الفصل السادس

الطبع والنشر

تحقيق تاريخ إنشاء مطبعة بولاق، الباعث والمشير بإنشاء المطبعة، إحضار أجزاء المطبعة الأولى من إيطاليا ثم من فرنسا، إنشاء مصنع للورق بمصر، مديرو المطبعة، موظفوها، المطابع الأخرى في: مدارس الطب، والهندسة والطوبجية، وفي القلعة، وفي سراي الإسكندرية، الغرض الأساسي من إنشاء هذه المطابع، توزيع الكتب على تلاميذ المدارس، الإقبال على الكتب المترجمة خارج المدارس، محمد علي يُهدي نُسَخًا من الكتب المطبوعة لملك فرنسا، ولملك روسيا ولشاه العجم.

***

كانت أول دولة شرقية عرفت الطباعة هي تركيا؛ فقد أدخلت إليها أول مطبعة في سنة ١٧٢٨، ثم تلتْها سوريا، فقد جلبت إليها الإرساليات الدينية المطابع لطبْع الكتب الدينية، فلما وفدت الحملة الفرنسية على مصر أحضرت معها مطبعة «البروباجندا» من إيطاليا، ولكن هذه المطبعة لم تُعطَ الفرصة الكافية والهدوء اللازم لتُخرج للشعب مطبوعاتِها، ثم قُدِّر لها أخيرًا أن تخرجَ من مصر بخروج الحملة.

وظلَّت مصر خالية من المطابع نحو العشرين عامًا حتى بدأ محمد علي يضع الأُسس لإصلاحاته، وكان عماد هذه الإصلاحات في نظره مدارسَ جديدة، وجيشًا جديدًا، يتبع في إنشائهما النظم الأوروبية الحديثة، ورأى أن هذه النظم الحديثة لا توجد في الكتب العربية أو التركية القديمة، وهنا اتجه تفكيرُه إلى إنشاء مطبعة في مصر تُزوِّد هذه المنشآت بالكتب اللازمة.

يرجع تفكيرُ محمد علي في إنشاء المطبعة إلى سنة ١٨١٥ تقريبًا، وهي السنة التي أَوفد فيها بعثتَه إلى إيطاليا للتخصص في فن الطباعة، أما تاريخ إنشاء المطبعة فقد اختلف فيه المؤرخون حتى المعاصرون منهم، والرأي المتفق عليه بينهم أنها أُنشئت في سنة ١٨٢٢،١ غير أن وثائق العصر تُفيد بأنها أُنشئت قبل ذلك.
كتب شاعر اسمه سعيد ثلاثةَ أبيات باللغة التركية على لوحة تذكارية٢ بمناسبة إنشاء المطبعة (ولا زالت هذه اللوحة موجودة في المطبعة حتى الآن)، وقد أشير في نهايتها إلى أنها أُنشئت في سنة ١٢٣٥ (من أكتوبر ١٨١٩ إلى أكتوبر ١٨٢٠)، وأُرجح أن يكون الإنشاء في أواخر سنة ١٢٣٥، أي في سنة ١٨٢٠ ميلادية؛ فقد ذكر الأستاذ توفيق إسكاروس أنه عثر في نتيجة الحائط لسنة ١٩٠١ على بيتَين من الشعر يُؤرخ الأول منهما لسنة إنشاء المطبعة، وهي سنة ١٨٢٠، ويؤرخ الثاني لسنة طبْع النتيجة وهي سنة ١٩٠١، أما البيتان فهما:
حسن النتيجة قد نالته مطبعة
محمد ساكن الجنات أنشأها
واليوم في دولة العباس أيَّده
ربي، تجدد بالإسعاد مبناها

[أول بيت = ١٨٢٠.]

