الشيوخ — رغم أهميته — هو أسماء المؤلفين؛ فقلما كانوا يُشيرون إلى هذه الأسماء، ولم يحدث هذا إلا في الكتب التي وضعها مدرسو المدارس، أو في الكتب التي تُرجمت في مدرسة الألسن، وألَّفها رجالٌ عظام؛ «كفولتير»، أو «روبرتسون» إلخ، وكانت هذه الأسماء تُكتب بحروف عربية، ولم يحدث أبدًا أن كُتبت بحروف لاتينية، مع وجود هذه الحروف في مطبعة بولاق منذ إنشائها، بدليل استعمالها في طبْع القاموس الإيطالي العربي.
وقد انتفى هذا التقليدُ في الكتب التي ترجمها خريجو الألسن؛ فأصبح المترجمون يكتبون المقدمات والخاتمات بأنفسهم، غير أن الشيء الوحيد الذي كان يُعاني منه الشيوخ المحررون كثيرًا، ثم عانَى منه خريجو الألسن أيضًا، وهم يتبعون طريقتَهم، هو السجعات التي تتفق وأسماءهم، فكانوا يتحايلون على هذه الأسماء تقديمًا وتأخيرًا، وتبديلًا وتغييرًا حتى تتفق أخيرًا مع ما يُكمل السجعة. وفيما يلي أمثلة طريفة لما كان يبذله هؤلاء الشيوخ من جهد لنظم أسمائهم في سجعات مختلفة.
فالشيخ إبراهيم الدسوقي يُعاني من لقبِه، وأخيرًا يُوفَّق إلى أنه «المتوسل إلى الله بالقطب الحقيقي، إبراهيم عبد الغفار الدسوقي»، ثم لا تُعجبه هذه السجعة، فيبدل من وضع أجزاء اسمه، وينتهي إلى أنه «راجي غفر الأوزار — أو سير الأوزار — إبراهيم الدسوقي عبد الغفار»، أما الشيخ التونسي فهو دائمًا «المتوكل على عفو المنان، محمد التونسي بن سليمان»، فإذا سَئِمها فهو «مصحح كتب الطب الآن محمد التونسي ابن سليمان»، أما الشيخ محمد الهراوي فكانت مهمته سهلة؛ لأنه دائمًا «مغفور المساوي، محمد الهراوي» وكذلك الشيخ مصطفى كساب فهو دائمًا «المفتقر إلى رحمة ربه الوهاب — أو راجي حسن المآب — الشيخ محمد حسن كساب».
وقد حذا حذْوَ المشايخ فيما بعد خريجو الألسن فالتزموا — مثلهم — السجع في مقدمات كتبهم؛ ولهذا عانوا مثلما عانى الشيوخ، ورأينا في كتبهم أمثال هذه السجعات: «راجي رحمة ربه على الدوام، الفقير إلى الله تعالى سعد نعام»، و«راجي رحمة الملك الودود، عبده خليفة محمود»، و«راجي رحمة ربه المتعال، السيد عمارة عبد العال»، وأخيرًا أستاذهم «المؤيد برعاية الملك المبدي، السيد رفاعة بدوي»، أو «الراجي فضله الواسع، رفاعة بدوي رافع» … إلخ.
كانت أول مدرسة خصوصية شهدتْ نظامَ المحررين والمصححين هي مدرسة الطب، غير أن هذا النظام أصبح تقليدًا فيما بعد؛ فأُلحق بكل مدرسة خصوصية مصححون لمراجعة الكتب التي تترجم بها، وحتى مدرسة الألسن فإنها خضعتْ لهذا النظام؛ وذلك لأن الكثيرين من خرِّيجيها لم يكونوا من أبناء الأزهر، بل جُمعوا كما ذكرنا من مكاتب الأقاليم، فكانوا — رغم دراستهم اللغة العربية في مدرسة الألسن على فطاحلها في ذلك العصر — في حاجة إلى مَن يراجع كتُبَهم، ويُصحح لغتها ويُقوِّم أسلوبها، وسنحاول فيما يلي أن نتحدث عن هؤلاء المصححين وجهودهم.
