الفصل السابع

مصادر التاريخ القديم

لم يبق من المراجع القديمة ما يُضاف إلى الأبواب السابقة غير أقوال المؤرخين الأقدمين.

وهؤلاء المؤرخون الأقدمون ينتمون إلى الأديان الكتابية الثلاثة، ويعول كل منهم على كتب دينه، فلا يُناقضها، وقد يزيد عليها ما ينطوي فيها ولا ينفيها، وقد يأتي في أخبارهم ما يخالف كتب الأديان الأخرى، ويزيد عليها شيئًا لا يسلمه من يعتقدونها، ولكن التواريخ القديمة على العموم لم تعتمد على مصدر غير كتب الدين وتفسيراتها في كل ملة.

وليس المقام هنا متسعًا للإفاضة في النقل من كتب المؤرخين الأقدمين، فنحن نختار مؤرخًا من كل ملة يقتدي به المقتدون في بابه، ونكتفي بيوسيفوس من مؤرخي اليهود، وأبي الفرج ابن العبري من مؤرخي المسيحيين، وأبي الفداء من مؤرخي المسلمين.

(١) تاريخ يوسيفوس

«سأتكلم الآن عن العبرانيين …

فالج بن عابر ولد له رعوس، وولد لرعوس سيروج، وولد لسيروج ناخور، وولد لناخور ثيروس Therrus،١ وهو أبو إبراهيم العاشر من سلالة نوح، ومولده في سنة ٩٩٢ بعد الطوفان.

… وكان لإبرهيم أخوان: ناخور وآران.

وولد لآران «حاران» لوط وبنتان؛ هما: سارة وملكة، ومات في بلاد الكلدان في بلدة تُسمى أور الكلدانيين، وقبره هناك يُرى إلى اليوم … وتزوج ناخور بنت أخيه ملكة، وتزوج إبراهيم بنت أخيه سارة، وكره ثيروس المقام بأور حيث فقد ابنه المحزون عليه حاران، فهاجر منها إلى شاران «حران» بالعراق، حيث مات ثيروس، وله من العمر مائتا سنة وخمس سنوات؛ إذ كان عمر الإنسان قد قصر، ولم يزل يقصر إلى عهد موسى، فأصبحت غايته مائة وعشرين سنة، وهو عمر موسى.

ولد لناخور ثمانية من زوجته ملكة؛ وهم: عز، وبوغر، وبثوئيل، وخزام، وعنرو، وآدلفاس، وآدفاس، وثبوئيل، وهؤلاء هم أبناؤه الشرعيون من زوجته ملكة، أما أبناؤه الآخرون فهم: طباي، وجدام، وطاو، وماخاس من جاريته روما.

وولد لبثوئيل بنت اسمها رفقة، وولد اسمه لابان …

ولما لم يكن لإبراهيم ولد شرعي تبنى لوطًا، ابن أخيه حاران وأخا زوجته سارة، وترك بلاد الكلدانيين وهو في الخامسة والسبعين؛ ليذهب إلى كنعان حيث أمره الله، وحيث ترك ذريته من بعده.

وكان إبراهيم رجلًا متيقظ الذهن في جميع الأمور، مقنعًا لمن يسمعه، غير مخطئ في فهمه واستدلاله، فأدرك من حقائق الفضائل ما لم يدركه سائر البشر، واعتزم أن يصحح الأفكار التي شاعت بينهم عن الله ويُغيرها، فكان من ثم أول من اجترأ على المناداة بأن الله خالق الكون واحد، وأنه إذا وجد كائن آخر ينفع الناس فإنما يفعل ذلك بإذنه، لا يفعله بقدرة من عنده.

وقد انتهى إلى ذلك من مراقبته لما يطرأ على الأرض والماء، والشمس والقمر، وسائر الأجرام السماوية من عوارض التغير والتقلب، أو لاح له أن هذه الأجرام لو كانت لها مشيئة لحكمت على نفسها، فأما وهي لا تملك نفسها، فكل ما تصنعه وكل ما ينفعنا من صنيعها؛ فليس من عندها، بل من عند من يحكمها، وهو الجدير دون سواه بالشكر والطاعة منا …

والواقع أن هذه الأفكار هي التي أثارت عليه الكلدانيين والعراقيين، فرأى من الخير بمشيئة الله ومعونته أن يرحل إلى أرض كنعان، وهناك استقر وبنى لله مذبحًا، وقدم عليه القربان.