[ثاني بيت = ١٩٠١.]٣
ويرى أمين سامي باشا أن المطبعة أُنشئت في ٨ صفر سنة ١٢٣٧ / ٤ نوفمبر ١٨٢١ معتمدًا في ذلك على أمرٍ صادر من محمد علي باشا في هذا التاريخ إلى كتخدا مصر محمد لاظ أوغلي بك، يُشير فيه إلى وجود «شخص هندي بمصر له معرفة وإلمام ببعض اللغات، وحسن الخط، يقتضي تعيينه لتعليم الخط الفارسي للشبان الموجودين بمعية عثمان أفندي سقه زاده ببولاق»، وفي آخر الأمر حاشية تُشير إلى «تخصيص المذكور لعمل ترتيب لصُنع حروف الطبع لطبع الكتب المصمم طبعها ببولاق أيضًا، وتكون خطوط الكتب بخطِّه».٤
وفي ١١ ديسمبر سنة ١٨٢٢ زار المطبعةَ الرحالةُ الإيطالي «بروكي»، وقال في حديثه عنها «والمطبعة لم تبدأ عملها كاملًا إلا منذ نحو أربعة أشهر.»٥ أي إنها بدأت العملَ في أغسطس سنة ١٨٢٢، ثم ذكر أن المطبعة أخرجت قبل زيارته كتابَين، أحدهما باللغة التركية لتعليم الجنود الموجودين في الصعيد، والثاني آجرومية باللغة العربية من تأليف أحد مشايخ القاهرة.

هذه هي صفوة الآراء التي تعرَّضت لتحديد تاريخ الإنشاء، ومنها نستطيع أن نستنتج أن المطبعة بُدئ في إنشائها في سنة ١٢٣٥ / ١٨٢٠؛ فاللوحات التذكارية يُذكر فيها دائمًا تاريخ البدء في البناء لا الانتهاء منه، ونستطيع أن نستنتج أيضًا أن الإنشاء تمَّ في سنة ١٨٢١، وأنها بدأت الطبع في ١٨٢٢.

