الفصل التاسع عشر

الرسالة

إن تاريخ الأديان لا يرسم لنا خطًّا واحدًا يفصل بين عهدين كلاهما مخالف للآخر كل المخالفة.

فما من عقيدة دينية ظهرت للناس طفرة بغير سابقة، وما من عهدين من عهود الأديان إلا وبينهما تمهيد وتعقيب، ولكن الأمانة التي اضطلع بها الخليل إبراهيم حادث جديد لم تُعرف له سابقة فيما وعيناه من تاريخ الدين.

وذلك الحادث الجديد هو أمانة الرسالة النبوية؛ أمانة نفس حية تخاطب نفوسًا حية باسم الإله الذي يتوجه إليه عباده في كل مكان.

أمانة نفس تخاطب النفوس، ولا تخاطبهم من وراء المحاريب والهياكل، ولا بسلطان من نظام الدولة أو نظام الكهانة، ولكنها نداء ضمير إلى ضمير.

وهذه هي الدعوة التي قلنا إنها تستلزم وجود «هداية شخصية»، أو تستلزم وجود إبراهيم متصلًا بمن بعده؛ لأنها سلالة من دعوات لا يتصورها العقل على غير مثالها الفريد في تواريخ الأديان.

ولولا أن الشكوكيين باسم البحث والنقد يعملون عمل الآلات في شكهم، وفي بحثهم ونقدهم، لفهموا أن الشخصية الخرافية جائزة في نظام الكهانات، أو نظام هياكل الدولة؛ لأنها نظم قائمة على «موظفين» دينيين، يحل أحدهم محل الآخر بلا اختلاف، ولكن الدعوة النبوية على المثال الذي بدأ به الخليل إبراهيم هي عمل لا غنى فيه عن الشخصية الحقيقية، ولا عن التتابع الذي ينعقد بين الشخصيات من سلالة واحدة، وما من حلقة في هذه السلسلة الحية إلا وهي تتطلب الحلقة التي قبلها والتي بعدها على السواء.

كانت دعوة إبراهيم هي الفتح الجديد في تاريخ العقيدة.

فلم يبدأ إبراهيم عقيدة التوحيد، ولم يبدأ عقيدة الفداء، ولم يبدأ عقيدة البقاء، ولكنه بدأ بالدعوة النبوية فاصطبغت العقائد بصبغتها حتى كأنها لم تُسمع قط قبل ذلك في عهود الكهانات والهياكل.

وقد أصابت النكسة كل عقيدة نادى بها الخليل قومه في عصره، فانقلبوا إلى عبادة الأصنام وجهلوا سر الفداء وسر البقاء، ولكن البداءة قد بدئت وسارت في طريقها، لولا أنها بدئت لما تبين أحد موضع النكسة فيما بعد ذاك.

•••

كان توحيد إبراهيم إيمانًا بإله يعلو على ملوك الأرض ونجوم السماء، ويتساوى عنده الخلق جميعًا؛ لأنه أعلى من كل عالٍ في الأرضين أو في السماوات، ولكنه قريب من كل إنسان.

ولم يكن «يهوا» إله إبراهيم؛ لأن قوم إبراهيم لم يذكروا يهوا من بعده قبل خروجهم إلى سيناء، كما صرحت بذلك كتب التوراة الأولى.

ولكنه كان هو الإله «الإيل»، وإليه ينسب ابنه إسماعيل.

وكان هو العلي «عليون»، وعلى محرابه قدَّم قربانه إلى ملكي صادق بعد نزوله بكنعان.

فهو إله لا فرق عنده بين وطن قديم أو وطن جديد، ولا فضل لديه لعشيرة إبراهيم على عشيرة ملكي صادق، ولا على غيرها من عشائر بني آدم بغير التقوى والإيمان.

إن هذا التوحيد قد رفع مكانة الإنسان في ميزان الخليقة، فليس في الكون إلا خالق ومخلوق، وهو أشرف مخلوق عند الله بفضيلة واحدة؛ وهي فضيلة الضمير الذي يميز بين الخير والشر، وعمل الخير هو وسيلته إلى الله.

جاء إبراهيم في مفترق الطريق بين استباحة القرابين البشرية وبين تحريمها، ولكنها لم تحرَّم لأنها أغلى من أن تقدم.

وإنما حرمت لأن الله أرحم وأكرم.

ورأى إبراهيم في رؤياه أنه يُؤمر بذبح ابنه وأعز ما في الحياة عنده.

رأى ذلك وهو يعلم أن الأرباب تتقاضى عبادها مثل هذه الضحية، وأن تقريب الأوائل من الأولاد والأوائل من كل نتاج حق مفروض على كل أسرة لرب الأوثان والأصنام، أيكون إبراهيم أبخل على ربِّه من عابد الوثن؟ أيكون الوثن أحق بالضحية من خالق الأرض والسماء؟

أيرتاب إبراهيم في أمر الله وهو ينظر إلى شريعة العبادة من حوله، وإن كانت شريعة شرٍّ وضلال؟!

إن العصيان هنا نزول بالإله الأعلى عن مرتبة الأوثان والأصنام.

فلتكن الطاعة تنزيهًا للإله الأعلى عن ذلك الإسفاف، ويفعل الإله بالآباء والبنين ما يريد.

قال حكيم من حكماء الغرب:١ إن الدين هو الآمر الوحيد الذي يحق له أن يأمر الإنسان بما يناقض الأخلاق؛ لأنه يرفعه أوجًا بعد أوج في معراج الخلق الشريف … إن ذبح الأب وليده نقيض الرحمة، ولكن إيمان الإنسان بعقيدة أعز عليه من ولده ومن نفسه غنيمة أقوم وأعظم من رحمة الآباء للأبناء.

