الفصل الثالث عشر

أنبياء من غير بني إسرائيل

كلمة النبي عربية لفظًا ومعنًى:

عربية لفظًا؛ لأن مادة النبأ والنبوءة أصيلة في اللغة.

وعربية معنًى؛ لأن المعنى الذي تُؤديه لا تجمعه كلمة واحدة في اللغات الأخرى؛ فهي تجمع معاني الكشف والوحي والإنباء بالغيب والإنذار والتبشير، وهي معانٍ متفرقة تؤديها اللغات الحديثة بكلمات متعددة، فالكشف مثلًا تؤديه في اللغة الإنجليزية كلمة Revelation، والوحي تؤديه كلمة Inspiration، واستطلاع الغيب تؤديه كلمة Divination أو Oracle، ولا تجتمع كلها في معنى النبوة كما تجتمع في هذه الكلمة باللغة العربية.

وقد وُجدت كلمة النبوة في اللغة العربية غير مستعارة من معنًى آخر؛ لأن اللغة العربية غنية جدًّا بكلمات العرافة والعيافة والكهانة وما إليها من الكلمات، التي لا تلتبس في لسان العربي بمعنى النبوة كما تلتبس في الألسنة الأخرى عند أصل التسمية، واشتقاق المعاني الجديدة من الألفاظ القديمة.

فكلمة النبي تدل على معنى واحد لا تدل على غيره، خلافًا لأمثالها من الكلمات في كثير من اللغات.

والعبريون قد استعاروها من العرب في شمال الجزيرة بعد اتصالهم بها؛ لأنهم كانوا يسمون الأنبياء الأقدمين بالآباء، وكانوا يسمون المطلع على الغيب بعد ذلك باسم الرائي والناظر، ولم يفهموا من كلمة النبوة في مبدأ الأمر إلا معنى الإنذار.

وقد أشارت التوراة إلى ثلاثة أنبياء من العرب غير ملكي صادق الذي لقيه الخليل عند بيت المقدس، وهؤلاء الأنبياء الثلاثة هم: يثرون، وبلعام، وأيوب، ومنهم من يقال: إنه ظهر قبل اثنين وأربعين قرنًا، وهو أيوب. وقصة بلعام تروي لنا ما حدث بين شيوخ مديان «مدين» بعد خروج بني إسرائيل من مصر، فإن بالاق ملك موآب قد استعان عليهم بالنبي بلعام من تخوم العراق ليبطل دعواهم باسم النبوة، ويدحض أقوالهم بأقوال من قبيلها، فجاء بلعام وحكم بتفضيل عبادة الله على عبادة بعل الذي كان يومئذ معبودًا للموآبيين.

وأما يثرون فهو نبي مدين قبل خروج بني إسرائيل من مصر، ويظن بعض الشراح أنه هو شعيب المشار إليه في القرآن، ولعل شعيبًا هو قريبه «هوباب» أو شوباب بمعنى محبوب الله، وبين النطق العربي والنطق العبري تقارب محسوس، ومن شراح التوراة من يقول: إن «يثرون» لقب وليس باسم يدعى به نبي مدين، فلا يبعد إذن أن يكون شعيب اسمه الذي لم يذكروه.

ومجمل القصة مع قصة بلعام يفيد أن النبوة كانت معهودة متكررة في تلك الأرض قبل خروج بني إسرائيل من مصر، وأيام أن كان موسى سائحًا في الأرض لم يتلق الوحي ولم يرجع إلى مصر ليخرج بقومه منها … أما أيوب فالرحالة برترام توماس، صاحب كتاب «مفزعات وكشوف في بلاد العرب» Alarms and Exploration in Arabia، يحسبه من أهل عمان، وغيره يحسبه من أهل نجد، وزمنه متباعد بين المؤرخين وشراح التوراة.
ومنهم من استعان بعلم الفلك على تحديد زمنه؛ لأنه ذكر النعش والجبار والثريا ومخادع الجنوب في القبة السماوية، وفي إشارته إلى عين الثور وقلب العقرب من منازل الفلك ما يفهم منه زمان تلك المقارنات على تقدير الفلكيين المحدثين، وقد ذكر المفسر هالس Hales أن هذه المقارنات تجعل تاريخ أيوب قريبًا من سنة ٢٣٠٠ قبل الميلاد.