ويذكر المؤرخ برسوس أبانا إبراهيم ولا يسميه حيث يقول: إنه في الجيل العاشر بعد الطوفان عاش بين الكلدانيين رجل صدق متبحر في العلوم السماوية … وزاد المؤرخ هكتاتوس٢ على ذلك أنه ألف كتابًا عنه، وقال نقولا الدمشقي في الكتاب الرابع من تاريخه: إن إبراميس٣ حكم في دمشق، وكان مغيرًا قدم من أرض بابل من البلاد التي تسمى بلاد الكلدانيين، ولم يمض عليه زمن طويل حتى هجرها وقومه إلى أرض كنعان — وتسمى اليوم يهودا — وفيها ذريته الذين سأكتب عنهم في كتاب آخر، ولا يزال اسم إبرام مشهورًا في إقليم دمشق حيث تسمى إحدى القرى بمسكن إبرام.

ثم مضى زمن وأصاب كنعان القحط، وسمع إبراهيم برخاء المصريين، فاعتزم الهجرة إلى مصر ليصيب من خيراتها، ويسمع ما يقوله أحبارها في أمر الله، وفي نفسه إذا علم من كلامهم ما هو خير مما عنده أن يتقبله، أو يرى أن عقيدته خير مما عندهم فيدعوهم إليها.

وأخذ سارة معه، وخاف ولع المصريين بالنساء، وأن يغصبه عليها الملك، ويقتله من أجلها لجمالها، فأوصاها أن تقول: إنها أخته، وحدث بعد وصوله إلى مصر كل ما توقعه، فتسامع الناس بجمال زوجته، ولم يقنع فرواثيس٤ ملك المصريين بالسماع، فهمَّ بأخذها لولا أن الله أحبط جريمته بما فشا في مصر من الوباء والقلاقل، ثم قرب الملك قرابينه ليعلم حقيقة البلاء، فقال له الأحبار: إن البلاء من غضب الله؛ لأنه نوى في نفسه أن يغتصب امرأة رجل غريب …
ولما بلغ منه الرعب سأل سارة: من هي؟ ومن هو الرجل الذي جاءت به معها؟ فاعتذر لإبراهيم حين علم جلية الخبر وقال له: إنه لم يتعلق بها إلا لظنه أنها أخته لا زوجته، وإنما أراد أن يبني بها ولم يُرد أن يغتصبها في نزوة من نزوات هواه، ثم أغدق على إبراهيم ثروة جزيلة،٥ وطفق إبراهيم يباحث علماء مصر، وتزداد شهرته بالعلم والفضيلة.

ولما رأى إبراهيم أن المصريين متشبثون بعادات شتى يخالف بعضهم بعضًا من جرائها، ويعادي بعضهم بعضًا لأجلها؛ جعل يناقشهم فيها كل فريق على حدة، ويبدي لهم جميعًا أنها ليست على شيء من الحق، ويحل بذلك منهم محل الإعجاب، فيعلمون أنه لم يكن على نصيب وافر من الفطنة وحسب، بل كان كذلك عظيم القدرة على إقناع سامعيه في كل موضوع تناوله ببحثه، وقد أطلعهم على علم الحساب وقوانين الفلك، ولم يكن أحد من المصريين على علم بها قبل مقدم إبراهيم، وإنما جاءت من الكلدان إلى مصر، ثم من مصر إلى الإغريق.

ثم قسم الأرض بينه وبين لوط بعد عودته إلى أرض كنعان، وكان رعاتهم يتنازعون المرعى في مكان واحد، فجعل لوطًا يختار ما يشاء، ورضي هو بما تركه له من منخفض الأرض في تابرو — حبرون — وهي أقدم من مدينة تانيس بسبع سنوات.٦

أما لوط فاختار السهل إلى ناحية نهر الأردن غير بعيد من مدينة سدوم، وكانت مدينة عامرة قضى الله عليها بالخراب لما سنبينه في موضعه.

وكانت سدوم مزدهرة في العصر الذي سيطر فيه الآشوريون على آسيا، وغزرت ثروتها، وتكاثر عدد شبابها، وحكم أرضها خمسة ملوك؛ هم: بالاس، وبالياس، وسينابان، وسنفبر، وملك البالان، كل منهم في إقليمه. وزحف الآشوريون على هؤلاء الملوك الخمسة بعد أن قسموا جيوشهم إلى أربعة أقسام، يقود كل جيش منها قائد غير قواد الجيوش الأخرى، ثم ضربوا عليهم الحصار، ودارت المعركة بينهم، وفرض الآشوريون جزية على الملوك السدوميين.

