الفصل التاسع

الأحافير والتعليقات

البلاد والسكان

بلاد الشعوب التي تُعرف بالسامية — أو على الأصح بالعربية — هي شبه جزيرة العرب، ومن شبه جزيرة العرب هاجرت بعض القبائل إلى بلاد الهلال الخصيب بين وادي الفرات والبحر الأبيض المتوسط، وهاجرت قبائل أخرى من جنوب شبه الجزيرة إلى الحبشة في أفريقية.

والرأي الغالب أن الهجرة تتبع طريقها من جنوب الجزيرة إلى شرقها في محاذاة البحر الهندي، فالخليج الفارسي، فنهر الفرات إلى أقصاه شمالًا، ويرتفع بعض المؤرخين بأول فوج من أفواج الهجرة العربية إلى القرن الثلاثين قبل الميلاد، ثم تتابعت الأفواج من هذا الطريق إلى ما بعد التاريخ.

فالآشوريون والأكاديون والبابليون والكلدانيون هم أفواج متلاحقة على فترات متباعدة تتراوح الفترة منها بين ستمائة سنة وألف سنة، وأقدمها ما أقام في الشمال؛ لأن الأقاليم الشمالية في وادي النهرين كانت أخصب الأقاليم وأصلحها للزراعة والمرعى، خلافًا لأقاليم الجنوب التي كانت مغمورة بماء البحر الملح، وظلت كذلك زمنًا طويلًا قبل أن ينحسر عنها الماء، وتصلح فيها الأرض للسكن والزراعة، فلما انحسر عنها الماء أصبحت أعمر الجهات في وادي النهرين؛ لقيام المدن على شواطئها، ووفرة الموارد فيها من التجارة والزراعة.

ومن شمال العراق، كانت قبائل المهاجرين الأوائل تنحدر إلى بادية الشام وإلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط على مقربة من صحراء سيناء.

فالقبائل العربية التي أقامت في فلسطين من شمالها إلى جنوبها إنما قدمت إليها على الأكثر من الشرق لا من الجنوب، ولم يظهر لنا من الآثار ما يدل على هجرة كبيرة من طريق الحجاز وشواطئ البحر الأحمر قبل الدعوة الإسلامية.

وسبب ذلك أن الحجاز — كما هو معلوم — وادٍ غير ذي زرع، فلم يكن فيه من السكان من يزحفون في حشد كبير لغزو البلاد الشمالية، وكان معظم الرحلة فيه للتجارة مع القوافل التي تذهب وتعود، ولا يبقى منها في الشمال إلا العدد القليل، ولكنه مع هذا كان طريقًا غير منقطع من طرق التجارة القديمة؛ لأن سلوك القوافل بين اليمن والعقبة على طريق البر أيسر من سلوكها بحرًا مع قلة السفن، واعتماد العرب في أسفارهم على الجمل الذي سموه بحق سفينة الصحراء.

وربما حدث مرات أن يوغل العرب الشماليون جنوبًا كلما ضاقت بهم مساكنهم أمام المغيرين عليهم، أو حاقت بهم نكبة من الزلازل والصواعق. وهي كثيرة في تلك البقاع كما ظهر من آثارها الباقية إلى هذه الأيام.

ولهذا يعتقد المؤرخون أن اليمن هي مصدر العربية الأول، ويتلاقى هنا رأي المؤرخين المحدثين ورأي المؤرخين الأقدمين من أهل الحجاز؛ إذ كانوا يقولون: إن العرب العاربة هم أهل اليمن، ثم يليهم العرب المستعربون.

ولكن هذا الترتيب إذا صح من حيث النسب لا يصح من حيث الارتقاء باللغة العربية؛ فإن اللغة العربية الأولى في اليمن لم تبلغ من الصقل والفصاحة وانتظام القواعد ما بلغته لغة الحجاز، فهي نهاية الدورة بعد مطاف اللغة العربية من أقصى الجنوب في شبه الجزيرة إلى أقصى الشمال في العراق، إلى الرقعة الوسطى بين العراق والبحر الأبيض المتوسط، وهي لا تزال تنتفع وتتهذب في كل مرحلة من مراحل المطاف.