(١) في مدرسة الطب
(١-١) الشيخ محمد عمران الهواري
وقد استقر الرأي نهائيًّا على إلغاء المدرسة، واكتفى الشيخ الهراوي بأن «يحصر اهتمامَه في تصحيح ترجمة الكتب المحولة إلى عهدته فقط»، وظلَّ يمارس هذا العمل نحو ست أو سبع سنوات أخرى؛ فقد تُوفيَ في أواخر سنة ١٢٥٧، أو أوائل سنة ١٢٥٨. يقول الشيخ محمد عمر التونسي في مقدمة الجزء الأول من كتاب «الجواهر السنية في الأعمال الكيماوية» تأليف وترجمة الدكتور «برون» الذي طُبع في سنة ١٢٥٨: «وكان الأمر قد صدَر بطبْع هذا الكتاب على يد سلفي الفاضل حاوي كمالات الفضائل والفواضل، المرحوم برحمة من يغفر، الشيخ محمد الهراوي، فطَبع منه على يده في ظرف سنتين ثمانيًا وخمسين ملزمة، ودعاه داعي الحِمام فلبَّاه ولمَّا أتمَّه، فتوليتُ طبْعَه من بعده، واقتفيتُ أثرَه في قصده، ونحوتُ نحو إعرابه، وإن لم أكن من أضرابه …»
وبهذا يكون الشيخ الهراوي قد قضى في مدرسة الطب نحو عشر سنوات، كان يقوم في خلالها بوظيفة المصحح الأول، وكان يُساعده في بعض الأحيان مصححون آخرون هم:
(١-٢) الشيخ محمد محرم
ويبدو أنه التحق بمدرسة الطب حوالي سنة ١٢٥٠؛ فقد قام بتصحيح كتاب «إسعاف المرضى من علم منافع الأعضاء» الذي ترجمه الدكتور هيبة، وطُبع سنة ١٢٥٢، وقد اشترك أيضًا مع الشيخ الهراوي في تصحيح «نبذ كلوت بك»، التي ترجمها الدكتور النبراوي، وطُبعت في سنة ١٢٥٣.
(١-٣) الشيخان أحمد حسن الرشيدي، والشيخ غانم الرشيدي١١
وهؤلاء المرشحون جميعًا من خيرة شيوخ الأزهر في ذلك العصر؛ فقد عاون الشيخ محمد هدهد الطنتدائي الشيخَ رفاعة في مراجعة الجزء الأول من جغرافية «مالطبرون».
أما الشيخ عبد المنعم الجرجاوي فقد اختير فيما بعدُ ليكون مدرسًا بمدرسة الألسن.
(١-٤) الشيخ سالم عوض القنياتي
ولسنا نعرفُ بالتحديد متى ألحق بمدرسة الطب، ولكنَّا نعرف أنه التحق والشيخ التونسي بها في وقت متقارب، وأنهما كانَا يتعاونان — في أكثر الأوقات — على مراجعة وتصحيح الكتب المترجمة، ويُشركان معهما في هذا العمل «الدكتور برون»؛ فقد قام الشيخ التونسي بتصحيح كتاب «روضة النجاح الكبرى في العمليات الجراحية الصغرى» الذي ترجمه الدكتور محمد علي البقلي، وطُبع سنة ١٢٥٩، فلما طُبع منه ما ينوف على ثلاثين ملزمة كما يقول الأستاذ القناياتي: «سلَّمه إليَّ لكونه مشغولًا بغيره من الكتب المحتمة الطبع، وللمدرسة لازمة، فشمرتُ الذيل في تصحيحه وترتيبه، واستنهضت الرَّجْل والخيل في تنقيحه وتهذيبه، واجتنبتُ فيه الإسهاب والإطناب، والتزمتُ فيه جزالة العبارة ليَسُرَّ أولي الألباب.»
ويقول الشيخ القنياتي بعد ذلك في نفس المقدمة: «ولطالما كنا (أي هو والتونسي) نقابله على أصله بحضرة وملاحظة مَن بلغ ذروة تلك العلوم، وعلى أقصى درجة في منطوقها والمفهوم، الماهر اللبيب، اللوذعي الأديب الحكيم الكيماوي، حائز فرائض تلك الفنون، ناظر مدرسة الطب البشري الشهير بيرون، ولكونه يُحسن اللغتين الفرنساوية والعربية، وله بهذا الفن خبرةٌ وحسنُ روية صار يقتنص إلى هذا الكتاب كلَّ عويصة شاردة، ويردُّ إليه كل فريدة دقيقة الفهم نادرة آبدة.»