وخضع هؤلاء الملوك اثنتي عشرة سنة يؤدون الجزية التي فُرضت عليهم، ولكنهم ثاروا في السنة الثالثة عشرة، فجرد عليهم الآشوريون جيشًا بقيادة أمرا بسيدس وأريوخ وقدر لعومر وثدال، وعاث هؤلاء في سورية جميعًا، وأخضعوا سلالة الجبارين، ثم بلغوا سدوم وعسكروا في الوادي المعروف بحفرة القار؛ إذ كان الوادي كثير الحفر حين كانت سدوم عامرة، ثم امتلأت الحفر بالماء بعد تدميرها، وأصبحت بحيرة تسمى بالأسفلتية. وسأعود إلى خبر هذه البحيرة قريبًا.

واشتبك السدوميون والآشوريون في قتال عنيف هلك فيه كثيرون، ووقع الباقون من السدوميين في الأسر، وكان بين الأسرى لوط وقومه؛ لأنهم حالفوا السدوميين.

وسمع إبراهيم بالنكبة فداخله الخوف على قريبه لوط، والإشفاق على أصحابه وجيرانه السدوميين، واعتزم التعجيل بإنقاذهم، وخرج في الليلة الخامسة فانقض على الآشوريين بالقرب من مدينة دان على إحدى شعبتي نهر الأردن، وفاجأهم قبل أن يستعدوا بالسلاح، وذبح بعضهم وهم على فراشهم جاهلين بمصيرهم، وهرب الآخرون الذين استلقوا على الفراش سكارى ولما يستغرقوا في الرقاد، فجد إبراهيم في اقتفاء أثرهم حتى بلغ «أوبه» بأرض الدمشقيين، ودل بذلك على أن النصر لا يتوقف على كثرة الأيدي، وأن الغيرة والصلابة تغلبان العدد الكثير؛ لأنه انتصر بثلاثمائة وثمانية عشر من عبيده وثلاثة من أصحابه على ذلك الجمع الكبير، وأرسل بقيتهم ناجين بالخزي إلى ديارهم.

ولما خلص إبراهيم السدوميين ومعهم قريبه لوط عاد في سلام، ولقيه ملك سدوم في المكان المسمى بالوادي الملكي، واستقبله هناك ملك سليمي ملكي صادق، ومعنى هذا الاسم: الملك الصديق، وهو اسم اشتهر به بين الجميع، فاختاروه كاهنًا لله، وأصبحت سليمي هذه المكان الذي عُرف بعد ذلك باسم «أورشليم».

ورحب ملكي صادق بإبراهيم، ووسعه ومن معه في ضيافته، وجعل في أثناء الضيافة يثني على إبراهيم، ويحمد الله الذي أسلم أعداءه إلى يديه، فقدم له إبراهيم عندئذ عُشر الغنائم، فقبل الهدية. أما ملك سدوم فقد رجا إبراهيم أن يستبقي له كل الغنائم، ولم يطلب غير رعيته التي أسرها الآشوريون، فأبى إبراهيم أن يأخذ شيئًا غير طعام عبيده، ووهب بعض الغنائم لشركائه في القتال، وأولهم أسخون، والآخران عنر ومامبر.

ورضي الله عن هذه المأثرة منه وقال له: إنه لن يضيع جزاءه على هذا العمل الطيب، فأجاب إبراهيم: وأي شيء يسرني من هذا الجزاء إن لم يكن لي وريث بعدي؟ فأنبأه الله أنه سيعقب ولدًا تبلغ ذريته عدد النجوم في كثرتها، فقرب إبراهيم إلى الله قربانًا حسب أمره عند سماعه بهذه البشرى، وكان القربان على هذا النحو؛ إذ أخذ عجلًا ابن ثلاث سنوات، وحملًا ابن ثلاث سنوات كذلك، ويمامة وحمامة، وذبحها وشطر كلًّا منها شطرين ما عدا الطير، وقبل أن يقام المذبح، ولما تزل جوارح الطير تحوم على الذبائح، متعطشة الدم، سمع صوتًا إلهيًّا يقول له: إن ذريته ستلقى الشر من جيرة مصر أربعمائة سنة، ولكنهم بعد العذاب يغلبون عدوهم، ويقهرون الكنعانيين في القتال، ويملكون أرضهم ومدائنهم …

وكان إبراهيم يعيش على مقربة من بلوطة عجيج، غير بعيد في أرض كنعان من مدينة الحبرونيين، حيث أخزنه عقم زوجته فصلى لله كي يرزقه ولدًا ذكرًا، وأمره الله أن يُوقن من ذلك كما أيقن بالخير من طاعته لأمر الله الذي أمره بالهجرة من العراق.