على أن البقايا التي تخلفت منذ عشرات القرون قبل الميلاد لا تدع مجالًا للشك في وحدة اللغة بين الأقوام العربية في شبه الجزيرة العربية، وفي أرض الهلال الخصيب، ويقول ألبرايت Albright في كتابه عن أحافير فلسطين:١

إن اللغات السامية المشهورة في القدم هي: الأكادية، الآشورية، البابلية، والسامية الشرقية، والسامية الغربية، وتنقسم هذه إلى العربية الشمالية والعربية الجنوبية؛ أي المعينية والسبئية والإثيوبية، ومعها لهجات شتى بعضها قديم وبعضها حديث. وكل تقسيم من هذه التقسيمات فإنما هو مسألة اصطلاح، والتفرقة فيه أقل جدًّا من التفرقة بين اللغات الهندية الجرمانية التي درسها الباحثون خلال القرن أو القرن والنصف الأخير؛ إذ إن اللغات السامية القديمة — عدا الأكادية — تتقارب في الأجرومية والنطق بحيث تشترك كل لهجة وما جاورها، ولا يلحظ الانتقال من لهجة إلا كما يلحظ مثل هذا الانتقال اليوم بين اللهجات الفرنسية والجرمانية …

ولما بدأ عصر الآباء العبريين عند مطلع الألف الثانية قبل الميلاد، لم يكد الفرق بين اللغات يزيد على الفرق بين اللهجات العربية الأصيلة في هذه الأيام، ولم تكن الأكادية نفسها منفصلة عن سائر اللغات السامية الغربية أكثر من الانفصال بين المالطية والعراقية الحديثتين.

ويقرر علماء المقارنة الدينية مثل هذا عن التقارب بين عبادات العرب الأولين، فيقول الأستاذ أندرسون في مجموعة العهد القديم والدراسات العصرية:٢ «إن إله الكنعانيين الأعلى — إيل — يُعبد بأسماء متعددة بين الساميين الغربيين، ويُعرف باسم شداي، وإيل عليون، وسالم، وصادق، وحداد. ويرى إنجنل Engenell أن اسم يهوا واحد من هذه الأسماء كان مهملًا على عهد موسى، فأحياه موسى بدعوته، ثم امتزج اسم يهوا بالصيغ الأخرى، ولا سيما صيغة إيل عليون في أورشليم، وتم هذا الامتزاج بسهولة لأنها عنوان على إله واحد.»

ثم قال: «إن الوحدانية التي كانوا يدركونها في ذلك الزمن لم تكن وحدانية تفكير، ولكنها كانت وحدانية تغليب لرب من الأرباب على سائر الأرباب.»

ويقول وولي Woolley صاحب أهم المباحث في تاريخ إبراهيم: «إنه من المحتمل جدًّا، وإن لم يكن ثابتًا ثبوت اليقين، أن اسم يهوا كان معروفًا عند بعض قبائل سورية الشمالية قبل زمان موسى بعهد طويل.»٣

والظاهر أنهم كانوا إلى الزمن الذي كتب فيه المزمور الخامس والثلاثون بعد المائة من المزامير المنسوبة إلى داود، يصفون يهوا بأنه «مفرق جميع الآلهة.»

والظاهر كذلك أنهم كانوا إلى ما بعد خروجهم من مصر لا يزعمون أنهم مميزون على القبائل الأخرى، بل يخطر لهم — كما جاء في الإصحاح الأول من سفر التثنية — أن الرب «لبغضه لهم قد أخرجهم من أرض مصر؛ ليدفعهم إلى أيدي العموريين ويهلكهم على أيديهم.»