كذلك اشترك الشيخان في تصحيح كتاب «التنقيح الوحيد في التشريح الخاص الجديد» الذي ترجمه الدكتور محمد الشباسي، وتمَّ طبْعُه في بولاق سنة ١٢٦٦، وهو كتاب ضخم من ثلاثة أجزاء كبار، يقول الشيخ التونسي في مقدمته: «ولما تمَّ ترجمةً وإتقانًا، وتهذيبًا وإحسانًا، وُكِّل أمرُ تصحيحه إلى حضرة المصحح الأول، مَن كان عليه في مساعدتي المعول، الأخ المواتي، الشيخ سالم عوض القنياتي، فصحح منه الجزء الأول، وعاقه الرمدُ عن الثاني، فشرعتُ في تصحيح ما بَقيَ منه بدون تواني.»
ويبدو أن مقام الشيخَين كان واحدًا؛ فقد كان لهما الصدارة بين بقية المصححين، ولكن وثائق العصر تُلقِّب الشيخَ سالمًا «بالمصحح الأول» بينما تُلقِّب التونسي «بالباشمصحح».
(١-٥) الشيخ محمد عمر التونسي
هو نابغة المصححين والمحررين، وزعيمهم جميعًا في ذلك العصر، وقد أهَّلتْه لهذا المنصب ثقافةٌ واسعة جناها من الكتب أولًا، ومن رحلاته العديدة ثانيًا.
وحياة هذا الرجل عجيبةٌ من عجائب ذلك العصر، فهو تونسي أصلًا ومولدًا، وإن كانت أمُّه مصرية وقد عشقت أسرتُه الرحلة، فعاش هو وأبوه وجدُّه في مصر وبلاد العرب والسودان أكثر مما عاشوا في وطنهم الأصلي تونس.
وُلد الشيخ محمد عمر في ٢٧ يوليو ١٧٨٩/منتصف ذي القعدة ١٢٠٤، ثم نشأ نشأته الأولى في مصر وكان أبوه قد رحل إلى السودان باحثًا عن أبيه، فأعجبته الحياة هناك فاستقر بتلك البلاد، ونال الحظوة الكبرى عند سلطان دارفور عبد الرحمن بن أحمد (توفي ١٢١٤ / ١٧٩٩)، ولما ضاقت سبُل الرزق في وجه محمد رحل هو أيضًا إلى دارفور باحثًا عن أبيه، وقد أقام هناك مدةً طاف في خلالها بأرجاء دارفور وواداي، ثم عاد إلى مصر في الوقت الذي كانت تتأهب فيه حملة المورة بالمسير فعُيِّن واعظًا للآلاي الثامن من آلايات تلك الحملة.
- (١)
الدر اللامع في النبات وما فيه من الخواص والمنافع، تأليف الدكتور «فيجري بك»، وترجمه السيد حسين غانم الرشيدي، وطُبع في بولاق سنة ١٢٥٧.
- (٢)
واشترك مع الشيخ القنياتي في تصحيح كتاب «روضة النجاح الكبرى في العمليات الجراحية الصغرى» الذي ترجمه محمد علي البقلي، وطبع في سنة ١٢٥٩.
- (٣)
واشترك مع الدكتور «برون» في مراجعة وتصحيح كتاب «كنوز الصحة ويواقيت المنحة» الذي ترجمه الدكتور محمد الشافعي، وطُبع في سنة ١٢٦٠.
- (٤)
وقام على تصحيح كتاب «الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال» تأليف كلوت بك وترجمة الدكتور محمد الشافعي، وطُبع في سنة ١٢٥٠.
- (٥)
واشترك مع الدكتور «برون» في ترجمة وتصحيح كتاب الأخير «الجواهر السنية في الأعمال الكيماوية» الذي طبع في سنة ١٢٥٨–١٢٦٠.
- (٦)
واشترك مع الشيخ القنياتي في تصحيح كتاب «التنقيح الوحيد في التشريح الخاص الجديد» تأليف «كرولييه»، وترجمة الدكتور محمد الشباسي، وتمَّ طبعُه في سنة ١٢٦٦.