وأحضرت سارة بأمر الله إلى فراشه إحدى جواريها المصريات المسماة هاجر عسى أن يُرزق منها ذرية، فلما حملت اجترأت على إهانة سارة، واتخذت سمة الملكات كأنما تصير حوزة إبراهيم كلها إلى ابنها الذي لم يُولد، فأسلمها إبراهيم إلى سارة تؤدبها، ولم تصبر هاجر على مذلتها فهربت، ودعت إلى الله، وأمرها أن تعود إلى سيدها وسيدتها، ووعدها أن ترضى عن عيشها إذا هي غضت من كبريائها؛ لأنها لقيت ما لقيته من جراء الاستطالة على مولاتها، وأنها إذا عصت أمر ربها هلكت، ولكنها إذا عادت إلى البيت صارت أمًّا لولد يملك تلك الأرض، فأطاعت وعادت إلى سيدها وسيدتها فسامحاها، ووضعت بعد قليل ولدًا سمته إسماعيل؛ أي المسموع من الله؛ لأن الله استمع لصلاتها.

وكان إبراهيم قد بلغ السادسة والثمانين حين وُلد له هذا الولد، وبلغ التاسعة والتسعين حين تراءى له الرب وبشَّره بولد يُرزقه من سارة، آمرًا له أن يسميه إسحاق، وموحيًا إليه أن أممًا عظيمة وملوكًا سيخرجون من نسله، وأنهم يستولون بالحرب على أرض كنعان كلها من صيدا إلى مصر، وعليهم أن يختتنوا لكيلا يختلطوا بالأمم الأخرى، وأن يكون الختان في اليوم الثاني بعد الولادة. وسأبين فيما بعد أسباب عادة الختان عندنا …

وسأل إبراهيم عن إسماعيل: هل يعيش؟ فأنبأه الله أنه سيعيش ويعمر ويصبح أبًا لأمم عظيمة، فشكر إبراهيم لربه هذه النعم، واختتن هو وآل بيته جميعًا وإسماعيل الذي كان يومئذ في الثالثة عشرة، وكان أبوه في التاسعة والتسعين …»

ثم مضى يوسيفوس يروي قصة سدوم، ونجاة لوط إلى صغير التي سميت بذلك لصغرها، وأن بنتي لوط أشفقتا من هلاك الجنس البشري فولدتا لأبيهما موآب، ومعناها من الأب، وعمان، ومعناه ابن السلالة، ومن ذريتهما أبناء سورية الشرقية والجنوبية.

ثم روى يوسيفوس مولد إسحاق وختانه في اليوم الثامن، وأن العرب يؤجلون الختان إلى السنة الثالثة عشرة كما اختتن أبوهم إسماعيل، وأن سارة عادت فأصرت على إقصاء هاجر وابنها، فخرجا إلى البرية، وكاد الغلام أن يموت عطشًا تحت شجرة من أشجار التنوب، لولا أن هدَى المَلكُ من الربِّ هاجرَ أمَّه إلى ينبوع ماء قريب.

قال يوسيفوس: ولما بلغ الصبي مبلغ الرجال زوجته أمه مصرية من قومها، فولدت له اثني عشر ولدًا؛ هم: نبايوث، وقدار، وعبدئيل، ومبسام، ومشمع، وأدوم، وماسم، وقدوم، وتيمان، وجثور، ونافش، وقدماس، واستولى هؤلاء على الأرض كلها من العراق إلى البحر الأحمر، وسموا بالنباتيين «النبطيين»، وهم الذين سُمي باسمهم جميع أمة العرب وقبائلها؛ إكرامًا لشأنهم ولشهرة إبراهيم.

ثم بنى إبراهيم بعد ذلك بقطورة، وولد له منها ستة أبناء أقوياء على العمل، سرعاء في الفهم؛ وهم: زمبران، وجزار، ومدان، ومديان، ولوشباق، وسوس، فأرسلهم إبراهيم وأبناءهم يلتمسون لهم منازل على التروجلوديتس Troglodytis، وفي بلاد العربية السعيدة التي تمتد إلى البحر الأحمر، ويقال: إن أفرون بن مدان جرد حملة على لوبيا واحتلها، وإن أبناء أبنائه أقاموا هناك وسموا الأرض باسم أفريقا.