وظاهر كذلك أن وحدة الأصل واللغة كانت توقع اللبس في تسمية القبيلة الواحدة أو الشعب الواحد، فنسخة يهوا من العهد القديم تسمي سكان غرب الأردن بالكنعانيين، ونسخة ألوهيم كانت تسميهم بالعموريين كما يُرى من مراجعة الإصحاح الأول من سفر القضاة.

ويعنينا في هذا الفصل أن نبرز هذا التشابه في السلالة العربية منذ أقدم العصور التاريخية، فلم نعثر في مصدر واحد على خبر يُفهم منه أن إبراهيم التقى بمن يعارض عقيدته الإلهية بعد خروجه من موطنه الأول، وقد كانت في طريقه عبادات محلية مختلفة، وأرباب محليون مختلفون، وشأن هؤلاء كشأن الأولياء والقديسين الذين يتشفع بهم أبناء كل جهة في الأمم التي تُؤمن بالوحدانية، فأبناء الجهة يفضلون أولياءهم وقديسيهم، وقد يتحولون من جهتهم إلى جهة أخرى فلا ينكرون التشفع بالأولياء والقديسين في الجهة التي تحولوا إليها؛ لأنهم أصحاب الحق فيها. أما العقيدة الإلهية فهي واحدة أو متقاربة، ولولا ذلك لما كان الخليل عليه السلام يوقر ملكي صادق، ويقدم قربانه لإله عليون كما روى سفر التكوين.

إنما اشتد الخلاف الديني وخلاف العصبية بين أبناء هذه الشعوب عندما وقر في أذهان طائفة من العبريين أنهم هم وحدهم ذرية إبراهيم المختارة، وكانت دعواهم هذه طارئة لم يُسمع بها إلا بعد أيام موسى بمئات السنين، وفي هذا يقول سفر التثنية: «أنتم مارون بتخم إخوتكم بني عيسو الساكنين في سعير، فيخافون منكم فاحترزوا جدًّا، لا تهجموا عليهم؛ لأني أعطيكم من أرضهم ولا وطأة قدم، ولعيسو قد أعطيت جبل سعير ميراثًا … طعامًا تشترون منهم بالفضة لتأكلوا، وماء تبتاعون منهم بالفضة لتشربوا …

ومتى قربت إلى تجاه بني عمون لا تعادهم، ولا تهجموا عليهم؛ لأني أعطيك من أرض بني عمون ميراثًا، ولبني لوط قد أعطيتها، وهي أيضًا تحسب أرض رفائيين، سكنوها قبلًا … لكن العمونيين يدعونهم زمزميين: شعب كبير وكثير وطويل كالعناقيين، أبادهم الرب من قدامهم، فطردوهم وسكنوا مكانهم إلى هذا اليوم …»

هكذا كانت حال الشعوب المتفرعة على الأصول العربية، ولكنها لم تكن وحدها في بقاع الهلال الخصيب أو بين النهرين؛ إذ كانت هذه البقاع مفتوحة للواردين من الشرق والغرب والشمال، وما حدث في عهود التاريخ المعلومة قد حدث مثله في العهود التي لم يدركها التاريخ؛ فقد نزح قوم من الشرق يدعون بالسومريين، وأناس من الغرب يدعون بالحيثيين، وأناس من الشمال مجهولون يحسبهم المؤرخون تارة من السومريين، وتارة من الحيثيين.

فالسومريون في الغالب من أصل مغولي، وسواء ثبت أنهم من المغول أو ثبت غير ذلك، فالأمر الذي لا شك فيه أنهم من غير الساميين أو السلالة العربية؛ لأنهم كانوا يتكلمون لغة غروية Agglutinatine بعيدة جدًّا في أصولها وقواعدها من اللغات السامية الاشتقاقية، ومنها العربية Inflectiona.