وقد شارك التونسي أيضًا في حركة نشر الكتب العربية، فأشرف على نشر مقامات الحريري، والمستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي.
وفي السنوات الأخيرة من حياته كان يدرس الحديث بمسجد السيدة زينب في يوم الجمعة من كل أسبوع إلى أن تُوفيَ في القاهرة في سنة ١٢٧٤ / ١٨٥٧.
(١-٦) الشيخان رفاعة الطهطاوي وإبراهيم الدسوقي
عملَا فترة كمصححَين بمدرسة الطب، ثم نُقل رفاعة إلى مدرسة المدفعية، ونُقل الدسوقي إلى مدرسة الهندسة.
(٢) في مدرسة الطب البيطري
(٢-١) الشيخ مصطفى حسن كساب
أُلحق مصححًا بمدرسة الطب البيطري منذ إنشائها في رشيد، وقد قام بتصحيح جميع كتب الطب البيطري التي ترجمها يوسف فرعون، ثم محمد عبد الفتاح، وعطية أفندي من بعده، فكان أول كتاب قام على تصحيحه كتاب «التوضيح لألفاظ التشريح» تأليف «جيرار» وترجمة يوسف فرعون، وطُبع في بولاق سنة ١٢٤٩ / ١٨٣٤، وآخر كتاب راجعه هو كتاب «مجمع الغرر في سياسة البقر»، تأليف «روبينييه»، وترجمة عطية أفندي أحد خريجي الألسن، وطُبع في بولاق سنة ١٢٦٤.
(٢-٢) الشيخ عبد المنعم
(٣) في مدرسة الزراعة
(٣-١) الشيخ نصر أبو الوفا الهوريني
(٤) في مدرسة الهندسة
(٤-١) الشيخ إبراهيم عبد الغفار الدسوقي
كان المصححَ الوحيد بمدرسة المهندسخانة، وُلد في دسوق سنة ١٢٢٦، ثم أتمَّ علومه في الأزهر، وفي سنة ١٢٤٨ عُيِّن مصححًا بمدرسة الطب، ولكنه لم يلبثْ بها إلا قليلًا ثم نُقل إلى مدرسة المهندسخانة، وقد قام بتصحيح جميع الكتب الرياضية التي تُرجمت بها في عهدَي محمد علي وعباس، فلما أُلغيت المدرسة في عهد سعيد باشا نُقل مصححًا بمطبعة بولاق، وقد شارك في أوقات مختلفة في تحرير «الوقائع المصرية» ومجلة «اليعسوب» الطبية.
(٥) في مدرسة الألسن
كان رفاعة يُشرف بنفسه على مراجعة وتصحيح الكتب التي تترجم في المدرسة أول إنشائها، فلما كثر إنتاجُهم، أشرك رفاعةُ معه في هذا العمل بعضَ مدرِّسي الألسن، وخاصة المشايخ محمد قطة العدوي، وأحمد عبد الرحيم الطهطاوي، ومحمد الفرغلي، وقد أشرنا إلى الكتب التي صحَّحها كلٌّ منهم في قائمة الكتب المترجمة الملحقة بهذه الرسالة.
هؤلاء هم المصححون والمحررون، وهذه لمحة عن جهودهم تُبيِّن في وضوح أنهم أفادوا حركة الترجمة والنهضة العلمية الحديثة فوائدَ جمَّة، فخرجت الكتبُ المترجمة سليمةً من اللكنة والعجمى، خالية بقدر الإمكان من الأخطاء، وقد حاول الكثيرون منهم قدر استطاعتهم التوفيقَ بين المصطلحات العلمية الحديثة والمصطلحات العلمية القديمة، وجمعوا لكتبهم مجموعةً كبيرة منها تصلح لأن يتخذها المجمعُ اللغوي أساسًا طيِّبًا لجهوده في هذا الميدان.