ثم ختم يوسيفوس قصة إبراهيم بنبأ وفاته، وقال: إن إسحاق وإسماعيل دفناه إلى جوار سارة في مقبرة حبرون، وكان قد روى في ختام قصة سارة أن الكنعانيين تبرعوا بدفنها على النفقة العامة، ولكن إبراهيم اشترى المدفن من إخرايم بأربعمائة مثقال.

(٢) ابن العبري

وإذا كان يوسيفوس مثلًا للمؤرخ القديم من الوجهة الإسرائيلية؛ فابن العبري أبو الفرج بن هارون، صاحب مختصر الدول، المتوفى سنة ١٢٨٦، قد يكون المثل الوحيد للمؤرخ القديم من الوجهة المسيحية في هذا الموضوع؛ لأنه إمام من أئمة الكنيسة السريانية التي ينتشر أتباعها في مواطن إبراهيم، ويحفظون أخباره التقليدية منذ القرن الأول للميلاد.

قال في كلامه عن دولة الأولياء — أي الآباء — في بني إسرائيل:

ومن أئمتنا باسليوس وأفريم يزعمان أن من آدم إلى عابر هذا كانت لغة الناس واحدة، وهي السريانية، وبها كلم الله آدم.

وتنقسم إلى ثلاث لغات: أفصحها الآرامية، وهي لغة أهل الرها وحران والشام الخارجة، وبعدها الفلسطينية، وهي لغة أهل دمشق وجبل لبنان وباقي الشام الداخلة، واسمها الكلدانية النبطية، وهي لغة أهل جبال أثور «آشور» وسواد العراق. ويعقوب الرهاوي يقول: إن اللغة لم تزل عبرية إلى أن تبلبلت الألسن ببابل.

وفالغ بن عامر ولد له أرعو وعمره على الرأي السبعيني٧ مائة وثلاثون سنة، وعلى رأي اليهود ثلاثون سنة، وجميع أيامه ثلاثمائة وثلاث وأربعون سنة …

وفي سنة مائة وأربعين لفالغ فلغت الأرض، أي قسمت قسمة ثانية بين ولد نوح، فصار لبني سام وسط المعمورة: فلسطين والشام آشور وسامرة وبابل وفارس والحجاز، ولبني حام التيمن كله، أي الجنوب: أفريقية والزنج ومصر والنوبة والحبشة والسند والهند، ولبني يافث الجربيا، أي الشمال: الأندلس والإفرنجة وبلاد اليونانيين والصقالبة والبلغار والترك والأرمن. وبعد وفاة فالغ ثارت الفتن بين بنيه وبين يقطان أخيه، وشرع الناس في تشييد الحصون.

وأرعو بن فالغ ولد له ساروغ وعمره على الرأي السبعيني مائة واثنان وثلاثون، وعلى رأي اليهود اثنتان وثلاثون سنة، وجميع أيامه ثلاثمائة وتسع وثلاثون سنة.

وفي سبعين سنة لأرعو قال الناس بعضهم لبعض: هلموا نضرب لبنًا، ونحرق آجرًا، ونبني صرحًا شامخًا في علو السماء، ويكون لنا ذكر كي لا نتبدد على وجه الأرض، فلما جدوا في ذلك بأرض شنعار، وهي السامرة، ونمروذ بن كوش قات رافعي الصرح بصيده — أي جلب لهم القوت — وهو أول ملك قام بأرض بابل، وهو الذي رأى شبه إكليل في السماء واتخذ مثله ووضعه على رأسه، فقيل: إن إكليله نزل من السماء … قال الله تعالى: هذا ابتداء عملهم، ولا يعجزون عن شيء يهتمون به، سوف أفرق لغاتهم لئلا يعرف أحدهم ما يقول الآخر. فبدد الله شملهم على وجه الأرض، وأرسل رياحًا عاصفة فهدمت الصرح، ومات فيه نمروذ الجبار، وتبلبلت لغات الآدميين، ولذلك دُعي اسم ذلك الموضع بابل … وبنى نمروذ ثلاث مدن: أرخ وخليليا — أي الرها ونصيبين — والمدائن.

وساروغ بن أرغو ولد له ناحور وعمره على الرأي السبعيني تسع وسبعون سنة، وعلى رأي اليهود تسع وعشرون سنة، وجميع أيامه مائتان وسنة واحدة، وفي خمس وعشرين سنة من عمره كان جهاد أيوب الصديق على رأي أروذ الكنعاني، وبنى أرمونيس ملك كنعان سدوم وغامورا على اسم ولديه، ومدينة صاعر على اسم أمهما.