وكما اختلف المؤرخون في تحديد سنة الإنشاء، فقد اختلفوا أيضًا في تاريخ تحديد الباعث لمحمد علي على إنشاء المطبعة، والمشير عليه بذلك؛ فرأى بعضُهم أن الغرض الأول لإنشاء المطبعة هو اهتمام محمد علي بطبْع القوانين واللوائح والمنشورات الإدارية التي كان يريد نشْرَها في مختلف مديريات القطر، وهذا فيما نرى بعيدٌ عن الصواب؛ فإن النظام الذي وضعه محمد علي لم يكن قد صدَر بعد،٦ وإنما إنشاء المطبعة يعاصر تمامًا إنشاء المدارس الجديدة والجيش الجديد٧ فلا شك إذن أن الغرض الأساسي هو طبْع الكتب والتعليمات لهاتين المنشأتين.
كذلك يرى «المسيو رينو» والأستاذ بشاتلي٨ أن الفضل في تنظيم مطبعة بولاق يرجع إلى نصائح الأب رفاييل زاخور، بينما ترى السيدة «لاكونتامبورن» La Contemporaine٩ التي زارت مصر في سنة ١٨٣١ أن نجاح المشروع يرجع إلى عثمان نور الدين، فإنه يبدو أنه هو صاحب الاقتراح، وهو الذي عرضه على محمد علي، وهذه آراء — فيما يتضح لي — تعتمدُ على الاستنتاج أكثر من اعتمادها على الحقيقة أو السند التاريخي المادي؛ فإن البعثة التي أرسلها محمد علي إلى إيطاليا لتعلُّم فنِّ الطباعة، والتي كان من بين أعضائها نيقولا مسابكي أول رئيس للمطبعة أُرسلت في سنة ١٨١٥، والأب رفاييل لم يعُدْ إلى مصر إلا في سنة ١٨١٦، كذلك عثمان نور الدين لم يعُدْ من بعثته إلى مصر إلا في سنة ١٨١٧؛ لهذا يصح أن نرى أن محمد علي هو صاحب الفكرة، وإن كنا لا نُنكر أنه أفاد فوائدَ جمَّة من نصائح وتوجيهات ومساعدات كلٍّ من عثمان نور الدين والأب رفاييل عند الإنشاء الفعلي للمطبعة، وقد بدأ محمد علي فأحضر ثلاث آلات للطبع من ميلانو كما أحضر الحبر والورق والمواد الأخرى اللازمة للطباعة من ليجهورن Leghorn وتريستا Trieste، غير أنه بعد أن صدَف عن إيطاليا واتجه إلى فرنسا أخذ يُحضر آلات للطباعة من باريس، فإن «ميشو وبوجولات Michaut et Poujoulat»١٠ ذكرَا أنهما رأيَا ثمانية منها تؤدي عملَها في سنة ١٨٣١.
ولقد أحضرت للمطبعة عند إنشائها مجموعات من الحروف العربية والإيطالية واليونانية، وقد صنعت كلها في ميلانو بإيطاليا، غير أنه تبيَّن بعد طبْع الكتب التركية والعربية الأولى أن هذه الحروف العربية المصنوعة في إيطاليا رديئة معتلة؛١١ لهذا لم يكد محمد علي يعلم بوجود «سنكلاخ أفندي١٢ الخطاط الفارسي» المشهور بالقاهرة حتى أصدر أمرَه في ٨ صفر سنة ١٢٣٧ بأن يكلف بنقش حروف جديدة للمطبعة، فجاءت حروفُه جميلة، وأجمل الكتب التي طبعت بخطه الفارسي «ديوان محبي الدين بن عربي» الذي طُبع في بولاق سنة ١٨٥٤، وقد كانت الحروف العربية بمطبعة بولاق صنفين: خط التعليق أو الفارسي، وكانت تُطبع به عناوين الفصول غالبًا، والخط النسخي المعتاد وتُطبع به المتون.
أما الحبر فلم يلبث أن صُنع في مصر، وبذلك أوقف استيراده من أوروبا، كذلك الورق فقد أنشئت «فابريقة» لصنعه حوالي سنة ١٢٥٠١٣ أو قبيلها بقليل، وكان مقرُّها الأول في الحسينية، ثم نقلت إلى بولاق، وكان الورق يصنع أولًا من مواده الأولية، وفي ١٤ جمادى الأولى سنة ١٢٥٠ صدَر أمرٌ من محمد علي إلى ناظر الجهادية جاء فيه: «بما أنه صار البدءُ في تشغيل فابريقة الورق التي تمَّ إنشاؤها، وأن هذا الصنف يشتغلونه من الملبوسات الكهنة، وما يشابهها، فيشير بالتحرير من الجهادية إلى سائر الآلايات والأرط بإرسال الملبوسات المرتجعة إلى ديوان الجهادية أولًا بأول، وبورودها تُرسل إلى فابريقة الورق أولى من بيعها أو إتلافها بالبقاء، فضلًا عما في ذلك من الفائدة في كثرة تشغيل الورق.»١٤
ولم يكن محمد علي يسمع بأيِّ تحسين صناعي يتمُّ في أوروبا حتى يبادر بالأخذ به في مصر؛ ففي ١٣ شعبان سنة ١٢٦٣ — قبيل وفاته بسنتين — نشرت الوقائع المصرية «أنه استحضر من أوروبا آلة بخارية لإدارة فابريقة الورق، وصار المأمول ازدياد ما يعمل فيها من جميع أصناف الورق بدلًا من إدارة الفابريقة بالمواشي».١٥

وقد ظلَّت الآلات الخاصة بالمطبعة وفابريقة الورق، وأصول الحروف، واللوحات الإيضاحية الملحقة بالكتب المترجمة — وخاصة الكتب الحربية والرياضية والجغرافية — تصنع في أوروبا — في إيطاليا وفرنسا — حتى تاريخ متأخر.