ومن المقابلة بين صورهم وتماثيلهم، وبين الصور والتماثيل العربية في أرض بابل وغيرها يبدو الفرق واضحًا بين الملامح والقسمات، فضلًا عن الفروق البعيدة في الطبائع والعادات، ولكنهم لم يُعرفوا باسم غير الاسم الذي أطلقه عليهم العرب الأقدمون، وهو اسم السومريين؛ أي سمر الرءوس كما جاء في وصفهم على الآثار.

والحيثيون على الأغلب آريون قدموا من الشرق إلى آسيا الصغرى قبل فجر التاريخ، ولا بد أن يكون مقدمهم إلى آسيا الصغرى بعد احتلال الساميين للهلال الخصيب بقوة لم يستطع الحيثيون أن يتغلبوا عليها، وإلا لما تجاوزوا هذه البقاع المخصبة إلى ما وراءها.

ويذهب أناس من المؤرخين المحدثين إلى أن العموريين أيضًا من الأقوام التي لا تنتمي إلى سلالة سامية عربية، ومن هؤلاء المؤرخين العلامة سايس Sayce المشهور، وحجته في ذلك أن صورهم على معبد رمسيس تُخالف في اللون والقامة صور الأقوام الأخرى من أبناء آسيا الغربية، وهي حجة لا تنهض وحدها أمام اللغة، وانقطاع الصلة بينهم وبين كل قطر من الأقطار التي يفرض الفارضون أنهم قدموا منها، ولا يعقل أنهم قدموا من أوروبة عن طريق أفريقية وهي خالية، ثم اختاروا بقاع فلسطين وسورية دون غيرها.

ولا يعقل كذلك أنهم حاربوا أبناء البلاد التي وقعت في طريقهم، وتغلبوا عليهم واجتازوهم دون أن يسلبوهم أرضهم ويستقروا فيها. وليس أقرب إلى التقدير الصحيح من مجيئهم في زمن قديم من الشرق عند وادي الفرات. ولعلهم ينتمون إلى الأرض المعروفة باسم «إمرو» هناك، ولا اعتداد بلون البشرة أو طول القامة، فلم يثبت قط أن الجو العربي منذ الأزمنة الخالية كان يستلزم السمرة والقصر، ولم يزل بين أجناس الجنوب عمالقة غير العموريين.

ذلك مجمل الحال من حيث السكان في بلاد النهرين والهلال الخصيب، فمن شرق الدجلة إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط عشائر عربية تقيم وتترحل، وينافس بعضها بعضًا على المرعى والمورد كلما ضاقت بها البقاع، أو جاءها من الجنوب وارد جديد.

وكان السلطان الأكبر على هذه العشائر للدولة التي تقوم في العراق، سواء كانت دولة الآشوريين أو الأكاديين أو البابليين، أو كانت دولة السومريين قبل هؤلاء أجمعين؛ لأن هذه العشائر تقيم وتترحل في بقاع لا تنفصل عن بقاع النهرين، وربما دخل بعض البقاع في حوزة مصر وتولاها حُكام من قبل فرعون، وربما اقتدى بعض العشائر بالمصريين في العادات والعبادات، وربما انتقل بعضهم إلى مصر مرتادين أو متجرين فاقتبسوا كذلك من عاداتها وعباداتها، ولكن وحدة اللغة ووحدة المكان ووحدة العادات كانت هي الغالبة على طول الزمن؛ ولهذا كان الولاة المصريون على آسيا الغربية يكتبون إلى فرعون بالخط المسماري وعلى ألواح الطين المطبوخ، كما كان يكتب البابليون والآشوريون …

وحدث غير مرة أيام ضعف الدول أن تجترئ العشائر القوية عليها فتهزمها، وتنشئ فيها دولتها، حدث هذا من العموريين والعيلاميين في وادي الفرات، وحدث من الرعاة الذين اشتهروا باسم الهكسوس٤ في وادي النيل. ويرتبط تاريخ الخليل كما يلي بقيام هذه الدول، وانتقال هذه العشائر من أماكنها كلما قامت لإحداها دولة مستقرة في الحواضر والعواصم، وهجرة إبراهيم على اتصال وثيق بالزعازع التي تنشأ حتمًا من تبدل النظم، وتبدل العبادات والكهانات، وحلول الجديد منها محل القديم، مع المساومة والمصالحة بين النظام المقبل المعمول به والنظام المدبر المهجور.