وترح بن ناحور ولد له إبراهيم، وعمره — على الرأيين جميعًا — سبعون سنة، وجميع أيامه مائتان وخمس وسبعون سنة، ومات بمدينة حران، وبنى مورفوس ملك فلسطين مدينة دمشق قبل ميلاد إبراهيم بعشرين سنة، ويوسيفوس يقول: إن عوض بن آرام بناها، ومن ها هنا يتفق التاريخان السبعيني والعبراني.

وإبراهيم بن ترح ولد له إسحاق وعمره مائة سنة، وجميع أيامه مائة وخمس وسبعون سنة، ولما أتت عليه خمس عشرة سنة استجابة الله في العقاعق — أي الطيور — التي كانت تفسد في أرض الكلدانيين وتسحق زروعهم … وأحرق إبراهيم هيكل الأصنام بقرية الكلدانيين، ودخل هاران أخوه ليطفئ النار فاحترق، ولذلك فرَّ إبراهيم وعمره ستون سنة مع أبيه ترح، وناحور أخيه، ولوط بن هاران أخيه المحترق، إلى مدينة حران، وسكنها أربع عشرة سنة.

ثم خاطبه الله قائلًا: انتقل عن هذه الديار التي هي ديار آبائك إلى حيث آمرك، فأخذ سارة امرأته ولوط ابن أخيه وصعد إلى أرض كنعان، وحارب ملوك كدرلعمر وقهرهم، وفي عودة من المحاربة اجتمع بملكيزدق الكاهن الأعظم، وخرَّ لوجهه بين يديه، وأعطاه عشرًا من السلب، وباركه ملكيزدق …

وفي سنة خمس وثمانين من عمره، وعده الله أن يجعل نسله كعدد الكواكب في السماء، وذريته كرمل البحار، فوثق إبراهيم بالله حق الثقة.

وفي هذه السنة دخل إلى مصر، ووُشِيَ بحسن سارة امرأته إلى فرعون، فسأل إبراهيم عنها فقال: هي أختي من أبي لا من أمي، ولم يكذب بقوله هذا لأنها كانت ابنة عمه، فأقام جدهما مقام أبيهما.

فاحتازها فرعون إلى نفسه مختليًا حتى تحقق أنها زوجته، فردَّها إليه مع هدايا جزيلة، من جملتها هاجر المصرية أَمَة سارة، وتقدم إليه بالانتزاح من بلده خوفًا من أن يهجس في صدره هاجس سوء ثانيًا.

ولأنه لم يكن لإبراهيم ولد من امرأته سارة سمحت بجاريتها هاجر، فوطئها إبراهيم وولدت له إسماعيل، واستهانت هاجر بسارة مولاتها شامخةً عليها بسبب ولدها، فأزاحتها سارة من عندها إلى القفر بغيظة منها، فتراءى ملك الرب لهاجر قائلًا: لا تيأسي من رحمة ربك؛ فإن الله قد بارك على الصبي حين يخاطب أباه إبراهيم، وكان خاتمة البركة باللغة السريانية هكذا: وأكبرته طب طب، وأعظمته جدًّا جدًّا.

أقول قد اتفق في هذه الألفاظ سر عجيب لاح في عصرنا، وهو أنا إذا جمعنا حروفها بحساب الجمل كان الحاصل ستمائة وستًّا وخمسين سنة، وهي المدة من الهجرة إلى السنة التي قُتل فيها آخر الخلفاء العباسيين، وزوال الملك المعظم جدًّا عن آل إسماعيل.

وبعد مائة سنة مضت من عمر إبراهيم ولد له إسحاق من سارة، ولما حصل لإسحاق تسع عشرة سنة أصعده إبراهيم لجبل نابو؛ ليضحي به ضحية لله تعالى، ففداه الله بحمل مأخوذ من الشجرة وأنقذه …

والحمل مثال لسيدنا يسوع المسيح له المجد الذي فدى العالم بنفسه، ولذلك قال في إنجيله المقدس: إن إبراهيم كان يرجو أن يشاهد يومي، فشاهد وسر، وقيل في تلك السنة: أتم ملكيزدق بناء أورشليم.

وفي ثماني وثلاثين سنة من عمر إسحاق، درجت سارة أمه وعمرها مائة وسبع وعشرون سنة، وتزوج إبراهيم قنطورًا ابنة ملك الترك.