ففي ٢٩ المحرم سنة ١٢٤٨ / ١٨٣٢ صدر أمرٌ من محمد علي «إلى مدير أمور التلامذة المصرية بباريس بالتصريح له بمشترى أحجار المطبعة التي بها رسم حركة السواري المصنوعة بمعرفة عبدي أفندي وإرسال ذلك بطرفه برسوماتها التي عليها، واستلام قيمة أثمانها من النقدية المحولة بمعرفة الخواجة باغوص».١٦
وفي ٦ صفر سنة ١٢٥٠ صدر أمرٌ منه إلى خورشيد باشا وكيل الجهادية «بأنه علم مما تقرر من حكاكيان مهندس فابريقة الورق التي صار إنشاؤها حديثًا أنه يلزم لعمل المهمات والآلات التي تلزم للفابريقة هنا مدة مستطيلة نحو السنة، وعليه يشير بأنه إن أمكن عمل ذلك في عهد قريب فيها، وإلا تحرَّر كشفٌ بما يلزم بمعرفة المهندس المذكور، وتقديمه لطرفه لمداركتها من إيطاليا، كما سبق استحضارُها منها.»١٧
وفي ١١ رمضان سنة ١٢٥٢ صدرتْ إفادةٌ منه إلى باغوص بك: «إنه بالنسبة لإعطائه أوراق عينات خط التعليق لاستحضار ذلك من أوروبا برسم المطبعة، ولاستعلام ناظرها شفاهيًّا من ورود ذلك من عدمه، يلزم الإفادة عما ذكر، وإن كان ورد منه شيء يرسل إلى المطبعة كمقتضى الأمر العالي.»١٨
وظل الأمر على ذلك حتى نهاية عصر محمد علي، فيما عدا اللوحات الإيضاحية، فقد ألحقت بمطبعة بولاق حوالي سنة ١٨٤٢١٩ مطبعة أخرى لصنْع هذه اللوحات وطبْعها.

وقد كان أول مدير للمطبعة هو نقولا مسابكي، وظلَّ يُشرف على إدارتها من الناحيتين الفنية والعلمية حتى تُوفيَ في سنة ١٢٤٤ / ١٨٣٠.

وقد ذكر «بروكي» أن مسابكي هفَا — في أول عهده بالعمل — هفوةً خطيرة كادت تُقصيه عن العمل وتودي به؛ وذلك أن قَسًّا إيطاليًّا من كالابريا اسمه «كارلوبيلوتي» كان مدرِّسًا بمدرسة بولاق نظم قصيدة طويلة في «الأديان الشرقية»، وكانت تتضمن طعنًا في الدين الإسلامي، وأعطاها لمسابكي ليطبعها في مطبعة بولاق، وكان المستر «سولت Salt» قنصل إنجلترا في مصر يكره هذا القَسَّ، فأراد أن يوقع به، ونقل خبر هذه القصيدة إلى محمد علي الذي أمر في الحال بإحراق أصل القصيدة، ولولا وساطة عثمان نور الدين لما عفَا عن مسابكي، بل لناله منه عقابٌ أليم.٢٠

وعقب هذه الحادثة أصدَر محمد علي أمرَه في ١٣ يوليو سنة ١٨٢٣ / ١٦ ذو القعدة ١٢٣٩ ألا تطبع المطبعة أيَّ كتاب حكومي إلا بعد صدور إذنٍ خاص منه.