ولكننا على كثرة الأحافير لا نجد بينها خبرًا يعين لنا التاريخ في حادث من الحوادث تعيين الجزم واليقين، ولم يهتد المنقبون إلى تاريخ منها إلا على وجه التقريب، وبعد الموازنة والترجيح.

وعلة ذلك أن الدول الكبرى في تلك العهود لم تكن موحدة الحكومات، بل كانت منقسمة موزعة يتولاها في الوقت الواحد ثلاثة أمراء أو أربعة أو أكثر من ذلك؛ فإذا حاول المنقب أن يضع لهم ترتيبًا متعاقبًا لم يلبث أن ينكشف له من محفورات جديدة أنهم كانوا في عصر واحد، ومن الأمثلة الكثيرة على هذا: أن المنقبين كانوا يعينون سنة ١٩٤٠ قبل الميلاد لحكم حمورابي، ثم انكشفت أحافير «ماري» للأستاذ أندريه باروت André Parrot، فقدموها قرنًا كاملًا إلى نحو سنة ١٨٤٠؛ لأنهم وجدوا ملوكًا معاصرين له وكانوا يحسبونهم سابقين له في موطنه.
وفي مصر كان المظنون أن ترتيب الأسر متعاقب، ثم ظهر من النقوش المتوافقة في الزمن أن الأسر الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة حكمت في عصر واحد بين أقاليم الوجه البحري والصعيد، وأن الإصلاحات التي تمت في إقليم الشلال لم تكن من عمل الهكسوس المعاصرين، وأن من هؤلاء الهكسوس من كان يرسل الهدايا والإتاوات إلى ملوك الصعيد، ويقول المؤرخ بتري Petrie: إن الصورة التي على معبد بني حسن هي صورة رئيس من الهكسوس، وإن الكلمة مركبة من هيك بمعنى أمير، ومن شو اسم القبيلة.

وإنه يضاهي اسم «خيان أو شر» المنقوش بين أسماء الملوك الشماليين على معبد تحتمس الثالث بالكرنك، واسم خيان هذا خليق أن يقف عنده القارئ؛ لأنه قريب من اسم ريان، الذي حسبه مؤرخو العرب الأقدمين بين أسماء ملوك الرعاة، ونتيجة هذا التداخل في أزمنة الأسر الحاكمة أن يلتبس الأمر على المؤرخ عند تعيين أوقات الحوادث، وتعيين اسم الأمير الذي تُنسب إليه.

وقد مضى زمن على الهكسوس في الوجه البحري وهم رواد يطلبون المرعى والضيافة، ولا يجسرون على المنازعة في الملك، فإذا وجدت لهم آثار سابقة لعصر دولتهم، فلا يلزم من ذلك تعديل تاريخ الدولة؛ لأن دخول الهكسوس إلى مصر للمرعى والرحلة من مكان إلى مكان، غير دخولهم بجموعهم وجنودهم للسيطرة وإقامة الملك بأسمائهم، وكل ما يدل عليه السماح لهم بالدخول، وإهمال الحيطة في أمرهم أن فراعنة الصعيد كانوا يومئذ في شاغل بالنزاع عن الحيطة والتحصين.

ولا داعي كذلك لتخطئة المؤرخين الذين نقبوا في فلسطين فعينوا للهكسوس تاريخًا غير تاريخ دولتهم بالديار المصرية، فإن زحف الهكسوس على جنوب فلسطين سابق بالبداهة لقيام دولتهم بالوجه البحري من أرض مصر، فالمنقبون في مدينة أريحا علموا من بقاياها أنها خربت بالزلازل وقذائف البراكين ثلاث مرات، وعلموا من أساليب البناء، ونقش الفخار، وأثر التحلل على المنسوجات في طبقات الأرض متى كان الموعد المقارب لكل كارثة من هذه الكوارث.