ولما بلغ إسحاق أربعين سنة نزل اليعازر — وليد بيت إبراهيم — إلى حران، وجاء برفقة زوجة إسحاق، ولما توفي إبراهيم دفن إلى جانب قبر سارة زوجته في المغارة المضاعفة التي ابتاعها من عفرون الحيثاني خوفًا من عود الطوفان …

(٣) أبو الفداء

ونختار أبا الفداء من المؤرخين الإسلاميين؛ لأنه كتب في القرن الثامن، واعتمد على كبار المؤرخين الموسوعيين من قبله، وقضى أيامه على صلة بأقطار العراق العليا و«آشور» القديمة، وعلى علم بمراجع أصحاب السير فيها، فليس أقدر منه على تلخيص تاريخ إبراهيم والتعقيب عليه من مصادره في زمنه …

قال عن إبراهيم عليه السلام: «هو إبراهيم بن تارح، وهو آزر بن ناحور بن ساروغ بن رعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وقد أسقط ذكر قينان بن أرفخشذ من عمود النسب، قيل بسبب أنه كان ساحرًا فأسقطوه من الذكر، وقالوا شالح بن أرفخشذ، وهو بالحقيقة شالح بن قينان بن أرفخشذ، فاعلم ذلك …

وولد إبراهيم بالأهواز، وقيل: ببابل، وهي العراق، وكان آزر أبو إبراهيم يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم لبيعها، فكان إبراهيم يقول: من يشتري ما يضره ولا ينفعه! ثم لما أمر الله إبراهيم أن يدعو قومه إلى التوحيد دعا أباه فلم يجبه، ودعا قومه، فلما فشا أمره واتصل بنمروذ بن كوش — وهو ملك تلك البلاد، وكان نمروذ عاملًا على سواد العراق وما اتصل به للضحاك، وقيل: بل كان نمروذ ملكًا مستقلًّا برأسه — فأخذ نمروذ إبراهيم الخليل ورماه في نار عظيمة، فكانت النار عليه بردًا وسلامًا، وخرج إبراهيم من النار بعد أيام، ثم آمن به رجال من قومه على خوف من نمروذ، وآمنت به سارة وهي ابنة عمه هاران.

ثم إن إبراهيم ومن آمن معه وأباه على كفره فارقوا قومهم وهاجروا إلى حران، وأقاموا بها مدة، ثم سار إبراهيم إلى مصر وصاحبها فرعون، وقيل: كان اسمه سنان بن علوان، وقيل: طوليس، فذُكر جمال سارة لفرعون — وهو طوليس المذكور — فأحضر سارة إليه وسأل إبراهيم عنها فقال: هذه أختي. يعني في الإسلام، فهمَّ فرعون المذكور بها، فأيبس الله يديه ورجليه، فلما تخلى عنها أطلقه الله تعالى، ثم همَّ بها فجرى له كذلك، فأطلق سارة وقال: لا ينبغي لهذه أن تخدم نفسها! ووهبها هاجر جارية لها، فأخذتها وجاءت إلى إبراهيم، ثم سار إبراهيم من مصر إلى الشام، فأقام بين الرملة وإيليا، وكانت سارة لا تلد، فوهبت إبراهيم هاجر، وواقعها إبراهيم فولدت إسماعيل، ومعنى إبراهيم بالعبراني مطيع الله.

وكانت ولادة إسماعيل لمضي ست وثمانين سنة من عمر إبراهيم، فحزنت سارة لذلك، فوهبها الله إسحاق، وولدته سارة ولها تسعون سنة.

ثم غارت سارة من هاجر وابنها إسماعيل، وقالت: ابن الأَمة لا يرث مع ابني، وطلبت من إبراهيم أن يخرجهما عنها، فأخذ إبراهيم هاجر وابنها وسار بهما إلى الحجاز وتركهما بمكة… وبقي إسماعيل بها وتزوج من جُرْهم امرأةً …

وماتت هاجر بمكة، وقدم إليه أبوه إبراهيم وبنيا الكعبة، وهي بيت الله الحرام، ثم أُمر إبراهيم أن يذبح ولده. وقد اختُلف في الذبيح: هل هو إسحاق أم إسماعيل؟ وفداه الله بكبش.

وكان إبراهيم في أواخر أيام بيوراسب المسمى بالضحاك، وفي أوائل ملك أفريدون، وكان النمروذ عاملًا له حسب ما ذكرناه.

وكان لإبراهيم أخوان؛ وهما: هاران وناحور، ولدا آزر.