وفي نفس الوقت أفاد بعض هؤلاء المحررين — وخاصة الشيخ التونسي — الكثير من اشتغاله بهذه الحركة، ففهموا بعض ما جاء في الكتب العلمية المترجمة، وكسبوا لأنفسهم معارفَ جديدة واسعة، وأضافوا إلى ثروتهم اللغوية ثروةً جديدة لكثرة ما قلبوا الكتب باحثين ومنقبين، ولكثرة ما نحتوا واشتقوا واقتبسوا من ألفاظ ومصطلحات جديدة؛ ولهذا كانوا يحاولون دائمًا — فيما يكتبون من مقدمات — أن يُعلنوا عن هذه المعرفة الجديدة التي كسبوا، وفيما يلي مثالٌ لهذا الإعلان تخيَّرناه مما كتبه التونسي — زعيم هذا الميدان — في مقدمته لكتاب «الجواهر المسنية في الأعمال الكيمياوية» للدكتور «برون»، وقد شحن التونسي هذه المقدمة بمعظم المصطلحات الكيميائية التي وردتْ في متن الكتاب، قال: «… يا من تتصاعد إليه الأرواحُ وتتسامى، وتذوب الأجسام من هيبة جلاله وعلى باب عفوه تترامى، تنزَّهتْ ذاتُك العلية عن التركيب والتحليل، وتقدَّست صفاتُك السنية عن التغيير والتبديل، لا إله إلا أنت، خلقتَ لنا ما في الأرض من المعادن والنباتات والحيوانات، وأوجدتَ لنا الحلو والحامض، والعذب والملح من المطعومات، وألهمتَنا معرفة العناصر والبسائط والمركبات، فسبحانك من إله تفطرتْ دموعُ الخائفين من سطوة عذابه، والتهبتْ أحشاء المذنبين من أليم عقابه، ووجلتْ قلوب المحبين من خشية عتابه، فيا من حمده أعظم كيمياء لإكسير الثواب، وشكره أجود موصل إلى دار المآب، نحمدك على نعمك التي علينا عمَّت وجلت، حمدًا تُخلص به مُهجَنا وأجسامنا من حرارة النار التي أُوقد عليها ألفُ عام حتى احمرَّت، وألف عام حتى ابيضت، ونشكرك شكرَ من ألنْتَ له الحديد لعمل السابغات، وأرسلت لولده عينَ القِطر، وسخرت له الجن يعملون ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب (؟) وقدور راسيات، ونشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك شهادةً تُنقذنا بها من كل عمل مشكور، كما أنقذت مَن أنزلت عليه حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ، ونشهد أن سيدنا ومولانا محمدًا عبدك ورسولك، الذي مثَّلت قلبَه الشريف بزجاجة فيها مصباح، وجذبت بمغناطيس أنواره الأرواح، فانقادت له الأشباح، وهديتنا به من المعوج إلى السمحا البيضا، وأفضتَ عليه من العلوم اللدنية فيضًا، وجعلت ذاتَه الشريفة قابلة لزيادة الكمال بلا ارتياب، وأنزلت عليه يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، اللهم فصلِّ عليه وعلى آله مصابيح الدين، وأصحابه الذين كانوا كشُواظ من نار ونحاس على الكافرين، ما رشحتْ أنابيق الغمام فنزلتْ دموعُها قطرات، وسال تيارُ المياه على الوهاد فأصبحت الأرضُ مخضرة بأصناف النبات، ولمعت قِطع البرَد على البسيطة كالبللورات المنشورية والمربعات، وتولَّدت الحوامض والأكاسيد والأملاح من المعادن والنباتات والحيوانات، وسلِّم تسليمًا كثيرًا، وبعدُ: فيقول مرتجي العفو من المنان، محمد التونسي بن عمر بن سليمان: لما كانت الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أينما وجدها، وأبرك يوم عنده ما أحرز فيه مسألة واستفادها وأفادها، وكان من أجلِّها علم الكيمياء الذي لم يسمح بمثله الزمان؛ إذ هو أساسٌ لعلم الشفاء ومعالجة الأبدان، فهو له كالأم وعلم الطبيعة كأبيه، ولا يُنكر ذلك إلا كلُّ جاهل سفيه، لمَ لا؟ وبه يعرف تحليل الأجسام وتركيبها، وتقطير الأملاح وتبلورها وتذويبها وتأكسد المعادن واستحضار الغازات، وتجهيز الحوامض والأملاح ومنافع الفلزات، وتتميز السموم عن غيرها من الاستحضارات، ولا تتمُّ مهارةُ الطبيب إلا به، ويدرك خطأ من صوابه كان الواجب على العاقل أن يتلقاه ولو من غير أهل الإسلام … إلخ … إلخ.»