ومما يُقرب هذا التقدير ويدل على اتصال أيوب بالبلاد المصرية: أنه ذكر الأهرام والمدافن التي يبنيها الملوك لأنفسهم، ولكنه إذا لم يبلغ هذا الحد من القدم فلا شك عند جمهرة الشراح في سبقه لعهد الخروج من مصر، وحجتهم على ذلك أنه لم يُشر بكلمة واحدة إلى الخروج، ولا إلى خراب المدن التي دمرتها الزلازل بجواره، ولم يرد ذكر «يهواه» في صلب كتابه، وإنما ورد في المقدمة والذيل، وهما مضافان بعد عصره كما هو راجح عند الشراح.

ولم تكن حجته قط في الخلاص وطلب الرحمة أنه يعتمد على موعد الله للآباء والأسلاف، وقد جاء في مزامير داود وأمثال سليمان كلام يشبه كلامه كأنه مقتبس منه، فهو من أقدم الأنبياء في الجزيرة العربية، وكلهم متفقون على أنه من أبنائها وإن اختلفوا في مكانه بين شمال نجد وشرق العقبة.

ومن جامعي التوراة من يضع سفره بين كتب موسى وكتاب يوشع وسائر الأنبياء من بني إسرائيل، وهكذا وضعه جامع النسخة السريانية من كتاب العهد القديم.

•••

وقد كان أيوب يعرف الكتابة، ولكنه أشار إلى أقدم أدوات الكتابة كما هي معهودة بمصر: نقش بالحديد على الحجر، وليست طبعًا على الطين المحروق، أو خطوطًا على الأوراق والجلود، ما عدا طين الخاتم الذي كان يطبع في البلاد الشرقية جميعًا على نحو واحد.

أما عقيدة أيوب كما تُفهم من سفره المجموع في العهد القديم فغاية في السمو والكرم والتنزيه.

إنه ينكر عبادة الشمس والقمر، ويصف الله القدير بأنه أعلى من السماوات، وأعمق من الهاوية، وأعرض من البحر، وسوى بين الحر والعبد قائلًا: «أَوَليس صانعي في البطن صانعه وقد صورنا واحد في الرحم؟» ويحمد من الغني أن يكون أبًا للفقراء، وأن تكتئب نفسه على المساكين، وأن يبكي لمن عسر يومه، ويستعيذ بالله أن ينظر إنسان إلى امرأة غير امرأته، وأن يطمع في مال غير ماله.

وأجل من ذلك شأنًا في تاريخ العقيدة الدينية، أنه كان أول من نص على البعث في كتب العهد القديم، وكانت تربيته الإلهية التي انتهى منها إلى هذه العقيدة تربية طويلة صبر فيها على نكبات المرض والبوار وخيانة الأقربين والأبناء، وتدرج من القول بالزوال والعدم إلى القول برؤية الله بعد فناء الجسد، فكان في أول السفر يقول: «الذي ينزل إلى الهاوية لا يصعد.» ويقول: «الإنسان يضطجع ولا يقوم.» و«إذا مضت سنوات قليلة أسلك في طريق لا أعود منها.» ويتساءل: «إن مات رجل أفيحيا؟» ثم انتهى من هذه التجارب إلى الأمل في خلود النفس ولقاء الله «فبعد أن يفنى جلدي هذا، وبدون جسدي، أرى الله.»