فهاران أولد لوطًا، وأما ناحور فأولد بتويل، وبتويل أولد لابان، ولابان أولد ليا وراحيل زوجتي يعقوب. ومن يزعم أن الذبيح إسحاق يقول: كان موضع الذبح بالشام على ميلين من إيليا، وهي بيت المقدس.

ومن يقول إنه إسماعيل يقول: إن ذلك كان بمكة.

وقد اختلف في الأمور التي ابتلى الله إبراهيم بها، فقيل هي هجرته عن وطنه، والختان، وذبح ابنه، وقيل غير ذلك.

وفي أيام إبراهيم توفيت زوجته سارة بعد وفاة هاجر — وفي ذلك خلاف — وتزوج إبراهيم بعد موت سارة امرأة من الكنعانيين، وولدت من إبراهيم ستة نفر، وكان جملة أولاد إبراهيم ثمانية: إسماعيل، وإسحاق، وستة من الكنعانية على خلاف في ذلك …»

•••

ثم انتقل المؤرخ إلى سيرة إسماعيل وإسحاق، فقال عن إسماعيل: «إنه ولد لإبراهيم لما كان لإبراهيم من العمر ست وثلاثون سنة، ولما صار لإسماعيل ثلاث عشرة سنة تطهر هو وإبراهيم، ولما صار لإبراهيم مائة سنة ووُلِد له إسحاق؛ أخرج إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة بسبب غيرة سارة منها، وقولها: أخرج إسماعيل وأمه؛ لأن ابن الأمة لا يرث مع ابني. وسكن مكة مع إسماعيل من العرب قبائل جُرْهم، وكانوا قبله بالقرب من مكة، فلما سكنها إسماعيل اختلطوا به، وتزوج إسماعيل امرأة من جرهم ورُزق منها اثني عشر ولدًا.

ولما أمر الله تعالى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ببناء الكعبة — وهو البيت الحرام — سار من الشام وقدم على ابنه إسماعيل بمكة، وقال: يا إسماعيل، إن الله تعالى أمرني أن أبني له بيتًا، فقال إسماعيل: أطع ربك، فقال إبراهيم: وقد أمرك أن تعينني عليه، قال: إذن أفعل. فقام إسماعيل معه، وجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة، وكانا كلما بنيا دعوا فقالا: ربنا تقبل منا؛ إنك أنت السميع العليم.

وكان وقوف إبراهيم على حجر وهو يبني، وذلك الموضع هو مقام إبراهيم، واستمر البيت على ما بناه إبراهيم إلى أن هدمته قريش سنة خمس وثلاثين من مولد رسول الله ، وكان بناء الكعبة بعد مضي مائة سنة من عمر إبراهيم بمدة، فيكون بالتقريب بين ذلك وبين الهجرة ألفان وسبعمائة ونحو ثلاث وتسعين سنة.

وأرسل الله إسماعيل إلى قبائل اليمن وإلى العماليق، وزوَّج إسماعيلُ ابنتَه من ابن أخيه العيص٨ بن إسحاق، وعاش إسماعيل مائة وسبعًا وثلاثين سنة، ومات بمكة ودُفن عند قبر أمه هاجر بالحجر، وكانت وفاة إسماعيل بعد وفاة أبيه إبراهيم بثمان وأربعين سنة …»

ثم قال المؤرخ بعد أن استطرد إلى سيرة موسى الكليم: «وكان مولد موسى لمضي أربعمائة وخمس وعشرين سنة … إلى أن قال عن خراب بيت المقدس سنة عشرين من ولاية بختنصر تقريبًا، وهي السنة التاسعة والتسعون بعد التسعمائة لوفاة موسى …»

١  هكذا ينطق بالإغريقية، وهو تارح في كتب اليهود.
٢  عاش هكتاتوس في مصر في القرن الثالث قبل الميلاد.
٣  حسب الكتابة الإغريقية.
٤  يقصد الفرعون.
٥  في موضع آخر من تاريخ يوسيفوس يذكر أن حاكمًا أغار على فلسطين واقتاد سارة مع السبايا.
٦  يرجع تاريخ تانيس إلى أكثر من ٢٠٠٠ سنة قبل الميلاد، وكان الشائع في القرن الأول للميلاد على غير ثقة أن حبرون بنيت سنة ٢٣٠٠ قبل الميلاد.
٧  ترجمة التوراة المعروفة بالترجمة السبعينية؛ لاشتراك اثنين وسبعين مترجمًا في نقلها إلى اليونانية.
٨  هو عيسو في لغة التوراة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