وفي الدور الثالث وجدوا مقابر للهكسوس، واستطاعوا أن يعينوا وقتًا لوجودهم بأرض كنعان حوالي سنة ١٧٥٠ قبل الميلاد، وعلموا أن أمير «أريحا» تواطأ مع الهكسوس على غزو مصر، وأن هؤلاء أقاموا معه موظفًا يسمونه كاتب الوزير للرقابة على البيادر وخزائن الغلال، وأن الفترة كانت فترة اضمحلال وهزال أصاب الدول في مصر والعراق، وشجع الرعاة والقبائل الرحل على غزوها وتوطيد أقدامهم فيها، فكان هجوم الهكسوس على مصر معاصرًا لهجوم قبائل البدو من عيلام وعمور على بابل، وكانت الأرض التي في طريق مصر موزعة بين العمالقة الحيثيين واليبوسيين والعموريين، وليس بينهم ذكر للعبرانيين.

إلا أن المنقبين الذين عينوا زمنًا للهكسوس حوالي سنة ١٧٥٠ لم يعرفوا من هم هؤلاء الهكسوس على وجه التحقيق، ولكنهم استخلصوا من «خط السير» الذي اتبعوه بعد خروجهم من مصر منهزمين، أنهم عادوا إلى مواطنهم في شمال سوريا، وأنهم على الأرجح مزيج قديم من الآراميين والحيثيين، ولم يَطُل مقامهم بمصر أكثر من قرن ونصف قرن، ثم تعقَّبهم المصريون ودمروا المدن التي تواطأت معهم على غزو الديار المصرية، ومنها أريحا. وقد وجد المنقبون فيها بين الفصوص الكثيرة فص خاتم باسم خاميس أو أحمس قاهر الهكسوس.

إلى هذا التاريخ لم يكن للعبريين الذين يسمون أنفسهم بأبناء إسرائيل أي أثر بين القبائل التي في طريق مصر، ولم يذكر لهم اسم في أثر من الآثار التاريخية قبل سنة ١٢٢٠ قبل الميلاد.

في هذا الأثر يروي الفرعون مرنفتاح خبر حملته التأديبية على عسقلان وجزير ويوانام وإسرائيل، ويقول: إنه محا إسرائيل فلم تبق منها باقية، ويؤيد خبره هذا أن النصب الذي أقيم بعد ذلك مسجلًا لانتصار رمسيس الثالث على العموريين والفلسطينيين والحيثيين سنة ١٩٠ قبل الميلاد، لم يرد فيه ذكر لإسرائيل.

وعصر إبراهيم قبل هذه الفترة على التحقيق، فمن القرن الثاني عشر إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد لم يكن لإبراهيم وذريته مقام في غير الجنوب عند جيرار أو وراءها جنوبًا، ولم يكن لإبراهيم مقام في حبرون، ولهذا يرجح الدكتور «كامبيل» أن إبراهيم لم يدفن في مغارة مكفيل بحبرون على مقربة من أورشليم، ولكن الذين انتسبوا إليه تعلقوا بذكرى هذا المدفن لتسويغ دعواهم في مملكتهم، ولا بد هنا من إبراهيمين أحدهما جاء بعد الآخر بزمن طويل.