وقد أُلحق بنقولا مسابكي منذ اللحظة الأولى عددٌ من تلامذة الأزهر، وكُلِّف بتعليمهم طريقةَ الطبع وصفِّ الحروف، ونواحي العمل الفنية الأخرى، فلما حذِقوا العمل ومرَنوا عليه أُسندت رئاسة الأقسام إلى نفر منهم، فعُيِّن الشيخ عبد الباقي رئيسًا للمسبك، والشيخ محمد أبو عبد الله رئيسًا للطباعين، والشيخان يوسف الصنفي ومحمد شحاتة رئيسَين للصفَّافين.٢١

وقد تولَّى الإشراف الفني على المطبعة منذ إنشائها نقولا مسابكي، أما الرئاسة الإدارية فقد تولَّاها أناسٌ كثيرون بألقاب مختلفة، كان أولَهم عثمان نور الدين الذي عُيِّن مفتشًا للمطبعة في ٨ صفر سنة ١٢٣٧ / ٤ نوفمبر ١٨٢١، وظلَّ يشغلُ هذا المنصب حتى شهر ذي الحجة سنة ١٢٣٩ / يوليو ١٨٢٣، ثم خلفه قاسم أفندي الكيلاني «مأمورًا» للمطبعة من سنة ١٢٣٩ إلى ١٢٤٨ / ١٨٢٣–١٨٣٢، وفي ٢٦ ذي الحجة سنة ١٢٤٥ / ١٩ يونيو ١٨٣٠ عُيِّن عبد الكريم أفندي «مفتشًا» للمطبعة حتى فُصل في ٢٧ ذي الحجة سنة ١٢٥٠ / ٢٦ أبريل ١٨٣٥، وفي سنة ١٢٤٨ عُيِّن مَن يُدعَى سعيد أفندي «ناظرًا» للمطبعة، غيرَ أنه لم يَلِ هذا المنصب إلا شهورًا قليلة ثم خلفه في النظارة فاتح أفندي من ١٨ المحرم سنة ١٢٤٩ إلى رجب سنة ١٢٥٢.

ثم اختفى لقبُ الناظر قليلًا، وعُيِّن حسين بك «مديرًا للمطبعة وملحقاتها» من جمادى الأولى سنة ١٢٥١ إلى صفر سنة ١٢٥٥، ثم ظهر لقب «الناظر» ثانية، فعين حسن أفندي ناظرًا للمطبعة والوقائع من ذي الحجة سنة ١٢٥٢ إلى حوالي منتصف سنة ١٢٦٠، ثم خلفه حسين أفندي راتب ناظرًا من سنة ١٢٦٠ إلى ١٢٦٤.٢٢

وأول ما نلاحظه على هذه القائمة أن تواريخها يتداخل بعضُها في البعض الآخر أحيانًا وأن ألقاب رؤساء المطبعة كانت تختلف من سنة إلى أخرى؛ فالرئيس مرة مفتش، ومرة مأمور، وهو حينًا ناظر، وحينًا آخر مدير، وتفسير هاتين الملاحظتين في نظرنا أن المطبعة كانت ذات فروع وأقسام مختلفة، فلعل رئيسَ كلِّ قسم كان يحمل لقبًا معينًا، وبهذا نستطيع أن نُفسر وجود مفتش ومأمور، أو مأمور وناظر، أو ناظر ومدير في وقت واحد.

ولقد كانت المطبعة الوسيلة الكبرى لتحقيق غرض محمد علي من نقل الحضارة الغربية إلى مصر، فلقد كانت طريقته في هذا النقل هي الترجمة، وما كان للترجمة أن تُحقق غرضها إذا لم تُطبع من الكتب المترجمة نُسَخٌ كثيرة توزَّع على الجند في فِرق الجيش، وعلى الطلاب في المدارس، بل وعلى الأهلين.

ولهذا أُنشئت مطابعُ أخرى كثيرة، وألحق معظمها بالمدارس، وخاصة البعيدة منها عن بولاق ليتيسر لها طبْع الكتب التي تُترجم بها دون تكبُّدِ مشقة الانتقال إلى مقرِّ المطبعة الكبرى، فكانت هناك مطبعة ملحقة بمدرسة الطب حين كانت في أبي زعبل، وقد طُبع بها في سنة ١٢٤٨ أول كتاب ترجم في الطب وهو كتاب «القول الصريح في حلم التشريح»، ثم ظلَّت تُطبع بها الكتب الطبية المترجمة حتى نقلت المدرسة إلى قصر العيني فأصبحت كتبُها تُطبع في بولاق.