•••

وعلى الجملة يبدو سفر أيوب غريبًا في وضعه وموضوعه بين أسفار العهد القديم، ولم يكن من عادة بني إسرائيل أن يجمعوا في التوراة كتبًا لغير أنبيائهم المتحدِّثين عن ميثاقهم وميعادهم، ولكنهم جمعوا هذا السفر مع الأسفار المشهورة لأنهم وجدوه في بقاع فلسطين الجنوبية محفوظًا يتذاكره الرواة، وحسبه بعضهم من كلام موسى، وبعضهم من كلام سليمان، ولا عجب أن يشيع هذا الكتاب العجيب حيث تسامع به الناس؛ فإنه عزاء صالح للمتعزين، وعبرة صالحة للمعتبرين، ولا تزال قصة أيوب منظومة شائعة يتغنى بها شعراء اللغة العربية الدارجة في مصر والشام، ولا نعرف كتابًا من كتب التوراة ظفر في رأي النقاد الغربيين بالإعجاب الأدبي الذي ظفر به سفر أيوب، فقال توماس كارلايل عنه: «إنه واحد من أجلِّ الأشياء التي وعتها الكتابة، وإنه أقدم المأثورات عن تلك القضية التي لا تنتهي، قضية الإنسان والقدر والأساليب الإلهية معه على هذه الأرض، ولا أحسب أن شيئًا كُتب مما يضارعه في قيمته الأدبية.»

وقال فيكتور هيجو: «إنه ربما كان أعظم آية أخرجتها بصيرة الإنسان.»

وقال شاف Schaff: «إنه يرتفع كالهرم في تاريخ الأدب بلا سابقة وبغير نظير.»

أما بلعام ويثرون فقد ذُكر الأول في كتب العهد القديم لأنه نصر بني إسرائيل في الخصومة بينهم وبين الموآبيين، وذُكر الثاني لما بينه وبين موسى من المصاهرة، وما كان له من الفضل في تعليمه نظام الحكم وسياسة القبائل، وغيرهم ولا شك كثيرون لم يذكروا في المراجع اليهودية؛ إذ كانت هذه المناسبات لا تستوعب تاريخ البقاع بين تخوم العراق وتخوم العقبة وما وراءها من أرض الجنوب.

وهذا بعض القرائن على مكانة النبوة في أرض الجنوب مما يلي سيناء والحجاز، ومن القرائن الأخرى في كتب العهدين القديم والجديد يفهم بغير تردد أن تلك البقاع كانت وجهة الأنبياء في كل عصر تحدثت عنه تلك الكتب؛ فإبراهيم توجه إلى جيرار، وموسى توجه إلى مدين «مديان»، وبولس الرسول قال في كتاب غلاطية: إنه ذهب إلى بلاد العرب قبل أن يأتي إلى دمشق، ولم يفتأ بنو إسرائيل إلى عهد المسيح ينعون على الشمال أنه لا يخرج منه شيء حسن، وينتظرون النبوءات من برية الجنوب.

•••

ويجب أن يتأنى المؤرخ طويلًا عند ملاحظة هذه القرائن المتعددة؛ فهي في تاريخ الخليل دليل على الوجهة التي يجب أن يبحث عنها المؤرخ إذا أراد البحث الصحيح عن مسلك الخليل في أيامه الأخيرة، فإنما يكون مسلكه المعقول إلى طريق الجنوب، ولا يعقل له مسلك إلى بيت المقدس يستقر عليه قراره؛ فإن المصادر الإسرائيلية نفسها تقول: إنه كان غريب الدعوة والموطن في حبرون، وإنه اشترى مدفنه من الحيثيين. وما لم تكن له دعوة ولا موطن في الأرض فالجنوب الذي اتجه إليه، واتجه إليه أصحاب الدعوات النبوية، أحرى أن يكون قبلته ومرجعه. وليس من الغريب أن تتعمد المصادر اليهودية إغفال هذه القبلة والتعلق ببيت المقدس بعد أن قام فيها عرش داود؛ فإنها الدعوة التي يقومون بها، ويسقطون بنفيها. وفي ذلك وحده تفسير يُغني عن كل تفسير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