فلا ينبغي أن يضنَّ الإنسان بشيء في سبيل هذه العقيدة.

ولا ينبغي أن يبطل القربان بالإنسان لأن الله لا يستحقه كما استحقته أوثان الجهالة، بل يبطل لأن الله أرحم وأعظم من أن يتقبله، فهو أعظم وأكرم من الأوثان.

وارتفاع الإنسان بهذه العبادة هو ارتفاع آخر يضاف إلى ارتفاعه بالتوحيد والتنزيه.

ارتفاع من جانب القوة لا من جانب الضعف، وسموٌّ بالرحمة وبالعبادة إلى أعلى عليين.

قلنا عن أيوب عليه السلام: إن حياته كانت تربية دينية من تجاربها الأولى إلى ختامها، فعلم في ختامها ما لم يكن يعلمه في أولها، ولم يذكر البعث حين كان يتمنى الهبوط إلى الهاوية التي لا يصعد منها من هبط إليها، ولكنه ذكره بعد اختبار طويل، وبلاء شديد، فقال: «بعد أن يفنى جلدي هذا، وبدون جسدي، أرى الله.»

ويصدق هذا القول على حياة إبراهيم في عقائده جميعًا؛ لأنه اختبر حياة الشرك، واختبر شعائره وفرائضه، وخلصت له الهداية بالخبرة والهداية الإلهية.

وأصدق ما يكون ذلك على البعث خاصة، فإنه لمن مواضع التأمل أن يكون إبراهيم هو النبي الوحيد الذي ذكر القرآن الكريم أنه سأل ربه كيف يحيي الموتى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (البقرة: ٢٦٠).

ولم يرو القرآن الكريم خبرًا كهذا عن نبي غير إبراهيم، فإنه إذن لمن مواضع التأمل التي ينبغي أن يلتفت إليها من يصطنعون الاستقصاء باسم العلم والتاريخ.

فالحق أن عقيدة البعث خفية في كتب التوراة، وأن خفاءها هذا دليل على أنها بقيت زمنًا بعد إبراهيم مجهولة غير مفهومة.

وإذا اعتمدنا البحث التاريخي وحده، لم يجُز في العقل أن يكون إبراهيم قد ذهب إلى مصر وعاد منها ولم يسمع بعقيدة الحياة بعد الموت.

فمن ذرية إبراهيمَ يوسفُ، وقد كان له صهر في كهان المحاريب المصرية، ومنهم موسى، وله علم بمدارس مصر وأسرارها، وغير معقول أن يكون إبراهيم قد خرج من أرض الكلدان إلى مصر ولم يخطر له أن يسائل حكماءها في أمر العقيدة، وقد كانت في الوجه البحري — حيث تنزل القبائل الوافدة — محاريب كثيرة يتقرب منها ملوك الرعاة، ويشتركون في شعائرها مع رؤساء الدين.

فلا يجوز في العقل أن يكون إبراهيم قد ذهب إلى مصر وعاد منها ولم يسمع بعقيدة الحياة بعد الموت، وأصوب من هذا أن نفهم أن كتب العهد القديم دُونت بعد السبي أو نفي اليهود إلى بابل، فطال العهد بينها وبين دعوة إبراهيم، وطالت عصور النكسة بعد اختلاط العبادات الإلهية والوثنية، ومنها عبادات بعل وعشتروت.

وساعد على خفاء العقيدة بالحياة بعد الموت أنها لم تورث عن إبراهيم مفصلة منتظرة عن سابقة متتابعة، فجاز أن يكتب المدونون في سفر الجامعة: «إن ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة … كلاهما من التراب وإلى التراب يعود. من يعلم روح بني البشر؛ هل هي تصعد إلى فوق؟ وروح البهيمة هل هي تنزل إلى أسفل، إلى الأرض؟! ولا شيء خير من أن يفرح الإنسان بأعماله؛ لأن ذلك نصيبه …»

وانقضت قرون قبل أن يسمع من دانيال «أن الراقدين في تراب الأرض يستيقظون؛ هؤلاء للحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار …»

وجاء عصر السيد المسيح ولما ينحسم الخلاف بين طوائف بني إسرائيل التي تقول بالحياة الأخرى، وطوائفهم التي تنكرها وتتحدى المؤمنين بها أن يؤيدوها بسند من كتب التوراة، وضرب السيد المسيح المثل بالعازر والرجل الغني، وفيه إشارة إلى النعيم والعذاب بعد الموت، فكان عقيدة من عقائد الأناجيل لم تتقرر على هذا الوجه في كتب التوراة.

وقد مضى زهاء عشرين قرنًا بين عصر إبراهيم وعصر المسيح، ومضى زهاء أربعين قرنًا بينه وبين هذا الزمن الذي غلب فيه أتباعه على أقطار الدنيا، ولكن أمرًا ابتدئ قبل تلك القرون لم يكن لينتهي إلى هذه النهاية لو لم يبدأ ذلك الابتداء.

ولم يكن ذلك الأمر عقيدة التوحيد، أو عقيدة الفداء، أو عقيدة الثواب والعقاب، فقبل ذلك ما سمع الناس بتلك العقائد على نحو من الأنحاء.

وإنما سُمِّي أبا الأنبياء؛ لأنه كان رائد الدعوة النبوية في العالم الإنساني بأسره، وكأنها الرسالة الخاصة من خالق الكون إلى كل مخلوق من بني آدم وحواء.

١  كيركجارد الدنمركي Kierkegard (١٨١٣–١٨٥٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