وكانت هناك مطبعة ملحقة بمدرسة الطوبجية بطرة، وأول كتاب طُبع بها هو كتاب: «الكنز المختار في كشف الأراضي والبحار»، وقد طُبعت بها كتبٌ حربية ورياضية وجغرافية أخرى، كذلك كانت هناك مطبعة أخرى في المدرسة الحربية بالجيزة، وكان في القلعة مطبعةٌ طُبعت بها الوقائع المصرية مدة ما.

ورغم وجود مدرسة المهندسخانة في بولاق فقد ألحقت بها حوالي سنة ١٢٦٠ مطبعة حجر خاصة لطبع الكتب الرياضية المختلفة، وما يتصل بها من أشكال ولوحات إيضاحية.

وهناك مطبعة أخرى لم يُعنَ أحدٌ بذكرها أو الإشارة إليها رغم أهميتها، وهي مطبعة سراي الإسكندرية، ولسنا نعرفُ بالتحديد متى أُنشئت هذه المطبعة، ولكننا نعرف أنها شاركت في طبْع بعض الكتب المترجمة في ذلك العصر، وخاصة الكتب التاريخية التي تُرجمت إلى اللغة التركية، ومنها نستطيع أن نُرجح أن هذه المطبعة أُنشئت في سراي رأس التين حوالي سنة ١٨٣٢، ففيها طُبع في سنة ١٢٤٩ / ١٨٣٤ كتاب «تاريخ نابليون» تأليف «دوق دي روفيجو»، وكتاب تاريخ إيطاليا تأليف «بوتا»، وقد قام بترجمة الكتابَين عن الفرنسية إلى التركية عزيز أفندي كاتب الديوان بثغر الإسكندرية.

وفي هذه المطبعة أيضًا كانت تُطبع الجريدة الرسمية الفرنسية «لومونيتور إجيسيان Le Moniteur Egyptien» التي ظلَّت تصدر نحو ثمانية أشهر من أغسطس سنة ١٨٣٣ إلى مارس سنة ١٨٣٤.٢٣

وبعد وضْع التنظيم الإداري الجديد لمصر أُلحق ببعض الدواوين مطابعُ خاصة بها لنشْر أوامرها ومنشوراتها وقوانينها؛ فقد كان لديوان المدارس مطبعة، ولديوان الجهادية مطبعة، غير أنَّا نلاحظ أن هذه المطابع شاركتْ أيضًا في طبْع الكتب المترجمة؛ ففي مطبعة ديوان الجهادية طُبعت «رسالة في علاج الطاعون» في سنة ١٢٥٠، و«رسالة فيما يجب اتخاذُه لمنع الجرب والداء الإفرنجي عن عساكر الجهادية ونسائها» في سنة ١٢٥١، والرسالتان من تأليف كلوت بك.

وقد كان الغرض الأساسي من إنشاء هذه المطابع هو طبْع الكتب المترجمة، ولكنها قامت أيضًا بإحياء كثير من المخطوطات القديمة التي دعت الحاجةُ إلى طبْعها، وقد كانت تقاليد العصر تقضي بطبْع ألف نسخة من كل كتاب يُترجم، وإن كان القليل منها قد طُبع منه خمسمائة فقط.

وكانت هذه الكتب تُوزَّع على تلاميذ المدارس، فهي من أجلهم تُرجمت وطبعت، وكانت أثمان الكتب تخصم منهم في أول الأمر، وثمن الكتاب هو ما صُرف على طبْعه دون تقدير أيِّ ربح، وحوالي سنة ١٢٥٨ / ١٨٤٢ رأت الحكومة أن تصرف الكتبَ للتلاميذ على نفقتها الخاصة، ولكنها كانت تأمر بأن تكون هذه الكتب عاريةً للتلاميذ تُجمع منهم إذا انتقلوا إلى فرقة أعلى لتُصرف إلى التلاميذ الجدد٢٤ وهكذا يستمر الكتاب يتداول بين التلاميذ من يد إلى أخرى حتى يهلك فيستهلك.