•••

ويذهب الدكتور كامبيل بعيدًا جدًّا في هذا الفرض، فيشير إلى ورود اسم إبراما في الآثار البابلية، وقد ورد في خلال قصة زراعية حيث قيل: إن إبراما استأجر ثورًا للزرع من أحد الفلاحين، ولا شأن لإبراما هذا بسيرة الخليل، ولكن الدكتور كامبيل يسرد أسماء أخرى في الأحافير قريبة من هذا الاشتقاق، ومنها «أبرمراما»، وهو على رأي الدكتور قد يكون أمرمرابي الذين هو أمورابي بعينه، وهو لا شك جدٌّ من جدود العموريين الذين ملكوا بابل، وكانت منهم شعبة تملك بيت المقدس وحبرون بجوارها، فلما امتزج العموريون والعبريون، واشتركوا في العبادة وفي السيادة، صعد العبريون بنسبهم إلى جد مدفون في حبرون يُسمى إبرام، وذكروا أن قبره مشترى بالمال من ملوك الأرض٥ الأصلاء، فليس في دفنه ثمة عدوان ولا ادعاء.

وقصة الإبراهيمين قد لجأ إليها كاتب منقب لا يغلو في فروضه على هذا المثال، وهو السير ليونار صاحب كتاب إبراهام والكشوف الأخيرة، فقد رجح أن إبراهام غير إبرام، وقال: إن تسمية الحفيد باسم الجد كانت مألوفة جدًّا في البلاد البابلية، كما يظهر من مقابلة أسماء الملوك من أسرة واحدة، فإذا كان لإبراهيم جد باسم إبرام، كما جاء في كثير من الروايات، فالأقرب إلى المألوف أن المتأخرين بعد عصره جمعوا بين أخبار الاثنين، ووصلوا عمر أحدهما بعمر الآخر فبلغوا بهما مائة وخمسًا وسبعين سنة.

وغير بعيد أن يكون العبريون المتأخرون قد تكلموا عن إبراهيمين لا عن إبراهيم واحد، فهذا التاريخ الغامض قد زاده اختلاطًا على اختلاطٍ دعوى الطائفة العبرية، التي تنتسب إلى إبراهيم، أنها ذريته التي ترثه في الأرض والسماء، وأنها ورثت أرض فلسطين من أيام إبراهيم، مع أنهم كانوا إلى أيام موسى يشترون المرعى والمورد فيها بالفضة، ولم يستطيعوا أن يدخلوا فلسطين إلا بعد ضعف العموريين والحيثيين والهكسوس.

ومن حقائق التاريخ المطردة أن الملك هو بلاء القبائل الرحل، فلما ملك الحيثيون والهكسوس ضاعوا واندحروا، ولما هجم العموريون على بابل فملكوها ضاعوا واندحروا في بابل وفي بيت المقدس، ولما دخل العبريون أنفسهم بيت المقدس وملكوا فيها ضاعوا واندحروا، وحاق٦ بهم ما حاق بالقبائل الأولى.

فالملك هو نهاية كل قبيلة من تلك القبائل، وقد ظلت كلها قبائل نامية إلى أن ملكت، فانتهت بذلك إلى دورها الأخير.

وعلى هذه السنة عاش العموريون والكنعانيون والحيثيون، وعاش معهم العبريون قلة ضعيفة إلى أقصى الجنوب من تلك البقاع، فكان وطن إبراهيم عند سيناء وشمال الحجاز، وكان الجنوب مفتوحًا له وأيسر له من الشمال، حيث تجول القبائل التي بلغ من قوتها أن تغير إحداها على بابل، وتغير الأخرى على مصر، فأيسر من إجلائها عن أرضها أن يبقى حيث هو، أو يمعن في الجنوب ويستقبل الحجاز.

وعبرة التاريخ هنا: أن المتحذلقين الذين خطر لهم أن ذهاب إبراهيم إلى الحجاز أعجوبة ملفقة يرون بالنظر الصادق أنها هي التقدير الصحيح، وأن الأعجوبة هي اتجاهه من الجنوب إلى الشمال.

١  Archeology of Palestine by Albright.
٢  The Old Testament and Modern Study.
٣  Abraham: by Wllooey.
٤  كتاب قصة أريحا، للأستاذ: جارستانج وابنه Garstang.
٥  Race and Religion by: C. O. Campbell.
٦  حاق: حاق بالشيء: أحاط به، وبهم العذاب: نزل وأحاط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