وبعد مدة أخرى رأى ديوان المدارس أن يُقرِّر مبدأ ملكية التلميذ للكتاب، وبهذا أصبح كل تلميذ يحتفظ بكتُبه إذا انتقل من فرقة إلى أخرى، أو من مدرسة إلى أخرى، ويبدو لي أن الديوان قرَّر هذا النظام بعد أن رأى أن الكتب التي طُبعت لم تجد لهما قرَّاء غير تلاميذ المدارس، فتكدَّست أكوامًا في المخازن.

وقد كانت الكتب التي طُبعت في مصر تجدُ لها أسواقًا رائجة في تركيا وبلاد المغرب٢٥ وبذلك نافست مطبعة بولاق مطبعة الآستانة.
أما في مصر فقد كان الإقبال على الكتب المترجمة — خارج المدارس — قليلًا جدًّا؛ وذلك لقلة عدد القارئين، ولأن معظم الكتب التي تُرجمت كانت كتبًا فنية لا يُفيد منها قرَّاء المعهد القديم — الأزهر — ولهذا كانت هذه الكتب تُختزن في مخازن المطبعة في بولاق، أو في «الكتبخانة الخديوية» التي أُنشئت في سنة ١٢٥٠، «وكان الديوان والكتبخانة دائمَي الشكوى من صعوبة «تصريف» الكتب التي اكتظَّت بها برغم الإجراءات التي كانت تتخذها لتشجيع الإقبال على شرائها؛ فكانت تبيع الكتب أحيانًا بثمن مؤجل وتخفض أثمانها أحيانًا أخرى؛ رغبةً في انتشار العلوم بين الأهالي»،٢٦ وقد كان في عزْم محمد علي أن يُنشئَ في القلعة «بعد إتمام الجامع الشريف» دارَ كتب جديدة تُنقل إليها الكتب النفيسة من خزينة الأمتعة «لمطالعة الجمهور»،٢٧ غير أن المراجع المعاصرة لا تذكر أن هذا الأمل حُقق في عصر محمد علي.
وكانت لجنة الامتحان في مدرسة الألسن تُكافئ المجيدين من المترجمين فتمنح كلَّ مترجم أنجز عملَه — في الموعد المحدد له، وطبع كتابه — خمسَ نُسَخ من هذا الكتاب، هديةً وتشجيعًا له.٢٨
وكان محمد علي يفخر بنهضته العلمية كلَّ الفخر، ويعتزُّ بكتبه التي تُرجمت وطبعت ويحب أن يُباهيَ بها الدول الأخرى، بل كان يعتبرها خيرَ هدية تُهدَى لملوك أوروبا المختلفين؛ ففي ٢٠ ربيع الثاني سنة ١٢٦١ أصدر أمرَه إلى مدير ديوان المدارس «بانتخاب ثلاث نُسَخ من كل كتاب من الكتب الكبيرة النفيسة التي طُبعت في مطبعة مصر، والتي سبَق إرسالُها إلى أوروبا، وتجليدها وتذهيبها، وإرسالها لطرفنا، وخصم الثمن على طرف الديون، لتُرسَل بمعرفة أرتين بك مدير التجارة والأمور الخارجية، لصاحب الجلالة ملك فرنسا بصفة هدية».٢٩
وفي ٢٢ جمادى الأولى سنة ١٢٦١ صدَر منه أمرٌ آخر، جاء فيه: «الكتب المدرجة بالجدول طيه ستُرسل هدية مني إلى صاحب الحشمة ملك الروسيا، فيلزم فرزُها وتجليدها وتذهيبها، مع ٣ نُسَخ من كل نوع من أنواع الكتب السابق طبعُها بمطبعة بولاق، وأرسل منها إلى أوروبا.»٣٠
وفي ١٥ رجب سنة ١٢٥٦ أعطى ميرزا هاشم مجموعةً من الكتب التي طُبعت في بولاق لتقديمها إلى شاه العجم.٣١
١  Bianchi, Catalogue Général des livres Arabes, … etc. Journal Asiatique, 1843. p. 24.
٢  انظر صورة هذه اللوحة ونص ما كتب عليها في تاريخ الوقائع المصرية للدكتور إبراهيم عبده، ص٧، واللوحة المقابلة لها.
٣  توفيق إسكاروس، تاريخ الطباعة في وادي النيل، الهلال، ديسمبر سنة ١٩١٣ ص٢٠٠.
٤  تقويم النيل، ج٢، ص٥٧٨.
٥  Brocchi, Op. Cit; v. 1, p. 172.
٦  إبراهيم عبده، المرجع السابق، ص٨.
٧  Perron. Lettre sur les écoles et l’imprimerie, … etc. J. A., 1843, p. 18.
٨  Bachatly. Un Membre Oriontal … etc. p. 257 & Reinaud. Notice des ouvrages arabee … etc. J. A. 1831, p. 342.
٩  La Contemporaine en Egypte, t. 11, pp. 276, 293-4.
١٠  Michaud et Poujoulat, Correspondances d’Orient, t. VI, p. 291.
١١  انظر مثلًا قاموس رفاييل الإيطالي العربي، وفن الصباغة من ترجمته، وفن الحرب باللغة التركية ترجمة شاني زادة، وهي أول كتب تُرجمت وطُبعت في بولاق سنة ١٢٣٨ / ١٨٢٣.
١٢  إسكاروس، المرجع السابق، ص١٩٨.
١٣  تقويم النيل، ج٢، ص٤٢٢.
١٤  تقويم النيل، ج٢، ص٤٢٦.
١٥  الوقائع المصرية، العدد ٧٥، بتاريخ ١٣ شعبان سنة ١٢٦٣.
١٦  تقويم النيل، ج٢ ص٣٩٨.
١٧  المرجع السابق، ص٤٢٢.
١٨  المرجع السابق، ص٤٧٩.
١٩  Perron, Lettre (A. M. J. Mohl) sur les écoles et l’imprimerie du Pacha d’ Egypte J. A., 1843 p. 19.
٢٠  إسكاروس، المرجع السابق، ص٢٠١، نقلًا عن «بروكي».
٢١  المرجع السابق، نفس الصفحة.
٢٢  إسكاروس، المرجع السابق، ص٢٠١، وانظر أيضًا Dunne, Op. Cit. p. 331.
٢٣  إبراهيم عبده، تاريخ الوقائع المصرية، ص١١٩–١٢١، وانظر أيضًا: St. John, Egyt & Mohamed Ali, vol. 11, p. 358.
٢٤  عزت عبد الكريم، تاريخ التعليم في عصر محمد علي، ص٤٧٦.
٢٥  Perron, Lettre sur les écoles et l’imprimerie du Pacha, etc. J. A., 1843, p. 18.
٢٦  تاريخ التعليم في عصر محمد علي، ص٤٧٧.
٢٧  تقويم النيل، ج٢، ص٤٨٣، وقد عبر محمد علي عن هذا الأمل في خطاب منه إلى باقي بك في ٥ المحرم سنة ١٢٥٣.
٢٨  تاريخ التعليم في عصر محمد علي، ص٣٤٢ (عن وثائق عابدين).
٢٩  تقويم النيل، ج٢، ص٥٧٩.
٣٠  المرجع السابق، ص٥٣٣.
٣١  في عابدين، محفظة ٢٦٠ رقم ٧٢ بيان بأسماء هذه الكتب، انظر: أسد رستم، بيان بوثائق الشام، مجلد ٥٤ ص٤٥٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